الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


كيف تكتب مقالا؟

صبري فوزي أبوحسين

2023 / 8 / 14
الادب والفن


الكتابة الأدبية من نعمة البيان التي أنعم الله علينا في قوله تعالى: (الرحمن علم القرآن خلق الإنسان علمه البيان)، وفي قول الرسول – صلى الله عليه وسلم-: (إن من البيان لسحرًا). وكثير منا يرغب في تعلمه وإتقانه. والحق أنه ليس أمرًا سهلاً، ليس مجرد رص كلمات، وليس ثرثرة فارغة، وليس عملاً عشوائيًّا اعتباطيًّا، ولكنه فن وعلم، فن يعتمد على الموهبة، وعلم يبنى على قواعد أساسية، ودورنا هنا التعرف على أبرز هذه القواعد. وفن المقال من أيسر وسائل نشر الثقافة، ومن أنجح أدوات إثارة المشكلات وعرضها، وتقديم الحلول لها.كما أنه ييسر لكاتبه حرية التعبير عن رأيه ووجهة نظره الخاصة، كما أنه من ألوان الإبداع الأدبي الحديثة والمنتشرة في زمن وسائل التواصل التكنولوجي.
ويعد فن الرسالة العربي التراثي الأصل الأدبي الأقرب إلى فن المقالة بمفهومها الحديث، وهو موجود عند كبار الأدباء كعبدالحميد بن يحيى الكاتب في رسالته إلى الكتاب، والجاحظ في رسائله الأدبية والعلمية، وأبي حيان التوحيدي في مقابساته، وعند أبي حامد الغزالي في المنقذ من الضلال، وابن الجوزي في صيد الخاطر، وغيرهم. والفارق بين فن الرسالة العربي القديم وفن المقالة الحديث راجع إلى الكم فقط! فالأسلوب واحد، والبناء الفني يكاد يكون واحدًا تقريبًا.
ولكي نتعلم طريقة كتابة المقال بمفهومه الحديث لا بد أن نتدرج تعليميًّا خلال العناصر الآتية:
1- تعريف المقال
2- أركان المقال
3- أنواع المقال
4- مراحل كتابة المقال
٥ أدوات ضرورية لكاتب المقال.
٦ كلمة الختام.
وهاك بيان تلك العناصر وشرحها بطريقة عملية موجزة.
أولاً: تعريف المقال
------------------
المقال لغة مصدر ميمي من الفعل قال، بمعنى القول، جاء في المعاجم: قال يقول قولا وقيلا ومقالا ومقالة، أي تحدث بلسانه ونطق..
و لفظة المقال أو المقالة مستعملة عند العرب القدامى منذ الجاهلية فهذا الحطيئة يقول:
تَحنَّنْ عليَّ هداكَ المليكُ فإنَّ لكلِّ مقامٍ مقالا
وهذا سيدنا حسان بن ثابت- رضي الله عنه- يقول:
ما إن مدحت محمدا بمقالتي
لكن مدحت مقالتي بمحمد
وهذا سيدنا النابغة الجعدي- رضي الله عنه – يقول:
مقالة السوء إلى أهلها
أسرع من منحدر سائل
والرسول – صلى الله عليه وسلم- يقول: "نضر الله امرأ سمع مقالتي فحفظها ووعاها وأداها كما سمعها فرُبَّ مُبَلَّغ أوعى من سامع" ، وهي في هذه النصوص ترادف مصطلح الحديث أو الكلام الشفوي.
ثم تطور مدلولها عند العرب القدماء ، لتدل على معنى الكلام المكتوب فكانوا يقسمون كتبهم إلى مقالات كما عند القلقشندي في موسوعته صبح الأعشى في صناعة الإنشا.
المقالة اصطلاحا:
يعرف مجمع اللغة العربية فن المقال اصطلاحيًّا بأنه( بحث قصير في العلم أو الأدب أو السياسة أو الاجتماع، ينشر في صحيفة أو جريدة).
وفي التعريف نلحظ أن المقال:
-(بحث) أي جهد في جمع المعلومات الخاصة بفكرة المقال.
-(قصير) أي أنه موجز مركز مكثف، لا يتجاوز عشر صفحات.
-(في العلم أو الأدب أو السياسة أو الاجتماع) هذا إشارة إلى المجالات الفكرية التي يدور حولها فن المقال، وينبغي أن نجعلها مفتوحة وليست محددة بهذه المجالات الأربعة، فهناك المجال الديني، وهناك المجال الاقتصادي، وهناك المجال الثقافي، وهكذا!
-(ينشر..) هذا إشارة إلى الدافع على إبداع المقال وهو الرغبة في النشر الصحفي اليومي أو الأسبوعي أو الشهري أو الدوري ...وهناك تعريفات أخر لمؤرخي الأدب الحديث ونقاده.
خصائص فن المقال:
يتميز فن المقال بين فنون الأدب الحديثة بأنه:
١ أنه فن نثري حر، صالح للتعبير عن كل قضايا الحياة وإشكالياتها.
٢أنه قصير موجز مكثف، لا يزيد عن عشر صفحات.
٣أنه فن كتابي وليس شفويًّا.
٤أنه فن ذاتي، يعبر فيه الكاتب عن آرائه الشخصية، وعاطفته تجاه الفكرة التي يعرضها الكاتب.
٥الجمع بين ثنائية الإقناع والإمتاع، الإقناع عن طريق دقة الأفكار ووضوحها وكثرة البراهين والأدلة، والإمتاع عن طريق العرض الجيد الجذاب الشيق المثير.
٦التكوين الفني والفكري المترابط المنسجم.
٧جمع الأسلوب بين الوضوح والسهولة ٠والجمال.
تطور فن المقال:
وقد تدرج هذا الفن في العصر الحديث بين المقال المزخرف بالسجع والجناس وغيرهما من المحسنات البديعية كما عند رفاعة الطهطاوي ورفاقه. ثم انتقل إلى المقال المطبوع المسترسل الخالي من أعشاب البديع عند الكواكبي والأفغاني ومحمد عبده ورفاقهم.
ثم كان المقال البياني المتأنق عند المنفلوطي والرافعي وأحمد حسن الزيات. وهؤلاء الثلاثة من كبار كتاب المقالة وأعظمهم. وأنصح الشباب المبتدئ قراءة تجارب هؤلاء الثلاثة ففيها ما يبني ويفيد ويضيف ويمتع.
ثم كان المقال الفلسفي العميق كما عند العقاد وطه حسن والمازني وغيرهم.
وانتهى الأمر بالمقال إلى المقال الصحفي السهل السيار!
ثانيًا: أركان المقال
------------------
كل مقال يتكون من أربعة أركان رئيسة، هي:
أ-العنوان:
ويشترط فيه أن يكون واضحًا موجزًا محددًا مثيرًا جاذبًا، دالاًّ على قضية المقال والهدف من إنجازه.
ب- المقدمة:
وهي تكون فقرة أولى عامة ممهدة للدخول في قضية المقال المثارة، ويطرح فيها الكاتب سؤالا أو أسئلة عن هذه القضية وتدل على أهميتها، وتتمثل في أسئلة:
(ماذا) عن القضية المتحدث عنها.
و(لماذا) عن سبب الحديث عنها.
و(كيف) طريقة الحديث عنها.
جـ-صلب الموضوع:
ويسمى محتوى المقال، وهيكل المقال، ومضمون المقال، وعرض المقال، ويتكون من فقرات تتناول القضية المطروحة، والفكرة الأساسية في المقال. ويشترط في هذه الفقرات أن تكون أصلية بديعة مثيرة محددة، مترتبة متسلسلة، تنتقل بالقارئ من مرحلة الجهل بالقضية أو الشك فيها إلى مرحلة الإقناع واليقين والإفادة.
د-الخاتمة:
وفيها يلخص كاتب المقال ما قاله فيه كله، وما يطلبه من جمهوره القارئ المستهدف بالمقال، ويقدم الحل للمشكلة التي يطرحها، أو الأثر أو الضرر الناتج عن السبب أو الظاهرة التي عرض لها الكاتب في صلب مقاله.
ثالثًا: أنواع المقال
------------------
للمقال أنواع كثية عند مؤرخي الأدب العربي الحديث ونقاده، نقف هنا مع أبرز هذه التنويعات والتقسيمات، وتتمثل في:
أ-من حيث الشكل:
1- مقال طويل:
يدور حول موضوع كامل، بلغة سهلة، وعرض شيق، يبدأ من صفحتين ولا يتجاوز عشر صحات.
2- مقال قصير:
ويعبر عن خطرة أو فكرة في صفحة أو أقل، وخير ما يمثل مجموعة مقالات صندوق الدنيا للكاتب أحمد بهجت.
ب-من حيث الأسلوب:
1-المقال العلمي الصرف الخاص، وذلك حين يكون الكاتب علميًّا متخصصًا، ويكتب بلغة علمية تامة.
2-المقال الأدبي الصرف الخالص، وذلك حين يكون الكاتب أديبًا مبدعًا، يعرض خاطرًا أو عاطفة أو حالة وجدانية خاصة به، بلغة أدبية متأنقة جاذبة.
3-المقال العلمي المتأدب، وذلك عندما يجمع الكاتب بين التخصص العلمي الدقيق، والإبداع الأدبي المتأنق!
جـ-من حيث المضمون:
فهناك المقال الفلسفي، والنزالي، والتصويري، أو غير ذلك.
د- من حيث أداة البحث والتفكير:
حيث المقال العلمي، والمقال التحليلي، والجدلي، والتفسيري، ومقال المقارنة، ومقال المشكلة والحل، ومقال السبب والأثر، ولكل من هذه الأنواع طريقة في الصياغة، ونماذج، وأعلام يقتدى بها ويؤتسى.
رابعًا: مراحل إبداع المقال
-------------------
وهنا لابد من التركيز؛ لأننا سنعرض للمراحل التي يمر بها كاتب خلال عملية إبداع المقال، وتتمثل في ثلاث مراحل، هي:
مرحلة الإعداد:
وهي مرحلة نفسية وعقلية، يمر فيها الكاتب بالخطوات الآتية:
أ-فهم المطلوب من المقال.(عن أي فكرة أكتب؟).
ب- فهم الجمهور المستهدف عامًا كان أو خبيرًا خاصًّا.
جـ-اختيار موضوع المقال عن طريق:
-العصف الذهني
-الكتابة الحرة المسترسلة المعتمدة على تداعي المعاني
-التناص مع السابقين والإفادة الأمينة الدقيقة الواعية منهم.
د-إجراء البحث اللازم لإنجاز المقال بتجميع المعلومات والأدلة والنصوص المقنعة.
هـ-بلورة الهدف من المقال.
و- وضع مخطط للمقال، أي تحديد الأفكار التي سيتناولها المقال.
مرحلة الكتابة المبدئية أو الصياغة الأولى:
حيث نصوغ عنوان المقال، ومقدمته، وصلب موضوعه، ثم خاتمته، ونطبق ما قيل وشرح عند الحديث عن أركان المقال.
:مرحلة المراجعة والتدقيق
وفيها يتم ترتيب المقال ترتيبًا منطقيا وعقليا، ومراعاة كون الفقرات المكونة للمقال متوافقة مع الهدف من المقال، والحرص على التدقيق اللغوي للمقال، ومراجعة ما قد يكون فيه من أخطاء طباعية، ثم تنسيقه طباعيًّا على الحاسوب، من خلال برنامج الوورد.
والخطوة الأهم في هذه المرحلة هي عرض المقال على صديق قارئ مثقف ناقد، يستطيع أن يقول الكلمة النهائية، وأن يبين مواطن الجمال والكمال في نص المقال، ومواطن القصور والنقص فيه، وكلما عرض المقال على قارئين نقاد كان أقرب للجودة والإتقان!
ولابد من توثيق كل معلومة ترد في المقال، تطبيقا لمبدأ الأمانة الفكرية، وحرصا على حق الملكية الفكرية.
وفي هذه المرحلة لابد من البعد عن المحاذير الآتية:
-الاعتماد في المعلومات والبيانات على مصادر مشبوهة أو ضعيفة أو محرفة، وبناء المقال عليها!
-الإسهاب والحشو والاستطراد واللغو والثرثرة في عرض الفكرة العامة للمقال؛ إذ كلما كان المقال مركزًا كان جيدًا فاعلاً مؤثرًا واصلاً إلى أكبر قدر من الناس!
-تقديم معلومات جديدة ودقيقة وعميقة دون شرحها أو تبيينها؛ فالمعلومة المبهمة داخل المقال تعد نقطة ضعف ووجه قصور فيه! وتكون سبب تنفير منه!
-كتابة ألفاظ أو عبارات فيها تشويه أو انتقاص أو إيذاء للبشر أو الدول أو المؤسسات أو الأديان أو الحضارت، مما يؤدي إلى خطر ديني أو قانوني أو اجتماعي أو وطني أو يؤدي إلى فتنة دينية أو طائفية ! فالكلمة المكتوبة مسؤولية، والكلمة المكتوبة أمانة: "ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد""والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتانًا وإثما مبينًا".
خامسا: أدوات ضرورية في كاتب المقال:
----------------------------
ينبغي أن يتسلح كاتب المقال بالأدوات العلمية الآتية:
-التمكن من علوم اللغة العربية معجما وصرفا ونحوا وبلاغة.
-القدرة على توثيق المادة العلمية من مصادرها الرئيسة.
-القدرة على عرض الرؤى وتحليلها والتعليل لها والتدليل والاستنتاج.
- القدرة على توظيف تكنولوجيا البحث في إمداد المقال بالمعارف الحديثة والفاعلة.
- القدرة على استدعاء النصوص الأدبية والدينية والثقافية المناسبة لفكرة المقال وهدفه.
كلمة الختام:
----------------

المقال ليس ثرثرة مكتوبة، ولا مجالا للتجارة بالكلمات، ولكنه فن ورسالة ومهارة:
(المقال فن)؛ لأنه يعتمد على الإبداع في تقديم الأفكار، ويشترط فيه أن يخرج في ثوب مميز جذاب مفيد؛ فالشرط الأساس في كاتب المقال أن يكون مِفَنًّا أو فنانًا.
(المقال رسالة)؛ لأن المقال يؤثر في حياة الكثيرين؛ فهناك من البشر القارئين الذين يتلقون ما يكتب على أنه مسلمات، ويعتمدون عليه في فهم الحياة والأحياء، ويطبقون ما يقال في هذه المقالات! فلابد في كاتب المقال أن يكون هادفًا بانيًا داعيًا واعيًا معلمًا ناشر الخير والصلاح، محاربًا الشر والفساد!
(المقال مهارة)؛ لأنه يحتاج تدريبًا وصقلاً حتى يتطور كاتبه ويتعمق ويكون مقنعًا وممتعًا في آن واحد. فكلما تدرب كاتب المقال امتلك مهارة وتطور وتأنق!
والكلمة الأخيرة إلى متعلمي فن المقال هي أن إكثار القراءة في النماذج المقالية العالية عند كبار الكتاب، وإدمان القراءة في كل علم وفن يحول الكاتب من مرحلة المبتدئ التقليدي العادي إلى مرحلة الكاتب المحترف المبدع الفنان!








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مهندس الكلمة.. محطات في حياة الأمير الشاعر الراحل بدر بن عبد


.. كيف نجح الأمير الشاعر بدر بن عبدالمحسن طوال نصف قرن في تخليد




.. عمرو يوسف: أحمد فهمي قدم شخصيته بشكل مميز واتمني يشارك في ا


.. رحيل -مهندس الكلمة-.. الشاعر السعودي الأمير بدر بن عبد المحس




.. وفاة الأمير والشاعر بدر بن عبد المحسن عن عمر ناهز الـ 75 عام