الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


رواية -الحياة لحظة- الفصل التاسع - صالح والأرملة -

سلام إبراهيم
روائي

(Salam Ibrahim)

2023 / 8 / 14
الادب والفن


صالح والأرملة


أطل برأسه من الباب.. دوّرَ عينيه.. حدق في الوجوه بعينين بريئتين.. كان «إبراهيم» يؤرجح ساقيه من سرير «عبد الحسين» رفيقه أيام حرب العصابات وصديقه منذ أيام الجامعة في بغداد، وعدد من الرفاق يتحلقون حوله من الذين بعث بهم الحزب الشيوعي العراقي للدراسة، رغم تجاوزهم سن الثلاثين، ومن الطلبة اليساريين العرب ممن يدرسون في جامعة «ﻛﻴﻴﭫ»:
- مرحبا شباب.. كيفكم؟!.
وترخص لينفرد بـ «عبد الحسين» في طرف غرفة القسم الداخلي القريبة من الباب، ويتهامس معه.. كان أثناء الكلام والإنصات يرميه بنظرات ودودة، وعلى طرف فمه بسمة خفيفة. بسمة أمسكت بـ «إبراهيم» وجذبته بشدة.. فجعل يتملى فيه منتظرا.. وجه أسمر مدور مليء، كتفان عريضتان، يظهر أن صاحبهما مارس رياضة كمال الأجسام.. ذراعان متينتان قويتان وقامة متوسطة الطول.. أهتز «إبراهيم» وكاد يذهب إلى حيث يقف ويعانقه، لكنه تماسك مثبتًا قدميه في مكانهما:
- ما الذي جرى لي؟!.
سأل نفسه في اللحظة نفسها، التي أقبل فيها مقتربًا مادًّا ذراعه وفاتحًا كفه المتينة ليحتوي كف «إبراهيم» ويضغطها بقوة قائلًا بصوت جهوري قوي:
- أهلا بالشجاع.. العراقية رجال ولا كل الرجال!.
فقدر «إبراهيم» أنه سمع عن الضجة التي قامت بدخوله أجواء الطلبة اليساريين في الجامعة، وأثارته عشرات الحوارات في الغرف ونوادي الطلبة والبارات والشقق عما يجري في العالم من تحولات.. كان ما يثير دهشة أولئك الطلبة الثوريين بما يطرحه من أفكار تنبذ العنف والكفاح المسلح، وتعده جريمة تساوي جريمة قمع الشعب من قبل الديكتاتور؛ هم الذين تصوروه «جيفارا» معاصرًا، خرج لتوه خسران من معركة طويلة في كردستان العراق، فكانوا يستنكرون ما يطرحه، موردين شواهد من كتب «لينين» في الدولة والثورة، ومذكرات «جيفارا» وما شابه ذلك، تؤكد شرعية النضال المسلح.. فكان ينهد في ضحكة عاصفةٍ، ويؤكد لهم أنه لم يكن يؤمن بما يوردونه من شواهد فحسب، بل كان يعتبر متطرفًا يدعو إلى النضال المسلح زمن تحالف الشيوعيين والبعثيين في سبعينيات عراق القرن العشرين، وأعتقل عدة مرات بسبب تصريحاته في المقاهي والجامعة.. وكان يشبع شتمًا وضربًا.. عُلِّق في المراوح السقفية وصعق بالكهرباء.. لكن في نهاية الأمر، كانوا يطلقون سراحه لعدم علاقته بتنظيم ما.. التحق مبتهجًا حال قيام الحركة المسلحة نهاية السبعينيات في الجبال..
لكن بعد تلك السنوات الصعبة كره كل ما يمت إلى السيطرة بقوة السلاح بصلة.. فكانوا يتساءلون عما رأى وخَبَرَ هنالك. فيسرد لهم تفاصيل حالات التعذيب والإعدام التي أصابت الأعداء والرفاق والأبرياء من سكان المناطق التي يسيطر عليها الثوار نتيجة الشك والريبة حتى بلغت القتل تحت التعذيب لرفاق ولأبرياء مشتبه بهم. هذا بالإضافة إلى قتل الجنود الأبرياء بالكمائن. وكان يضيف متسائلا: رغم أن تلك العمليات محدودة مقارنة بما تفعله سلطة الدكتاتور «صدام».. لكن لو نفترض أن هذه القوى لديها السلطة فكيف ستكون النتيجة؟.. وينعطف مذكرًا بحماس الثوار وتضحياتهم.. لكن كل ذلك يبدو بلا معنى حين نمارس فعل قتل البشر. كان يختم الكلام قائلا:
- أن تدعو إلى النضال المسلح شيء، وأن تمارسه فعلا وتقتل بيدك شيء آخر تماما!.
وفي الأمسية التي أقاموها له في صالة شقة واسعة، قرأ عليهم قصتين عن حرب العصابات: واحدة عن مقاتل ثوري متحمس يكتشف بغتة أنه تورط في قضية قتل أبرياء، فيقوم بالتسلل إلى نبع ماء يبعد عن القاعدة نصف كيلومتر جنوبا ليطلق رصاصة في فمه. فيهب المقاتلون إلى النبع ليجدوه سابحًا في دمه المتدفق من الرأس، وإلى جواره ورقة رسم عليها رأس إنسان، تخترقه رصاصة من مسدس مدسوس فوهته في جوف الفم لتخرج من قمته وردة كبيرة.
تسهب القصة في رصد سلوك قادة المقاتلين، كيف أخفوا قضية انتحاره على بقية المقاتلين، وكيف كلفوا صديقًا له بدفنه سرًّا في مكان ما بمقبرة مهجورة في الغابة المجاورة.. لكن مع ذلك أقدم رفيق آخر على الانتحار وسط القاعدة، فوق سقف قاعة كبيرة بإطلاق رصاصة في جوف فمه أي الطريقة بنفسها. والمقاتل المنتحر الثاني متوسط السن تركماني، لديه زوجة في الاتحاد السوﭬﻴﻴﻲ، بعدما يئس من موافقة الحزب على مغادرته كردستان والعودة إلى عائلته.
وعندما سألوه عن مدى واقعية هذه الأحداث التي اعتبروها غريبة، أجاب: إنها حدثت فعلا في مقر الفوج الثالث للحزب الشيوعي بأحد وديان سلسلة جبال متين، يسمى «هصبه» خلف قصبة «بامرني»، والمنتحر عربي من مدينة الثورة في بغداد، واسمه الحركي «محمد» أما الثاني فتركماني ويدعى «أبو غائب».
أما القصة الأخرى فهي عن عودة مقاتلين من عملية عسكرية، وهم يحملون رفيقًا أصيب فيها. يفصل الراوي بضمير المتكلم كيف حمل رفيقه الجريح النازف على ظهره، طوال أكثر من عشرة كيلومترات استغرقت طوال الليل، وكان الجريح ينزف بغزارة فيسيح دمه مبللا بدلته حتى ملأ الحذاء. تسهب القصة في رصد مشاعره والدم غمر قدميه وفاض من حواف الحذاء مصدرًا مع كل خطوة صوتا غريبا في الصمت المحشود بحفيف الأردية واحتكاكها بالبنادق. وفي جامع أول قرية في سفح الجبل، حصلوا على بغل وحملوه إلى قرية أمينة في أعلى الجبل. وضعوه في زاوية الجامع.. يستلقي الراوي جوار الجثة.. وبين النوم واليقظة يشعر بأحد المقاتلين، يعبر جسده، ويقرفص جوار قدمي القتيل فرفع رأسه قليلا ليرى ما يفعله. على ضوء الفانوس الضعيف وجده يجرد الجثة من حذائها الجديد ويلبسها آخر، ويعود ليرقد في مكانه.. لاحظ عند الفجر بقدمي القتيل حذاءً قديما يعود لرفيق يعرفه.. لكنه لم يستطع البوح لأحد بذلك!.
بعدما أتم القراءة جرى حوار عاصف.. أتعبه.. هُوجم من قبل رفاق الجبل الذين عابوا عليه تركيزه على كل ما هو سلبي في التجربة، ناسيًا المقاتلين الشجعان مقتحمي الربايا، والمتسللين إلى المدن ليلا، والذين خاضوا أشرس المعارك.. فعلق قائلا: إنه يجد في الشخصية المؤدلجة بعدًا واحدًا؛ مما يجعلها فاقدة ذلك التناقض الإنساني الأصيل في الشخصية البشرية.. وما لمسه في هؤلاء من طيبة وصدق ممزوجة بسطحية، تقربهم من تكوين الشخصية العشائرية، فتراهم يتحولون إلى أعداء حالما تقول مثلا لم أعد مقتنعًا بالكفاح المسلح، أو تطلب من الحزب أن يسمحوا لك بعبور الحدود.. ويضيف: هذا ما رأيته بنفسي، لم يحدث لي فأنا بقيت إلى نهاية التجربة، ولكنه جرى مع رفاق آخرين احتُقروا.. وأُهينوا.. ولم يساعدوهم للوصول إلى الحدود الإيرانية.. فاضطروا إلى البقاء في القواعد ينتظرون أشهرًا، لا بل إن بعضهم قضى سنين أو قتل في قصف الطائرات، ويورد العديد من أسماء هؤلاء فيرتبكون ويسلمون بصحة ما يقول.. أثارت تلك الأمسية المزيد من النقاشات المحتدمة أصلا على أصوات الرافعات، وهي تهد نصب «لينين» الضخم في ساحات العاصمة الأوكرانية.
سيدخل في حوارات عويصة مع فلسطينيين متحجري الأذهان يعيدون ما كان يقرأه هو في أول تولهه باليسار والقضية الفلسطينية في مجلتي (الهدف) و (الحرية) من مطولات «نايف حواتمة» و«جورج حبش» الحماسية الرنانة.. وقتها كان ابن السادسة عشرة أوائل السبعينيات.. بعد ما يقارب العشرين عامًا حيث كل شيء تغيّر في العالم، يجد طلبة جامعة جاوزوا العشرين يحفظون العبارات نفسها.. لا يسمعون الآخر.. مشغولين بما في أذهانهم.. يتصنعون الإنصات، ولكن عند الكلام تجدهم في وادٍ آخر، يرددون ما حفظوه من عبارات جاهزة.. من دونها يستحيل على منظماتهم الاستمرار..
يروى أحدهم بحماس كيف أنشدوا الأناشيد الثورية في المعتقل.. حينما دك «صدام حسين» البطل إسرائيل بالصواريخ عام1991. وجد أن الحوار معهم وكأنك تحاول المرور من خلال جدار أصم، فكان يتركهم إلى غرفة واسعة في قسم داخلي، يسكن فيها منذ حلوله في «ﻛﻴﻴﭫ» تعود لعرب إسرائيل من الطلبة المتمكنين والذين استأجروا بصحبة عشيقاتهم شققًا وثيرة.. يلجأ شاعرا بالدوار من هذا الجو الفوار ليختلي بنفسه، ولكنهم كانوا يقرعون الباب في أي ساعة من الليل، حاملين الفودكا والويسكي والعرق والأكل والمازات ليشربوا ويتحاوروا.
هذا الصباح فكر في الذهاب لزيارة صديقه «عبد الحسين»؛ كي يأخذه إلى مكان ما بعيد وحدهما، حتى يهدأ قليلا ويستطيع التفكير فيما يجري.. ففي خضم هذا الجو الفوار المتأجج نسى تمامًا.. لم هو هنا؟ وإلى متى سيبقى؟ وماذا تخبئ له الأيام القادمة؟ وكيف سيعود إلى موسكو؟.. نقوده تكاد تنفد، دون وثائق تثبت من يكون!. لكنه وجد غرفة «عبد الحسين» مكتظة أيضًا بعدد آخر من رفاق الجبل. فجلس معهم يستذكرون طرائف أيام كردستان ومخاطرها، حينما دخل هذا الكائن الممتلئ المفتول الذي يحضنه مرددًا:
- هله بالعراقية هله!.
انفصل ساحبًا جسده عنه قليلا ليقول:
- اسمي «صالح»، إسرائيلي من عرب 1984!.
- «إبراهيم»، عراقي من الجنوب!.
- راجع بعد دقيقتين!..
بدوا وكأنهما يعرف الواحد منهما الآخر منذ زمن طويل؛ إذ ردّ «إبراهيم» بكل جد:
- انتظرك!.
تابعه بعينين مسرورتين، وهو يستدير متجهًا نحو الباب نصف الموارب، يضرب أرض الغرفة بقدميه القويتين، فاردًا ذراعيه مثل أشقياء حي العصري، وكأنه يسعى لعراك ما. لم يلتفت أثناء خروجه. أنصت حتى تلاشت خطواته الهابطة على سلم البناية المجاور للغرفة.
- منين تعرف «صالح»؟
- أش بِه!
- أكبر فوضوي!
علق «عبد الحسين» ضاحكًا قبل أن يستدرك مستذكرًا أيام الجامعة في بغداد، حينما كان «إبراهيم» يأخذه مباشرة بعد اجتماع حزبي في مقهى منزوٍ؛ ليتصعلكا في البارات والمواخير والملاهي وبيوت وغرف الحيدرخانة، والبتاوين، بعد تخلصهم من رفاق الخلية:
- هيْ هيْ إش لون اثنين التقوا!
وضحك بصخب هذه المرة، وفيما كان يغرق في ضحكته إذا بـ «صالح» يدفع الباب بعنف، ويتجه مباشرة صوب «إبراهيم» مادًّا ذراعه اليمنى قائلا:
- هيا!.
وأطبق بكفه على كف «إبراهيم».. سحبه مبتسمًا بطرف عينيه. أسلم قياده ومشى بخطواتٍ اتسقت مع خطواته العنيفة، وخلفهما يصرخ «عبد الحسين» ضاحكًا:
- «صالح» وين تريد بيِه؟!.
لم يرد أو يلتفت.. رفع ذراعه الأخرى وراح يؤشر برمًا بضم قبضته وفتحها، كأنه يدفع بهم بعيدًا عن «إبراهيم»، الذي بدا منقادًا كالسائر في نومه.. طوال الطريق من بناية القسم الداخلي إلى موقف الحافلة لزم الصمت، لم يسأل عن وجهتهما، بل اكتفى بالتحديق في وجه «صالح» الذي تحول - ما أن أصبحا وحيدين - شديد البراءة ترسم بسمة طفل مسرور قسماته، يرمقه جانبا بين الحين والحين أثناء شرحه لخطته، ذاكرًا أرقام حافلات وأسماء محطات مترو وشوارع وبارات ومطاعم.. أمكنة لا يعرف عنها شيئًا، فمنذ وصوله إلى «ﻛﻴﻴﭫ» لم يغادر المدينة الجامعية والتي يكتشف لتوه أنها بعيدة عن مركز العاصمة.. فتتسع بسمته، ويهزّ رأسه موافقًا على ما يقوله «صالح».. سارحًا بعيدًا.. بعيدًا إلى مراهقته العنيفة في الديوانية المغلقة.
ولشدة ما واجه من قمعٍ لكل ما كان يبديه من أفكار وآراء وسلوك.. وجد نفسه محاصرًا يُنظر إليه شزرًا في البيت والمدرسة والمقهى. كان لا يقيم لتلك النظرات وزنًا، بل تطرف دخن باكرًا وشرب العرق باكرًا.. وكان يبدي رأيه عاريًا دون خشية ولا وجل. إلى أن أحس في يوم أنه منبوذ، وحيد . فهرع إلى رفيق طفولة كان يعاني المشاعر نفسها.. فاشتريا قنينة عرق وتسللا في المساء إلى محطة المدينة.. شربا وشتما الكل.. وفكرا في الهرب إلى أي مكان آخر غير الديوانية.. كانا يسيران بين شريطي السكة الحديديين.. ومن عمق الظلام والسكون، تعالى عويل القطار النازل من بغداد.. تبين عندما اقترب من المحطة أنه قطار حمولة. توقف دقائق في محطة الديوانية الخاوية.. فقال «إبراهيم» لصاحبه:
- لنهرب!.
- لكن إلى أين؟!
- لا أدري!.
ووجدا نفسيهما يركضان لحظة تحرك العربات، ليتسلقا عربة الحمل.. جلسا صامتين يحملقان في الظلام، في أضواء القرى البعيدة، في المحطات المهجورة.. وكان لتلك المغامرة طعمٌ لا ينسى.. نزلا في السماوة ليعودا في اليوم التالي إلى الديوانية، على ظهر عربة مكشوفة لقطار حمل صاعد من البصرة؛ لأنهما لا يملكان أجرة الرجوع.. هاهو يركب المترو.. يجلس جوار شخص لا يعرف عنه شيئًا.. يريد به إلى أمكنة مجهولة..
أمسكت به غبطة مركبة هي مزيج من غبطة مغامرة الصبا تلك وهذه المنتظرة، بعد أكثر من عشرين عامًا.. يتطلع بعينين حالمتين إلى كل ما حوله، وجوه الصبايا الأوكرانيات الفاتنة الصاعدات والمترجلات في المحطات، التي يتوقف فيها المترو، النوافذ المظلمة والعربة تنهب باطن الأرض.. وجه «صالح» المعكوس في زجاج النافذة، وجوه الركاب في الظلال، فخامة باحات المحطات المكسوة بالرخام بسقوفها العالية وجدرانها المحفورة بشعار المطرقة والمنجل ورأس «لينين» و«ماركس» و«إنجلس»:
- لولا سفرها مع الأطفال، لما رأيت هذه الأمكنة ولا بشرها!.
تبسم بنشوة ليضيف مع نفسه:
-ولما عشت هذه الأحداث التي كنت أقرأ عنها في الروايات!.
توقف المترو في محطة.. قال «صالح»:
- هيا بنا!.
ترجلا من عربة المترو، فأصبحا في باحة واسعة شديدة الإضاءة يتوسطها نصب نصفي، موضوع على حامل رخامي لـ «لينين».. أشار «صالح» نحوه معلقًا:
- شوف معلمنا المسكين حزين بيعرف راح ينقلع!.
صعدا السلّم الكهربائي إلى باحة أخرى فسيحة ومكتظة.. توجها نحو بوابة عالية عظيمة بخشبها الصاج المتين، والتي يحتاج المرء عند فتحها إلى الدفع بكل جسده.. أفضت بهما إلى شارع واسع وحدائق صغيرة في وسطه وواسعة إلى جانبيه.. الحدائق المنسقة تتوسط أبنية قديمة الطراز، مزخرفة الواجهات بنصب وتماثيل منحوتة في حافات جدرانها وعلى زواياها العلوية.
- «إبراهيم» صرنا بالمركز!.
ورفع ذراعه مؤشرًا نحو بناية مقابلة قائلًا:
- ذاك المطعم.. سنقضي يومنا فيه!.
- ..
- هذا إذا عجبك الجو!.
كان «إبراهيم» مستسلمًا مستمتعًا بكل ما هو فيه.. فكل شي ذو طعم جديد.. فيه متعة بغض النظر عن محتواه.. هذا «الصالح» لا يحكي لحد تلك اللحظة إلا عن الشرب والسهر والعاهرات ويطزطز بالدنيا بين جملة وأخرى رابتًا على ظهر «إبراهيم» بكفه المتينة.. لكنها تنبض حنانًا لم يحس به مع «عزيز» رفيق الطفولة والمراهقة والشباب وحرب العصابات.. حنانٌ لا يبغي مقابلًا بل يريد النفاذ من روح مثقلة، به تجد صدًّا من المحيط.. حدس «إبراهيم» بذلك من أصابع «صالح»، التي تلامس أصابعه عند نزولهما سلالم النفق المؤدي إلى الجانب الآخر من الشارع.. أصابع حميمة، وكأنها أصابع أمه أو أخيه الذي ضاع في الأقبية إلى الأبد..
أصابع تشبك أصابعه وتضغط برقة وحنان يربك الحواس.. ذكره بحاله في المرات التي يجد فيه نفسه وحيدًا مغضوبًا عليه من أقرب الناس إليه.. خمن «إبراهيم» أن «صالح» يعيش محنة ما.. محنة سوف تتكشف رويدا.. رويدا في بحر ذلك اليوم، الذي سيصبح فريدًا في عمر «إبراهيم».. فريدًا وهو يدلف في عالم رواية غير مكتوبة.
كانت الساعة لا تتجاوز الحادية عشرة صباحًا، حينما دلفا من باب ضخم عريض دفعاه بعناء ليجدا نفسيهما في مدخل عالي السقف عريض مكسوة جدرانه وأرضيته وسقفه بالرخام.. كان «صالح» يخطو أمامه بمشيته النشطة منتصب القامة، كأنه مقبل على معركة.. ولجا من خلال بابٍٍ يسار المدخل قاعة بارٍ فخمة تلتف حول منضدة البائع الدائرية.. كان البار فارغًا إلا من العمال المنهمكين في ترتيب أواني الزهور وقناني النبيذ الأحمر والورق الملون الشفاف على الطاولات المغطاة بشراشف مطرزة بالورد.. بدا أن البار فتح قبل قليل.. توجه «صالح» إلى طاولة صغيرة منزوية في ركن البار البعيد، يطل الجالس منها على فسحة خضراء وبحيرة بيضاوية متجمدة وخلفها تمتد غابة كثيفة.. جلسا على كرسيين وثيرين.. عدل «إبراهيم» موقعهما بحيث أصبحت النافذة والغابة والبحيرة خلفية لوجه «صالح»، الذي أشار إلى النادل، وهو يوجه كلامه إلى «إبراهيم» دون أن ينظر إليه:
- نبدأ بالبيرة ما؟
- بكيفك...
بار فارغ، غابة خضراء، بحيرة متجمدة، سقف عالٍ، مكان لا يعرف عنه شيئًا في مدينة لا يعرفها، وإسرائيلي من عرب 1948 لا يعرف عنه شيئًا أيضًا، وأيام لا يدري إلى أين ستفضي به؟.. أهناك روعة أكثر من هذا؟!. ردَّد بصمت وعيناه تبحر في قسمات «صالح» القاسية حينما يكلم النادل.. البريئة الودودة حينما تشخص نحوه.
- يا زلمة حكى لي «عبد الحسين» كل شي عنك!.
قال ذلك وملأ الكأسين بالبيرة، ثم أضاف:
- هذولة المخانثة اللي شفتهم هون بـ «ﻛﻴﻴﭫ»، الفلسطينية الثورية كلهم كذابين.. طبول فارغة يثرثرون كل يوم عن النضال والثورية، وهم ينهشون بعضهم البعض .. سفلة.. شوف كل واحد من عرب إسرائيل يدرس هون، حاله أحسن من كل العرب عدا عرب الخليج.. وحتى الجولانيين صار حالهم أحسن بعد الاحتلال. لا يغرك حكي جماعة «حبش» و«حواتمة» و«عرفات» الفارغ. الناس في الجولان وضعهم صار فوق من مزارع التفاح.. ولو يعملوا تصويت حر وحقيقي عن العودة إلى سوريا، سوف يصوت بـ (لا) أكثر من تسعين بالمية منهم!.
- ..!
لم يجد رغبة في التعليق، كان ينتظر المزيد من الكلام كي يقع على تكوين وأفكار صالح الثائر الهادر بصوته القوي وسط سكون الغابة والسماء الملبدة بغيوم بيضاء.. هو الآخر تعب من سطحية الفكر الثوري الفلسطيني المشبوب بالعواطف والأحلام.. والمتركب من سلسلة ردود أفعال غير متعقلة..
كان طوال فترة وجوده في الجبل يختبر قناعته القديمة خجلا من مشاعر الحماس والفرح التي كانت تأخذ بكيانه كلما سمع بخطف طائرة أو سفينة أو احتجاز رهائن وخطف، وما شابه ذلك، التي كانت تقوم بها الجبهات الفلسطينية في أوائل السبعينيات، يطل على نفسه في الفترة تلك فيستنكر جهلها وهو يتأمل الوضع البشري البائس لعشرات العراقيين من أبناء جلدته، وهم يقعون أسرى في الكمائن ويؤتى بهم أذلاء إلى قواعد الثوار، حتى أنه صادف في يوم ما على نهر «الزاب الأعلى» في وادي زيوة شخصا من أبناء مدينته الديوانية، يعرفه وهو يسير في طابور، يقوده حراس مسلحون من جماعة «البرزاني».. يأخذونهم صوب السفح والغابة لقطع الحطب سُخرةً وكأنهم عبيد من القرون الوسطى.. فاستأذن منهم وبادله الكلام.
كان يعرفه منذ الطفولة؛ حيث كانت أمه تجلبه كي يحلق في محل «حمدي» الحلاق المجاور لدكان عمه «خليل» الحلاق. ولم يكن له أي نشاط سياسي أو اجتماعي في المدينة.. أُسِر من ربيئة حيث كان يقضي خدمة الاحتياط.. زاره مع رفيق من مدينته يدعى «شاكر» وسعيا لإطلاق سراحه دون جدوى، وسمع أنه ظل مع الجنود العراقيين الأسرى في السجن حتى «الأنفال»؛ حيث جرى التخلص منهم برميهم بالرصاص قبل الانسحاب نحو الحدود التركية.
- «إبراهيم» هل تتصورني ضد الفلسطينية؟!.
- ...
- اسمع : نشأت بعائلة فقيرة في قرية من قرى «حيفا».. أجدادي تشبثوا بقطعة أرضهم.. ما باعوها ولا هربوا.. كافحوا من أجل البقاء وبقوا.. أبي كان شيوعيًّا، ومنه تعلمت كل شيء السياسة والنضال على السماع والحكايات ما أحب القراءة. الواحد يضيع الوقت مع كلمات لا تزيد ولا تنقص.. كنت أحب الرياضة .. رفع الحديد.. ربيت جسمي، ولما صرت بالثانوية كسبوني للشبيبة الشيوعية، ومن خلالها صرت مرافق المعلم «أميل حبيبي» الكاتب من جماعتكم المثقفين.. أتنقل معه إلى كل مكان يذهب إليه.. مشدود كل الوقت خاف أحد يعتدي عليه.
وكنت أسمع كل ما يدور من حوارات وكلام مع كل اللي يلتقي معهم. ومن يومها لعبت نفسي.. قرفت يا زلمة.. قرفت من السياسة والسياسيين.. كلهم كذابون يتآمرون على بعضهم البعض.. أغرب أنواع الشتائم سمعتها منهم. فكرهت الثقافة إنوب.. ثقافة وسياسة يا زلمة هذول القرف نفسه..
كنت أتظاهر بقراءة كتب «لينين» و«ماركس».. ولكن الحقيقة كنت لا أفهم كلمة منها.. وبعد صفحتين.. أدوخ ويصيبني الملل.. تخرجت من الثانوية فأرسلوني إلى هنا أكمل دراستي.. صار لي سبع سنين هون.. وشفت بعينك وضع الناس هنا.. جوع وشحاذة وعهر.. رشوة وفساد وقرف.. مساكين.. الشعوب هذي مسكينة.. ناسها طيبة.. أعيش مع روسية منذ أربع سنوات ومنها عرفت كل شي.. عدالة ما في بهذا العالم ما في يا زلمة.. فطز..زززززززز.. الطرب والكأس والفرجْ هما الحياة والباقي هيك.. هيك!.
وشهر الوسطى من أصابعه رافعا ذراعه إلى الأعلى بحركة سريعة وانفعال عنيف صلّب كتلة وجهه:
- وهذا بفرج الدنيا!.
أبحر «إبراهيم» في صالح الطالع من عمق إطار النافذة القديمة، من تعقيد زخرفة حوافها البارزة.. من كثافة الغابة.. من بحيرة الثلج.. من سماء الغيوم البيضاء الخفيضة.. «صالح».. قاربه في هذه اللحظة الضائعة.. انحدر فيه هابطًا إلى حافة وجوه أحبائه القدامى.. صعاليك الديوانية وماجنيها، الذين كان ينجذب نحوهم انجذابا شديدا، فيسكر معهم في الليالي على شاطئ النهر، في القصبة، الخانات، الدكاكين، الزوايا... البساتين.. وبيوتهم الرثة.. حدادون، نجارون، مصورو فوتوغراف، بائعو حلويات، خياطون، عمال مسحوقون.. منهم المتزوج، ومنهم من لم يستطع الزواج وبناء أسرة أو تزوج وفشل فأدمن الخمرة والحبوب فنبذه الجميع، فتوحد بالسكر مع أمثاله واجدًا به ملاذا ومستقرا..
«سعدي» المصور، «شاكر منصور» - ميم - ، «العبدو» السكران، «صاحب سلام»، «حمدي» المصور، «حنتوش سلام»، «حمود الخياط»، «فاهم» الحلاق، «جبار أبو شوارب»، «خضير» المعلم»، «عمار عبد الحسين»، «معروف» عازف الجوق الموسيقي في الفرقة الأولى، «فاروق» الأعور، «نبيل» الأحول، «فيصل» القصاب، «حسين عطشة»، «رحيم العگيلي»، «غانم جودة»، «كزار حنتوش»، «علي الشباني»، «قاسم لفتة»، «حيدر الشباني».. ينصت إلى قصصهم منفعلًا، كل واحد منهم رواية عنيفة مكتظة بالمآسي والأحزان والفرح.. وجدوا به صديقًا حميمًا يفهمهم ويدرك ما بهم من عذاب.. أسروا إليه بذلك في السكر، وهم ينفجرون بكاء بعد عنف يشبه ما قام به صالح قبل لحظات.
أنصت إلى «صالح»، وهو يحدثهُ عن الحياة هنا في ﻛﻴﻴﭫ، وهنالك في إسرائيل عن النساء والخمرة.. عن هذا المكان الذي هم فيه الآن.. كيف سيتحول عند المساء في الصالة المقابلة إلى مطعم ومسرح، يعج بالأوكرانيات الجميلات، اللواتي يسعين إلى العثور على أجنبي من أمثالهم لقضاء ليلة في الفراش أو عشيق.. عن السهولة التي يجدها المرء في التعرف عليهن.. ويستدير بالحديث عما عاناه من رفاقه الطلبة من شيوعيي إسرائيل، فلسطيني الأرض المحتلة، فلسطيني الشتات، من صدٍّ حتى أنهم لا يبادلونه حديثًا وكأنه غريب.
- خصوصا من أعطوك الغرفة التي تسكنها.. أصحاب «عزيز» من دروز الجولان!.
لا يدري «إبراهيم» كم قنينة شربا؛ فالنادل يضع القناني المليئة ويحمل الفارغة.. كان مثل مخدرٍ ينتقل بين الإصغاء والاستغراق في تأمل المكان، الذي يسرح به نحو باب أحلامه الشاردة فيضيع فيها إلى أن عاد إلى الطاولة، وكأنه حلّ من سفرٍ طويل فوجد بياض النافذة خافتًا، والغابة خلف رأس «صالح» تدكن قليلا.. قليلا.. عاود الإصغاء إلى صالح المنغمر في الروْي عن عالمه المحشود بالعنف.. ضرب ودماء، صراخ وألم، عن رغبته في المشاجرة في كل وقتٍ.. رغبة وجد نفسه ينساق خلفها منذ الطفولة:
- لا أدري ربي خلقني هيك أحب الضرب، فكنت كل يوم أما أن أَضرِب أو أُضرَب!.
- ...
- هو قريني إذن!.
قال «إبراهيم» في نفسه مستعيدًا ذلك العنف، الذي وسم طفولته في الحي العصري؛ «إذ يضطرك رفاق طفولتك إلى ذلك وإلا نعتوك بالجبن، فتصبح بعد ذلك كائنا محتقرًا، الكل يستطيع إهانتك دون أن تستطيع الرد أو تلزم بيتك طوال الوقت».. ذاك ما دفعه إلى خوض مشاجرات، لم تكن من أجل شيء سوى إثبات الذات.. كونه قويا.. لكنه عند النضج سيهجر كل ذلك، ويصبح مسالمًا يعامل الكل بشجن.. لم يرغب في سؤال «صالح» عن علة اندفاعه نحو الشجار.. سوف يرتبك ولا يجيب أو ينظر إليه بريبة، فهو حساس جدًّا بسبب عزلته عن أبناء جلدته ورفاقه من الشيوعيين الإسرائيليين والعرب.. لكن «إبراهيم» أراد أن يسأل عن وضعه؛ إذ شهد عدة مرات عراكًا بين مجموعات من الشباب الروس في موسكو قرب أكشاك البيرة الفل.. يتقاتلون بوحشية لا مثيل لها حتى لدى الحيوانات القوية..
ففي العراق مثلا عندما يسقط الخصم أو يستسلم ينسحب القوي، لكن الشباب الروس لا يقيمون اعتبارا للمستسلم، بل تزيد وتيرة الضرب.. شهد ذلك عدة مرات حينما انهال بالركل مجموعة شباب على واحدٍ قاوم وسقط.. ظلوا يرفسون.. ويرفسون على الرأس والبطن والظهر، رغم خموده وغياب وعيه.. كاد يندفع في المرة الأولى كي يحمي الهامد تحت الأقدام فأمسك به «عزيز» صارخًا:
- وين.. هذوله وحوش سيتركونه ويضربونك!.
سأله:
- وهنا هل دخلت في عراك؟!.
- مرة واحدة وتبت.. سقطت وغبت عن الوعي، ولما أفقت وجدت نفسي في المستشفى!.
بدا وكأن جرحا قديمًا نُكئ.. أسود وجهه من الحقد. لَمّ قبضته الضخمة وطعن الهواء، ثم عاودته السكينة ليضيف:
- هنا أولاد عاهرة.. حيوانات مفترسة لا تعرف الرحمة!.
هبط المساء.. واكتظ البار بالنسوة والرجال والضجيج.. طلب من «صالح» تبادل الكراسي، كي يطل على الرواد. وجد الأمكنة مشغولة.. عشاق يتهامسون على طاولات منزوية.. رجال ونساء يتحدثون بأصوات عالية، نساء وحيدات يتفرسن في وجوه الرواد. صخب أليف.. وبسهولة تامة ينتقل أحدهم إلى الطاولة المجاورة وبالعكس.. ظن أول الأمر أنهم يعرفون بعضهم البعض، لكن صالح أخبره أن هذه الشعوب اجتماعية جدًا تحب الكلام حد الثرثرة.. ما أيسر الوقت وألذه بصحبة «صالح»؛ إذ إن «إبراهيم» لم يشعر بالنهار وهو يمضي.. أراد أن يعرف متى يعودان إلى المدينة الجامعية، فانفجر «صالح» بضحكة صاخبة قائلا:
- يا مدينة حبيبي.. حجزت طاولة في قاعة المطعم المقابل!.
- كانت مقفلة عند دخولنا!
- تفتح عند الثامنة حتى الفجر!.. يعني لما نتعب نرجع! ما؟!
هزّ رأسه موافقًا، وقال في نفسه:
- يبدو أن القصة في أولها!.
كانا أول رواد قاعة المطعم الواسعة التي يتوسط جهتها اليمنى فسحة خشبية مدورة، تشكل مسرحًا ترتفع قليلا ويحيط بجانبها الأيمن كراسي، وحوامل وضعت عليها آلات موسيقية. بعد فترة وجيزة، امتلأت ولم تبق طاولة فارغة.. كان النادل لا يكف عن الذهاب والمجيء حاملًا أنواع الصحون المليئة: أسماك وأرز وخضراوات متنوعة وزيتون وأنواع من الخبز، وقنينة نبيذ أبيض.. فتحها وراح يملأ كأسيهما، ويضعهما في المكان المخصص.. كان صالح يجلس منتشيًا فخورًا متكبرًا مندمجًا بروح المكان الفاخر وكأنه أمير، يتناول طعامه بصمت، ويرتشف من كأسه رشفات قليلة..
وما أن فرغ من الأكل، حتى نادى على النادل وشاوره فجاء بعد دقيقة بقنينة فودكا وقدحين صغيرين ملأهما أيضا.. ارتشف قدحه جرعة واحدة.. لم يفتح موضوعًا، بل أنشأ يحدق بالحضور ويرمي «إبراهيم» بين الفينة والفينة بنظرة خاطفة.. كان كمن ينتظر شيئا ما سيحدث.
وفعلًا، ظهر من خلف ستارة رجال ونساء جلسوا إلى آلاتهم الموسيقية، وبدءوا عزفا أطرب الحضور؛ فقام عدد من الرجال والنساء، وراحوا يرقصون في الفسحة الخشبية الواسعة على أضواء المطعم، التي خفتت وتلونت مضفية على المكان غلالة.. وكأن المرء في حلمٍ أو في عالم غير واقعي.. هش.. ناعم.. زلق.. سيضيع منك عند الصحو أو عند الخروج من المكان.. عالم لم يشهد مثله «إبراهيم» سوى مرة وحيدة، حينما أخذه جندي فوضوي تعرّف عليه في مدرسة قتال بمعسكر الحبانية إلى ملهى في بغداد؛ ليقضيا ليلة لا تنسى وسط العاهرات من كل صنفٍ ولون.. اللواتي كن شبه عاريات يتجولن بين موائد الزوار عسى ولعل يدعوهن أحد للجلوس كي يفتح زجاجة ويسكي أو ما شابه..
كان وصاحبه قد تحايلا للدخول دون دفعٍ، ممثلين دورا جعل البواب يخاف منهما، إذ أنهما بالكاد دبرا أجرة النزول والسكرة في بار «سرجون» على «أبو نواس».. وقتها أواخر عام 1975كان راتب الجندي خمسة دنانير وربع.. استعاد «إبراهيم» تلك الذكرى بتفاصيلها، وهو يجلس جوار «صالح» متأملا المكان، الذي يبدو مختلفًا عن ذلك الملهى البغدادي المجاور لسينما - بابل - هنا المناخ تظهر عليه النظافة أو يبدو هكذا، فليس ثمة عاهرات فلبينيات أو مصريات يعملن بالمكان.. ولا سماسرة يعرضون بضاعتهم الآدمية على الزبائن..
عالم تتفرج عليه وكأنك تشاهد فيلمًا حيًّا.. عالم يعشق فيه «إبراهيم» لحظاته المليئة بالوهم وبالضد تماما من لحظات الواقع الصلبة. أتيا على قنينة الفودكا الأولى، فطلب «صالح» الثانية:
- «صالح» كافي راح نسكر!.
- شو نسكر يا زلمة.. شو!.
صرخ بعنف!. وأضاف:
- شوف هذولة اللي فلق رأسنا الحزب بهم!
وصمت.. لم يفهم «إبراهيم» شيئًا، فسأله:
- عمن تحكي؟!.
رفع ذراعه وشمل الحضور بإشارته قائلا:
- .. شوف ماني عامل فيهم!.
وهب من كرسيه واقفًا.. أربد وأرعد.. قال بالروسية شيئًا وتضرجت قسماته ، محتقنة، ثم استدار وضرب بقدميه القويتين الأرضية الخشبية بعنف.. تابع كتلته المدبرة المتلوية بين الطاولات حتى وصولها إلى حافة خشبة المسرح المضاءة بنور أحمر قوي.. صعد سلالمها الثلاث قاطعًا الفسحة الحمراء الفارغة، واختفى خلف الستارة التي طلع من طرفها الموسيقيون؛ ليظهر بعد دقيقة مقبلًا بخطى هادئة وملامح مبتهجة، على شفتيه بسمة عريضة، وفي مشيته شموخ، وكأنه عاد منتصرًا من معركة ما جرت في الدقيقة التي غابها خلف الستارة..
ملأ كأسه قبل أن يلقي بجسده على الكرسي.. لم يسأله عما فعله، إذ بدا أنه ينتظر شيئًا يوشك أن يقع.. وفعلا بعد دقيقتين ظهر مقدم البرنامج وبيده الميكرفون؛ ليقول شيئًا بالروسية ذاكرًا اسم «صالح»، ثم أشار إلى حيث يجلسان. فنهض «صالح» لينحني للحضور الذي صفق بحرارة، وبدأت الفرقة بالعزف لحنًا راقصًا تختلط فيه الأصوات.. أجراس وطبول، كمان وقيثار، بيانو وعود. مزيج عجيب فريد وكأنه يحوي التاريخ كله. شعر «إبراهيم» بذلك واسترخى بجسده مادًّا ساقيه؛ ليستمتع بهذا اللحن الغريب.. لكنه أعتدل بجلسته، و«صالح» ينتصب واقفًا متوترًا ليصرخ به بالعربية:
- شفت.. العيون كلها صارت علينه!.
- ..
- مقطوعة إسرائيلية مشهورة!.
- ..
- جميلة ..، لكن الرفاق!! اللي داير ما دايرنه شوف كيف راح يتصرفون!.
- ..
- يخربون على إسرائيل!.
- ...
- وكلهم يحلمون بالهجرة إليها!.
تذكر «إبراهيم» الجموع المكتظة في مطار موسكو لحظة نزوله، وجواب الرفيق، الذي كان ينتظرهم في المطار عن سؤال عمن يكونون فقال:
- يهود روس ينتظرون السفر إلى إسرائيل!.
سيعرف لاحقا لم كانت إجراءات المطار خفيفة جدًّا، أتاحت للعراقيين الذين كانوا يتوجهون إلى اسكندنافيا والغرب العبور إلى تلك الدول.. نفض رأسه ليطرد هذه المشاغل المعبأة بالأيديولوجيا؛ فهبط من جديد مترسبًا في لحظة تأملٍ عارية.. فهو يرى «صالح» المربد الغاضب، وكأنه «أنكيدو» بكل بدائية حواسه ينهل من العاهرة المقدسة، فتهرب منه حيوانات البرية، ويبقى وحيدًا غاضبًا هائجًا لا يدري ممّن! ..
وبالمقابل، يجد نفسه منجذبًا لمقطوعة يهودية آسرة أخذته إلى أمكنة قديمة جدًّا أفياء بيوت خربة، آفاق مفتوحة لسماوات زرقاء لاهثة الشمس، يركض فيه فرحًا نحو ساقية بستان، وتعطف منحدرًا إلى حافة تلك الأيام أوائل السبعينيات في العراق، حينما كان غضًّا طريا في كل شيء الجسد والذهن والتجربة..
كيف تحول إلى كائن يكره اليهود، خالطًا بينهم وبين الصهيونية.. إلى حد لم يتصور بأن لليهود أغاني أو مقطوعاتٍ لحنية!. أعمته النصوص الثورية التي كانت تهاجم الثقافة اليهودية وكل ما يمت إليها بصلة.. محولة كل اليهود إلى صهاينة دون تمييز، زارعةًً كراهية لم يجدها مثلا لدى «صالح»، الذي يعيش وسطهم منذ ولادته..
شعر بذلك الآن، وهو يكتشف لأول مرة بأن لليهود غناءً جميلًا، يستدعي الإنصات والتأمل والرقص؛ إذ على إيقاعه قام أزواج من الرجال والنساء ليرقصوا بين الموائد، وعلى فسحة المسرح المرتفعة المضاءة؛ مما أضفى على الجو مزيدًا من البهجة، جعلت «صالح» يصرخ مثل وحشٍ كاسر، ويعب الكأس تلو الكأس ويقوم قبيل انتهاء المعزوفة ليطلب أخرى، وينتصب حال إذاعة اسمه بالميكرفون من قبل المقدم يحيي الحضور برأسه ويديه.
وفي المرة الأخيرة، قال المقدم شيئًا جعل الجمهور يصفق عدة دقائق، ليقوم «صالح» إلى خشبة المسرح حاملًا قنينة فودكا غير مفتوحة طلبها للتو.. وقف في المركز تمامًا.. ساد صمت كثيف.. رفع القنينة وحطها على أم رأسه معدلا من كتلته؛ كي تقف مستقرة.. ثوانٍ، ونجح، فباعد ذراعه مجنحًا بهما إلى الجانبين كأنه طائر يوشك على التحليق.
أفرد سبابته بحركة بطيئة حافظت على ثبات القنينة، فبدأت الفرقة بالعزف لحنًا راقصا.. تعمق الصمت وكأن المكان خال والعيون تسمرت عليه.. بدأ يرقص برأس ساكن محركًا جسده من الرقبة وحتى القدمين.. يتمايل على إيقاع المعزوفة البطيء برشاقة، بدت عجيبة لا تتناسب مع جسده الممتلئ الضخم ومنكبيه العريضين.. لاحق «إبراهيم» من جلسته حركة جسده وملامحه المندمجة في اللحن والمتوترة، فأقل اهتزاز أو حركة للرأس ستسقط القنينة.. الرأس تحول إلى صخرة، تقف راسخة فوق موج جسده المنساب مع اللحن بتناغم واتساق.. جاب المسرح طولًا وعرضًا. فتعالت هنا وهناك صيحات إعجاب.
قامت امرأتان وسارتا مقتربتين من الفسحة المضاءة.. انحنتا عند حافة المسرح وحدقتا من تحت للتأكد من أن القنينة غير ملصوقة بشعر رأسه الأسود الكثيف.. نهضت إحداهن، وصعدت السلالم الثلاث إلى خشبة المسرح، وخطت مقتربة منه حتى أصبحت على مسافة متر منه. ارتبك خطوه فأبتدأ يفقد التركيز.. تمايل.. مادت قامته، فخطا خطوات واسعة إلى اليمين وإلى الشمال إلى الأمام وإلى الخلف؛ في محاولة للتوازن من جديد، بينما القنينة التي كانت تبدو كالملصوقة بدأت بالاهتزاز وسط صيحات الرواد المذهولين.
كان «إبراهيم» مغتبطًا للعرض المفاجئ، لصيحات الحضور، لقسمات «صالح» المجاهد كي يبقى القنينة، وهو يحملق متابعًا حركة جسده الذي مال ميلًا شديدًا إلى اليسار لموازنة القنينة دون جدوى.. تابع القنينة الهاوية حتى لحظة ارتطامها بالخشب لتنكسر شظايا وينتشر سائلها الأبيض على خشب المسرح؛ مما جعل الحضور يهب بتصفيقٍ عاصف، غطى تمامًا على صراخ صالح وهو مقبلٌ يدفع بكفه في الهواء إلى الخلف مستنكرًا التصفيق. جلس حانقًا وانهد بخرطوش من الفشار الفلسطيني المرتب على «الساقطة»، التي أفقدته التركيز بدنوها الشديد منه.
ما جرى بعد ذلك المشهد يبدو لـ «إبراهيم» مغلفًا بالضباب والضجيج واللذة؛ إذ أحاط بهما عدد من النساء يحملقن بصالح ويبادلنه الحديث.. كان لا يفهم إلا قليلا من الكلام الدائر.. مفردات داخل الجمل مما جعله يسرح ويعب المزيد من الكؤوس ويهزّ برأسه موافقًا، كلما وجهت إحداهن الكلام إليه.. وقليلًا قليلا تضبب كل شيء.
* * *

استيقظ «إبراهيم».. فوجد نفسه عاريًا على فراش وثير وإلى جانبه امرأة عارية تماما تغط في غفوة عميقة.. فرك عينيه ودوّرهما في أرجاء غرفة النوم الصغيرة.. لم يستوعب ما هو فيه، كأنه في باطن حلم، فالمكان لا يعرفه، السرير ليس سريره، رائحة الغرفة وستائر النافذة لم يشمها من قبل.. والمرأة المغطاة بغطاء خفيف والمتكورة مثل جنين ، لا يعرفها.. أطبق أجفانه مرخيا قفا رأسه إلى مسند السرير. حاول أول الأمر معرفة أين هو الآن، في أي بقعة من العالم؟.. لكنه كان في تشوش ذهني تام.. لعن الخمرة.. ذلك يحدث له كلما شرب أكثر من قدرته.. فتح عينيه ببطء.. بدت الأشياء حوله أكثر وضوحًا في النور الأزرق الخفيف، الذي لا يعرف مصدره، والنور الباهت المتسرب من حافتي ستارة النافذة الجانبيتين.
لصق السرير من جهتها، منضدة بعلو السرير عليها مسند صغير، يسند إطار صورة شاب يرتدي بزة عسكرية، يحدق نحو «إبراهيم» بعينين قويتين. على الجدار المقابل للسرير، وفي متوسط المسافة بين حافته والفتحة المسدلة بقصب ملون، يطل نفس الشاب بزي مدني على السرير وأشياء الغرفة والمرأة وإبراهيم العاريين محملقًا بعينين واسعتين وبسمة خفيفة على طرفهما وطرف شفتيه..
نزل من السرير بحذر شديد.. وجد ملابسه متناثرة، ومختلطة بملابسها على البساط المغطي أرض الغرفة.. فرز ملابسه ولبسها متحاشيًا إثارة أي ضجيج يوقظ النائمة.. أنصت مرتبكا لحفيف البنطلون، عند احتكاكه ببشرة ساقيه، فذكره بذلك الحفيف الخفيف في ليل الجبل، في قاعة بقاعدة للثوار، في باحة مسجد جامع في قرى كردستان النائية، عندما كان يرتدي معطفه ويتسلل إلى نقطة الحراسة وقت نوبته.
الخشية نفسها ، لكن إلى أين أريد الآن؟!. تساءل مقتربًا من النافذة يحمل قدميه الحافيتين خطوة.. خطوة مثل لصٍ محترفٍ حتى بلغ حافتها.. أزاح الستارة قليلًا.. استلقت تحته المدينة واسعة مغسولة بضوء الفجر الشاحب وبدا من بعيد نهرها يتلوى مخترقًا جسدها من أعلاه إلى أسفله. وخلف المدينة في البعيد، امتدت سهوب شاسعة حتى الأفق.. مدّ رأسه قليلا ونظر نحو الأسفل؛ فرأى في البعيد على الأرض حدائق مفتوحة وملاهي أطفال.
- كأنني معلق بالسماء.
هتف مع نفسه، والتفت نحوها.. لم تزل متكورة ساكنة على وضعها نفسه.. فرك عينيه احتوى رأسه براحتيه.. لبث دقيقة يحاول فقط معرفة كيفية وصوله إلى هذه الشقة وما هذه المدينة الواسعة.. دون جدوى.. كأن كل ما مضى مُسِحَ.. إذ وجد باب الأمس مقفولًا.
- أنا في حلم ٍ إذن!.
لم يبق لديه غير هذا التفسير، فطالما حلم بأمكنة مجهولة يجد نفسه ضائعا فيها.. منذ طفولته وصباه حتى أنه ظل يتذكر تلك الأحلام وكأنه زار أمكنتها حقًّا، وكان يروي لمن حوله عن ذلك.
- من المؤكد أنني سأصحو بعد حين!.
قال ذلك، وتلمس جسده متحققًا.
- لا.. هذا ليس حلمًا!.
أحس بالشاخص من الجدار يلاحق خطوه.. أراد أن يختلي بنفسه؛ علّه يتذكر ما أدى به إلى هنا؛ ففكر الخروج من خلال باب مفتوح مغطى بالقصب الملون المتدلي إلى صالة، تبدو من خلال ثغرات الشرائط كبيرةً.. مشى صوبها.. عَبَرَ القائم في الحائط متحاشيًا النظر إلى عينيه القويتين.. توقف جوار الفتحة المستطيلة.
مدَّ ذراعه وأزاح صف القصب المتدلي فأصدر صوتًا.. ولج منه ولم يحرر حزمة القصب مرة واحدة، بل أفلت ضفائرها واحدة.. واحدة فطقطقت مهتزةً.. سكن جوارها منصتًا.. لم يصدر من جهة السرير أي صوت.. شمل الصالة بنظرة.. وجدها واسعة في وسطها أريكتان، تشكلان زاوية قائمة، الجالس عليهما يقابل التلفاز الموضوع على منضدة بمستوى النظر.. قطع المسافة بخطوات حذرة وهبط دون صوت على الأريكة الجلدية.
من وسط الجدار المقابل لجلسته أطل عليه نفس الشاب.. لكن بملابس صيفية وعينين مرحتين في صورة التُقطت تحت شمس ظهيرة.. انتقل فورا إلى الأريكة المجاورة، فأصبح بمواجهة الباب الخارجي، وبالقرب منه رأى حذاءه الرياضي مقلوبًا فردة قربها والأخرى على بعد مترين، فقدر أنه نزعهما على عجل وبصخب عند دخوله.
- لكن متى كان ذلك؟!.
همس مع نفسه.. هذه أول مرة يصل إلى هذه الحالة.. يجد نفسه لا يتذكر شيئا، وهو ليس في حلمٍ، بل في صحوٍ يجلس على أريكة صالة مرتبة يتسلل من نافذتها العريضة ضوء الفجر.. وهناك خلف باب القصب امرأة عارية، مازالت رائحة جسدها عالقة به يشمها مع كل نفسٍ. وبغتة لمع كل شيء.. فتذكر «صالح» والبار والرقص، والنساء اللواتي تجمَّعن حول طاولتهما، لكن عند نقطة ما من جلسة الأمس يضيع كل شيء:
- إذن أنا في شقة واحدة من أولئك النساء!.. هذا ما لاشك فيه. لكن أين «صالح»؟!. وكيف سأعود إلى المدينة الجامعية.. وأنا لا أعرف طريق العودة؟!. كيف سأتفاهم معها عندما تستيقظ؟!.. كيف أجعلها تفهم وضعي؟!. وأنا لا أعرف من الروسية إلا صباح الخير، كيف حالك، مفردات متفرقة!.
شاردًا، مهموما، حائرًا على الأريكة.. دلف به الهم إلى ماضيه الدامي العنيف، فتذكر زوجته التي يحبها بشدة، وطفليه اللذين تحولا إلى خاطر، يخطف في مثل هذه الحالات، حينما يجد نفسه غارقًا في أسئلة لا جواب لها.. أحس بوحشة من سقط في بئرٍ عميقة مهجورة في مكان ناءٍ غير مسكون.
- ماذا دهاك يا هذا؟!.
نبَّ من داخله صوت، هو مزيج من صوت «شيركو» الكردي و«أسعد» التكريتي وصوته القديم، قبل أن يحب المرأة التي تزوجها؛ ظانًا أنه وقع في الفردوس.. صوت قوي يبعث في النفس الحيوية، ويسري في الدم منشطًا كل الحواس.
- ألقِ عنك الوجوم والحيرة.. فما العمر إلا لحظة مارقة.. أنت فيها الآن تجلس على أريكة في شقة مجهولة.. أليس هذا ما كان مناك أم نسيت؟!. كم رغبت في صباك ومراهقتك الهرب من العائلة، مدينتك، المدرسة.. كم مرة؟!.. ها أنت حقا في مدينة غريبة.. مع امرأة غريبة لا تفهم لغتها، تعود بك إلى طفولة الإنسان.. حيث ستتعامل معها بالإشارة فماذا تريد بعدُ أبلغَ من هذا العمق، الذي وضعتك فيه الصدف..
القدر رحمك فحياتك العنيفة الصلبة الجافة التي قضيتها بين المعتقل والخوف وجبهات القتال، سواء كجندي أو ثائر تجد خضرتها هنا في زوايا روسيا، التي أحببتها كل عمرك. من أشعار بوشكين، وروايات «ديستويفسكي» و«تولستوي» وقصص «تشيخوف».. وكتابات «تروتسكي» و«لينين».. و«بلخانوف» وكتبهم التي كنت تقرؤها بشغف.. ولاحقًا قصص الأنصار في الحرب العالمية الثانية عن تضحيات أولئك البشر المنسيين، ثم «حمزاتوف» و«إتمياتوف».. و«بولغاكوف» صاحب المعلم و«مارغيتا»، التي أذهلتك حينما قرأتها قبل شهرين في شقة موسكو.. أنك من هذا المنظور أسعد إنسان.. فمفهوم السعادة نسبي.. وبالنسبة لك أنت في القمة «وشاكر ميم» المصور الزنجي وضعك في رحم الفقاعة، فلا تبتئس يا صاحبي، وكن جديرا بهذا الجوف الدافئ الخاطف الممتع!.
أنعشه الصوت، فرفع رأسه متمليًا أشياء الشقة الغريبة بعيون مختلفة.. هدأ تمامًا فتمدد على الأريكة واضعا رأسه على مسندها وركّز على نقطة في السقف أدكن لونًا من الطلاء التبني.
- سيموت «عزيز» من الغيظ لو عَلِمَ بهذه القصة!.
وتبسّم منتشيًا بخيال اللحظة التي سوف يحكي له عما جرى.
- لكن من قال لك إنك سوف ترى «عزيز» مرة أخرى؟!.
نبَّ صوت آخر داخله، جعله ينتصب بجذعه الأعلى ساقطًا في قلقٍ مباغت لم يستمر طويلا؛ إذ انتبه إلى صوت خطى يأتي من غرفة النوم، ثم أنامل ناعمة تزيح شرائط القصب المتدلي، ومن وسط خشخشة شرائط القصب ظهرت مرتدية ثوب نوم أحمر شفافًا، وقالت باسمة:
- دِو بروي ئوترا.
يعني صباح الخير.. رد بالمثل بصوت مرتبك.. قالت شيئًا واستدارت نحو مدخل، يستطيع من خلاله أن يلمح بابا مفتوحا على المطبخ، لكنها لم تدخله، بل سمع صرير باب آخر يفتح في الممر نفسه ، وما لبث أن تعالي صوت دش الماء.. تأمل صوتها ذا الرنين الخفيف، شديد النعومة وقسماتها المتسقة ناعمة التقاطيع، وجسدها المتين الذي يبدو شديد الإثارة بضخامة كتلته الممتلئة المتناسقة، في تناقض محير مع الوجه البريء. أنصت لوشيش الماء متخيلًا جسدها عاريًا مغمورًا بالصابون، وراحتيها منهمكتين في المرور في مناحيه.. لبث يتخيل ذلك مستثارًا وكأنه لم يكن معها في الفراش عاريا طوال ليل البارحة.. تمنى لو تقدم عند خروجها من الحمام على مضاجعته من جديد، فهو لا يتذكر هل تضاجعا ليل البارحة أم لا؟!. تمدد من جديد حالمًا.. وتشاغل في محاولة لتقدير عمرها.. خمن واضعا أرقامًا ينقضها بعد إمعانٍ في شكلها وطراوة بشرتها، فيقدرها تارة بالخامسة والعشرين، وتارة بالثلاثين.. وفيما هو في غبطة السارح، وجد نفسه يصرخ شاكرًا «شاكر ميم» صاحب الفقاعة بصوت علا على صوت الدش:
- أنا في جوفها يا صحبتي!.
انقطع صوت الماء.. خرجت ملفوفة بالمناشف.. أقبلت نحوه. لم يعرف كيف يقول لها: نعيما، كما يفعل في العراق مع أبناء جلدته عند خروجهم من الحمام.. لم تقبل عليه كما تخيَّلَ، بل قالت شيئًا في الروسية.. كانت تكلمه وكأنه يعرف الروسية.. توجهت شطر غرفة النوم.. كان يرغب في اللحاق بها ونزع المنشف عن جسدها والغور فيه، لكن جدية ملامحها صدته. بقى على جلسته.. عادت بعد دقائق مرتدية ملابس الخروج، وجلست على الأريكة المجاورة قالت شيئًا ونهضت لتتوجه نحو المطبخ.. ما حَيّرَ «إبراهيم» حيادها في التعامل، وكأنها لم تكن عارية معه في السرير ليلة الأمس. أشارت له عندما رجعت كي يستحم فصغر لأمرها ودخل الحمام.. عندما أتم غسل جسده ولبس، وجدها قد هيأت منضدة الفطور.. بيض مسلوق، بيض عيون بالدهن، شرائح جبن ولحم خنزير، صحن خضر وقناني حليب.. تناول «إبراهيم» فطوره على مهلٍ.. كانت تتكلم طوال الوقت، دون أن يفهم شيئًا. وتنظر إلى ساعة الحائط وساعتها اليدوية وتطلق حسرةً؛ لتنهمر في حديث ينصت له «إبراهيم» بكل حواسه، فيبدو وكأنه يفهم كل ما تقول.. وهو في حقيقة الأمر بدأ يفهم روح الموضوع لا تفاصيله.. هكذا ظن أو تخيل، فراح يتصرف معها على هذا الأساس.
خمن أن لديها موعدًا مع «صالح» كي يأخذه.. لكنه لم يجئ.. بعد الفطور جلست جواره.. بدت مهمومة حزينة تحدثه بالروسية، وتشير بذراعها بين الحين والحين نحو الكائن القائم خلف الزجاج المؤطر والطالّ من الجدار بمرح عينيه المحدقتين بعنفوان.. حدثته طويلًا.. عرف أن اسمه «دمتري» إذ كانت تردد الاسم مرات عدة أثناء حديثها المنفعل.. من المؤكد أنها تحكي عنه.. فراح يتخيل قصتها معه، مختلقا أحداثها المحتملة.. متتبعا انفعالاتها ونبرة صوتها الحزين.. كانت تصل إلى حافة النحيب، فتكاد تختنق قبل أن تنغمر فيه. فيهرع من مكان جلسته ويحوى بصدره العريض وجهها الناحب المتكسر حزنا.. لا يعرف بالتحديد ما يوجعها.. لكنه حدس أن حزنها شديد الصلة بالشاخص من إطار الصورة المعلقة في غرفة النوم والصالة:
- هل هو أخوها أم زوجها الذي هجرها، هل هو مسافر، ميت، قتيل، تجنن، غرق، انتحر.. هل.. وهل.. كيف لي أن أعرف؟!.
- من المؤكد أنها تحكي بالروسية عن مصيره التراجيدي!.
أجاب عن سؤاله بنفسه.
بعد شاي الصباح بساعتين، قالت شيئًا فهم منه أن عليه أن يقوم ليلبس ملابس الخروج فانصاع.. أخذت بيده وخرجا من الشقة ليهبطا بالمصعد إلى الشارع.. كانت السماء صافية فاقعة الزرقة والشمس باهتة والبرد قارسًا.. تأبطت ذراعه، فأحس بجنبها الساخن يَنبضُ في مسامه عبر كثافة معطفيهما الثقيلين.. نزلا على سلالمٍ مضاءة شديدة الانحدار، أفضت إلى قاعات واسعة تضج بالحركة وضجيج قاطرات المترو.. ساحا في محطات وأمكنة بدت له مثل حلم يلمسه بأصابعه.. وكانت تقول وتشرح عن الأمكنة وما حولهما.. ورويدًا.. رويدًا أحس أنه يفهم ما تقول واقعا على روح الموضوع.. وكان ذلك حقيقيًّا وليس تخمينًا؛ إذ وجد نفسه يغور في دنياها مثلما شرعت تغور في دنياه، والنهار يوشك على الانقضاء وهما يدوران بين المحلات الكبيرة والشوارع والمتاحف المتناثرة التي سيظل يتذكرها مثل حلم خطف وحفر مشاهده في الروح.
وقبل هبوط المساء.. ولجت به بوابة كنيسة هائلة الباحة، عالية السقف، قديمة الطراز تقع قرب الجامعة الحمراء، وهي بناية مطلية جدرانها بلون أحمر فاقع، تجثو على مرتفعٍ أشار نحوها «عزيز» معلقا في اليوم الأول لوصوله.. كانت نصف معتمة لا يضىء فضاءَها الواسع، سوى شموع الزوار المصلين المنهمكين بإيقاد أصابع الشمع، ووضعها على أوانٍ نحاسية، ثُبِّتت على أعمدة رخام موزعة بأرجاء الباحة بين صفوف الكراسي..
كانت الكنيسة مكتظة، وعند العتبة الخشبية العالية أفلتت ذراعه فتأرجح على حافة الفراغ، وهو يتابعها تشق طريقها بصعوبة كي تصل إلى الصبية الجميلة الواقفة جوار ضلفة البوابة تبيع الشمع.. ناضل كي يحتفظ بموضع قدمه في زحمة الداخلين والخارجين، وعيناه تلاحق كتلتها تندس بعناء بين الأجساد المتكاتفة.. آناء ذلك كان يستمتع بجوف الفقاعة.. بهذه اللحظة التي من المستحيل عليه تخيلها قبل أيام.. فأن يكون بصحبة امرأة غريبة، في مدينة غريبة دونها يضيع تماما ذاك ما لم يعتقد به إلا في الحكايات والروايات.. أو فيما عاش فيه بأخيلة يقظته وأحلامه منذ الصبا..
كان يتشبث بمكانه على العتبة؛ كي تجده عند عودتها.. وكان يستمتع واجدًا في ذلك النضال متعة لا مثيل لها. طلعت من الحشد حاملة ثلاث شموع بيضاء لتشبك كفه بكفها الحرة، وتقوده نحو إحدى الصواني النحاسية الدائرية الواسعة. ناولته إصبعًا وفهم من كلامها أنها تطلب منه أن يشعله بنفسه ففعل.. ووقف جوارها بوضع المصلي المتعبد المسكين.. كانت تقول شيئًا بملامح خاشية متضرعة .. كان يتمتم بما يجعلها تطمئن فيما كان ذهنه مشغولًا، مذهولًا بالوضع البشري للروس وغيرهم ممن كان تحت وطأة مدينة «لينين» الفاضلة.. يتمتم وكأنه عبد المسيح كما كان يفعل جوار شباك الإمام «علي بن أبي طالب» المذّهب في النجف.. الحرارة والصدق والخشوع نفسه.. لكنه هنا وفي هذه اللحظة الفريدة الضائعة.. وفي عمق مدينة الفضيلة الموهومة، كان يفكر بخواء فكرة إفراغ الإنسان من فكرة الدين والإيمان بما وراء الواقع والكون.. فطوال أكثر من سبعين عامًا من النظام الاشتراكي الملحد الصارم، اعتقد رجال الدولة فيه أن الدين أصبح مجرد فولكلور، هاهو يعود قويًّا جارفًا ملتهبًا بأصابع الشمع المضيء باحة الكنيسة الواسعة..
كان يردد دعاءَه الخاص، محملقا بوجه المسيح الباكي ومتماهيا فيه.. فيها.. في وجوه زوار الكنيسة.. بلذة الضياع في مدينة لا يعرف منها سوى أسماء، «صالح»، »«عبد الحسين»، «عزيز»، «جلال التونسي»، «سليمان الجولاني».. إلى آخر الأسماء.. سحبته من ذراعه وخاضت به حتى عتبة البوابة العالية المفتوحة على ليل هبط.. لفت ذراعها حول خصره، فتشجع فحضنها بذراعه أثناء مشيهما على الرصيف العريض.. كان يستغرب سرعة الألفة بينهما، وكأنهما يعرفان بعضهما منذ زمن بعيد، يضاف إلى انه كان مأخوذا بقدرة الروسية على الكلام المتواصل لاغية حاجز اللغة؛ إذ تتحدث وكأن «إبراهيم» يفهم كل ما تقوله.
تنغمر بالكلام بحرارة وانفعال؛ مما يجعل التواصل حميما.. كان ينصت لها بكل حواسه، وكانت تشعر برهافة ذلك الإنصات.. وكان مخدرًا بالقصة الغريبة التي هو في باطنها بل المحور فيها.. وملتذا لذة تفوق لذة التخيل، عند قراءة رواية مؤثرة تلغي العلاقة بالمحيط.. وكان يتشبث بجسدها الضخم البض تشبث السكران الضائع.. أخذته إلى شوارع مضيئة مكتظة، ودخلت به سوقا شعبيا يباع فيه كل شيء: نبيذ، أحذية، فواكه، خضر، فودكا، بيرة، لحوم معلبة وطازجة، أسماك، والباعة ينادون على بضائعهم فتذكر سوق الديوانية في الصباح.. تسوقتْ ما طاب لها. كانت تجلب كل بضاعة تود شراءها وتعرضها عليه، فكان يومئ لها برأسه موافقًا.. عبأت كيسين.. تشاجر معها كي يحملهما، لكنها أبت مصرةً على حملهما.. هبطا خلال بوابة وقاعة سلالم كهربائية إلى باحة المترو؛ لتشق بهما باطن المدينة إلى حيث تسكن.
في الشقة أعدت كل شيء رافضةً بحزمِ محاولاته لمساعدتها.. كانت تقول شيئا فهم منه أن لا عليه سوى الجلوس والاسترخاء.. وكان لا يستطيع إخبارها لغةً بأنه قضى كل فترة حرب العصابات في كردستان، يطبخ لفصيل متكون من سبعين كلما جاء دوره. رتبت المائدة.. النبيذ والكؤوس والسلطات وشرائح اللحم واللبن في هندسة متناسقة؛ لتشعل دوائر شمع صغيرة موضوعة في جوف كؤوس ومثلثات زجاجية وزعتها بين المواعين والكؤوس، وقامت لتطفئ ضوء الصالة.. فعمت أضواء الشموع الراجفة كل شيء، وجهها والأواني والجدران وخدره.. أمعن «إبراهيم» في التأمل، وهو يتابع حركتها الدءوبة بين المطبخ والصالة:
- هل ما يجري له واقعي؟
- هل هو حقا يعيش مع أوكرانية شابة لا تعرف ولا يعرف عنها شيئا؟!.. وإلى متى سيبقى بهذا الوضع؟
تذكر «شاكر ميم» وفقاعته العظيمة:
- عش لحظتك وطلق الدنيا يا مجنون!.
- انزل من خيال قراءتك كي؛ تفهم البشر!.
صرخة «شيركو» الشاعر الكردي!.
- تعال يا «شيركو» لترى أين أنا.. ولك في الجنة.. في لذة الضياع بصحبة أنثى طيبة .. نحلة أوكرانية أعدت كل شيء.. طزززززززززززز....طزززززززززز!.
طزطزَّ «إبراهيم» للدنيا.. كاد يقفز صارخا كما يفعل، حينما يسرح مع أخيلته في الحقول وحيدا حيث ينال مناه بالخيال.. أوشك على القفز نحوها حينما أقبلت لابسة ثوبا أحمر شفافا تظهر من تحته تفاصيل جسدها الملفوف والمتناسق.. كبح جماح نفسه بعناء، فلبث ساكنا على الأريكة يفور باللذة والبهجة.. جلست جواره، فهب من ناحيتها عطرٌ خفيفٌ خفقه، وظل يتدفق من مناحي جسدها القريب الحار.. كان تواقًا للغور في مباهجها؛ إذ إنه لا يتذكر أي شيء من ليل البارحة، التي وجد نفسه في الصباح إلى جوارها على السرير عاريا.. قالت شيئا كمن تتذكر بغتة، ونهضت لتخطو نحو المطبخ فلاحق جسدها المرصوص ومؤخرتها المرتفعة والصاخبة كهدير تحت ثوبها الشفاف عند الخطو، فتمنى لو تأخذه فورا إلى السرير ليتمعن هذه الليلة بكل مفاتنها.. وعزم مع نفسه على تقبيل كل جزء من جسدها..
عادت وبيديها عديد من الأشياء فرشتها على الموكيت جوار أقدام المنضدة، وهبطت لتجلس مستندة بذراعها على الأريكة. التبس الأمر على «إبراهيم» وهو يتفرس متفحصًا تلك الأشياء المتناثرة.. كيس قهوة غير مطحونة.. كيس شاي صغير، قدح، بنطلون، قطعة بطاطس، تفاحة، قنينة فارغة، شوكه، سكين، ملعقة.. وعاد يحملق في وجهها الجاد.. قابلته ببسمة وهدرت بالكلام.. هبط من على الأريكة ليجلس جوارها، وعندما رفعت البنطلون ونطقت بوضوح:
- بريوكي
أدرك مرامها.. فردد فورًا :
- بريوكي!
أعادت ذلك مرات ثم تناولت البطاطة ونطقت مركزة على مخارج الحروف «كارتوشكا» فردد خلفها.. وهكذا دأبت على تلقينه أسماء الأشياء.. لتنتقل إلى الأشياء الأكبر.. قامت من جواره إلى النافذة.. مسكتها ونطقت «أكنو» فردد فورا.. أمسكت الباب ونطقت «دفير».. وأشرت للشقة كلها ناطقة «كفارتيرا».. ذهبت إلى المطبخ لتعود بالقدح مملوءًا بالماء. أشارت إلى الماء «فدا». ووقفت أمامه لتمثل شخصا يدس لقمة بفمه، ثم تبدأ بالمضغ وتنطق «كُوشَتْ». كان يقلدها ملتذًا، ويحفظ كل ما تنطق به من مفردات روسية بدأ يتلمس معناها.
كانت حينما تريد تعليمه فعلًا، تقوم لتمثله بصمت ذكره بأفلام «شارلي شابلن».. فعندما أرادت أن تحفظه مفردة العمل.. قامت من جواره وراحت ترتب أشياء المنضدة من جديد.. تروح وتجىء من الصالة إلى المطبخ، حاملة المزيد من الصحون لتقول: «رابوتا».. فردد معها: «رابوتا»، وتذكر هذه المفردة التي كان يسمعها من الروس كل يوم في المترو والحافلة والشارع والبار.. مفردة بدت وكأنها تعني لهم الحياة. العمل الذي كرهه «إبراهيم» طوال حياته.. كان يرى نفسه مجرد طير عاقل، أينما رغب يحل أو يرتحل .. عاش مسكونا بفكرة الأجنحة والطيران وقت الحاجة.. هاهو يحلق عاليًا في سماء غريبة ضائعًا، لا يعرف منها إلا هذي المرأة الشفافة بروحها وثوبها وحركتها، وهي تحاول قرن لسانه بلسانها.. عادت إلى جواره على الأريكة، وملأت كأسين بالنبيذ.. ناولته واحدًا ومست حافته بحافة كأسه:
- نَزدَروفيا
ردد خلفها:
- نَزدَروفيا
ورشف رشفة خفيفة، قائلا مع نفسه:
- «إبراهيم» الليلة دون سكر.. كي ترى وتحس هذه الأشياء الجسد والسرير والكلام والصمت، ومناحي هذه الأنثى الناعمة الضخمة المبتهجة معك، وكأنك حلمها الذي وقعتْ فيه!
جعلها تعبّ ثلاثة أرباع القنينة الأولى.. فتحت الثانية ظل يرتشف ويصغي إلى حديثها المتواصل، متأملا قسماتها المنفعلة بصدق، جعله يحس وكأنه جوار زوجته التي أحبها بعنف وعاش جوارها منذ تعارفا.. لم يكن للوقت معنى بالنسبة له.. لكنها وقفت بعد أن شخصت نحو ساعة الجدار، التي كانت تشير إلى التاسعة مساءً وخطت نحو حاكي قديم موضوع على طبلة بقدر حجمه جوار الجدار وتحت صورة الشاب الباسم.. قلبت عدة أسطوانات كبيرة..انتقت واحدة.. وضعتها ورفعت حامل الإبرة. كان يتابع من جلسته كل حركاتها.. فسقط نظره على سبابتها وإبهامها وهما يفلتان الإبرة لتهبط على تدوير الأسطوانة فهجم صوت ريح مصحوب بعواء كلب وامرأة تترنم بلحن، ثم شخص يروي لطفلة ما قصة قبل أن يصدح القيثار، ويتعالى صوت المغنية المطّرب في إيقاع بدائي يهبط إلى القلب...
وجد نفسه في غرفة بيتهم الوحيدة..كان يلوذ عند انشغال إخوته فينفرد بالمذياع الخشبي الضخم؛ ليدير البكرات باحثًا عن محطات تبث أغانى أجنبية، لا يفهم منها شيئا.. لكنه كان يستمتع باللحن حالما بمدن بعيدة.. وكانت أمه تخرّبْ تلك الأخيلة حينما تدخل عليه، وتقول لائمة:
- أش تسمع يمه.. وأش تفتهم من هالرطينة!.
كان يلوذ بالصمت؛ فما تقوله حق، لكنه كان يجد متعة في سماع تلك الأغاني، ولا يعرف كيف يبرر لها الأمر، هو نفسه كان لا يعرف لماذا تستهويه تلك الأغاني بألحانها وكلماتها وأصواتها.. فَبِمَ يجيب؟ لكنه لو التقى بها الآن فسوف يُسرّ لها بمحنة الطير.. محنته.. لكنه سيعرف لاحقًا أنها ماتت وقت ضياعه بين الجبال والمعسكرات والدول...
تابع جسدها الصارخ خلف ثوب نومها الشفاف، وهي تتلوى على لحن الأسطوانة صارخة مفردة، لن ينساها أبدًا:
- «سيكوني»!...
سيعرف لاحقا أنها تعني «غجر».
تطوت وتلوت هبطت وقامت.. كان يحبس جنونه قامعًا رغبته العاصفة في الرقص؛ ليستمتع برقصها الرشيق المصحوب بصرخات مبهمة.. لكنه لم يصمد.. وجد نفسه يهب على إيقاع الصرخات والقيثار والتصفيق وجسدها ويقترب منها منتفضا، متمايلا، منتصبا أشد الانتصاب، وجوارها أطلق صرخة مبهمة، امتزجت بصرخاتها الملتاعة القصيرة بصرخات الراقصين..
كان يحملق في قسماتها المنتشية في ذروة الرقص، وهي تغرز فيه عينيها الزرقاوين اللامعتين ملاحقة حركة جسده تارة وإيقاع الوجه في أخرى.. تلاصقا.. افترقا.. تدافعا.. تشابكًا.. لف الواحد منهما حول الآخر. وبغتة فيما كان يدفعها شابكا أصابعه بأصابعها راجعًا خطوتين.. توقفت الاسطوانة وحلَّ صمتٌ جعلهما يجمدان متباعدين، وأصابع أيديهما متشابكة.. صمتٌ قطعته برميِّ جسدها إلى صدره لتنخرط بنحيبٍ طويل مصحوب بهذيان، فبلل دمعها المتصبب قميصه.. أحاطها بذراع، وراح يمسح دمعها وشعرها بالأخرى، ثم سحبها برفق مع خفوت شدة النحيب إلى الأريكة القريبة.. أجلسها وهبط لصقها على الأرض وأصابع يديها بين أصابعه.. يمسح بحنان أظافرها تارة وقطرات دمعها الحار المتدفق بغزارة:
- أي ألم في هذه الروح؟!.
- أي عذاب!.
قال في نفسه.
اتكأ على راحة يديه.. نهض وجلس جوارها.. سحبها كانت لينة ونشيجها أصبح خافتا يثير المزيد من الشجن.. وضع رأسها لصق صدره رابتا بأطراف أصابعه بخفوت على كتفها، ومع كل ربته.. يتخافت النشيج رويدا.. رويدا.. إلى أن تلاشى، فسكنت كتلتها مسترخية.. جمد إلى أن أمعنت في غفوتها على صدره، وأحس بِنَفَسِها المتردد لصق جسده ينتظم نابضًا ويصبح عميقًا، فسحب ذراعه من حولها برفق.. أمسكها من تحت إبطيها وعدل جذعها الأعلى واضعًا رأسها على وسادة رتبها بطرف الأريكة، ثم حضن ساقيها وحملهما. أصبحت الآن ممددة بكامل جسدها المتموج تحت ثوب النوم الخفيف.. لبث متوسدا سجادة الصالة على مسافة مترٍ منها.. ليس لديه غير التأمل فيها..
تجلت ملامحها في النوم.. قسمات بريئة تلاشت منها اللوعة التي كانت تتموج في أول المساء.. قسمات زادتها البراءة فتنة.. انحدر نحو العنق الطويل لاهث البياض.. وضاع في تفاصيلها المثيرة الصارخة تحت الثوب المنحسر حتى منتصف الفخذين المدورين تدويرًا فيه امتلاء وصلابة.. نهدها الأيمن نط برأسه من فتحة الثوب صلبا كمثري الشكل منتصب الحلمة.. صب كأسا من الفودكا.. وجرعها مرة واحدة.. مسح فمه براحة يده وعاود التحديق:
- جنة في الوجه ونار في الباقي! أش لون ورطة؟!.
ردد بخفوت مستعيدا ليالي مراهقته العنيفة في «حي العصري» حينما كانوا يدورون في الليالي الربيعية، يتلصصون من النوافذ على النسوة النائمات في الغرف واجدين مشهدا مثل هذا.. وجد نفسه مستثارا أشد الإثارة.. ضربه على رأسه براحة يده وصب كأسا جرعها، وهرع إلى غرفة النوم جالبا غطاءً ألقاه عليها. جلس على الأريكة المقابلة.. أراح ظهره على مسندها الوثير مبحرا في وجهها، الصمت، الجدران، طرف الستارة المزاح قليلا.. صب كأسا أخرى.
- ليس أمامك يا «إبراهيم» سواها!
دلقها مرة واحدة في جوفه.. تلمظ وعاود التحديق في قسماتها الغافية المترسبة في قاع عالم بدا بعيدًا عميقًا فهي لم تتحرك، بل بقيت على همودها، منذ أن عدل وضعها:
- أي قصة تكمن خلف هذا الوجه المعذّب البريء!.
تساءَل بصوت مهموس. وتناول القنينة.. لم يصب هذه المرة في كأسه:
- لأشرب في صحة العبدو وعبد سوادي.
وضع فوهتها في فمه وعبّ قليلا.. شيء واحد كان يضايقه ويشعره بأنه ليس وحيدا معها.. صور هذا الشاب الروسي الوسيم المحدق من جدران الصالة الأربعة:
- ماذا بك مجنون.. تتضايق من صورة؟!.
نَهَرَ نفسه، وانشغل من جديد بالتحديق فى وجهها الصافي المنساب كمجري ساقية صغيرة.. لكنه كلما أراد التوغل فى متعة الوجه والأخيلة يشعر بعيني القائم في الحائط، تراقبه مخربةً ذاك الانحدار الخفيف.. نهض وخطا نحو الصور.. قلبها واحدة.. واحدة.. توسط الصالة.. وقف جوار الأريكتين.. دَوّرَ عينيه على الجدران، فأحس بنشوة الوحدة.. حمل قنينة الفودكا، واقترب من النافذة.. حملق في السماء.. كانت صافية متلألئة النجوم تبظ فضتها بظًّا بعث فيه مزيدا من الغبطة.. نفس سماء ليالي طفولته الصيفية حيث ينامون في حوش دارهم الواسع.. كان يسهر في الصمت، راحلا مع هذه النجوم حالما بأمكنة بعيدة يجوبها بمخيلته.. هاهو فيها الآن وتحت النجوم نفسها ، ومع امرأة جميلة لا يعرف حتى لغتها، ولا يدري ما يضمر له الغد.. غبطة طفل بلا حدود يمسك النجوم، ويسافر إلى المجهول.
- لو يدري «عزيز» وين ضعت؟!.
وفكر فى أنه مع «عبد الحسين» قالبين الدنيا على صالح، الذي ضيعه.
- أجمل ضياع!.
علق في نفسه وتبسم بخبث متخيلا اللحظة، التي سوف يعثرون فيها عليه، والغيرة بوجه «عزيز» المنصت لما سوف يقصه.. أي هذه التفاصيل التي هو باطنها الآن.. لا يدري كم بقى في وقفته جوار النافذة.. كان يعبّ بين الحين والحين جرعة من فم القنينة، وفي كل مرة يشرب نخب صعلوك من صعاليك الديوانية الأحباء إلى قلبه.. يعبُّ ويضيع نظره في النجوم، في أضواء المدينة، في عتمة الغابات البعيدة إلى أن أحس بالنعاس.. استدار منتشيًا ورمى خطوة في الصالة خائضا في حلمه القديم.. أصبح جوارها وجد الغطاء منزلقا وهي منقلبة على الجنب مظاهرة وقفته؛ فتجسد تموجها المثير.. رهافة القدمين، متانة الفخذين، كتلة الردفين البارزين، منخفض الخصر، استقامة الظهر والشعر المنسدل بخصلاته الذهبية حتى حافة السجادة:
- تبارك خلقك!.
ردد بهمس.. وتمتم مباركًا نفس هذه المرأة الطيبة، التي آمنت به، دون أن تعرف حتى لغته.. حمل الغطاء وأحكمه حول جسدها.. هذا آخر ما يتذكره من ليل البارحة.
استيقظ على صوتها الهامس:
- صباح الخير
وقطفت قبلة سريعة من شفتيه، ثم أشارت إلى مفتاح موضوع على الطاولة، وقالت شيئا فَهَمَ منه أنها خارجة إلى العمل أو لشأنٍ آخر.. تابع جسدها المدبر.. التفتت عندما جاوزت العتبة.. تبسمت قبل أن تسد الباب وتقفله.. كان منهكا من البارحة.. الشرب.. فيض الأحاسيس.. وزخم الأحداث، فسقط في النوم العميق من جديد. لا يدري كم من الوقت أغفى؛ إذ إنه انتفض من غفوته مرعوبًا مما رأى.. زوجته تصرخ وتستغيث منادية باسمه، وهو يستلقي إلى جوارها في الفراش، كما يحدث لها في كل مرة حيث كان يوقظها بهزها برفق ويناولها كأسا من الماء..
لكن هذه المرة، وجد نفسه جوارها، ولكنه مكبل لا يستطيع الحراك وهي تستغيث.. وتستغيث على وقع صراخ طفليه اللذين لا يدري أين، لكن صراخهما يمتزج بنواح صوتها المختنق.. كانت تعالج محتضرة جواره. وكان يصرخ دون صوت.. يصرخ.. وبدأ يستغيث بدوره.. تلمس عنقه وشرب كأسا من الماء.. وتساءل:
- كيف حالهم الآن؟!.
نبَّ الآخر فيه:
- تذكرت!.
هو فعلا بدا وكأنه نسى أنه متزوج ولديه أسرة، وحتى هذه اللحظة.. بدت تلك التجربة، وكأنها حدثت من زمن بعيد، ولولا الكابوس الذي أيقظه لما تذكرهم:
- اسمع هم في بلد آمن عد إلى لحظتك!.
طغى صوت الآخر القوي، يدعوه لطرد الشجن وبقايا شعورٍ بالذنبِ يعكرُ صفوَ لحظته:
- عش لحظتك.. نجوت من الموت أكثر مرة.. ثم من يقول أنك ستستطيع السفر إليهم.. ليس لديك مال ولا وثائق سفر، ولا تدري كيف ترجع إلى شقتك في موسكو حتى!. لا بل لا تستطيع العودة إلى المدينة الجامعية في «كييف».. عش لحظتك يا مخبول، فبالأمس غرق أحد رفاق السلاح القدامى في الفولجا.. لم يستطع أحدٌ تحمل حتى تكاليف دفنه ، فدفنته بلدية موسكو في مقبرة ما.
- تمتع.. عش لحظتك!.
استقام بجذعه الأعلى وحدق حواليه.. الشمس تتسرب من النافذة المزاحة الستائر، وتسقط على السجادة مضيئة الصالة.. تتبع الأشياء متذكرًا ما فعله بالأمس من قلبه لصور الشاب في الجدران، فلم يجدها بل وجد محلها لوحات زيتية صغيرة لمزهريات مختلفة الألوان.. أخذ نفسًا عميقًا:
- إذن عرفت ضيقي منها!
ردد مع نفسه وذهب إلى المطبخ ليشرب المزيد من الماء، قبل أن يأخذ دشا أنعشه.. انشغل وهو ينشف جسده بوضعه الجديد، وماذا سيفعل بيومه؟!.. هل سيبقى سجين بيتها؟! وإلى متى؟!، هل سيعثر عليه «صالح»؟!، هل سيحاول العثور على المدينة الجامعية، هل سيستطيع العودة إلى شقته في موسكو؟!.. أما زوجته وطفلاه.. فصاروا مثل حلم بعيد رآه في ماض سحيق.
- أنا ضائع حقا!.
هتف بصوتٍ عالٍ على وقع باب الشقة، وهو يُفتح.. أسرع بالخروج فوجدها تقبل نحوه بأكياس مليئة.. سلمت عليه وقبلته في شفتيه.. وظلت تتحدث طوال الوقت في طريقها إلى المطبخ، وأثناء تفريغها الخضر والفاكهة واللحوم.
لم تكن لديه ملابس نظيفة، وكأنها أدركت حيرته، فأخرجت من أحد الأكياس ملابس داخلية نظيفة وقميصًا وبلوز من الصوف الأسود، وبنطال كابوي أسود أيضا.. أزاحت عنه المنشفة فبدا عاريا تماما.. أخذته إلى صدرها شاهقة.. أول مرة يحس لهاث شهوتها منذ حلوله في شقتها؛ فتماسك كي يبقى مستمتعًا بكل حركة تقوم بها، وكل انفعال في وجهها. تخلصت من ملابسها وبقيت في السروال الصغير فقط.. لقفت شفتيه وراحت تقبله بطريقة لم يجربها مع امرأة قط.. تمص، وتدس لسانها، وتخرجه، وتمص العليا تارة والسفلى أخرى بحساب أفضى به إلى قمة التوتر.
- تماسكْ.. لتستمتع بالمزيد.
قاوم منصتا لهذيانها المتقطع بمفردات ناعمة هائمة.. تهزّهُ نغماتها هزًّا.. من المؤكد أنها تدور حول الجسد والحب، مفردات هي مزيج من أنين مجروح وهديل حمامة.. دلكت كل ناحية من جسدها في جسده.. استدارت.. وراحت تفرك ظهرها ومؤخرتها فيه وعنقها ملتوٍ.. عيناها في عينيه وشفتاها في شفتيه.. وتواجهه ثانية. وبهدوء بدأ جسدها يبث نارا وَهَجتْ كل قطعةٍ فيه.. في قمة تألق وذوبان قسماتها المنتشية قالت شيئا.. وراحت تكرره إلى أن أمسكت بيده المرتجفة وأنزلتها إلى سروالها.. جردها.. وعلى السجادة سقطا والجيْن في أحشاء بعضيهما.. في النبض العميق. سيظل «إبراهيم» يتذكر هذه المضاجعة ما تبقى من عمره. منحته الأوكرانية الشقراء كيانها كله، وأرته لذةً ذات مذاق خاص مختلف.
***

تشابهت الأيام.. في الصباح يبقى وحيدا في الشقة، وفي المساء تعود متعبة محملة بالخضار والفاكهة واللحم والنبيذ. . كانت تطلب منه أن يدلك قدميها، فتتمدد على الأريكة بعد أن تتجرد من سروال عملها.. وكان «إبراهيم» خبيرًا.. يخوض في بشرتها البيضاء من باطن القدمين حتى الوركين.. فتتوقد أصابعه وبشرتها إلى أن تشب النار في البشرة والأصابع والأريكة.
كل مساء تشب النار في الأصابع والأفخاذ والصدر والنحر.
كل مساء تشب على الأريكة.
وفيما عدا الويكند تخلد إلى السرير مبكرة، وكان يستلقي جوارها إلى أن تغفو فينسل إلى الصالة يصب كأسا، ويقف خلف النافذة، يبحر في ليل المدينة الهامدة، شبابيكها المضيئة، بناياتها العالية، أضواؤها الصارخة، وصمت السماء العالية بنجومها الدانية.. في أحد الأيام حمل المفتاح معه، ودلف من باب الشقة قائلا مع نفسه:
- سأشم قليلا من الهواء.
هبط بالمصعد وخرج إلى الشارع.. كان حذرًا يسير مسافة، وكلما لف في شارع يركز على معالم المدخل كي لا يضيعه.. يضحك على نفسه، وهو يحدق بالحروف الروسية، التي لا يستطع فك سرها مرددًا:
- وكأنني في مفرزة بالجبل تسلك طريقا لأول مرة!.
بعد اليوم الرابع تمكن من تحديد معالم الأمكنة المحيطة، فأخذ يبكر بعد خروجها سالكًا طريق الغابة المجاورة ليضيع طوال ساعات الصباح يتأمل شهقة سيقان الأشجار، زحمتها، طيورها الرافّة، راحلا في البعيد، وكأنه في سلام جنة.. نزهة في الصباح، نوم بعد الظهر، سماع موسيقى قبيل قدومها، ثم دخولها الضّاج، والعشاء والتدليك، والتسلل من السرير ما أن تغفو للإطلالة من النافذة على بهجة الأضواء والأفق المعتم البعيد وصمت المدينة.. يوم خال إلا من السلام ومشاعر هذه المرأة العنيفة الحنونة، التي لا يعرف من لغتها إلا اليسير، بالعكس من أيام عمره التي قضاها متوترا منذ الطفولة حتى الصبا ثم السجن والحروب وقت نضجه، وزوجته التي زادت من همومه، وهو يذود عنها خطر الاعتقال في الداخل وخطر رفاقه في كردستان، ثم محنة المنفى والأطفال ومطالب الحياة، ذلك ما جعله يشرب كل مساء.. أما الآن، وفي هذا المكان الغريب وجوار هذه الشقراء الأوكرانية الجميلة، صار يعزف عن الشرب أيامًا راغبًا في التمتع بصحو حواسه بهذه الأيام المختلفة متسائلا:
- هل تدوم يا ترى؟!.
وبغتة جوار نبع ماء وسط الغابة المجاورة للمبنى.. جرفه الشوق إلى رفيقة عمره وطفليه، إلى تلك الأيام اللاهثة.. فشعر بنفسه وحيدًا غريبًا مستوحشًا، فندمَ على انجرافه بتأثير الصعاليك الأربعة: «أسعد» التكريتي و«شيركو» الكردي والمصور «شاكر ميم»، ونصفه المخفي عن الآخرين.. الأربعة وضعوه في جوف الفقاعة، وهم يضحكون بلا مبالاة.. لكن هذا الشعور بالذنب لا يمكث إلا لحظات؛ إذ سرعان ما تحيط به الفقاعة الموشكة على الانفجار، فيلبث في جوفها مستمتعًا، مبحرًا عنها وعما يأتي في المساء وما كان في الصباح متخيلا، وكأنه ذلك الجندي الإيطالي في فيلم «بازوليني» «زهرة عباد الشمس»، الذي سيق قسرا إلى الجبهة الروسية في الحرب العالمية الثانية، وكان يعيش قصة حب عنيفة مع جارته التي تظل بانتظاره حتى نهاية الحرب.. يتذكر وقفتها على رصيف المحطة، تتابع بعينين مجنونتين الجنود العائدين من روسيا، المتعبين، الهابطين من العربات.. دون جدوى. لا تصدق ما قال لها صديقه كونه جرح جواره، وتركه على الثلج أثناء الانسحاب:
- هل هي مشغولة بي الآن؟!.
- هل تسأل مثل «صوفيا لورين» في الفيلم؟!،التي سافرت إلى الاتحاد السوﭬﻴﻴﺘﻲ وراحت تجوب كل الأمكنة المحتملة إلى أن عثرت على أحد الإيطاليين العاملين في أحد المعامل والذي أخبرها عن مكانه.. فذهبتْ إلى بيت ريفي لتجده متزوجًا من روسية، ويعمل بأحد المصانع.. استعاد تفاصيل الفيلم، وهو جالس جوار النبع في عمق الغابة منتشيًا:
- أنا مثل حالته مع فارق الزمن والمكان والظروف.. خرجت خاسرًا من حرب الجبل مجروحًا جرحًا بليغًا مثل ذلك الجندي الإيطالي، وبقيتُ وحيدا هنا في نفس المكان.. الاتحاد السوﭬﻴﻴﺘﻲ، بعد أن تركتني وسافرت، فأتى «عزيز» و«صالح» ليضيعاني في «ﻛﻴﻴﭫ الشاسعة»، فأجد نفسي مع هذي المرأة، التي دارتني مثلما دارت تلك الشقراء الروسية في الفيلم الجندي الإيطالي، حينما وجدته ينزف متروكًا على الثلج، فسحبته حتى بيتها وعالجته وصار لها.
فالأوكرانية الشقراء لما أصيب بالأنفلونزا قبل عشرة أيام.. لم تخرج إلى العمل.. ظلت جواره تداريه تسقيه السوائل الحارة، تدلك جسده بالفودكا، تدثره، تغني له حتى ظن في شدة الحمى أنها أمه.
- .. هأنذا باقٍ معها مأواي الوحيد حال ذلك الجندي.. الفارق هو أن ذلك ممثل وأمامه الكاميرات والمخرج والمصورون، بينما أعيش تجربتي لحمًا ودمًا وواقعًا، يضاف إلى ذلك أنني غير مطالب بعمل، كما كان يفعل الإيطالي بالفيلم؛ إذ يخرج كل يوم إلى معمل ولا يعود إلا في المساء!.
- هل ستأتي إلى هنا لتبحث عني مثل «صوفيا لورين» في الفيلم؟!.
أعاد السؤال وانخرط في ضحكة طويلة لهذا الخاطر.. تخيلها تعثر عليه في الشقة مع الأوكرانية.. تخيل وجهها، جنون عينيها، صراخها، فهو يعرف مبلغ غيرتها، التي تعاني منها بصمت.
- أي سعادة أعيشها هذه اللحظات!.
هتف بصوت عالٍ وغادر المقعد الخشبي المجاور للنبع باتجاه المسلك الضيق، المؤدي إلى باب الخروج.
لم تستمر أحلام يقظته طويلا، فما حدث بعد ذلك جرى سريعًا، إذ أيقظته «سونيا» في صباح سبتٍ باكر، وطلبت منه ارتداء ملابسه والخروج معها.. أخذته إلى أسواق كبيرة، ودخلت به إلى غرفة المدير هامسة أنه قريبها.. وبعد حديث طويل دار بينهما بحضوره، لم يغب لحظة خلاله عن عيني قريبها المتفحصتين أومأ برأسه، فتهللت ملامحها وهي تصافحه.. هو الآخر صافح ذلك الرجل العملاق.. في الشارع قبلته وقالت:
- الاثنين ستبدأ العمل هنا!.
وأشارت نحو المحلات.. اغتمَّ فورًا، ولكنه لم يظهر ذلك.. أفتعل دهشة، وقال ممثلا دور المبتهج:
- صحيح.. شكرا لله!.
ومع نفسه:
- بدأت.. مصيري إذن مصير ذلك الجندي الإيطالي بالفيلم!.
فكر قليلا وقال:
- لا.. ذاك زمن الحرب الباردة وما عنده حل آخر، الوضع يختلف سأجرب.. ومتى ضجرت أهرب!.
نبّ صوت «أسعد» التكريتي:
- شاطر يا ولْ بديت تفكر صح!
وتذكر كيف تصرف مع بائعة الورد الروسية، التي أحبته وبرر ذلك.
جهزتْ كل شيء للمساء: النبيذ الأحمر، اللحوم، الفودكا، الفواكه والخضر قالت:
- الليلة أعطيك درسا بكلمات سوف تحتاجها بالعمل، ثم نحتفل!
وشدته إلى صدرها قبل أن تبدأ بالدرس.. تمعن في قسماتها، وهي منهمكة في تعليمه.. كانت تنبضُ غبطة وكأنها ملكت الدنيا.. قال مع نفسه:
- هل هذه الغبطة التي ملكتها منذ حلولي بسببي فقط.. هل تظن أنني فعلا متعلق بها وأريد قضاء بقية العمر معها!.. هي لا تدرك مدى انكماشي منذ لحظة إقناع قريبها بتشغيلي.. لا تدري شدة رغبتي بالهرب هذه الليلة.. مسكينة المرأة تتعامل بقلبها ومشاعرها ببراءة وصدق!.. هل أنا حقير إلى هذا الحد، أم أن جنس الرجال هكذا؟!.
جلبت دفاتر وراحت تكتب وتلفظ مفردات روسية جديدة.. تعيدها على مسمعي، مفردات تخص بائعًا يتعامل مع زبائن في أسواق.. مهنة كانت من أكثر المهن إرعابًا لذاتي منذُ صباي.. أن أتحولَ في مستقبل أيامي إلى مجرد بائع في سوق بمدينتي، فكيف في بلد غريب بعد كل تلك التجربة والمخاض.. شعرت بغتةً بثقل الحياة الدنيا.. شعرت أنها ليست كما تخيلت، وتخيل «شاكر ميم» لحظةً، لا.. شعرت بالدنيا حجرًا صلدًا، صدم كل أخيلتي وأحالها إلى عبثٍ وخرافة.
أنصت إلى مفرداتها القاسية، التي تحاول جاهدة تعليمه بالحركة والقاموس.. قال مع نفسه ساخرًا:
- مجنونة تظنني سويًا!.
عاد كلما أوغلت في جديتها يرشف مزيدًا من الفودكا حتى صار أشفَ من وردةٍ.. وراح يحملق فيها، وهي تبتعد بوادٍ آخر.. عنه وعن فقاعة «شاكر ميم».. أحستْ بذلك.. تريثت محاولةً جذبه من جديد.. وضعت القاموس جانبًا.. وضعت اللغة.. الكلام.. الأحلام على المنضدة جواره.. وخاضت نحوه بجسدها.. مسته.. وفي اللحظة التي كانت فيها أصابعها الرقيقة تفتح مشد الصدر.. قرع باب الشقة بعنف قرعًا، جعلهما يقفزان مذعورين يحدقان في بعضهما.. فمن غير المألوف قرع الباب في مثل هذا الوقت.. تمالكت نفسها قليلا.. عدلت ملابسها. تابعها وهي تخطو بوجل نحو الباب الضاج بالقرع المتواصل.. لم تقل شيئًا.. تقدمت على أطراف أصابعها حتى لاصقت جسد الباب..
مدت أصابعها إلى سدادة العين السحرية.. رفعتها لترى من القادم؛ ففي تلك الأيام صار اقتحام الشقق من قبل مافيات لغرض السرقة والاغتصاب مألوفا.. التفتت إليه منفرجة الأسارير، ودوَّرت المقبض وباليد الثانية حررت القفل الإضافي. رجعت مذعورة أمام «صالح» بجسده الضخم وقسماته العنيفة، وهو يصرخ راعدًا وكأنه عاصفةٌ، مطلقًا أصواتا مبهمة في المسافة بين الباب والأريكة؛ حيث يقف «إبراهيم» مبتسمًا.. ولم يكف عن الرعد والشتم، حتى وهو يعانقه ويلفه بذراعيه.. هدأ بعد الضم والتقبيل، فأطلق شريطًا طويلًا من الفشار الفلسطيني، المرتب على عاهرات الرفاق الروس حسب تعبيره، قبل أن يلتفت نحوه قائلا:
- «إبراهيم» جَنَيتْ.. صار لي شهر ونص أدور بالمنطقة، نسيت المكان والموعد.. و «عزيز» و «عبد الحسين» زادوا من جنوني، وهم يقولون أنت ضيعته.. تجلبه لو من تحت الأرض!.
عاد مرح «إبراهيم» القديم، وقال مع نفسه:
- هاهو «صالح» ينقذني!.
أمسكه من كتفه، وقال:
- «إبراهيم».. هيا بنا الكل ينتظرك.
- ..
تبسّم وعيناه تجوبان في وجه «إبراهيم»، وأردف:
- قصتك صارت على كل لسان بالجامعة!.
استسلم لذراع «صالح» المتينة، وهي تسحبه بحنوٍ نحو الباب قائلا مع نفسه:
- فصل آخر يطوى من فصول مدينة «لينين» الفاضلة!.
لكن قبيل وصولهما الباب المفتوح.. قفزت الشقراء نحوه سدته وأقفلته بالمفتاح، وقالت شيئًا لم ينتبه «إبراهيم» له جعل «صالح» يثب نحوها صارخًا، ويمسكها من كتفيها ويخضها بعنف.. هرع «إبراهيم» ليفل كفيه المطبقتين على رمانة الكتفين، قائلًا:
- بلا عنف!.
صوب «صالح» عينيه الغاضبتين نحوه، أردف:
- بالكلام رجاءً!.
تراخت أصابعه المتشنجة، فسحبت كتلتها المتوترة خطوتين إلى الخلف.. كانت هي الأخرى تهدر بالروسية بجملٍ سريعة متلاحقة وقسماتها تنبض نارًا، بينما راح «صالح» يحاورها بلهجة مختلفة، بدت هادئة، ثم تحولت رويدا.. رويدا إلى توسلٍ بينٍ حتى أنه قبلها على جبهتها وعلى عينيها المطبقتين قبلاتٍ رقيقة، لا تتناسب مع كتلته الضخمة وقسوة ملامحه الحادة.. تشعب الحوار وإبراهيم يقف جانبا غير مصغٍ، بل مبحرًا بالقسمات وحركات الجسدين وكأنه أمام فيلمٍ صامتٍ يتيح للمشاهد التفسير حسب هواه.. كان المهم بالنسبة له هو الخروج من العالم الضيق الذي سقط فيه صدفة.
وكان يدرك أن «صالح» يحاول إقناعها بهذا الخروج.
ينتظر «إبراهيم» مركزا عينيه على يدي الأوكرانية الشقراء!.
متى تظهر المفتاح؟!.
طال الحوار.. ظلَّ ينظر بين الحين والحين نحو «صالح» بعينين تدعوانه، كي يطيل صبره إلى أن أظهرت المفتاح وخطت نحو الباب. أدخلته ودورته، والتفتت إلى «إبراهيم» فاتحة ذراعيها. ضمته بشدة.. بادلها الضم شادًّا ظهرها إلى صدره مثل محبٍّ مسافر إلى مكانٍ بعيد.. لم يكن ممثلًا بل كان صادقا بالضم والشد والمشاعر حتى أوشك على البكاء، غير مهتمٍ بالسخرية البادية بعيني «صالح» الشاخص نحوهما، وهو يغالب ضحكةً عاصفةً تخنق قسماته المنتشية.. أبعدها قليلا عن صدره.. تأمل وجهها المحزون، فوجدها محطمةً مثل من يفقد أعزَّ شيءٍ في الدنيا.
جره «صالح» من كتفه كي يفصله عنها.. انفصل وخطا عابرًا عتبة الشقة.. وقبل أن يتوجه نحو المصعد التفت نحوها، فوجد الألم مجسدًا في قسماتها دون وصف وكلام..
علق «صالح»:
- أنتم العراقية بت....... زين ما!.
- ..!.
- مضبوط... ما؟!.
وأطلق ضحكة سريعة صاخبة وأردف:
- جننتها.. ما طلّعت المفتاح إلا لما اقتنعت أنك ستعود بعد ساعتين!.
لما صار «إبراهيم» في الشارع، أحس بنفسه يصل برَّ الأمان.. ويحلّ من جديد في جوف الفقاعة!.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. حزن على مواقع التواصل بعد رحيل الأمير الشاعر بدر بن عبدالمحس


.. بحضور شيوخ الأزهر والفنانين.. احتفال الكنيسة الإنجيليّة بعيد




.. مهندس الكلمة.. محطات في حياة الأمير الشاعر الراحل بدر بن عبد


.. كيف نجح الأمير الشاعر بدر بن عبدالمحسن طوال نصف قرن في تخليد




.. عمرو يوسف: أحمد فهمي قدم شخصيته بشكل مميز واتمني يشارك في ا