الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


مالرو في سماء اليمن

صبحي حديدي

2006 / 11 / 7
الادب والفن


في السابع من آذار (مارس) 1934 كانت طائرة فرنسية تحلّق شمال الربع الخالي وشرقاً صوب هضاب اليمن، تحمل راكبين يحملقان في الأرض بشغف ولهفة وانتباه شديد، وأمّا الطيّار القلق فقد امتقع وجهه وتسمرت عيناه على مؤشر الوقود الآخذ في التناقص. كان الراكب الأول هو الأديب والفيلسوف والوزير الفرنسي أندريه مالرو (1901ـ 1976)، والثاني هو الكاتب والضابط والسياسي الفرنسي إدوار كورنيليون ـ مولينييه (1898 ـ 1963)، وكانا في سماء اليمن يمارسان ما عُرف آنذاك باسم "التنقيب الجوّي"، يبحثان عن مدينة سبأ. بعد أيام سوف تتلقى اليومية الفرنسيةL Intransigeant برقية من جيبوتي، بتوقيع كورينليون ـ مالرو: "اكتشفنا مدينة سبأ الأسطورية. عشرون برجاً وهيكلاً ما تزال قائمة. على الحافة الشمالية للربع الخالي. التقطنا صوراً خاصة بالصحيفة. مودّتنا".
شحّ المعلومات حول هذه الواقعة، خصوصاً في مدى صدقيتها الأركيولوجية، ظلّ يكتنف معظم الكتابات التي تناولت حياة مالرو، ما خلا استثناءات محدودة (بينها أطروحة دكتوراه لامعة في السوربون، للمغربي عبد العزيز بنيس). واليوم أصدرت "جمعية مالرو" الفرنسية كتاباً، بالإنكليزية، عنوانه "البحث عن سبأ: مغامرة في جزيرة العرب"، كتبه والتر لانغلوا أستاذ الأدب الفرنسي في جامعة وايومنغ الأمريكية، لعلّه المرجع الأوسع عن هذه الحكاية المثيرة. وبصرف النظر عن المآلات العلمية، كان جوهر الحدث يمثّل إضافة أخرى عميقة إلى نواس مالرو الدائم بين قطبَيْ التجربة الإنسانية: الفعل والمخيّلة، والواقعي والعجائبي.
ليس دون بُعد سجالي، في الواقع، ينبثق من إشكالية شخصية مالرو ذاته، حتى حين تتوفر درحة قصوى من الإجماع حول هذه أو تلك من تفاصيل سيرته. وفي مثل هذه الأيام من العام 1996 اتخذ الرئيس الفرنسي جاك شيراك أبرز قراراته الرئاسية لثقافية، حين قضى بنقل رفات مالرو إلى مبنى الـ"بانتيون" حيث يرقد عشرات من كبار رجالات فرنسا، من أمثال جان جاك روسو، فكتور هوغو، إميل زولا، وجان جوريس. كان القرار صائباً بالمعنى الأخلاقي والثقافي، إذْ لا يجادل أحد في السجلّ الحافل الذي تركه مالرو في ذاكرة فرنسا المعاصرة، بدءاً من نضالاته ضد النازية والفاشية في فرنسا وإسبانيا، وانتهاء بأدواره الحاسمة في تطوير الثقافة وضمان حرية المثقفين حين أسس وتولى أوّل وزارة ثقافة في عهد الجنرال ديغول. ومع ذلك فقد اختلف البعض حول مدى جدارة أندريه مالرو بالخلود في مبنى البانثيون، وتلك مسألة تخص رؤية الفرنسيين لتاريخهم وأبطالهم، والمعايير التي تعتمدها المخيلة الرسمية والشعبية في إعادة تأهيل الفرد، في هذا الطور التاريخي أو ذاك.
ولكنّ الحديث عن مالرو ليس مسألة فرنسية صرفة تخصّ الفرنسسين وحدهم، فالرجل لم يكتب الكثير عن ثقافات الآخرين فحسب، بل دارت معظم أعماله حول الشرق (الصين والهند الصينية بصفة خاصة)، وهو بالتالي دخل في سياق كوني عالمي. وإذا كان من المؤسف أن تغيب الثقافتان الإسلامية والعربية عن نصوصه (رغم ترحاله في المنطقة، ومعرفته بثقافتها)، فإننا لا نعدم بعض الحالات المتناثرة هنا وهناك، مثل تلك النصوص الفاتنة عن اليمن وملكة سبأ، والقرار الشجاع الفريد الذي اتخذه حين أمر مدفعية ميناء مرسيليا أن تطلق 21 طلقة في استقبال تمثال الملكة زنوبيا القادم من سورية إلى معرض فرنسي.
وبهذا المعنى فإن المرء لا يستطيع تجاهل جملة حقائق أخرى حول الرجل، تكاد تناقض على طول الخط الصورة اللامعة الطاهرة التي يبدو عليها في العموم. أوّل هذه الحقائق أن الرجل لم يستطع الخروج من دائرة الإستشراق القاتلة، في معظم أعماله التي تتناول موضوعات آسيوية وتنطوي على قيام مغامر أوروبي باختراق هذا «الشرق المظلم»، لتنويره، وحمل «عبء الرجل الأبيض» وتنفيذ «المهمة التمدينية» الشهيرة. وكما هي الحال عند رديارد كبلنغ وجوزيف كونراد ولورانس العرب (الذين أعرب مارلو مراراً عن إعجابه الشديد بهم)، نحن أمام شرق مجرّد من التاريخ الفعلي، خاضع للفانتازيا والتنميطات التقليدية السحرية والجنسية، محتاج أبداً إلى الغازي الأبيض الذي سيتولى أعباء التمدين والتحديث والعقلنة.
وفي «إغواء الغرب»، كما في أعمال مالرو الأخرى مثل «الدرب الملكي» و«الوضع البشري» و«الغزاة» و«مذكرات مضادة»، نقرأ شرق ألف ليلة وليلة دون سواه، ونتابع هلوسات أبطال مالرو حول الحريم والأميرات والسحرة والعفاريت والإبل (حتى في أعمق أعماق ومجاهل الغابات الكمبودية العذراء!)، وأكلة لحوم البشر. ولا يكاد الشرق يغادر صورته المتخيَلة الموضوعة في حالة دونية أمام الغرب، وصورته كمرآة لا غنى عنها كي يرى الأوروبي نفسه ويختبر معضلاته الميتافيزيقية في الأقاصي الكولونيالية. ويندر أن يظهر هذا الأوروبي في غير صورة السوبرمان النيتشوي، الذي «يتغنى بالقوّة العارمة وحدها، ولا يهمه أمر المجتمع في شيء» كما يقول غارين بطل رواية «الغزاة».
والحال أنّ هذا الكتاب الجديد لا ينصف مغامرة مالرو ـ كورنيليون اليمنية فحسب، بل يذكّرنا من جديد أنّ النزعة الإنسية العميقة التي اتصف بها مالرو لا تجعله غريباً تماماً عن الرهط الخالد الراقد في حجرات الـ "بانتيون"، ولكنها كانت وستبقى نزعة إنسية متمركزة حول الذات الأوروبية، المغامرة والغازية والباحثة عن مآزق أقدارها في جغرافيات وتواريخ الآخرين.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. رحيل الممثل البريطاني برنارد هيل عن عمر 79 عاماً


.. فيلم السرب يتخطى 8 ملايين جنيه في شباك التذاكر خلال 4 أيام ع




.. الفنان محمد عبده يكشف عبر برنامج -تفاعلكم- أنه يتلقى الكيماو


.. حوار من المسافة صفر | الفنان نداء ابو مراد | 2024-05-05




.. الشاعر كامل فرحان: الدين هو نفسه الشعر