الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الرئيس قيس سعيد ونظام الحكم في تونس

رضا لاغة

2023 / 8 / 17
مواضيع وابحاث سياسية


في مواجهة المخاطر العظيمة للدول تنجلي مكانة الرؤساء إذ تضع الشعوب نفسها تحت سلطتهم الاعتبارية وهو ما يجعل إرادة الرئيس فوق الجميع. هذه الحقيقة مثلما تصدق على الأنظمة الشمولية تصدق أيضا على النظم الديمقراطية. بمعنى أنه بصرف النظر عن القواعد الديمقراطية التي تقوم عليها الدول ، تسبح سلطة الرئيس في فلك خاص ليتحمّل مسؤولية الحرب والسلم. واقع الأمر أننا لم نعد نقبل بالنظرة التي تجعل من مكانة الرئيس في النظم الديمقراطية كتمثال قديم أو كسلطة مكسورة تتقيد بسلطة تعديلية تتمرد عليها البرلمانات متى شاءت. وفي ظل هذه الظروف المعاصرة ،إن احتمال تحوّل الأنظمة الديمقراطية بحكم فلسفة الواقع ، الى مواقف مبهمة يبدو متناسبا مع معارك المصالح للدول التي تغير سياساتها وفق المخاطر والفرص.
هذه بإيجاز شديد ما كشفت عنه الحرب الروسية الأوكرانية التي مزقت أغورا الديمقراطية ، إذ اختارت الدول الأوروبية مواجهة روسيا وفق أجندة عامة بدأت بتسليط العقوبات الاقتصادية لتتحول إلى دعم لوجستي مالي وعسكري لأوكرانيا.
إن هذه الحقيقة تجعلنا نفكر من جديد في هذا السلوك السالب للخيار الديمقراطي بين الرؤساء وشعوبهم. يتّضح ذلك من خلال موجة الاحتجاجات الشعبية التي عرفتها أوروبا بسبب إذعان نظمها الحثيث للدبلوماسية الفاعلة للولايات المتحدة الأمريكية وما ينطوي عليه هذا الخيار من مزالق تعوزها الشفافية وتمعن في تبعية أوروبا للسياسة الأمريكية رغم كونه يتعارض مع الإرادة الجماهيرية.
القلق الذي يساور الدارسين في الفلسفة السياسية له تاريخ طويل يتّصل بما يسمّى بالاستبداد الديمقراطي لأن المشكل يتمحور حول شخصية الزعيم النافذة. هناك من سيعترض بأننا نعيش في زمن قطع فيه هذا العالم الجديد مع مفهوم الزعامة وكاريزما الرئيس. في هذه الحالة كيف يمكن أن نفسّر سرّ ذيوع شخصية بوتين . هذه الشخصية المعضلة التي تصورها لنا وسائل الإعلام الغربية كطاغية مستبد وهو في أعين الروس زعيم وطني فذ لا يشق له غبار لا سيما عندما يتعلق الأمر بأمن روسيا.
ما من سبيل إلى اجتناب مكانة الرئيس كجسر لعبور الفلسفة إلى العالم . وقد انخرط هيغل في تأصيل مثمر لمكانة الزعيم (بسمارك نابليون ) كمنطلق لتصميم عقلانية الواقع المطابقة لواقعية العقل .
هذه المساحة السالبة للحد الديمقراطي التي ارتسمت في شخصية بوتين نجدها أيضا مع زيلنسكي كمقدرة مضادة يقع الترويج لها لأجل توكيد ذات أوكرانيا.
هذا الوضع الجديد ليس مختلفا عن المعارك الطاحنة في الفضاء العام الأمريكي بين أنصار بايدن ودونالد ترمب ولا أيضا عن واقعنا العربي الذي يعج بمتناقضات سياسية واقتصادية وثقافية يصعب حصرها ورغم ذلك لا تزال الشعوب العربية تحتفي ضمن تكوينها النفسي والذهني والخلقي بشخصية الزعيم أو البطل السياسي ذو النزعة الميالة نحو نشر العدل ومجتمع الرفاه.
إن هذه القناعة تبدو لا سلطوية ضمن التفكير الفلسفي النقدي لأن الثقافة الجماهيرية هي بنفسها تعمل على تعزيز الزعيم السياسي في معركة وجودها. وبالنظر إلى تجارب بعض الأقطار العربية تحضرنا شخصية ولي العهد محمد بن سلمان كمجدد للمملكة ورئيس دولة قطر تميم الذي أبهر العالم بحسن تنظيم قطر لكأس العالم لكرة القدم وبشار الأسد في سوريا الذي وقف في وجه أمريكا والسيسي في مصر الذي أزاح الإخوان ... وإذا عكفنا على دراسة الحالة التونسية من الصعب أن يتنبأ المواطن التونسي بمستقبله بعيدا عن هذه الرؤية التقريضية للزعيم رغم ما تدرّب عليه من ممارسة ديمقراطية منذ انطلاق ثورة 17 ديسمبر 2010. وعندما شرع الرئيس قيس سعيد في تجميد سير عمل البرلمان يوم 25 جويلية 2021 وسنّ مرسوم عدد 117 خرج جل التونسيين مؤيدين دون مخافة حلول الزمن القديم بل إن شخصية الرئيس قيس سعيد صنّفت كاستثناء أشاع السلم الوطني بإزاحة الأحزاب الوظيفية التي اخترقت مؤسسات الدولة بشكل فاضح .
إن كل ما يحتاج له الشعب هو أن يعيش برخاء ويتخلص من اللوبيات التي تنهش لحمه ، لذلك آلت مهمة التصميم السياسي لما بعد 25 جويلية 2021 إلى شخصية الرئيس وما يمكن أن تحدثه من أفعال فردية تتماشى وتطلعات الشعب ليبدأ نموذج ستشيد عليه لاحقا رؤية الجمهورية الجديدة وتتربع فيه صورة الرئيس قيس سعيد كمنقذ للبلاد ضمن انتقال سلس هو ما أطلق عليه روزنامة الطريق التي بدأت باستشارة الكترونية ثم باستفتاء على دستور جديد لتنتهي بانتخابات 17 ديسمبر 2023 . في غضون ذلك كان الشعب مهووسا بحل البرلمان ولهذا السبب أيضا كان مهووسا بالطريقة التي تقوم على حكم الفرد.
إن هذا القيد الخفيّ مع شخصية الزعيم يفيد ضمنا بأن الفلسفة السياسية مدعوة لتحليل طبيعة هذا الدور الذي ينتقل بخفة مباغتة من زمن النظم الشمولية إلى زمن الديمقراطيات المستنيرة ليقف في نفس المكان تقريبا من حقل الفلسفة السياسية كحقيقة دامغة : الزعيم يظل طرفا محددا في كل عملية سياسية تأسيسية.
كانت حركة الشعب حريصة منذ الاعلان عن نتائج انتخابات 2019 أن تقدّم نفسها كنموذج يسوّق لحكومة الرئيس. كانت قيادات الحركة واضحة في تصورها وقراءتها . لقد قدّمت منتج حكومة الرئيس في ثوب ديمقراطي. ولكن الرسالة ظل يشوبها الغموض عند الخصوم السياسيين الذين قدموا قراءة موازية تصوّر حركة الشعب كحزب يضع قواعد غير ديمقراطية تعزز سلطة الفرد.
إن فكرة حكومة الرئيس من وجهة نظر سياسية جعلت حركة الشعب محط أنظار الاعلام والرأي الدولي فاكتسبت شهرة أوسع . فكما كانت حكومة الرئيس تسمية مهمة يهابها الائتلاف الحاكم ، تم استنباط تسمية جديدة لحركة الشعب بلغة يفهمها عموم الشعب ويتواصلون بها أي باعتبارها حزب الرئيس.
وينبغي أن يكون جليّا في ضوء ذلك أن التسمية الأولى والثانية سواء بسواء تتضمن أجندة اخبارية تبعث على الحيرة لا سيما حين تصدر من حقل سياسي متحرك و يحكمه التجاذب الحاد. في هذا الموكب الاحتفالي بحكومة الرئيس أو بحزب الرئيس لا يهم كثيرا أسباب جاذبية وانتشار هذه التسمية بقدر أهمية الشروط التي تنطبق عليها.
دعوني أكرر الخلفية التي طرحت بها حركة النهضة وأحلافها مفهوم حكومة الرئيس وكيفية التعامل معه لتوظيفه حصرا ضمن معنى محدد يقوم على فكرة أساسية ألا وهي الانتكاس عن المكسب الديمقراطي واعتبرته انحراف خطير يدمّر اية امكانية مستقبلية لحياة ديمقراطية وبالتالي تقديم خطاب للرأي العام مفاده أن حركة الشعب أخلت بالوفاء لما تعهّدت به من الحفاظ على الكسب الديمقراطي الذي تحقق ذات 17 ديسمبر 2010.
إن هذا التكتيك السياسي يحمل أهدافا مغرية للركض في خط سياسي سيكولوجي ضيق وموازي يشرّع للصراع المباشر مع السيد رئيس الجمهورية . فما من توظيف يحقق تبريرا كافيا لشن حرب مع مؤسسة الرئاسة أفضل من تطويق الكسب الديمقراطي عن طريق حزب الرئيس. إن تمرير هذا المغزى الاستهلاكي غير الدقيق يصدر عن براغماتية حزبية ونهم غير مسبوق لحركة النهضة لكي تستمر في الحكم.
في ضوء هذه المعايير المزدوجة لحكومة الرئيس وحزب الرئيس سنحاول بذل جهد لاعتصار ما يمكن اعتصاره من فهم يبرر مجريات ما حصل مع المنعرج السياسي لـ 25 جويلية 2021 وتوجيهه في المسار الصحيح الذي يقود إلى صورة متجددة للدولة التونسية تميل المراهنة فيها لا فقط لاحترام دولة القانون وإنما إلى تجسيد مجتمع القانون.
سنعمل ابتداء على توضيح النزعة الفلسفية التاريخية وتحطيم العوائق الصلبة المتوالية والتخلّص منها لأجل بناء نظام ديمقراطي يهذّب مبدأ الصراع الذي أشار اليه توماس هوبز بشكل رمزي ضمن ما يسمى حرب الكل ضد الكل .
إننا لا ننكر في هذا المستوى ، دلالة الاختلاف في الصيغ التفسيرية وصداها البراغماتي المؤثر الذي تتناسب فيه السياسة مع العلم. يقول هوبز:"إن فن تأسيس الدول والمحافظة عليها يستجيب لقواعد ثابتة ، كما هو الحال بالنسبة إلى علمي الحساب والهندسة"
إن أصل الصلابة هنا يتعلق بالبعد النظري الذي يجعل من الاستبداد ممارسة سياسية محرمة في عصر التنوير. ومن ثمة الاشتغال على مرجعية الحياة السياسية الديمقراطية الناجحة مقارنة بالحكم الفردي. لكن الاختبار الحقيقي لهذه الكلمة: الديمقراطية يقع دائما في المستقبل . لذلك سنحاول الاشتغال على السؤال الآتي : كيف يجدر بنا التفاعل مع الميراث الفلسفي للديمقراطية؟ وهل هو منفتح على التطوير والإضافة والتعديل؟ إذ أن ما كان يبعث في السابق على الرضى ربما يبعث اليوم على القلق.
في مرحلة لاحقة سنحدد بوضوح دلالة حكومة الرئيس ووجهها الآخر الذي طمسته حركة النهضة . كما سنقف في ضوء المتغيرات التي لحقت الحياة السياسية بتونس عند صحة ما اقترن من صفة نسبت إلى حركة الشعب بوصفها حزبا للرئيس.
ولأننا نعتقد أن هذا تفسير اختزالي خاطئ يمسك في أحسن تقدير بجانب واحد من الحقيقة وهو ما يتعلق بمبدأ التقاطع ، سنعمل على توضيح المعنى المتمم والضروري لمثل هذا الالتقاء.
ونحن نسير في هذا الاتجاه لا بد من طرح سؤالين: ما الذي يبرر حدوث 25 جويلية كمنعرج مبهج لا يتناقض مع مسار الثورة؟
كيف نتحرر من المخاوف لنكون واثقين ومطمئنين بالأفضلية التاريخية العظيمة لهذا الحدث السياسي الذي أنهى حكم الإخوان في تونس؟
ومهما كانت تفاصيل الصورة التي سننتهي اليها سواء بدت متناسبة مع المسار الثوري أو طامسة له ، فإننا بحاجة الى تقييم تجربة الحكم الاستثنائية التي تم بمقتضاها ايقاف عمل المؤسسة التشريعية واختيار تسيير البلاد بالمراسيم كمقدمة لتغيير نظام الحكم . لذلك سنقدم فحصا دقيقا لهذه المرحلة كمبادرة للتفكير المستقل الذي لا يتوان في اللحاق بالمستقبل بتصميم ملامح هذا التحول العميق.

الديمقراطية في مواجهة النظم الشمولية

ليس ثمة مفهوم يعاد انتاجه كل يوم في مجتمعنا المعاصر مثل مفهوم الديمقراطية ما دامت النتائج المتوارثة للتاريخ السياسي تتخذ دوما شكل القطيعة مع حكم الفرد لتضع مواصفات جديدة للدولة الحديثة.
لقد كان هوبز أول من فتح هذه الآفاق الجديدة التي تلتها إشكاليات فلسفية كبرى حول طبيعة النظام السياسي الأمثل والمتوافق مع السمات المميزة لكل عصر.
باختصار شديد لئن نجح هوبز في صياغة نظرية للحكم تقطع مع حالة الصراع اللا متناهية بين الأفراد وبالتالي الانتقال التعاقدي من حالة الحرب إلى حالة السلم ، فإن فلسفته تتحمل تبعات هذه النقلة التي تأسست على تأصيل قانوني وفلسفي لدولة عنيفة تحمل صورة التنين.وحينما يحدث ذلك يقول لنا هوبز تلك هي سمة الحياة. لقد استبدلت قيم حرب الكل ضد الكل بقيم التبعية للدولة. هنا فقط يتحقق السلم. يقول هوبز: "بغية التوصّل إلى السلام ، وبفضله ، إلى حبّ البقاء صنع البشر رجلا اصطناعيا .وهو ما نسميه الدولة ، كما صنعوا سلاسل اصطناعية تدعى القوانين المدنية" .
إن التشديد على مفهوم الاصطناع يتّخذ اختيارا يجسم معنى القطيعة مع العقلانية الأرسطية حول شكل نشأة الدولة .إن السياسة مع هوبز أضحت أقرب إلى الحساب منها إلى الميتافيزيقا والأخلاق. ففي السردية السياسية المتمركزة على مبدأ الاصطناع يختار هوبز القطع مع الموروث السياسي الفلسفي ليحسم أصل نشأة الدولة ضمن صيغة العقد الاجتماعي كاصطناع سياسي عقلاني. بيد أن هذا التأصيل يضعنا ضمن طرح متأزم توجد بداخله تباينات مهمة بين الفلاسفة حول طريقة دمج الفرد في الدولة بينما التحدي الأكبر هو كيف نضمن الحرية التي يمثّلها مبدأ العيش المشترك داخل الدولة؟
وقبل أن نحلل هذه النماذج الفلسفية التي تحذّر من أن تنحرف القاعدة السياسية عن مبدأ الديمقراطية ، لا بد أن نقف عند دلالة هذا المفهوم ونختبر معناه .
إذا تأملنا في الماضي لوجدنا أن هناك تفرقة بين الديمقراطية كنتاج أثيني ودلالتها المعاصرة المتمركزة حول الحكم الجمعي كإستراتيجية تحد من ضرر النزعة الفردية في الحكم.
أ‌- لغـة قد يكون من الممكن حصر معنى الديمقراطية بالرجوع لأرسطو أي بما هي حسن التدبير.وتعني سلطة الشعب أو حكم الشعب بالشعب.يقول أرسطو:" حين تحكم الأكثرية ولا غرض لها إلا الصالح العام فهذه الحكومة تأخذ تسمية خاصة هي التسمية النوعية لجميع الحكومات فتسمّى الجمهورية " . وهو معنى قريب للذي حدده لالاند في موسوعته فالكلمة ترتد إلى الجذر العالمي Demokrati وتعني «حالة سياسية تكون فيها السيادة للمواطنين عبر مؤسسات أساسية يعيّنها الشعب عن طريق الانتخاب" . وإذا كانت الطرح الأثيني للديمقراطية بني على تناقضات مفهوم المواطنة بين الغريب والأصيل مع استبعاد المرأة باعتبارها جزءا من التدبير المنزلي ، فإن المعنى الذي تحيل اليه في المدلول المعاصر يتفادى خيار التمييز ،إذ هي تتأسس على بناء جديد يهف إلى دراسة الواقع الاجتماعي من خلال ارساء مفهوم المساواة . والكلمة المفتاحية إذا ما عدنا لروسو هي الإرادة العامة. وهو مفهوم تكمن قدرته في الفعل التجديدي للفكر التعاقدي .فإذا كانت بنود العقد عند هوبز تفضي إلى بناء دولة التنين فإن شروط العقد عند روسو تؤسس للإرادة العامة ، أي حكم الشعب بالشعب.يقول روسو :" يضع كل واحد منّا شخصه وجميع قوته شركة تحت إرادة الإرادة العامة ، ونحن نلتقي ــ كهيئة ــ كل عضو كجزء خفيّ من المجموع. والآن يؤدي عقد الشركة هذا إلى هيئة معنوية مؤلفة من أعضاء بمقدار أصوات المجلس ، وبدلا من من الشخصية الخاصة لكل متعاقد ، ومن ذلك العقد تنال هذه الهيئة وحدتها وذاتيتها المشتركة وحياتها وإرادتها ، وكان يطلق اسم المدينة على هذا الشخص العام الذي يؤلّف على هذا الوجه ، من اتحاد جميع الآخرين ، فيسمّى اليوم جمهورية" . إن إضافة روسو ليست مجرد جولة جديدة من النقاش حول البعد الأنثروبولوجي للإنسان الهوبزي من ذات شريرة إلى ذات خيرة ، بل إننا فيما يبدو بصدد إعادة تعريف الدولة من خلال التنصيص على الفضاء العام باعتباره موقعا للممارسة الديمقراطية. وهو يومئ إلى الشروط الموضوعية لتطبيق الديمقراطية تفطّن روسو إلى وجود التباس بين ما هو كائن وما يجب أن يكون. يقول : " وإذا ما نظر الى الاصطلاح في أوثق معانيه اتّضح أنه لم توجد ديمقراطية حقيقية قطّ وأنه لن توجد مطلقا " .وهو ذات المشكل الذي تفطّن اليه الجابري بقوله «أعتقد أن الذي استعملها أول مرة كان يقصد منها التعبير عن فكرة مثالية أكثر منها التعبير عن واقع حي>> .
بـ ــ اصطلاحا: من الممكن أن نسرد في هذا الصدد عدد لا يحصى من التعريفات لمفهوم الديمقراطية . ولكي نتخلّص من مخاطر هذه النزعة السردية المسقطة اخترنا أن نستهل حديثنا بالسؤال التالي:ما الشكل الذي ستتخذه مقاربتنا لمفهوم الديمقراطية ؟
هنا يكمن جوهر المخاطرة في أفضلية تعريف عن آخر. لذلك سنلجأ الى أطروحة رايمون بودون الذي صنّف المصطلح ضمن ما أسماه الحقل الايديولوجي. > .
إذا كانت كل محاولة لتعريف الديمقراطية تحمل خلفية ايديولوجية فهل هذه مقدمة كافية للتنازل عن هذا المطلب؟
يكفي هنا أن نستحضر أطروحة مارسيل غوشيه لنتبين دورة الولادة والموت ضمن مطلب الديمقراطية. إن هذه النقطة أساسية لفهم المسار الذي سيأتي لاحقا في مظاهره الوقائعية لأزمة الديمقراطية. يقول غوشيه: "إن الأطروحة الرئيسية التي ستناقش في هذه الصفحات ، هي أن هذه العداوة الحميمية التي تؤلم الديمقراطية وتبعدها عن نفسها يجب أن تفهم كأزمة نمو" .
هنا تواجهنا صعوبة منهجية بين ما يوفّر لمفهوم الديمقراطية وحدته النهائية والفعل الثوري التعاقبي داخل التاريخ الذي له علاقة شرعية بالحرية الجماعية.لأن " الديمقراطية تمنح الثقة بنفسها غير أنها لا تعطيها وسائل تكون بمستوى وعودها النظرية" .
القلق الذي يساور غوشيه له أبعاد قانونية وتاريخية لأن هناك فجوة محتملة بين الديمقراطية والتاريخ ، إذ هي تتخذ شكلا جديدا يناسب روح عصرها. وبالتالي فإن الاتفاق الدائم على المفهوم لا يمكن أن يصبح اتفاقا عالميا. فثمة دوما عثيدة مضادة تدعي الحق في العالمية. يقول غوشيه " ينبغي أن تعاد صياغة الترابط الاصطناعي بين السياسي والقانوني والتاريخي" .
معنى ذلك أن الديمقراطية تتأثر في واقع الأمر بالتاريخ لكنها في الوقت ذاته تنأى بنفسها عن التاريخ من خلال نزوعها المستمر نحو المستقبل. ولكن الانتقال الى المستقبل يحتاج الى ركائز قانونية وبالتالي استيعاب الموجات الثورية كتعابير نظرية تتخلص من قيود التاريخ.
هذا يوضح تماما مشروعية السؤال التالي: لماذا يطرح التاريخ مشكلة سياسية ؟
في مراجعته لهذه القضية الساخنة يؤكد محمد عابد الجابري أهمية النظر الى الديمقراطية بوصفها حاجة تبررها مهمتها وليس باستعادة الشروط التاريخية التي نشأت فيها في الغرب. يقول الجابري :" لعلنا لا نجانب الصواب إذا نحن قلنا إن المشكل الرئيسي الذي يواجه بلدان ما كان يسمى بالعالم الثالث من جهة وأقطار ما كان يطلق عليه اسم المعسكر الشيوعي من جهة أخرى هو مشكل الانتقال إلى الديمقراطية"
تكمن المفارقة المتوقعة إذن في كيفية التعامل مع مفهوم الديمقراطية في ضوء قراءة تنظيرية . قضيتنا الأولى اليوم حسب محمد عبد الجابري هو التخلي عن اليوتوبيات النظرية. "وإذا فالمسألة الديمقراطية في الوطن العربي لا يمكن طرحها طرحا جديا وبنّاء إلا من خلال النظر اليها في ضوء الواقع كما هو ، في ضوء المحاولات والمعطيات والتجارب الذي يزخر بها"
إن بلورة هذا الوعي الديمقراطي يحمل بين جنباته وعيا تاريخيا لأن عملية "اكتشاف الحاضر تنبع من الماضي وتولد منه "
فكيف نعترف بعملية الولادة تلك التي نجد فيها طريقنا نحو ذواتنا؟
إن فك رموز هذا المسار تنجز حين يزيد الحاضر «من استعمال قوته المستقبلية" لينقطع بذلك عن الماضي . وسنجعل هنا مناسبة للإدلاء بملاحظة نقدية على مستوى الفعل التاريخي وننخرط في النقاش الدائر حول عملية الانتقال الديمقراطي.
في هذا الصدد يؤكد حميد لشهب " أن المرحلة الانتقالية التي توجد فيها الدول العربية هي مرحلة حاسمة لا تسمح لنا بتكرار أخطاء الماضي ، بل تفرض علينا أن نتحمل مسؤولياتنا بمحاولة توجيه الأجيال القادمة إلى الاعتقاد في حل الحوار لأنه الحل الأنجع بالنسبة لنا ما دام المشكل الأساسي المطروح علينا ليس وعي ذواتنا فقط بل وقبل كل شيء ، وعي زماننا وعلاقاتنا بالآخر "
هذه الدعوة هي نفسها تقريبا التي أعلن عنها بوريس غرويس في كتاب السياسة الأبدية :" إننا لا نستطيع التحرر من الحاضر لكن باستطاعتنا أن نعيد بناء ملامحه" .وإذا كانت فكرة إعادة بناء ملامح الماضي تعتبر فكرة مفهومة ،لكنها تبدو مضللة إذ أننا في التاريخ السياسي العربي لم نعش في الماضي حياة ديمقراطية. كفيف سنعقد عملية إعادة البناء إذا لم تكن قطعا كليا معه لأن الماضي يجذبنا إلى ما يناقض فكرة الانتقال الديمقراطي. هنا يواجهنا سؤال أساسي: ما الدليل الذي به سنهتدي به لنعيد عملية البناء؟
ربما تكون عبارة الجابري: الديمقراطية لم تعد مجرد إشكالية للحوار الثقافي، هي أفضل توصيف للطبيعة المتغيرة التي تدور حولها عملية الانتقال الديمقراطي. فما عساها تكون إذن؟
يوضّح الجابري مقصده من ذلك بأنه لم يعد من الممكن تمثّل مفهوم الديمقراطية من زاوية نظرية. إن هذا الطريق الذي تدور عليه تعريفات الديمقراطية غير آمن لذلك لا بد النظر الى الديمقراطية كتجربة معيشية ساخنة . بمعنى أن مشكل الانتقال الى الديمقراطية ليس معطى نظري محض وإنما يكتسي بعدا عمليا يتداخل مع المكتسبات النظرية للمفهوم باعتباره يحيل الى دولة المؤسسات والتداول السلمي على السلطة وضمان الحريات الفردية والعامة. ومن ثمة فان الانتقال من نظم عربية لا ديمقراطية إلى نظم ديمقراطية يطرح مشكلا بنيويا . من سيتولى مهمة الانتقال :النخبة أم الشعب أم الحكام أنفسهم؟
هذه الطريقة العملية التي يقترحها الجابري لتحل محل التنظير الثقافي تجنبنا التنظير ومحاذير القفز عن الواقع. ولكن الاحراج يظل قائما .ألا يوجد تصميم نظري مسبق يبني الديمقراطية أثناء مراحل الانتقال كما تبنى البيوت؟ إذ تبيّن من خلال التجربة المعيشية فشل عملية الانتقال في كل الأقطار العربية تقريبا رغم الاستنزاف الحاد في الطاقة الشبابية التي اندفعت بقوة لأجل كسر صنم الدولة الشمولية.
هنا يجيء دور العقل لينقّب ، في محاولة تاريخية مستميتة ليدرأ كل مظاهر الفوضى التي تتهدد عملية كل انتقال ديمقراطي.هذا التصور أفضل من صاغه بإحكام هابرماس في قوله:" إن الدولة الدستورية الديمقراطية بحاجة لتجديد شروط وجودها المعيارية" .
ونحن نرى ، في تجارب الربيع العربي أن ثمة عناصر لم تؤد في حد ذاتها إلى انضاج عملية الانتقال الديمقراطي.بل لعلها خلقت تربة خصبة لتقويض كل امكانية تساعد على تدعيم الرهان الديمقراطي. هذا الفشل يتّضح من خلال الرؤى المحدودة لحركات الاسلام السياسي التي لم توفّر الظروف التاريخية والحضارية المواتية لتأسيس لبنة حقيقية لفكر ديمقراطي مستنير. ونحن نمعن النظر في المشكلات التي تفجّرت في الأقطار العربية التي تقلد فيها الإسلاميون دفة الحكم ، نتبيّن طرحا سياسيا يقوم على تحويل أجهزة ومؤسسات الدولة إلى مادة استعمالية طيّعة لفرض سياسة التمكين.إن هذه الشراهة والرغبة الاستيطانية المتزايدة للدولة أذابت جهازها المناعي وسط تشكيل جيوبوليتيكي دولي تبحث فيه الدول الغربية عن دور حاسم تلعبه من شأنه أن يعمّق ما يمكن تسميته: رهن سيادة القرار الوطني وهو ما أّدى
دمج هجين بين الحرية الليبرالية وشكلانية ديمقراطية .ومن داخل البحث عن أفق مستقبلي لعصر جديد ينبغي قراءة الواقع الجيوبوليتيكي المتشابك لأجل بلورة توجه اجتماعي واقتصادي يجسد بامتياز مبدأ السيادة الوطنية.
تونس والتجاذبات الدولية: هل هو خلاف حول نمط نظام الحكم أم تثبيت لمصالح اقتصادية مهددة؟








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. حماس وإسرائيل.. محادثات الفرصة الأخيرة | #غرفة_الأخبار


.. -نيويورك تايمز-: بايدن قد ينظر في تقييد بعض مبيعات الأسلحة ل




.. الاجتماع التشاوري العربي في الرياض يطالب بوقف فوري لإطلاق ال


.. منظومة -باتريوت- الأميركية.. لماذا كل هذا الإلحاح الأوكراني




.. ?وفد أمني عراقي يبدأ التحقيقات لكشف ملابسات الهجوم على حقل -