الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الاغلبية العراقيّة بين السكوت والصمت

نصير عواد

2023 / 8 / 17
مواضيع وابحاث سياسية


ليست لعبة كلمات، نحن بصدد البحث في الأسباب التي أدت بالمواطن العراقي إلى غلق بابه والكفر بأفضل منتجات الديموقراطيّة "صناديق الاقتراع" وهو الذي كان يحلم بالخروج من نفق الديكتاتوريّة طيلة عقود أربع، نلمس ذلك بالدعوة المبكرة لمقاطعة انتخابات مجالس المحافظات المقرر اجراؤها نهاية هذا العام. فهل سبب المقاطعة هو التاريخ السيء لهذه المجالس والتي سبق لتظاهرات تشرين ان طالبت بحلها؟ أم هي الخشية من السلاح المنفلت؟ أم هو غياب الثقة وشراء الذمم الذي أضعف القيّم المجتمعيّة؟.. وهناك أسئلة أشغلت غيرنا وليس لدينا الاجوبة او الفهم الكليّ لها، فظاهرة المقاطعة الشعبية للانتخابات على ما يبدو معقدة وبحاجة إلى علماء نفس واجتماع واقتصاد وتاريخ لفهم اسبابها العميقة، ولا يمكن فيها الاعتماد على استطلاعات مؤسسات الدولة الهشة واحزابها الحاكمة. فهذه الأحزاب اعتادت القاء اللوم على المواطنين، وانتجت خطاب يوزع المشكلة على الجميع، لغرض تمييعها واخفاء الأسباب الحقيقة لها. امّا حقيقة الأمر فإن هذه الأحزاب لها جمهورها الانتخابي، ولا يهمها نسبة الاقبال على صناديق الاقتراع، خصوصا بعد ان أقر نوابها في البرلمان تعديلات على قانون الانتخابات يضمن فوزهم بكل الاحوال. وكان رئيس الفريق الاعلامي للمفوضية العليا للانتخابات "عماد جميل" قال في تصريح له (هناك من يحرض الناخبين على عدم المشاركة في الانتخابات وان الانتخابات يمكن ان تلغى إذا بلغت نسبة المشاركة%2 ). ان الانتخابات ونتائجها ستُعتمد حتى إذا حققت نسبة مشاركة فيها 1%).. أمّا المواطن العراقي، المثقل بالخيبة والإحباط والاحتقار لمؤسسات الدولة، فلم تعد تغريه سردية الانتخابات ومفوضيتها ومن يأتي أو يذهب من النواب، ولم يرَ حاجة لاستطلاعات الرأي العام لمعرفة مزاج الشارع، فهو يعاني بشكل يومي السياسات التي افقرته وهمّشته، ويعرف ذلك بالأسماء والتواريخ، ولكن مشكلته هي وضع كل ذلك في الثلاجة وانتظار تغييرا يأتي من السماء او من خلف الحدود.
أغلب العراقيين لديهم أراء وقناعات تكشف عن فشل العملية السياسيّة، بعد عقدين وعدة دورات انتخابية. وفي ظل ظروف الإحباط هذه لا أحد يستطيع إرغام الناس على الذهاب لصناديق الاقتراع والمشاركة في انتخابات مجالس المحافظات، ولا حتى محاسبتهم على عدم الذهاب، الأمر الذي يؤكد اننا أمام ظاهرة متفاقمة وطنيا، كانت وما تزال تسير بعكازيّ السكوت والصمت، ولا أمل قريب بتجاوزها. وعلى الرغم من ان الساكت والصامت يشكلان معا خسارة للمجتمع ويطيلان في عمر الازمة، إلا ان الساكتين يعيشون حياة فيها الكثير من الذل ولا تحفزهم أفكار العدالة الاجتماعيّة والإيمان بالجماهير والتضحية من اجل قضية معينة، في حين ان الصامتين يدركون ما يجري على الأرض، ويعانون بصدق، لكنهم مصابون بالملل واليأس والتفرج. لا ننفي كليّا وجود الاستعداد الذاتي للساكت او الصامت إلا ان العلاقة بين الشارع والسلطة أحيانا تلعب دورا في تحديد طبيعة الجالسين خلف الأبواب، فعندما كان الديكتاتور متسلطا كان المجتمع برمته ساكتا، بمن فيهم أقربائه وأعضاء حزبه. وعندما سقط الديكتاتور وخرج العراقيون لصناديق الاقتراع لانتخاب ممثليهم ظنّا منهم ان زمنا آخر مختلفا قد حل، بدأ طبقات اليأس تتراكم في رؤوسهم فلجئوا للصمت. من الضروري الإشارة إلى ان هذا الفصل الدلالي بين السكوت والصمت لا يبطل حقيقة ان جيلا من المراهقين، صاروا اليوم رجالا، قد عاشوا الحالين؛ ظلم الديكتاتور وتفاهة ضحاياه. وبما ان الديكتاتور قد رحل، وتراجعت مع رحيله نسبة الساكتين، فسنتوقف في مقالنا عند محطة الصامتين، فهم أكثرية محبطة في الشارع العراقي، ينقصها التنظيم وتتواجد بينها فئات اجتماعية مختلفة الوعي والمصالح والاتجاهات، فئات سلبية وأخرى مترددة وثالثة محايدة ورابعة منصاعة وخامسة.. ولا يمكن التنبؤ بتحوّل أيّا من هذه الفئات إذا ما قررت اجتياز الأبواب وأطلاق عفاريت احباطها بالشارع العراقي، فالتاريخ القريب مليء بشواهد التخريب والنهب الذي طال مؤسسات الدولة ولم تنج منه حتى مقاعد دراسة الأطفال وأسرّة المرضى في المستشفيات.
إنّ تناول ظاهرة الأغلبية الصامتة، والتوقف عند تأثيرها السلبي على المجتمع، لا يعني بأي حال ضعفا في تجاربها الحياتيّة والسياسيّة، ولا حتى ضعفا في مستواها الثقافي والتعليمي، ولكنه نزوع اشتغلت عليه ظروف شائكة لتضع هذه الاغلبية في موقف المتفرج. وامام هذا الواقع الشائك فإن الاكتفاء بالّلوم والانتقاد لا يجدي نفعا، وقد تكون دعواتنا للمشاركة الانتخابيّة سطحية لا تفعل فعلها ولا تغير بالقناعات التي ترسبت في قاع الوعي المظلم للفرد. وبالتالي علينا بدلا عن ذلك البحث في خصائص هذه الاغلبية وفي طبيعة القناعات التي يشكلها الإحباط في نفوسهم، خصوصا وأن صمتهم لم يحدث تحت تأثير اللحظة أو بسبب انقطاع الكهرباء في صيف لاهب، بل هو نتيجة تراكم معقد من المعاناة والخسارات دام لأعوام دون أمل بالتغيير. أردنا القول والتأكيد على ان هذه القناعات السلبية اقتضت أعوام لكي تختمر في وعي الصامت، وقد تحتاج إلى أعوام لكي تتزحزح عن مكانها. وحتى نبدأ الخطوة الأولى علينا البحث عن العمود الفقري لهذه الأغلبية الصامتة؛ هل هم الشيوخ الذين باتت الحياة خلفهم؟ أم هم الشباب الذين لا يجدون من يعبر عن طموحاتهم؟ أم هم الوطنيون الذين ينظرون بألم إلى تاريخهم وتضحياتهم القديمة؟ ام هم المسلحون الذين يرون الأولوية هي طرد المحتل لا الانتخابات؟ ام هم أبناء المدن التي دمرت الحروب بنيتها التحتية وباتوا ينامون بالعراء؟ أم هم الفقراء الذين لا يملكون ابسط وسائل الاتصال والعيش الكريم.. فلكل صمت أسباب محدّدة في بيئة محدّدة. إنّ معرفة طبيعة الشرائح المار ذكرها قد يساعد في تشكيل خطاب ينسجم مع وعيها، وتكليف كوادر مقبولة اجتماعيا في اوساطها، وإقامة نشاطات تفسح المجال لحوار جدي بين أفرادها. ينبغي الإشارة إلى اننا حين نتحدث عن ضرورة معرفة طبيعة الأغلبية الصامتة لا نعني السيطرة عليها وقيادتها، هذا بعيد المنال، فأغلب أفرادها خارج المسرح من أعوام وليس لهم أدوار مؤثرة، وكلما تمضي الأعوام سيبتعدون أكثر. ولكننا نتحدث بالعموم عن الأسباب التي أدت إلى صمت الأغلبية وعن الحلول الممكنة لحلحلتها، فكثير من الأيدولوجيات والقوى الاجتماعيّة التي كانت تحرك الشارع قد فقدت حضورها بعد التغييرات التي أحدثها الاحتلال الأمريكي للعراق، ونهضت قوى شبابية جديدة ما زالت تبحث في تنظيم صفوفها، سيصطف قسم منهم لا محالة إلى جانب الأغلبية الصامتة. ورغم الزيادة المستمرة في اعداد الأغلبية الصامتة إلاّ ان ذلك لا يعني انسجامها ككتلة، فلكل فرد أسبابه. وبالتالي إذا أردنا اقناع هذه الأغلبية بالخروج من دائرة الصمت علينا التعامل معهم كأفراد أو كمجموعات صغيرة وليس ككتلة كبيرة، وهي عملية طويلة ومتعبة وغير مضمونة النتائج أيضا، إذ لا يُستبعد بروز محبط كبير يمتلك روحا نقدية ولغة مؤثرة تجعل من حوله يرددون أفكارا تحتقر كل الحلول المقدمة إليهم للخروج من صمتهم.
المتتبع للعملية السياسيّة بالعراق سيلحظ بسهولة ان الاحزاب تُركّز على الأغلبية الصامتة فقط في فترات الانتخابات، وستطوي صفحتها بعد الانتهاء من عمليات العد والفرز وتقاسم الحصص، وبالتالي على الأحزاب الوطنيّة ان لا تقع في هذا المطب. فمن النواحي الاجتماعيّة والاقتصاديّة والثقافيّة هذه الاغلبية ليست غائبة تماما عن الحياة اليوميّة، وإنها معزولة سياسيّا وليس اجتماعيّا. فمن افرازات التركيز على الأغلبية الصامتة فقط في فترات الانتخابات انها تنتج دزينة من التوصيفات والتحليلات ستنتهي هي الأخرى مع نهاية العد والفرز، فهناك من يصور صمت الأغلبية نوعا من الرقي، وهناك من يحاول التقليل من أهميتها في الحياة السياسيّة، وهناك من يلغي وجودها نهائيا فالساحة واسعة ومفتوحة للجميع بعرض آرائهم ومواقفهم. من جهتها الحكومة العراقيّة ترى بالصمت قبول ضمنيّ بسياساتها، في حين تحاول الأحزاب الإسلاميّة والفصائل المسلّحة إيهام المجتمع بأنها هي التي تمثل الأغلبية الصامتة، متكئة في ذلك إلى كثافة الزيارات المليونية وانتشار الثياب السود، اما الاحزاب المعارضة للسلطة فهي الأخرى تدعي امتلاكها حق التعبير عن الأغلبية الصامتة التي تعاني مثلها التهميش والفقر والاهمال. والمشكلة ان لا جهة من هذا الجهات لديها فكرة كاملة عن هذه الأغلبية الصامتة؛ اعدادها، معاناتها، أماكن كثافتها، خطورتها فيما لو انقلب المزاج العام وخرجت للشارع. فيما يخص أحزاب السلطة فإنها تنشغل في فترات الانتخابات بصناعة رأي عام يتكئ إلى مرجعيات طائفيّة وقبليّة وعائليّة، أكثر من انشغالها بفكرة الأغلبية الصامتة. لأنهم يدركون جيدا ان الحديث عن الأغلبية الصامتة يعني الحديث عن أسباب صمتها، يعني الحديث عن النهب والفقر والسلاح المنفلت، يعني الحديث عن الوجوه التي جاءت مع الاحتلال وما زالت تتناسل كالفطر المسموم. ولذلك نجد أحزاب السلطة في فترة الانتخابات غالبا ما تهرب للأمام عبر انشاء مئات المواقع الوهمية على وسائل التواصل الاجتماعي، بأسماء مستعارة، لفهم وتأطير المزاج العام، مع انهم يدركون جيدا ان هذه الوسائل لا تقدم فكرة متكاملة عن الرأي العام في فترة قلقة يزداد فيها الصراع وشراء الذمم، ناهيك عن انها تأخذ عينات عشوائية من مجتمع واسع ومتباين.
من الناحية التاريخية نجد ان الروح العراقيّة هي الأكثر رفضا للظلم والسلطان الجائر، وكان معاوية بن أبي سفيان لما حضره الموت قد أوصى أبنه يزيد بكيفية التعامل مع المعترضين في الحجاز والشام والعراق فقال (وأنظر أهل العراق، فإن سألوك أن تعزل عنهم كل يوم عاملا فافعل، فإن عزل عامل أحب إليّ من أن تشهر عليك مئة ألف سيف) والسؤال هو ما الذي أوصل أهل العراق في عصر الريع النفطي والحريات وصناديق الاقتراع للصمت على أمرٍ يستطيعون تغييره بأيديهم واصواتهم وأقلامهم؟ تنازلوا عن حقهم في المشاركة والانتخاب واستمروا يتفرجون على ما يحدث في الشارع من باب الفضول وليس من باب الفعل والمساهمة. انشغلوا، كأفراد، بمصالحهم الشخصية، خيّمت عليهم السلبية وعدم المشاركة بأي نشاط يساهم بصنع رأي عام ضاغط، وهو ما أدى بمرور الأعوام إلى ضعف الحس الوطني وتراجع التديّن الإيماني وازدراء المشاركة السياسيّة. ازدراء خلط الحابل بالنابل وأدى إلى وضع أحزاب السلطة وأحزاب المعارضة في سلة واحدة، بدل ان يؤدي إلى معاقبة السياسي او الحزب الذي كذب في وعوده واستغل أصواتهم في جولات سابقة. إنّ أخطر ما في الصمت الطوعي وجود "رأي شخصي" يبرر لأصحابه صمتهم ويجعلهم بمنأى عن صراع الأحزاب وتكالبها على السلطة والنفوذ، وفي ذات الوقت يحصنهم من خطاب الوطنيين وتظاهراتهم وشهدائهم ومعارضتهم للأحزاب الحاكمة. وكان كلما تراكمت معاناة الاغلبية واتسعت الهوة بينهم وبين الحكومة سيكون من الصعب إخراج أصحاب "الرأي الشخصي" عن صمتهم إلا بحدوث أسباب مباشرة وقاهرة، كطرد اشخاص من اعمالهم او إزالة أسواق واحياء شعبية تؤثر على حياة الناس اليومية وتدفعهم لاجتياز الأبواب. كانت الام في مسرحية بريتولد بريخت "الام شجاعة وأبناؤها" قد فقدت كلّ أبناؤها في الحروب، وواجهت بصمت وهدوء كلّ اخبار القصف والدمار، وبقيت في كل ذلك حريصة على ان لا يصل التهديد إلى عربة الطعام التي تعيش منها، وهو ما أدى بالنهاية إلى عزلتها وتشويه مشاعر الامومة والحزن عندها.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. أول بيان للمعارضة السورية بعد سقوط نظام الأسد


.. أول تحرك من العراق بعد سقوط نظام الأسد في سوريا




.. احتفالات في مدينة حلب بعد إسقاط المعارضة نظام الأسد


.. طائرات يعتقد أنها إسرائيلية تستهدف قاعدة جوية جنوب سوريا




.. سوريا.. انتهاء عصر آل الأسد بعد أكثر من خمسة عقود