الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


أملُ إبليس: عن المازة المرّة

دلور ميقري

2023 / 8 / 20
الادب والفن


1
الخريفُ، لوحةٌ كابية لسماءٍ قاتمة مع سُحُبٍ سكرانة، تتعثر بعضها ببعض برقاً ورعداً، غضباً ونزقاً. يتنقلُ دارين نهاراً بين المعهد والنادي والمتجر، حراً طليقاً، ولكنها حرية مقيّدة باغلال الحرمان من الحب والجنس. فكم أشبِهَ بذلك الطائر، الذي وجدَ شجرتَهُ الزاهية الخضرة وقد أصفرّت أوراقها وشحبت أغصانها، فلم يعُد يتعرّف حتى على عشّه. الشمسُ مشرقة، بأشعةٍ باردة. الشوارعُ جميلة، شبه خالية من البشر. شرفاتُ المقاهي، عُزّلت من المناضد والكراسي. واجهاتُ المحال التجارية، تنوسُ بأضوائها مُبكراً ـ كدلالة على قصر النهار. ثمة سيارة بوليس أمام أحد تلك المحال، الكائنة في شارع " سان بيير "، وكانَ متجراً لبيع الساعات باهظة الثمن. خِلِل زجاج الواجهة، لاحَ عنصران من الدورية يتكلمان مع شاب أسود الشعر، مُمتقع السحنة. كانت سحنةً مألوفة، ثم سرعانَ ما عرفَ صاحبها: إنه فتىً مراهقٌ من كرد لبنان، المُنغمس كالكثير من أنداده بأعمال غير قانونية.
حاذى دارين فندقَ " جيليت "، عند مدخل الدرب المؤدي إلى المكتبة العامة، ليجد فتىً آخر من تلك النخبة المشبوهة. كانت ملامحه الجميلة، الناصعة كالفضّة، يشوبها أيضاً لونُ الذعر. كانَ واضحاً، أنه فرّ من ذلك المتجر قبيل مداهمة البوليس، ومن ثم وقفَ عن بُعد يُراقب مجريات الأمور. نزوةٌ طارئة، أو ربما شعورٌ بالشفقة، جعلته يُخاطب الفتى: " أمشِ معي إلى النادي! ". لقد عرفه في ذلك المكان تحديداً، وكان هذا يتواجدُ فيه غالباً مع أسرة شقيقه الكبير. زوجة الشقيق، كانت إمرأة صبيّة صارخة الحُسن، كثيراً ما كانت ترمقُ دارين بنظرات الإعجاب والشبق. إنهم فئة من الكرد، أصلهم من ريف ماردين، يستعملونَ لغةً يتداخلُ فيها الكثيرُ من المفردات العربية. ويُقال، أنّ جذورهم سريانية.
الفتى ، واسمه " ماهر "، قابلَ الدعوةَ بابتسامة ممتنّة، ولو أنها باهتة. في خلال الطريق، سأله دارين عما جرى في ذلك المتجر. فأعترفَ ببساطة، أنه ورفيقه كانا ثمة بهدف السرقة: " أنا أقومُ بإلهاء البائع، فيما هوَ يمدّ يده إلى الخزانة الزجاجية ليستلّ منها بعض الساعات الثمينة. إلا أنّ الرجلَ، على الأرجح، إرتابَ بأمرنا منذ البداية. وإذا به ينقضّ على رفيقي، وكانَ هذا قد بدأ بالسرقة، فيما انا أفلتّ من قبضة مساعد البائع، مُندفعاً بأقصى سرعة خارجَ المتجر "
" ألا تخشى أن يَشي بك رفيقك، لكي يُخفف من جرمه؟ "
" أيّ جرم؟ إنه تحت السنّ القانونية. سيُحجز بضعة أيام ثم يُطلق سراحه، كالعادة "
" إذاً، هذه ليست المرة الأولى؟ "
" لا بالطبع، لقد قبضَ عليه أكثر من مرة فيما مضى "
" وأنتَ؟ "
" أنا كنتُ محظوظاً، كما حالي اليوم! "، قالها ضاحكاً عن أسنانٍ ناصعة كلون بشرته. وكانا قد أضحيا عند مدخل النادي، المُحتل الدورَ الثاني في عمارةٍ بالغة الجدّة ذات واجهة بيضاء، تطل على شارع " الملك ". هذا كانَ المقرُ الجديد للنادي، منذ نحو شهرين، ولكن الأثاث الرث لم يتغيّر. كذلك، جدّت فضيحة صغيرة في أثناء عملية الإنتقال إلى المقر الجديد. إذ سُرقت معظمُ محتويات المكتبة، وبضمنها كتب قام دارين نفسه بإهدائها إلى النادي. الشيمة الريفية، المُتحلّي بها أغلب مسئولي النادي، جعلتهم يغضّون الطرفَ عن الفضيحة. هذه الشيمة، لا تعتبرُ السرقةَ عيباً وعاراً وإنما هيَ من قبيل الجسارة والشطارة. فضحُ السرقة، في المُقابل، هوَ الذي يُقابل بالإستهجان والإستنكار. حتى إنساناً مثقفاً، مثل آلان، علّقَ فيما بعد على مسلك دارين مع الفتى المُنحرف، بالقول: " حسنٌ فعلتَ، لأنّ القبضَ عليه كانَ سَيؤذي سُمعةَ الكرد! ".
سكرتير النادي، كانَ رجلاً أربعينياً، تميّز عن الآخرين بفكره المُستنير وتواضعه. مثلما ألمحنا في مكانٍ آخر، كانت علاقته ودّية مع دارين. أقنعَ الإدارة بمنح هذا الأخير حجرةً صغيرة، مُتداخلة مع حجرة أكبر مُخصصة للدروس، لكي يُمارس فيها الرسم. كانَ المُؤمل، أن يقومَ لاحقاً بتدريس هذه المادة للأطفال في النادي. وكانَ ثمة حجرة أخرى، مُجاورة، شغلها رجلٌ، متفرّغ للأعمال الإدارية. كانَ الرجلُ ينحدرُ من الأسرة البرزنجية، التي أستقلّ رأسُها بمنطقة كبيرة من كردستان، بوصفه ملكاً. كانَ ذلك، رداً على تنصيب الإنكليز لفيصل الأول، القادم من الحجاز، ملكاً على العراق. لكن الإنكليز، المُناهضين للآمال القومية الكردية منذ منتصف القرن التاسع عشر، عدّوا ملك هذه القومية شخصاً خارجاً على القانون؛ ومن ثم أرسلوا طائراتهم وفرقهم العسكرية، لتقويض الكيان الوليد.
ماهر، كانَ قد شعرَ بالإمتنان تجاه دارين، كونه تستّرَ على حكاية متجر الساعات. شاركه ذاتَ مرةٍ الجلوسَ على نفس الأريكة في صالة النادي، وتبادلَ معه الحديثَ كأنهما صديقان. " سامو "، وهوَ أيضاً من كرد لبنان، همسَ على الأثر في أذن دارين: " لا تختلط بهذا الفتى، لأنّ سيرته مَشنوعة ".
في رواقٍ مُتصل بحجرات الإدارة والدروس، وضعوا لعبتين للتسلية، منذورتين للفتيَة، لكي تدرّ أيضاً دخلاً على النادي. إحدى اللعبتين، هيَ من النوع المعروف ب " الأتاري "، التي يتهيأ فيها للاعب أنه يخوضُ معركة بوساطة طائرة هليكوبتر. في أحد الأيام، صادفَ دارين ذلك الفتى المُنحرف وكانَ يُمارس اللعبة. كانَ برفقته فتاة سويدية، ناضجة الجسم، بالرغم من أنها أيضاً بعُمر المراهقة. كانت تعتنقُ رفيقها من الخلف، فيما هوَ يوجّه طائرةَ الهليكوبتر، واضعة يدها في فتحة سرواله. كانَ يُعبّر عن ضجره من حركتها، لأنها تعطّل تركيزه في الهجوم على الخصم. ردّ بودّ على تحيّة دارين، ثم أخذَ يتباهى بكونه وصلَ تقريباً إلى آخر مراحل اللعبة. ما لبثَ الآخرُ أن تركهما، مُتجهاً إلى حجرته الخاصّة. دقائق أخرى، وإذا ماهر ورفيقته يستأذنان بالدخول. تأملا لوحةً بالألوان المائية على القماش، كان دارين قد أستهل العملَ فيها مذ بضعة أيام: " واو، أنتَ رسامٌ بارع! ". حينما راحت الفتاةُ تناقش دارين بهذا الخصوص، أهتبلَ رفيقها الفرصةَ للعودة إلى المعركة. بإنفرادها مع الرسام، صارت تسمحُ لجسدها مسّ جسده، إنما بطريقةٍ توحي بالعفوية. عندئذٍ، طرحَ عليها دارين أن تقفَ أمامه كموديل: " لو شئتِ ذلك بدافع الصداقة، أو أدفعُ لك أجراً محدداً عن الساعة "
" إنها تجربةٌ مُثيرة، أن أقفَ كموديل. ولكن، هل هذا هوَ المكان المناسب؟ "، قالتها مومئةً برأسها إلى ناحية باب الحجرة. حينَ ردّ، مُقترحاً أن توافيه إلى مسكنه، فإنها وافقت دونَ حاجةٍ إلى مزيدٍ من الأسئلة. أكتفت بالحصول على رقم هاتفه المنزليّ، قائلة وهيَ تبتسم: " سأحضرُ مع ماهر، ولو أنني أعرفُ سلفاً مدى ضجره من الأمر. لن أطالبك بالأجر، بل أكتفي بطاولة شراب مع المازة اللبنانية "
" حسنٌ، أنتظرُ مكالمتكِ الهاتفية "، قال ذلك دارين بشيءٍ من الخيبة. لقد أمِلَ بمجيئها لوحدها، كونه عزمَ أساساً على مضاجعتها. إنه لحظَ حالَ وقوع عينها عليه، أنه حاز إعجابها. ولعلها بدَورها، كانت تأملُ بمضاجعة مَن هوَ أكثر نضجاً من رفيقها.
لوّحت بالكرت، المُرقّش برقم الهاتف، غامزةً بعينها: " دارين؟ إسمٌ إيروتيكيّ! ". بادلها حركتها المُعابثة، مُفكّراً أنها بهذه السنّ الحدثة ولكنها، بالتأكيد، ذات تجاربٍ جنسية متعددة. سألها عن اسمها، فأجابت: " غونيلّا ". مازحها بالقول: " غونيلّا أو غوريلّا؟ ". ردّت وهيَ تُبرز في وجهه أصابعها ذات الأظافر الطويلة، المطلية بالأحمر: " سأتحوّلُ إلى غوريلّا، حالما يحينُ الوقت المناسب! ".

2
لم يستعد دارين تلك الجملة عن السيرة المَشنوعة لماهر، التي فاهَ بها سامو، إلا عقبَ حضور الفتى إلى شقّته مع غونيلّا. كانَ الوقتُ أصيلاً، واليوم عطلة نهاية الأسبوع. الفتاةُ، كانت بكامل زينتها وأناقتها، كأنما ستتوجّه في وقتٍ لاحق إلى الديسكو. لكن ما فاجأ المُضيف قليلاً، كانَ مكياج صديقها؛ من قبيل أحمر الشفاه والبودرة. وكانت هذه موضة جديدة، مثيرة، دأبَ بعضُ المراهقين والشبّان في السير على نهجها القويم ـ كما هوَ شأن السروال الداخليّ، السترينغ، بالنسبة للمراهقات والبالغات.
مع ذلك، ولأول مرة، أنتبه دارين إلى أنّ ثمة شيئاً أنثوياً في الضيف، إن كانَ في مظهره أو تكوينه. فضلاً عن صوته الناعم، الذي يَسري في أذن المُستمع ـ كموسيقى هلامية ـ كانَ هناك شَعره الطويل وصدره النامي وكذلك مؤخرته الكبيرة. الملاحظة الأخيرة، ألمّ بها المُضيف حالَ طلبه من الفتاة أن تتجرّد من ملابسها، لكي تقف أمامه كموديل. إذ هتفَ صديقها بنبرةٍ مرحة، فيما يهبّ واقفاً بدَوره: " إذا كانَ الأمرُ كذلك، فلِمَ لا نتعرّى نحنُ الثلاثة معاً؟ ". أنتقلت عدوى المرح إلى صديقته، فأنقضّت على الرسّام ـ كالغوريلّا فعلاً ـ لتنزع عنه ملابسه. كانت هيَ المرة الأولى، يجدُ فيها دارين نفسَهُ في هكذا جوّ إباحيّ مذ فترة دراسته بموسكو، التي قُطِعت قبل ما يزيد عن الثلاثة أعوام. آنذاك، دُعيَ إلى حفلة رأس السنة عند أصدقائه في مسكن معهد الطب الثاني، وكانَ ثمة عدة فتيات روس، وبالطبع مع الكثير من الفودكا والموسيقى. تبادلوا الفتيات في سهولة، وأحياناً كان بعضهم يحظى بأكثر من واحدة معاً.
السريرُ الصغير، سرعانَ ما أحتوى الأجسادَ الثلاثة، المُتلاحمة الأعضاء. في حقيقة الأمر، أنّ الفتاة كانَ قد نالَ منها السُكْر؛ هيَ مَن رشفت بكثرة كوكتيلَ الفودكا، الذي كانَ المُضيف يبرع بمزجه على خلفيّة تجربته الدراسية، المَعلومة. هكذا أنتقلت إلى رشف الذكرَيْن المُطهّرين، فيما تساءلت بجدّية ما لو كانت عملية الختان مؤلمة وهل تُجرى في الصغر أو عند البلوغ. على حين فجأة، أنحنى ماهر على شيء المُضيف، مُقتدياً بحركة صديقته. مُجفلاً، نأى دارين بنفسه عن السرير، ليتناولَ قدحَ شرابه. حلّ الصمتُ هنيهة، فيما الفتى تبادل مع صديقته إبتسامة مُوارَبة. ثم ما لبثت الفتاة أن أنتقلت إلى موقف المُضيف، الجالس على الكرسيّ بجانب الطاولة، المُحتفية بدَورق الكوكتيل وأطباق المازة. المخازن السويدية، كانت تعدّ أنواعاً مختلفة من المازة لزبائنها، سواءً اللبنانية أو المنتمية لمطبخ الحوض الغربيّ للمتوسّط. إنّ مفردة " مازة " نفسها، أضحت شائعة في أوروبا عموماً.
" أتدري أنّ ماهر، يتقمّصُ صفةَ المرأة أحياناً، فيطلب مني أن أضاجعه بوساطة العضو الصناعيّ؟ "، أسرّت له غونيلّا بهذا الأمر في بساطة. لكنها فعلت ذلك، غبّ ذهاب صديقها إلى الحمّام. ثم أضافت: " لِمَ لا تجرّب مضاجعته بنفسك، فإنه يمتلكُ أستاً أجمل مما لدى الفتاة؟ "
" لأنني لا أحبّذُ طريقةَ ‘ بي سكس ‘، ولم تخطر في ذهني أبداً حينما رغبتُ فيكِ "
" أنتَ فنانٌ، وهذه الطريقة هيَ نوعٌ من الفن "
" لكل إنسان ميوله الجنسية، المُحددة "
" ولكنك ضاجعتني من أستي، على أية حال؟ "
" هذا أمرٌ مُختلف، كونكِ أنثى "
" ماهر يَحظى بجَسَد أنثى، بإستثناء الفَرْج. إنه يتناولُ الهرمونات بإنتظام، ولذلك فإنّ لحيته لا تنبت "، قالت غونيلّا فيما بدأت بإشعال سيجارة. وفي الأثناء، آبَ صديقها إلى الحجرة. خاطبها بشيءٍ من الإنزعاج: " تكلّمي عن نفسكِ، ودَعي سيرةَ الآخرين ". لقد سمعَ جملتها الأخيرة. على الأثر، وربما لإثبات شيمة الرجولة فيه، حملها على العودة إلى السرير والإستلقاء على بطنها. هواءُ الحجرة، ما عتمَ أن زادت فيه جرعاتُ أنفاس المجارير الصحية. آهاتُ الفتاة، المُصاحبة للألم، ترددت أيضاً في جوّ المكان، لتتبددَ رويداً ـ كما الصدى، الذي تكرره تموّجاتُ الجبال قبل أن يضمحلَ ويتلاشى.
كانَ ماهر، إذاً، مُمتناً لدارين بسبب الحادثة المعلومة، وربما شاءَ أن يكافئه بعرض أسته عليه. لقد تملّصَ هذا الأخيرُ من العرض، وقررَ أيضاً ألا يرى صاحبَهُ مُجدداً. إلا أنّ غونيلّا أتصلت معه بعد بضعة أيام: " سأحضرُ مساءً إلى شقتك، فأنتظرني ". أغلقت الخط، وذلك في اللحظة المُتعيّن فيها أن يسألها ما لو كانت ستأتي لوحدها أو مع صديقها. بعدما فكّرَ قليلاً، أرتأى أن يتوجه مساءً إلى ذاك المتجر، أين يخدم زورو بمعدةٍ فارغة طوال النهار. لكنّ ذكرى رائحة فم التاجر، الكريهة، جعلته يَعدل عن عزمه. كذلك ومن باب أولى، تحركت غريزته حينما تذكّرَ ردفيّ الفتاة، السهليّ المنال. فلينتظرها، ولتحضر لو شاءت مع صديقها المُخنث. إنه لقنه درساً، ولو بشكلٍ لطيف، يجعل أسته بلا أمل.
عندما رنّ جرسُ الباب، أيقنَ أنها غونيلّا، فلم يرَ سبباً للنظر في خلال العين السحرية. في بصيص النور الخافت خارجاً، ظنّ للوهلة الأولى أنها أتت مع ماهر. لكن إذا بوجهٍ جديد يُطالعه، ما أن خطا صاحبه إلى الداخل. كانَ وجهاً مألوفاً في النادي، وسبقَ لدارين أن توهمَ، في أول مرةٍ رآه فيها، أنه سويديّ ـ كما كانَ جرى لكثيرين في حقيقة الأمر. " جلوان " هذا، وهوَ من السليمانية، كانَ يصغرُ صديقه بلا أقل من ثلاثة أعوام؛ فهوَ طفلٌ تقريباً. إلا أنه كانَ متين البنية، وفارع القوام. لقد سبقَ وسمعَ دارين أكثر من مرة، شباناً من مواطني الغلام، يُخاطبونه في النادي بلغتهم ساخرين: " حيز "؛ أي المخنّث أو الشاذ جنسياً.
رداً على سؤال المُضيف، قال ماهر بطريقةٍ مُلتوية: " غونيلّا قد تأتي لاحقاً، إذا لم يُعطلها طارئٌ ما ". بقيَ واقفاً في الردهة، مُتردداً في الإفاضة. بعدئذٍ أومأ بعينيه إلى ناحية حجرة النوم، أينَ أستقرَ رفيقه، قائلاً بصوتٍ مُنخفض: " إنه يرغبُ أيضاً بالوقوف أمامك، كموديل، بمقابل قدح فودكا "
" لكنني لا أذكرُ أنني طلبتُ منك، الإتيان بموديل؟ "
" بكلمةٍ أوضح، أنا لم أجد غير مسكنك للإختلاء به "
" هذا آخرُ شيءٍ، أرغبُ بسماعه "
" لا تأخذ الأمرَ بجدّية كبيرة، يا صديقي! "، ردّ ماهر مُتكلّفاً الضحكَ فيما يده تعبث بفتحة بنطال مَن دعاه صديقاً. شعرَ دارين إزاءَ الفتى العربيد بمزيدٍ من الإشمئزاز، وكانَ قد عزمَ على طرده مع حاشيته حينَ لاحت صورةُ غونيلّا: " لا ضيرَ أن أدعهما لبعض الوقت، لحين قدومها "، خاطبَ داخله. هكذا جلسَ في الردهة إلى طاولة الطعام، فيما باب الحجرة الموارَب تنفذ منه الضحكاتُ المُتهتّكة والألفاظُ السوقية. كانَ العشيقان يتكلمان السويدية، لأن أحدهما لا يعرف العربية. الفضول، ما عتمَ أن دفعَ دارين إلى إلقاءِ نظرة عابرة خِلَل الباب، وذلكَ بعدما سادَ الهدوءُ تقريباً في حجرة النوم: الغلامُ، كان أيضاً قد حظيَ بجسدٍ أنثويّ، بالرغم من أنه أخذَ عندئذٍ دورَ رجلٍ يمتطي إمرأة.
لم تأتِ غونيلّا في ذلك اليوم، ولن يراها دارين أيضاً من بعد ولا حتى في النادي. لعلها قطعت علاقتها بصديقها المُخنّث، بعدما أغنت حياتها الفتيّة بتجربةٍ مُثيرة. هذا الأخير، سيغدو بطلَ واقعةٍ جديدة ـ أو فضيحة ـ تداولها روّادُ النادي لفترةٍ من الوقت. لقد نشبت مشادةٌ بينه وبين جلوان، وذلك في بارٍ للشباب يطلُ على ساحة المدينة الرئيسية. الغلامُ، كانَ ثملاً حينئذٍ، وربما مُتعاطٍ مخدرات أيضاً. لقد رفعَ صوتَهُ أمام الآخرين بالقول، أنه ضاجعَ ماهر ليلة أمس أربعَ مراتٍ وكانَ هذا يرغبُ بعدُ بالمزيد. فأندفع الآخرُ نحوه بجنون، لينالَ منه باللكمات الشديدة. في نهار اليوم التالي، دخلَ جلوان إلى النادي ونصفُ وجهه مُغطّى بالضماد الطبيّ. حينما سئلَ بما ألمّ به، أجابَ أنه تعثرَ على درج البار وأصيبَ ببعض الجروح. لكن شهوداً على الواقعة من مواطنيه الشباب، ما لبثوا أن أدلوا بدلوهم في الموضوع. لحُسن حظ دارين، أنّ اسمَهُ لم يُلوّث في معمعة الخناث تلك.

3
عن طريق شقيقته، المُقترنة بشاب لبناني، أمكنَ لدارين أن يطّلعَ على جانبٍ آخر من مجتمع اللاجئين من موطن الأرز، المُتوطن أغلبهم في السويد عقبَ نشوب الحرب الأهلية. زواجُ لبنانيّ من سوريّة، أو العكس، كانَ شيئاً في ندرة العثور على شجيرة نخيل في حديقةٍ إسكندينافية. موقفٌ طريف، ومُعبّر في آنٍ معاً، تم لوكه مراراً في هذا الشأن. فإنّ الصهرَ، أتصل ذات مرةٍ مع شقيقته المقيمة في بيروت، ليخبرها أنه عقد قرانه على إمرأة سوريّة. هتفتَ مرتاعة: " إمرأة سوريّة! لا تقل لي أيضاً، أنها ليست من طائفتنا؟ ". حينما قال أنها كردية، وقعت مغشياً عليها. في عائلة دارين كانَ ثمة حالة مُشابهة، حينَ أقترنَ خالُ والدته بإمرأة مسيحية في أثناء خدمته بالجيش الفرنسيّ في لبنان. ابنته الوحيدة منها، واظبت في الكبر على زيارته بدمشق إلى أن رحل عن الدنيا، مُخلّفاً دزينة كاملة من الأولاد.
كونهم على علمٍ بأنّ دارين لا يعطي أهمية لدينه سوى كقيمة ثقافية وتاريخية، فإنّ أقاربَ الصهر ومعارفه دأبوا في حضوره على الهزء بمواطنيهم المسلمين. هذه الشيمة، كانت ولا شك من أسباب الحرب الأهلية. إلا أنهم كانوا ينكرون ذلك، بمبرر التدخلات الخارجية في شئونهم الداخلية سواءً من لدُن الفلسطينيين والسوريين أو العرب عموماً. " السيّد إيلي "، كانَ ضيفاً مألوفاً في الفيلا، التي أشتراها الصهرُ مؤخراً في حي أوبسالا القديمة. إنه أصلاً من دمشق، وكذلك زوجته، توطّنا في لبنان في منتصف عقد الستينيات حينَ كانَ يُدعى " سويسرا الشرق ". بالرغم من أن سنّه قد ناهز الستين، كانت ملامحه ما فتأت مُكتنزة بشيءٍ من الجمال الآفل. في أول مرةٍ ألتقاه ثمة دارين، سأله الرجلُ الكهل، كما لو أنه من جيله: " أينَ خدمتَ عسكريتك؟ "
" في سلاح الدفاع الجويّ "
" أنا كنتُ ضابطاً في سلاح الطيران الحربيّ، حينما كانَ حافظ الأسد بعدُ طالباً في الكلية الجوية. كنتُ صارماً مع الطلبة، ولكن بدافع حثّهم على الإجتهاد. في إحدى المرات، تأخّر الطالبُ حافظ عن إجازته ومن ثم زُجّ به في السجن. كانَ ذلك سيؤخّر تخرّجه برتبة ملازم. عند ذلك، بادرتُ للذهاب إلى مدير الكلية، وكان صديقي، وحملته على إلغاء العقوبة. لم ينسَ لي الطالبُ هذا الجميل، وظلّ يُذكّرني به في كل مرةٍ ألتقينا فيها مع مرور الزمن. نعم، أنا طلبتُ لاحقاً إعفائي من الخدمة، فيما هوَ واصل الترقي إلى أن صار شيئاً كبيراً مع إستيلاء البعث على السلطة "، تدفقَ الرجلُ في الكلام وهوَ يُحدّق بعينيّ مُحدّثه. لدهشة هذا الأخير، أنّ ضحكةً قرقرت من ابن الرجل ثم أنتقلت إلى الآخرين. فضلاً عن هذا الابن، وهوَ يكبر دارين قليلاً، كانت ابنته الكبرى حاضرة. كذلك كانت زوجة الرجل موجودة، وهيَ إمرأة ضامرة الجسم، تلوحُ أنها تصغره ببضع سنين. بعدما نقلَ عميدُ الأسرة عينيه فيهم، أستأنفَ سردَ تفاصيل حياته الحافلة: " ذات مساء، كنا عائدين من دفن والدتي، وقد أجتمعَ الأهلُ والأقارب في صالون منزلنا، الذي كانت مساحته تفوق هذا الصالون بأربع مرات. وإذا على حين فجأة، تتناهى أصواتُ الزعيق المألوف لسيارات الشرطة. أطللنا برؤوسنا على الشارع، لنرى موكباً مهيباً من سيارات المرسيدس الرسمية، تتقدّمه الدراجات النارية، وتحيط به عربات المرافقين. هنيهة أخرى، وتعالت من ردهة المنزل أصواتٌ مُرتاعة: " السيّد الرئيس! ". حالما دخلَ حافظ إلى الصالون، أشارَ بيده للحضور: " تفضلوا بالجلوس "، ثم أنتهى إلى مجلسي كي يقتعد بجانبي. لا أسلو قط قوله، وهوَ يواسيني، أنّ الأمهات أنبل مَن في الدنيا وأشرف بني البشر! ". سكتَ الرجلُ وهوَ يلهث، كأنما تسلقَ للتو مرتفعاً وعراً، ثم أخذ رشفة من فنجان القهوة. في الأثناء، أفعِمَ جوّ الصالة بمزيدٍ من الغمز والضحكات المكتومة. ثم سأله ابنه، مع ابتسامة خبيثةٍ: " جدّتي توفيت في دمشق حينما كنا نحنُ مقيمين في السويد، أليسَ صحيحاً؟ "
" آه حقاً، أنا ذكرتُ ذلك سهواً. فإنه جدّك من توفيَ عندئذٍ "، ردّ ببعض الإرتباك. ثم آبَ الضيفُ الرفيع المقام للقول، مُخاطباً دارين دائماً: " أنتَ مثلما لحظتُ على إطلاع جيّد على أمور السياسة، وهذا شيءٌ حسنٌ بالنسبة لعمرك المُبكر. دَعَني إذاً أذكّركَ بحيثيات التدخل السوريّ في لبنان، وكانت الحرب الأهلية في أوج سعارها. كانَ الفلسطينيون وأنصارهم يقضمون مناطقنا، وما هيَ إلا أيام قليلة وينتهي الوجودُ المسيحيّ في لبنان. عندئذٍ هُرع إلى منزلي كلّ من كميل شمعون وبيير الجميل، وبالطبع سليمان فرنجية. آنذاك، كنتُ مُعتكفاً مع أسرتي في فيلا على طرف جونية، يمتد مشهدُ البحر في أسفلها فيما الجبالُ تهيمن عليها. قالوا لي بصوتٍ واحد، والدمُ يكاد يفرّ من وجوههم من شدّة الجزع: " حافظ الأسد، أليسَ صديقك بل وتلميذك؟ إن الواجبَ الوطنيّ، يُحتم عليك مناشدته حالاً كي يرسل قواته لإيقاف الوحوش الزاحفة ". بعدئذٍ نقلوني بالهليكوبتر إلى القصر الجمهوريّ في دمشق، وهناك أجتمعتُ مع الرئيس لمدة تقارب السبع ساعات. لم يكن في البدء مُتحمّساً للتدخل في لبنان، لخشيته من أن يغدو مستنقعاً يغرق فيه نظامه الناشيء بعدُ. لكنني أوضحتُ له، أنّ لبنان هوَ الحديقة الخلفية لسورية، مثما أن كل الإنقلابات العسكرية كانَ المعارضون يعدّونها في خلال وجودهم هناك. فجأةً، أستقامَ واقفاً ثم مدّ يدَهُ لمصافحتي. شاءَ استبقائي في ضيافته لبضعة أيام، فقلتُ ليسَ قبل أن أسمع بأنّ جيشكم أضحى في بيروت وأعادَ أولئك الوحوش إلى أدغالهم مُثخنين بجراح الهزيمة ".
في هذه المرّة، وفي اللقاءات التي تلتها، لحظ دارين أنّ الإبنة تمحضه نظراتٍ باسمة. وكانت قد مالت على شقيقته، المماثلة لها في العُمر، لتقول في سمعها: " إنه جذّاب جداً، كأنه من نجوم السينما الفرنسية! ". وكانت هيَ بنفسها نجمة بورنو في ستوكهولم، مذ أن أقترنت بصاحب كباريه ثمة، يُقدّم لزبائنه خدمات الجنس بحدود القانون. كانَ اسمها، " ميادة "، سمراء هيفاء، لا تظهر صيفاً وشتاءً إلا بملابس مكشوفة حدّ لفت أنظار السويديين أنفسهم. فيما بعد، علمَ دارين أنها كانت تمارسُ البغاءَ مذ أن كانت طفلة تقريباً. والدها ( الرجل الرفيع المقام ومعلّم حافظ الأسد )، هوَ مَن أجبرها على ذلك. كانَ في حقيقته متبطلاً، يعيشُ مع أسرته الصغيرة في قبو عمارة بباب توما. وكانَ قد توصلَ مع صاحب العمارة إلى تحويل حجرة الناطور إلى مقمرة، يشرف هوَ بنفسه عليها. سوء الحال، أضطره للهجرة إلى بيروت، ليبقى عاطلاً، مُعتمداً على ما تجنيه الإبنة من زبائنها. بدَوره، أبتليَ شقيقها " بول " مُبكراً بالإدمان على المخدرات. كون الإدمان مُكلفاً، والأسرة شبه معوزة، فإنه تدبّر أمرَهُ غالباً بالسرقة. في السويد، أضافَ على ذلك خصلة المُقامرة. حال الأب، كانَ خيالُ الإبن خصباً أيضاً. إنه يُكرر حكاية هروبه من الخدمة في الجيش السوريّ أثناء تواجده في بيروت، وكيفَ قايض بندقية الكلاشينكوف بثمن بطاقة في رحلة بحرية أوصلته إلى أمستردام ومنها ركب القطار إلى السويد. كون دارين أقام في العاصمة الهولندية، حينما كانَ في طريقه أيضاً للسويد كي يقدّم اللجوء، شاءَ ذات مرة أن يستعيد مع بول ذكرياتهما في هذا الشان. وإذا هذا الأخير، مُتلجلجاً، يتهرّبُ من الحديث.
زميلة لميادة في المهنة، كانت سيرتها في المُقابل تثير الشجون. اسمها " مادونا "، وهيَ من بيروت، وُصفت بأنها كانت في يومٍ ما، أجمل فتاة أجنبية في أوبسالا. كونها لم تعرف مهنة غير البغاء، فإنها ما عتمَ أن صارت بدَورها نجمة بورنو حال إستقرارها في السويد. في ذلك المربّع الليليّ، الذي يمتلكه رَجُل ميادة، كانت نمرة مادونا في الستربتيز تلاقي هياجاً مجنوناً. أحد أولئك المجانين، وكانَ يونانيّ الأصل، تعرّف عليها لاحقاً كزبون ثم عرض عليها الزواج. كانا من نفس الطائفة، وعاشا بضعة أعوام في سعادة وتفاهم. كانَ مالكاً لمطعم في العاصمة، باعه وأشترى آخر في أوبسالا كي يُبعد إمرأته عن الذكريات المشئومة. بيد أنه كانَ كثيرَ الوساوس، يشكّ بأي مسلك غريب من جانب إمرأته. بالنتيجة، أن الخلاف دبّ بينهما وكانَ في الوسع أن يتطوّر للطلاق لولا تدخل الأصدقاء كل مرة. وكانت مادونا قد رزقت بطفلٍ، ما لبثَ أن ملأ عليها حياتها. إلى أن أنتزع الرجلُ الطفلَ منها بخديعةٍ، حينما كانوا يقضون إجازةَ الصيف في اليونان. رجعت للسويد منهارةً تماماً، وراحت منذئذٍ تطرقُ أبوابَ كل مؤسسات الدولة، لطلب المساعدة في إعادة الإبن. لكنّ ذلك كله، كانَ عبثاً.
وقد ألتقى دارين بمادونا مرةً واحدة، وفي ظرفٍ لا يقلّ مأسوية. كانَ يُراجع مركزاً للعيادة النفسية، وذلك لضمان ألا يرسلونه إلى أحد معسكرات اللاجئين في الأرياف. كذلك كانت مشورة شقيقته، وقد أكلت ثمارها. ذات يوم، وكانَ الوقتُ ربيعاً، همّ بالولوج من باب المركز الطبيّ حينما صدمه مشهدٌ مُروّع. كانَ ثمة إمرأة أنيقة، طويلة القامة، نحيلة، عليها أثر جمال غابر، تتجادلُ مع بعض طاقم التمريض. كانت تصرخُ بيأس: " عليكم إعادة إبني، ولو بطرد البعثة الدبلوماسية اليونانية! ".. وهذيان من هذا القبيل. أنتهى بها الحال، بأن قاموا بدفعها إلى خارج المركز بالعنف حتى سقطت أمام الباب في بركةٍ موحلة من أثر مطر الليلة الفائتة. تخبطت قليلاً على الأرض، فمد لها دارين يدَهُ لمساعدتها. لكنها حدجته بنظرةٍ قاتمة، جعلته يسترد يده. كانت نظرة إمرأة، فقدت عقلها تماماً.

4
ما زالَ دارين يجوسُ في شوارع أوبسالا، أينَ في الوسع مُصادفة العديد من البشر الأنيقين، دونَ أن يخطرَ في بال المرء أنهم مجانين، طحنتهم الحياةُ بإمتحانهم في أعز ما لديهم. كانَ بنفسه أكثر حظاً، بما أنّ مشكلته الآنية هيَ إسكاتُ جوعه الجنسيّ. إنتفاخٌ خفيف، كانَ يجدّ في فتحة بنطاله كلما مرّت أمام عينيه مؤخرةٌ فتيّة، تذكّره بمؤخرة غونيلّا، السهلة المنال. ولكن، لِمَن هذه المؤخرة المُفلطحة، إن لم تكن للشاب، " فهمي "، الذي درسَ معه جزئياً في معهد اللغة الأساسية؟ كان يتهادى في الشارع كعربة جرّ البضائع، القديمة المُتهالكة، وقد برزت له أيضاً من الوراء صلعةٌ نامية ببطء. إنه من الحارَة، أرتبط خاله ووالدُ دارين بالصداقة من أيام النادي الكرديّ في سنوات الأربعينيات. للمُصادفة، أنّ الشابَ المُماثل له في العُمر، كانَ الآنَ مُتجهاً إلى نادي الجالية كي يتناول هناك غداءً رخيصاً. سأله دارين ما لو كانَ يقيمُ بعدُ لدى شقيقته، فأجابَ مع إبتسامته الذابلة: " لا، لقد حصلتُ على شقّةٍ، يُشاركني فيها شابٌ من كرد لبنان ". عندما ذكرَ اسمَ الشاب، عرفه الآخرُ في الحال: إنه الشقيقُ الأصغر لسامو، يَدعونه " ميرو "، وكانَ في مثل سنّهما، تميّزَ بالإفراط في الوسامة والأناقة. أعتادَ دارين أن يلقاه في أحد الملاهي، وكانَ دوماً في صُحبة فتاة مختلفة.
" نُمضي فترةً من الوقت في النادي، وبعدئذٍ ترافقني إلى الشقّة "، قدّمَ له فهمي هذا الإقتراح. كانَ مَخلوقاً مُسلياً، ولكن بلا أيّ مواهب خلا موهبة كنز المال. كذلك كانت شيمة شقيقته، المُفترقة عن رجلٍ من كرد تركيا حال حصولها على الباسبورت السويديّ. كانت إمرأة لطيفة الملامح، ولو أنّ جسدها ـ كعلبة الكوكا كولا ـ بلا ردفين بارزين. فوق ذلك، أبتليت بالثعلبة، التي جعلت مؤخرة رأسها بلا شَعر تقريباً؛ ما أضطرها لإستعمال الباروكة. طليقها، كانَ موظفاً مرموقاً في السوسيال، ينشط في الحزب الحاكم حتى أضحى من أبرز مرشّحيه الأجانب في الإنتخابات البلدية. مشكلته مع إمرأته السابقة، أنه كانَ كريماً ومضيافاً فيما هيَ مُقتّرة لا تولم لضيفٍ إلا لو كانَ من ورائه منفعة. مع أنها تصغره بنحو ثلاثة أعوام، كانَ فهمي واقعاً تحت سيطرتها عن طيب خاطر ودأبَ على القَسَم باسمها: " بأختي، أنا قلتُ له هكذا.. بأختي، لم يكن قصدي كذلك الخ ". إذاك، كانَ دارين يُخاطبه في نفسه: " إيري بأختك! ".
للمُصادفة أيضاً، أنه اليوم كانَ نهاية عطلة الأسبوع. حالما ألتقى ميرو في الشقّة، دعاه هذا إلى الذهاب سويةً إلى الملهى. وكانَ الشابُ الوسيم قد عاد تواً إلى مسكنه، لكي يتهندم بسترةٍ مُناسبة ويتعطّر. ثم ألتفتَ إلى شريك الشقّة، مُتسائلاً في نبرةٍ مُتهكّمة: " وأنت، ألا ترغبُ بمرافقتنا أم أنّ عليك إستشارة شقيقتك أولاً؟ ". ما لبثا أن ودّعاه مع حلول العتمة، وركبا السيارة إلى مركز المدينة. بالطبع، كانَ ميرو هوَ مالكُ السيارة. لقد سبقَ وتحايلَ على شقيقه سامو، لإنتزاعها منه. إنها كانت نفس السيارة، التي أتت بهذا الشقيق الأصغر من ألمانيا، تهريباً، بعدما وصلَ بباسبورت مُزيّف من تركيا. في الملهى، ما عتمَ ميرو أن أبرزَ صورةَ إمرأةٍ بارعة الحُسن، تعتنقه من الخلف: " هذه كانت صديقتي التركيّة، عشتُ في شقّتها الفارهة في أسطنبول لمدة ثلاث سنوات. كانت تعملُ راقصة شرقية في كباريه، تأتي من هناك رأساً إلى البيت. وضعت بتصرّفي سيارةَ مرسيدس ويخت خاص، وكنتُ أصدرُ الأوامرَ لنصف دزينة من الخدم. لقد كانت تعبدني، كأنني إله ".
أنغامُ الفرقة الموسيقية، ما عتمَ أن دعت روّاد الملهى إلى الرقص. وسرعانَ ما تعلّقت بتلابيب الشاب المعبود، فتاةٌ صهباء كانت برفقة أخرى من الجنس الملوّن. في آخر الليل، لما دعاها ميرو لمرافقته إلى مسكنه، أعتذرت بالقول: " أنا وصديقتي مرتبطتان بعهدٍ أن نعودَ سويةً من الملهى، سواءً لوحدنا أو برفقة رجال ". لاحت عليه الحيرة، حينما أخبره دارين بدَوره أنّ ذكره لا ينتصب مع فتاة سوداء. قال لهذا الأخير: " إنهما سحاقيتان، وفي وسعنا مضاجعتهما معاً على فراش واحد ". حُلّت المشكلة أخيراً، لما وافقت الصهباء أن تتنازل لميرو عن صديقتها. في حجرة هذا الأخير بالشقّة، ركبَ دارين الفتاةَ على الأريكة. لما أرادَ أن يُثنّي، بنيل أستها هذه المرّة، فإنها دعته أن يفعلَ ذلك مع صديقتها. وهذا ما حصلَ. كانَ دارين ليندمَ، لو أنه فوّتَ على ذكره إختراق تلك الملوّنة الشبقة.
كما يُحوّل هذا الفصلُ الخريفيّ السماءَ الصافية إلى القتامة، بفعل سُحُبه، شاءت حادثةٌ مُعيّنة أن تثلمَ صداقة دارين مع الشاب الوسيم. في حقيقة الأمر، أنه فهمي من ورّطه في ذيول تلك الحادثة. هذا الأخير، مثلما علمنا، كانَ يتحاشى الجنسَ الآخر. بالأحرى، كان عنده رهابٌ من الجنس عموماً. لقد حظيَ بشيمة الشيخ العجوز، المُكتفي بالتحسّر إزاءَ مرأى جسدٍ فتيّ، جميل وناضج. هذا، مع أنّ غيره كانَ لينعمَ بحريمٍ سلطانيّ لو كانَ مُشاركاً ميرو في الشقّة.
ذات ليلة، كانَ ميرو في الملهى حينَ وقعَ بصره على وجهٍ جميل ومألوف نوعاً ما. كانت فتاةً فارعة الطول، رشيقة، تصبغ شَعرها الأشقر باللون الأسود. ظهرَ بالفعل أنها تعرفه أيضاً عن بُعد، كونهما من روّاد المكان العريقين. رقصا قليلاً، ومن ثم دعاها كالعادة لمرافقته إلى البيت. في أثناء الرقص، كانت قد سألته لو بمقدوره تأمين حفنة هيرويين كي تساعدها الليلة على التحليق في سماواتٍ لا تُرام. رداً على الدعوة، قالت له: " ولكنك لن تضاجعني إلا لو كانت البودرة في حقيبة يدي. إتفقنا؟ ". هزّ رأسَهُ مُوافقاً، مُغتاظاً لأن فتياتٍ أجمل منها يُسلمن أنفسهن إليه دونَ شروط. لكنه ثمة في حجرة النوم، على السرير، وجدها فتاةً مُختلفة عمن عرفهن. لم تكن شبقة وشهوانية، حَسْب، وإنما أيضاً تأتي بحركاتٍ مُثيرة مع كلماتٍ فاحشة. وبلغ بها التهتّك، أنه في الحمّام لما فرغَ من المضاجعة، لحقته كي تبول وهيَ واقفة كما يفعل الذكور. وكانت قد قالت له، أنها تعرّفت على الجنس وعُمرها تسعة أعوام بفضل مُساكن والدتها. قبيل المباشرة في الجولة الثانية، أصرّت أن تحصلَ على الهيرويين أولاً. نجحَ مرةً أخرى في حملها على تأجيل طلبها، لحين الفراغ من المُطارحة. أخيراً، نفد صبرها. إزاءَ غضبتها الكاسرة، أضطرَ للكذب عليها: " البودرة أخفيها لدى جاري، ثمة في الحجرة الأخرى ".
كانَ فهمي ما أنفكّ صاحٍ، عند وصول شريك الشقّة مع إحداهن. خيّل إليه، على الأثر، أنه يسمعُ أصوات مُجادلة، آتية من تلك الحجرة. إلا أنه لم يهتم للأمر، وبدأ يغفو رويداً. ثم حلمَ بأنه يُشارك ميرو في مواقعة الفتاة، وأنّ هذه تنزعج منه لسببٍ ما وتدفعه عن السرير. لما فتحَ عينيه، كانَ ضوءُ الحجرة ساطعاً. وكان ثمة فتاة طويلة القامة، تنظر إليه بثبات. فرك عينيه، ليتأكّد من أنه لا يواصل الحلم. وإذا بها تنضو عنها معطفها، لتتجرّد عارية تماماً. بدَورها بدأت بالفرك، ولكن في أكثر مكانٍ حسّاس في جسدها: " أيعجبك هذا الفَرْج؟ أليسَ رائعاً؟ ألا تريد الحصول عليه مُقابل حفنة قليلة من الهيرويين، الذي في عهدتك؟ "، قالت ذلك فيما كانت تُطلق الآهات والشهقات. الشابُ العجوز، أصيبَ بالرعب من هذا الإقتحام العاصف وغير المتوقّع، وصار يرتجف ـ كأوراق الأشجارخارجاً وهيَ في مهبّ الخريف.
دقائق على الأثر، وأدركت الفتاة أنها قد خُدِعَت. غادرت الشقّة، تُدمدم في سخطٍ وغيظ. بعد قليل، أرتفع صوتها من فوق التل الأخضر، المُقابل لشرفة الشقّة. كانت تصرخُ بالشتائم المُقذعة، مُشبّهةً الأجانب بأنهم مُخادعون وغدّارون ـ كالفطر السام. ما لبث ميرو أن ظهرَ وراءَ زجاج الشرفة، مُلوّحاً لها بأصبعه الوسطى. وإذا بالزجاج يتهشّم، وصاحبُ الإصبع البذيئة ينهارُ على أرضية الشرفة: ذلك كانَ، بفعل حجرٍ كبير، قذفته الفتاة الغاضبة.

5
" أخبرهم في التحقيق، أنّ شباناً عنصريين هم من كانوا وراءَ الحادث "، خاطبَ ميرو شريكَ الشقّة وكانَ محمولاً على نقالة الإسعاف. كانَ يُوصيه بتكرار ما أفاد به هوَ لعناصر البوليس، الذين وصلوا أولاً إلى المكان. كمألوف العادة، أتصل فهمي بشقيقته كي يستشيرها في الأمر. فشددت عليه برواية تفاصيل الواقعة بحذافيرها للبوليس، لكي لا يتسبب بمشاكل لنفسه. وكانت دورية أخرى قد أنطلقت سلفاً وراء الفتاة، بما أنّ بعضَ الجيران كانوا شهوداً أيضاً. سرعانَ ما لمحوها تسير بلا هدى على رصيف الشارع، فاصطحبوها معهم.
مع مرور الأيام، تعقّدت القضية. الفتاة أعترفت أنها مَن قذفت الحجرَ، لكنها إدّعت أنّ ميرو قامَ بمضاجعتها عنوةً وتحتَ التهديد. أطلق سراحُ هذا الأخير بشكلٍ مشروط، وكانَ قد سبقَ وخرجَ من المستشفى مع جرحٍ عميق فوق حاجبه تطلّبَ عدة غرز خياطة. ثم أستدعيَ بعد أيام إلى مركز البوليس، ليكتب تعهّداً بألا يتصل مع فهمي لأيّ سبب كانَ أو أن يقترب من مسكن شقيقته، أينَ أنتقلَ إليه عقبَ الحادثة. ذلك كان بتدبير شقيقة هذا الأخير، التي أبلغت أنهم تلقوا عبرَ الهاتف تهديداً بضرورة تغيير إفادة الحادثة. إنه سامو من أطلقَ التهديدَ، وما لبثَ أن فاهَ به في وجه فهمي لما صادفه فيما بعد في النادي: " إذا تسببت إفادتك بسجن أخي ومن ثمّ طرده من السويد، فإشهد عندئذٍ على روحك! ". تدخل عندئذٍ دارين، مُعنّفاً الرجلَ الأخرق، بعدما عاينَ حال صديقه المسكين، المشلول من الرعب.
إلى الأخير، تمّت تسوية القضية قبل وصولها إلى المحكمة. الفتاة، أشترطت بمقابل التنازل عن الدعوى أن تغدو خليلة ميرو. ربما سَحرها بوسامته وأناقته، اللتين لم تعاينهما جيداً في تلك الليلة المشئومة وهيَ ثملة ودمها مُتلهّف على المخدر. لكن على الأرجح، أنه وعدها بتأمين البودرة بانتظام عن طريق أصدقاء. مهما يكن الأمر، فإنها ستمسي شوكةً في ظهره بسبب غيرتها الشديدة. إذ ما عتمَ أن أنتقلَ إلى شقّتها الأنيقة، الكائنة في منطقة غرينبي. كانَ دخلها جيداً، هيَ من تتولى مسئولية أحد الأقسام في معمل بتروكيماويات. فيما أنّ خليلها كانَ عاطلاً، تغضّ مسئولة السوسيال النظرَ عن وضعه طالما يوافيها إلى مسكنها مرةً في الأسبوع على الأقل. وهذه كانت بداية المشاكل، لأنّ خليلته رفضت أن يبيتَ خارج شقّتها ولو لليلة واحدة مهما يكن السبب.
كون دارين أضحى تقريباً جاراً لميرو، فإنّ علاقتهما أستؤنفت من خلال زيارتٍ مُتبادلة وأيضاً بالذهاب معاً إلى الملهى في بعض الأحيان. كانَ قد تعرّفَ على خليلة صديقه، واسمها " ديانا "، والتي دُهشت حينَ علمت أنه رسّام. فإنّ مَن تسنّى لها معرفتهم من أصدقاء ميرو، كانوا من وسطٍ ناءٍ تماماً عن الثقافة. كذلك من ناحيته، حقّ له أن يُدهشَ وهوَ يرى مكتبتها العامرة بالمجلدات الأدبية والفنية. قبلاً، لم يُصدق معلومة خليلها بشأن وظيفتها. ثم توثقت صلته بها، حينما لبّى ذات يومٍ طلبها أن يرسمَ شيئاً على قطعة بيرو، أشترتها مؤخراً من محل أنتيكا. وقد أعجبت جداً بالرسم، وكان لطاووس وبالألوان المائية. وجود دارين، كانَ يُخفف إلى حدّ كبير من الإحتقان في علاقة الخليلين، المُلتبَسَة أساساً. في الملهى، كانت ديانا تحتضنه في أثناء الرقص، بينما ميرو يُراقب حلقة الروليت أو يتبادل الحديث مع إحداهن. قالت لدارين ذات مرةٍ ببنَ الجدّ والدَعابة، فيما تضمّه إلى وسطها في خلال الرقص: " لِمَ لا تأتي لتقيم معنا؟ "
" أنا لديّ شقّتي "
" أعلمُ ذلك، ولكنك تمضي لدينا الكثير من الوقت على أية حال "
" لعلني فهمتُ من كلامكِ، أنني أصبحتُ ضيفاً ثقيلاً؟ "
" آه، يا عزيزي! أحقاً لا تعلمُ كم أننا نسعدُ بوجودك معنا؟ "، قالتها بابتسامة مُشرقة وهيَ تقبّله في وجنته. ثم أستدركت، مُوضّحةً: " لقد أقترحتُ ذلك، بما أنك تعيشُ وحيداً ". في تلك الليلة، عادوا في ساعة متأخرة، ليواصلوا الشربَ والدردشة وسماع الموسيقى. وكانت ديانا قد خلعت ملابسَ الخروج، لتتخففَ بثوب نوم رهيفٍ. قالت لصديقها، وهيَ تتناولُ إصبعَ ورق محشي العنب من طبقٍ على المائدة: " أتعجَبُ من إبتداعكم للمازة، مع أنّ دينكم يُحرّم الخمرَ ". أوضحَ لها، أنّ المازة أساساً من إبداع نصارى لبنان. وعلّق دارين، بالقول: " كما أنّ بعضَ الطوائف، المحسوبة على الإسلام، تتجاهلُ تحريمَ الخمر ". ثم ما لبثَ أن أخذ بالتثاؤب، وأعرب عن رغبته بالذهاب إلى البيت. بسبب إصرارهما أن ينامَ عندهما هذه الليلة، هجعَ الضيف على أريكةٍ في الصالون. على الأثر، أنبعثَ في العتمة صدى همهمة سرعانَ ما تحولت إلى شهقات وأنّات. كان دارين يهوّمُ تقريباً، لما فتحَ بابُ حجرة النوم عن جسد ديانا العاري وهيَ في طريقها إلى الحمّام.
بمضيّ الأيام، وبناء على تجربةٍ سابقة، هجسَ دارين بأنه ليسَ أكثرَ من أداةٍ بيد ميرو؛ أداة، يتخلّص بوساطتها من خليلته، المُحيلة حرّيته إلى ذكرى. فإنه سمعَ منه أكثر من مرّة، أقوالاً مُبيّتة، نظير: " أشكّ بأن ديانا تعشقك. لو أنك أيضاً معجبٌ بها، فإنني سأتنازلُ عنها بمنتهى السرور ". وكانَ دارين قد قلل من زيارتهما، تمهيداً للعزف عن ذلك نهائياً، وإذا بظرفٍ طارئ يخدمه: ميرو، وكانَ مُثار الأعصاب ذاتَ صباح بسبب غيرة خليلته، قامَ بضربها بوحشية ما نجمَ عن ذلك رضوضٌ في أنحاء جسدها. المُعتدي، وكان يهمّ بمغادرة العمارة، بوغتَ بحضور سيارة البوليس. عادَ أدراجه بسرعة، ليرتقي الدرجَ وصولاً إلى الدور الثالث. فوقَ شقّة ديانا، كانَ ثمة جارٌ فلسطينيّ من لبنان على معرفةٍ به. شاءَ أن يلتجئ إلى تلك الشقّة، ريثما يُغادر البوليسُ المكانَ. لكنّ إمرأةَ الجار، إمتنعت عن تلبية طلبه، مُتحججة بأنها لوحدها. بالنتيجة، أنه وقعَ بقبضة البوليس. أمضى في ضيافتهم بضعة أيام، ثم خرجَ بشكلٍ مؤقت بإنتظار إنتهاء التحقيق ومن ثمّ المحاكمة.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. طنجة المغربية تحتضن اليوم العالمي لموسيقى الجاز


.. فرح يوسف مهرجان الإسكندرية للفيلم القصير خرج بشكل عالمى وقدم




.. أول حكم ضد ترمب بقضية الممثلة الإباحية بالمحكمة الجنائية في


.. الممثل الباكستاني إحسان خان يدعم فلسطين بفعالية للأزياء




.. كلمة أخيرة - سامي مغاوري يروي ذكرياته وبداياته الفنية | اللق