الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


منبع الحب - وجه الوحي (3)

حسين سليمان
كاتب وناقد سوري مقيم في الولايات المتحدة الامريكية

2023 / 8 / 21
الادب والفن


في اسطورة جلجامش نمر على شذرات من وقوف البطل أمام رغبات الإلهة "إنانا" الجسدية، غير المتطورة نفسيا، فيرفضها جلجامش وعند ذاك تغضب إنانا فترسل غضبها على الأرض كي يوقع المنطقة كلها بمصاب الجفاف لسبع سنين متتالية – وشبيه بالقصة هذه أو على الرتم التشابهي ما نجده في مكان آخر، رواية القرآن عن يوسف في أرض فرعون "سبع عجاف" ، يوسف أيضا مع امرأة العزيز التي رفضها... نرى بتأمل الأساطير ومراجعتها في كل بقاع العالم، كيف تتصل الأديان والأساطير مع بعضها البعض؛ فنجد في مكان ما رواية عن مسيح قديم مشابه للمسيح ابن مريم، ورواية عن "حسين قديم" مشابه للحسين بن علي... وهذا لا يدل إلا على عمارة نفسية واحدة داخل المخلوقات وهو ما ينفي منطقيا الحرية ويعزز معه مبدأ الجبرية كي يُرسم المستقبل الإنساني على شأن قبلي متنبأ به؛ والبرهان على ذلك أن الأساطير التي تتشابه هنا وهناك عبر الأزمنة تتشابه معها بالتقابل دينامية القدر الفردي، فأقدارنا ستكون مكتوبة علينا وهي لسبب أو لآخر نتاج أعماق واحدة فيها القص المتشابه والأساطير المتشابهة والأديان المتشابهة، هذه النفس غير مؤهلة لتمثل الحرية ولا لتخريج الإبداع لأنها موضوعة على مسبق التشابه والتطابق، ها نحن إذن ندور داخل دائرة نتوهم فيها الحرية ونتوهم فيها الخلاص!

إلا أننا نحن الذين نطالب بالحرية نؤمن أن الحياة هي تجربة خلق، نبحث عن باب لفتحه وإن كان ثمة باب سيكون مكان ما لخلق جديد، وهذا ما يتعارض مع ما جاء قبل سطور عن الجبرية وامتناع الحرية. يخلق الإنسان نفسه ويساهم في نشأتها ونموها، وبذلك إذا قالت الأديان إن الإنسان جاء على صورة الله فإن المعنى قد يلمح إلى أنه جاء ليخلق نفسه وبيئته، لن يكتب الله علينا شيئا إنما نحن الذين نكتبه ونحققه وإن كان الأمر كذلك كانت فوق الجميع - من أجل التزلف الى الأديان - إرادة الله التي تحكم المسيرة كلها.

ما هو الحب إذن، إن كنا نشير بغموض الى مكان منبعه؟

معظم الناس تعرّض لاختبار الحب، سهاد وهيمان وأحلام يقظة، كتب لهم سبر تلك العوالم الخلاقة إذ يتجولون فيها يتخلصون من رزء العالم الواقعي المليء بالخطايا والمآسي، يرتفعون الى حيث الكمال وعلائقه الضمنية الساحرة التي تستجيب للرغبات من دون ضنى ولا مقابل، وإذ يمتلكون الحب يمتلكون الكينونة ويصبح الإنسان شبيها بالآلهة، يحس المحب بالمكان الميتافيزيقي الذي انفصل عنه حيث الإلهام والوحي، الفكر في مرحلته الدنيا، والمشاعر في توقها الكلي الى افتراض أن الحب هو وراء الولادة، ولادة العالم كله ومكانه ليس على الأرض بل في العلى، في النفس الإنسانية السامية، قبس كامن في الكائنات وهو ليس على تضاد مع البغض أو الكره. الكره ليس ضد الحب لأن الكره إن اقترب من الحب تحول الى حب لكن الحب إن اقترب من الكره فلن يتحول الى كره.

الحب هو صورة الخالق المفترض في عالم الخلق.

كان المتصوفة وأصحاب المقامات العرفانية، قد أدركوا هذا القول، فلم يؤلهوا المسيح أو يؤلهوا محمدا لكن ألهوا أنفسهم، وتأليههم لأنفسهم ليس استبدال خالق بمخلوق، إن رأوا كذلك فسرعان ما يتنبهوا الى خطل الرؤيا. يستشفون من أمكنتهم البعيدة في ثنايا العالم خطرات غير أرضية تخلط الحقيقة وتمزجها بالمتضادات، وهي ليست أضدادا، ذلك لأن الصورة الواسعة التي هي في الأساس غير أرضية إذا حاول أن يصفها العقل وقع في شرك اللامعقول المحير، فيستسلم عائدا الى طبيعته الأولى المباشرة الوثنية بالأصل – العلمانية بالتفرع حيث المنطق الإقليدي الصارم – هؤلاء المتصوفون العارفون كانوا قد خبروا العالم خارج حدوده، ففتحوا أبوابهم للإلهام والإيحاء - كل معضلة تحمل حلها في داخلها، لها أكثر من وجه ولكل وجه بابه وكلما سما المرء كان ثمة باب أكبر.

ويلزم القول إن الحب هو سر الوجود، هو الوحي الخلاق، المفتاح السحري الذي يملكه كل منا لكن من دون انتباه، وربما بسبب عدم الانتباه هذا، تحول شراع القدر مع طوال السنين يمخر العباب في الوجهة غير المقصودة، إلى مكان فيه الأنا المتعالية أن تقول في كل مرة أنا الله ثم يمنعها الخجل والاستدلال. يستشرف من طرف آخر، ذلك الشراع، الحدود فتتضح فيها إصابات الزمانِ المتلاحقة على البشري الذي فينا إذ لا يملك فيها إلا الاستسلام والرضوخ الى قوة جبارة تولد منها الأديان ويأتي النبيون في غضونها يسترشدون بالاصلاح، والقصد الوحيد هو العودة الى المكان الذي أشاحت الوجوه عنه ألا هو الحب.
لن يحمل من ذلك الكلام نية التقهقر والتراجع الى حيث بدأ الإنسان، إنما يتحتم الدوران السامي، العود البدئي بصيغته الأكثر عمومية، يعود الى نقطة البدء محملا بكنوز إضافية من رحلة الكشف الطويلة. عند ذلك يكون المسيح الذي لن يعود قد عاد بمعناه الرمزي ويكون الوجه "المهدي" وقد اتضح إن الرحلة شارفت على النهاية والترجل اليوم مطلوب للوقوف امام السهوب الواسعة للوعي، استشراف تلك الجنان التي تكلمت عنها الأديان. هذا من طرف آخر لن تكون فيه النهاية، ولا الغلقة التامة، فالمصير هو الخطو اللانهائي ما كتب للمادة والزمان من دوام وتشاكل.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. وفاة والدة الفنان كريم عبد العزيز وتشييع الجنازة الخميس


.. مغني الراب الأمريكي ماكليمور يساند غزة بأغنية -قاعة هند-




.. مونيا بن فغول: لماذا تراجعت الممثلة الجزائرية عن دفاعها عن ت


.. عاجل.. وفاة والدة الفنان كريم عبد العزيز وتشييع الجنازة غداً




.. سكرين شوت | إنتاج العربية| الذكاء الاصطناعي يهدد التراث المو