الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


محنة الكتابة/ لوعتها وروعتها

الطايع الهراغي

2023 / 8 / 21
الادب والفن


"الكتاب هو المكان الوحيد الذي يلتقي فيه غريبان بحميميّة كاملة".
(مــيّ زيــادة)
"من يكتب يقرأ مرّتين"
( مثل إيطاليّ)
"لا شيء أسوأ من خيانة القلم.فالرّصاص الغادر قد يقتل أفرادا، بينما القلم الخائن قد يقتل أمما"
(تشي غيفارا)

الكتابة: ما تثبّته الذّاكرة الملتاعة ذخرا ليوم الحساب.مهمّتها إعداد جميل المآتم لأتفه العروش.
الكلمة: ذلك الجسر الذي يكابد لكي لا يتهاوى لمّا تتهاوى بقيّة الجسور.
الحرف: ليس حرفة ولا انحرافا.قدره أن يفلت لمّا يعمّ الانفلات ويصيب الترهّل الكلمة.
إذا كنت ممّن تستهويه الرّغبة الجامحة في مغالبة شطحات الحياة، الكلبة بنت الكلب هذه ،بإغراءاتها المريعة وبغريب فعالها وقدرتها على التّلوّن البديع، بأعاجيبها ومآسيها ومفاجآتها،بما فيها من نجاحات ينغّصها سطو الخيبات،بصخبها الدّائم وصمتها المفاجئ. إذا كنت ممّن يغريه الوهم الجميل: التّخلّص نهائيّا من شبح الغيب النّهائيّ،فقدرك أن تجرّب لعبة الاختلاء بعالم الكلمة،ولا خيار لك إلاّ أن تجترحك محنة الكتابة، فتستعذب وهج الكلمة وسخطها فقط لكي لا تموت قبل أن تموت.
إذا استعصى عليك الأمر لسبب ما قد يبدو للمغرمين بتفكيك ألغام التّمائم وتفهّم دلالات التّعاويذ مجرّد هرطقة، وإذا تأكّدت أنّ الموت- هذا الضّيف الثّقيل- لا بدّ أن يفاجئك ساعة تعتقد أنّك ائتمنته فليس لك إلاّ أن تؤجّل موعد الرّحيل قدر ما تستطيع، على أن يكون ذلك بقرار استباقيّ.
يوم يكفّ المرء عن العراك مع الكتابة وينزاح عن عالمها والحال أنّه يتعشّقها يكون من الاجدر به أن يرحل وبلا ضجيج أصلا. الكتابة جملة من الفخاخ،بعضها بفعل فاعل وبعضها تمليه نواميس الكتابة ذاتها لتتحصّن من غدر تجّار الكلمة. سيل من الأسئلة الدّاميّة.حرقة الأسئلة الجارحة ووهجها، بهتة الإجابات الملتاعة وبريقها. أسئلتها قائمة دوما، مرهقة أبدا،وأجوبتها -مادامت تمجّ الجاهز- تنأى بنفسها عن أن تكون أجوبة لتظلّ على مرّ الأيّام مؤجّلة.
إمّا أن تكون فانتازيا أو لا تكون. هي التّمرّد على جبروت المعتاد،وهي التّنطّع على ركاكة المألوف .
الكتابة فرصة شاردة منفلتة، ولحظة تملّص أكثر مروقا. عالمها عالم المفاجِئ وإلاّ ما كانت. لذلك لا تصدمها المفاجآت. لمّا تورّط الإنسان في اكتشاف آفة الكتابة اهتدى إلى آلة تسجيل المآسي والخيبات وسحل الحقيقة إلى أن صار لزاما عليه أن يجهش باللّغة ويتقيّأ اللّغو ليخترق بالكلمة عالم القهر وتكميم الأفواه طمعا في عالم الشّدو والغناء والأفراح.
كيف تعيد ترتيب الفوضى المنتظمة في رحلة تأبى أن تبدأ،لأنّ البداية ما زالت تكابد لكي ترتسم، وبدايات الدّرب تأبى أن تتوضّح لكي تتساءل متى تكون البداية وهل لها أن تنتهي؟؟ وكيف؟؟
كيف تُبقي على رونق نشازها لتظلّ بسحرها الأخّاذ بمنأى عن كلّ رتابة؟؟.
الكتابة تمرّد الوعي على الموجود وفناء العناد في المنشود.ما تعجز عنه النّظرة يراد أن تحقّقه الكلمة.
إبحار في مجاهل النّسيان.كفر بالمألوف وتطيّر من الطّرق المعبّدة. تنفر ممّن لم يكن منها وما كان يمكن أن يكون،وترتمي في أحضان من يتنطّع على غربة هي في الأصل غربته ليتحرّر منها،ومن غربتها يعتقها.تطير بك وتحلّق حيث تغيب السّلطة وعهر عسسها ويندحر فجور السّلطان وتتهاوى فتاوى وعّاظه. تأسرك لتنتشلك فيكون عشقها داء ما له دواء وليس منه فكاك.
الكتابة ثورة الظنّ لمّا تسكنه بدعة أن يكون قاطعا على اليقين لمّا يصرّ على أن يكون جازما إلى أن تُزال الحجب بين ما هو شكّ يقينيّ حاسم في قمّة وضوحه وما هو يقين متردّد حائر لحظة تجلّيه.
الكتابة (والكلمة )، جليسك وأنيسك ساعة تستعذب أن تسرق لحظة من مخالب "أولاد الحلال" لتختلي بنفسك.تحميك بأن تغازل من ارتضى لنفسه الهوان، فما كان منه إلاّ أن يكون مخبرا تملي عليه مهمّته أن يخاتل من ينافسه نفس المهنة،وكلّ أمله أن ينجح في مراوغته فيستفرد بلذّة التّلصّص على ما انفلت من أشجان. تغازله لتحول دون نحره للفكرة واغتياله للكلمة. تبحر به في عالم التّلميح وتوصد في وجهه كلّ مسالك التّصريح.تمطره بوابل من معسول الكلام. تخوض وإيّاه أعسر سجال وأصعب امتحان: إغواؤه بأنّ الدّاء كلّ الدّاء في تهاطل المدح لا في انسياب الهجاء.
الكتابة صنو ذاتها ملتحمة بذاتها.أمتعُ معاركها تلك التي تخوضها بضراوة لتدرك كيف تكون مساويّة لذاتها. رهانها(مادام لا بدّ له من رهان) أن لا ينالها من لا يعرف كيف يقبض عليها وهي ملتبسة بلحظة شرودها وتجلّيها.تجفل ممّن يريد أسرها.تبحر بك في رحلة طويلة مسافاتها،وعرة مسالكها، متشعّبة ثناياها.سلاحها العناد وسبيلها التّنطّع على المعتاد.
جماليّة الكتابة في أن تكون على غاية من الوقاحة وبإدراك تامّ وإلاّ ما استطاعت أن تجابه طوابير ممّن التزموا فألزموا أنفسهم بأقذر مهمّة:ترذيل الكتابة وتحويلها إلى كذبة سمجة.تبرير السّيّء بالتّباهي بتجنّب الأسوإ تجنّبا لمغامرة جزموا أنّ أفقها مجهول. الكتابة تداري دمعة الغريب إذا صادف أن اشتدّ به الوجد فبكى. أنّة اليتيم ساعة يسكنه الإحساس باليتم فيراه ضربا من الكفر. آهة العاشق وقد غالبه عشقه فغلبه. تغريدة المحبّ لمن يحبّ، وفقط لمن يحبّ. صلاة الولهان. ابتهالات من طلّق تعاليم السّماء لينغمس في نعيم جنّة الأرض.
الكتابة رقص بالكلمات في رحلة بحث عمّا يجب أن يبقى .تعلي من عاشها محنة وتقزّم من أهانها فجعل منها مهنة.تلقّنك كيف تحيا،كيف تستلّ من مستنقع العتمة ابتسامة تكاد بحزنها تنطق، كيف تفنى في الحياة وتلبسها فلا تموت إلاّ كما يموت الطّيّبون تماما. ويكون موتك عرسا.
ابتسامة السّجين وهو يستقبل زوّاره في الخيال. أهازيج الأسرى -إلاّ مِن تحرّرهم - وهم يؤثّثون احتفاليّة عيد من الأعياد الوطنيّة وقد شيّدوا من بقايا قمصانهم رايات.
هل رأيتم البلادة وقد استحالت فنّا؟؟. المدح وقد التبس بالهجاء؟؟. الذاكرة وهي تقاوم الصّدأ لتظلّ دوما متصالحة مع ذاتها؟؟.التّاريخ عندما يصبح الشّاهد الأوحد عل نبل المقصد.؟؟ هل جرّبت أن تنادم الكلمة وهي تحدّق فيك وتحدّق فيها وإليك تشتاق؟؟هل أبرمت معها عهدا أن لا تسالم؟
كيف يكون عالم المأساة إيغالا في عوالم الملهاة ؟؟.كيف تكون الخيبة لك دليلا والعناد لغرورك نصيرا؟؟ كلّما كنت لها وفيّا تقسو عليك وتظلّ تخجل من أن تجفل منك. تظلّ الدّهر تعيد على مسامعك بدون كلل: يوما ما لن تكون إلاّ ذكرى، وفقط في عقول البعض ممّن أحببت. فلا تكن ذكرى سيّئة. خلاصك في أن ترتعب من التّاريخ وأن تتمثّل دوما ضريبة انتقامه.إذا تحتّم - كما يحصل في أحيان كثيرة- أن تبقى وحيدا ما لم يُفاجَأ القلب بما يليق بمحنته وصبره فلا تتوان.كن مع نفسك صادقا.قد يسخر منك الأوغاد.ولكن بالمقابل ستحنّ إليك تضاريس المدن.ولن تخذلك الذاكرة في استحضار الأسماء:من ارتدّ، ومن خان .من أوغل في الاعتداء الفاحش على المفاهيم لتفقد بريقها ووجاهتها فيسلبها إشعاعها وقداستها. من كان وضعه كحال الأيتام في مآدب اللّئام وما انكسر له خاطر.
لا تعتذر لأحد عمّا ارتكبته من أخطاء بكامل الوعي وفي أصفى لحظات التّجلّي،وقد طاوعتك اللّغة في عنادك،وكانت لك نعم النّصير لتصنع كتابة بها تكذّب الواقع ليبقى الحلم دوما على صواب.
كنت تواطأت مع الحلم فأغراك بأن تؤجّل موتك مرارا طوعا واختيارا إلى أن تبزغ شمس يوم مشرق يشّجع على الكتابة العارية لتخطّ الوصيّة التي أرهقتك فلم تجد مفرّا من أن تقسم أن لا ترحل قبل صياغتها. وصيّتك دقيقة عاريّة كما الحقيقة: ما كنتُ يوما معنيّا بمحاصيل حقول الأوهام.
من حقك أن تبذل كلّ الجهد لتختار موسم رحيلك وأن تنتقي التّوقيت بدقّة متناهية،وأن لا تكفّ عن الهذيان وأنت تودّع من استقرّ رأيك على أنّه أهل للتّوديع.من حقك على نفسك وعلى القلّة ممّن أحبّوك أن تموت كما تريد،أن تنتقي لون حزنك وإشراق ابتسامتك وأن تُعدّ قبل أشهر قائمة المعزّين حتّى لا يتسلّل إلى جنازتك من يفسد بهاء المشهد وشاعريّته فتريح أصدقاءك من تبعات كلّ نسيان أو تناس. من واجبك أن تدبّج وصيّة ستبدو للجميع إيغالا في البحث عن النّشاز:أن تجنّب الأصدقاء عناء الفرز بين من سيتباكى عليك وبحرقة صادقة، ومن لا يملك كلّ أسباب الحزن وموجباته ولكنّه مصرّ على الوفاء لعهد كان باح به مرّة في غفلة من نكد الزّمن،أن يودّع الأحبّة ويختنق بكلّ حزن الدّنيا وأبدا لا يستسلم ولا يذرف دمعة واحدة. من حقّك أن توصي أصدقاءك بأن يقيموا لك جنازة معتبرة تتقدّمها وجوبا الصّبايا ممّن لا يليق بهنّ البكاء، وبعض النّسوة ممّن خبرن الحياة فتبيّنت لهنّ الفورق بين البكاء والتّباكي ويتوسّطها الغرباء ممّن صادفوك يوما في درب موحش فاحتميت بهم وبك احتموا،ويتذيّلها جمهرة من الرّجال.
أنا لا أشاء وأنت لا تشائين. اتّفقنا.عندما تحاصرك الأحزان. تحمل عنك الكلمة عبء اللّحظة.
ما تقوله الكلمة يهذي به النصّ: إن تكن سندي أكن سندك .ينام الكلام بين الأحداق ليحرس الحلم من كلّ انفلات.لمّا تداهمك إغفاءة ما لك بها رغبة وفي لحظة ليست هي اللّحظة، ولم تجد الى مراوغتها بدّا تنتصب الكلمة حارسا أمينا تبدّد الظّلمة وتزيل عنك كلّ عتمة.
رحلة في وعر الثّنايا.عندما ينقطع عنك المدد تكون لك عزّ السّند. لمّا يطول بك الطّريق ويتشعّب السّبيل ويعزّ الدّليل تمطرك بوابل من الحكايا بها تؤثث ما ستستلّه من عاتيات الأيّام ممّا تبقّى في رحلة عمرك. ما معنى أن يرفل الحزن في أبهى حلل الجمال ؟؟ أن تكون الخيبة انتزاعا لبارقة أمل فارقة؟؟ أن يكبر الحلم ويتعاظم علّه يصير وهما أمامه يتصاغر ما سواه من الأوهام وينزاح؟؟ سحر الأبعاد لمّا تختلف وتأتلف في ذات اللّحظة غير عابئة بقوانين الطّبيعة؟؟الغريب ساعة يلتقي صدفة بغريب في مكان غريب في أصدق مشهد حميميّ؟؟. تلك هي روعة الكتابة.
ما يرتّله الشّهيد بكثير من الفرح الحزين والإدراك المفرط ، مادام يسكنه يقين أنّه سيحتاج من يتطوّع ليدلي بشهادة تجزم أنّه فعلا مات شهيدا،ما يرتّله من أنين صاخب جميل بهالة من القداسة لحظة قبل أن تفارق الرّوح الجسد:
كنّا على عجل وحمانا الحبّ من استعجال الفرح. ذلك هو نشيد الكلمة.
ما يتركه المسافر من وصيّة ساعة يتحتّم الرّحيل ويصبح هو الحقيقة.ما يخطّه من أشجان على مداخل المدينة وهو يرحل عنها إليها. يلعنها سبعا ليهيم بها عشقا. ذلك هو وهج الكتابة.
سلام على من صمد.سلام على من توهّم القبيلة دولة عظمى.وأقسم أنّ الكرسيّ أفق للرّقيّ. تبادل وإيّاه الغزل. لمّا اعتلى العرش انتشى فاستبدّ.
سلام إلى امرأة تتقدّم النّعش وهي تحمل كلّ هموم الدّنيا .تملك كلّ أسباب البكاء وتعرف أنّ عليها أن تحبس دمعا على الخدّين قد ينساب
. سلام سلام ، هي ساعة للحضور صادقة كصدمة الحقيقة.وساعات للغياب هي البهتة والوجوم.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. في ذكرى رحيله.. أهم أعمال الفنان الراحل وائل نور رحمة الله ع


.. كل الزوايا - الفنان يحيى الفخراني يقترح تدريس القانون كمادة




.. فلاشلايت... ما الفرق بين المسرح والسينما والستاند أب؟


.. -بيروت اند بيوند- : مشروع تجاوز حدود لبنان في دعم الموسيقى ا




.. صباح العربية | الفنان السعودي سعود أحمد يكشف سر حبه للراحل ط