الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


محكمة من طراز رفيع

عادل حبه

2006 / 11 / 8
دراسات وابحاث قانونية


ستدخل المحكمة الجنائية العراقية العليا، التي تحاكم جبابرة العراق، في التاريخ بكونها اول محكمة في العالم العربي تحاكم رئيس دولة سابق بإتهامات خطيرة تتعلق بجرائم الحرب وإبادة الجنس البشري. وسيكون لهذه المحكمة تبعاً لذلك آثاراً عميقة ليس في العراق وحده، الذي كان ضحية هؤلاء الجبابرة، بل ايضاً الدول الاقليمية والعربية على حد سواء. كما ان هذه المحكمة المثيرة للجدل ستمثل خطوة على الطريق لكنس ذلك الغبار المتراكم في عقول الحكام والمحكومين على حد سواء. فالحكام الجبابرة يعتقدون انهم بمنأى الى الابد عن مسائلة الرأي العام محلياً او دولياً عن ما يقترفوه بحق الانسانية، وما ينهبوه من عرق الشعب. كما ان عدداً لا يستهان به حتى من ضحايا هذه الانتهاكات، بل وحتى وسط غير قليل من المثقفين يعتبرون ان ظاهرة التجبر والطغيان هو قدر يرتضوه ويخنعون له، بل وحتى ينظرّون ويسببون لهذه الظاهرة الشاذة المدمرة التي تستهين بحياة البشر وعقولهم، اضافة الى تأثرهم بها واحيائها كما يجري الآن عند بعض الضحايا في العراق.
ومن اللافت للنظر ان اجهزة الاعلام العربية وحتى احزاب سياسية وقادة وحتى شارع عربي لم تهزه تلك المظالم البشعة التي ارتكبها حاكم العراق السابق اثناء تسلطه، بقدر ما هزته وقوف هذا الحاكم في قفص الاتهام ليستمع الى ضحاياه وشهود ضحاياه وقصصهم الغريبة المرعبة التي يعجز العقل عن استيعابها. ان ما يثير الأسى لدى المواطن العراقي هو مساعي كثرة من اجهزة الاعلام واحزاب سياسية عربية وحتى رجال قانون، لا يُعرف كيف حصلوا على شهاداتهم الحقوقية، بل وحتى وزراء عدل في دول استبدادية، لتشويه المحكمة وسير اعمالها الى حد التشكيك بصحة الاحداث التي اودت بحياة مئات الالاف من العراقيين، ليس في كردستان وبغداد والمحافظات الجنوبية بل وفي كل العراق. لقد تعرض للبطش والقتل كل العراقيين سواء اكانوا من الانبار او النجف ومن كردستان او تكريت وحتى العوجة، بل وحتى من اقرباء الديكتاتور نفسه. ان البعض من ضحايا الطاغية يتظاهر الآن في بضع مدن عراقية ويتناسى حتى كيف استبيح دم ابناء هذه المناطق من امثال عبد الخالق السامرائي او محمد محجوب والمشهداني وحردان التكريتي وهزاع التكريتي ومظلوم الدليمي والمئات غيرهم من قادة الجيش العراقي، وحتى المئات من كوادر حزب البعث من الذين لا تذكر اسمائهم. ولم يسلم من الغدر حتى صهر رئيس النظام وابيه وعائلته وامام الملأ وبالطريقة الوحشية التي نفذها ابن "الرئيس"، بدون اية محاكمة لهم او ان يعرفوا بالتهم الموجهة اليهم او يتسنى لهم استدعاء النعيمي ورمزي كلارك للدفاع عنهم، على غرار ما تقوم به المحكمة الجنائية العراقية العليا في العراق حالياً.
لقد كان كل هم اطراف معينة في الدول المجاورة وحتى بعض الدول الاجنبية هو التشكيك بالمحكمة بكونها تجري في ظل وجود قوات اجنبية على ارض بلادنا. وكأن محكمة نوربرغ التي عقدت لمحاكمة اقطاب النازية في المانيا في عام 1945 قد تمت من قبل محكمة ألمانية وعلى ارض ألمانية غير محتلة من قبل القوات الامريكية والبريطانية والسوفييتية والفرنسية. ان محكمة نوربرغ كما يعلم القاصي والداني قد تمت من قبل محكمة عسكرية يترأسها ضباط من كل دول التحالف المعادي للفاشية التي احتلت المانيا. كما انها لا تضم اي حاكم ألماني خلافاً للمحكمة الجنائية العراقية العليا العراقية الخالصة. ونفس الامر ينطبق على اقطاب الحكم العسكري الياباني الذين تمت محاكمتهم من قبل محكمة عسكرية امريكية صرفة في عام 1945، واصدرت احكاماً بالاعدام. ويعترف الرأي العام العالمي برمته ومن ضمنه الرأي العام في ألمانيا واليابان بنتائج هذه المحاكمات. اذن يمكن اجراء محاكمة عادلة في ظل وجود قوات اجنبية في اي بلد، بل وهناك سابقة في ذلك ومقرة دولياً.
ان المعارضة والتشكيك بهذه المحاكمة نابعة من خوف ان يتسلل "بريقها" الى الدول الاقليمية التي يمارس قادتها واجهزة القمع فيها نفس الاساليب ضد شعوبها، وكمسعى لتفادي المصير الذي آل اليه "رئيسنا السابق". فالتذويب بالاسيد والاغتيالات السياسية والنهب واخذ كوبونات النفط من صدام وزج كل من يبدي ملحوظة في السجون والتصفيات الجسدية للسياسيين الذين لا يؤمنون بـ "الحزب القائد" ولا بـ" القائد التاريخي الضرورة"، اضافة الىاثارة الحروب الداخلية والتدخل والوصاية على البلدان الاخرى، هي ممارسات يشترك فيها الكثير من جبابرة المنطقة وعالمنا العربي. ولهذا السبب يتعالى صراخ البعض ليس كمسعى لاحقاق "العدالة المخدوشة" في المحاكمة العراقية، بل للدفاع عن النفس ضد احتمال سريان مفعول هذه المحكمة، واحتمال تكرارها في بلدانهم. والا كيف يمكن ان نفهم هذا الركض من قبل محامين عرب ووزير عدل عربي سابق الى بغداد كي ينبروا للدفاع عن صدام، الغارق حتى نافوخه في الجرائم، في حين تجري الكوارث كل يوم في بلدان عربية اخرى وبدون محاكمات ولا يرتفع اي صوت من "ارباب العدالة والحقوقيين العرب". لقد بلغ الامر في عالمنا العربي الى درجة من المأساة بحيث تحولت اجتماعات وزراء العدل العرب واجتماعات اتحاد الحقوقيين العرب الى ابواق تعزف لمن ينتهك القوانين والحقوق، ومنابر لا هم لها سوى ارسال رسائل التهليل والتبجيل للحكام الذين يجب ان يجلسوا الى جانب صدام بسبب ممارساتهم المشينة.
والمضحك في المحاكمة العراقية انه يجري الاستعانة بشخصية مثيرة للجدل لينظم الى جوقة هيئة الدفاع، وهو رمزي كلارك، رئيس الادعاء العام الامريكي السابق الذي لا يعرف ما مقدار ما قدمته له عائلة صدام من اموال وعطايا نهبت من اموال العراقيين ليقدم دفاعاته الصلفة، والتي اختتمها بمطالعته الاخيرة التي وصفت المحكمة العراقية بـ"المسخرة"، مما استحق ان يتلقى جواباً مفعماُ من قبل رئيس المحكمة السيد الجليل القاضي رؤوف رشيد عبد الرحمن، والامر بالطرد من قاعة المحكمة مع كل اضباراته. وبالمناسبة فأن هذا "الكلارك" لا يختص الا بالدفاع عن الجبابرة في العالم. فقد شارك في فريق الدفاع عن سلوبودان ميلوسوفيتش "الجبار" اليوغسلافي السابق. كما ذهب الى غرينادا لتقديم المشورة لقاتل رئيس الوزراء موريس بيشوب، وهو برنارد كورد، قبل ان يلتحق بفريق الدفاع عن صدام حسين وزمرته في العراق. لقد شغل كلارك منصب النائب العام الامريكي رقم 66 في عهد الرئيس ليندون جونسون. وقبل ذاك لم يحرك ساكناً لاستكمال التحقيق في قضية اغتيال جون كندي الرئيس الامريكي المغدور عندما كان نائباً للمدعي العام الامريكي. والسبب يعود الى تلك العلاقة الوثيقة التي كانت تربطه بـ "ادغار هوفر"، مدير اف. بي. اي. السابق، والذي تدار حوله الشكوك اصلاً بتدبير اغتيال الرئيس كندي، وتدبير مسلسل الاغتيالات اللاحقة لكل ذوي العلاقة للتغطية على الفاعل الحقيقي في عملية اغتيال كندي. لقد وصف رمزي كلارك ادغار هوفر بأنه شخص "يتمتع بكل الخصال الانسانية القوية، ولم يكن شريراً بكل المقاييس"، خلافاً للاجماع على شرّانية هذا "الشرطي" من قبل الرأي العام الامريكي. ان كلارك هو الذي صرح قبل فترة انه:"يعتبر كل من صدام حسين وسلوبودان ميلوسوفيتش قادة عسكريين كانا لديهم الشجاعة الكافية لمواجهة الدول الاكثر قوة". ولم يأت هذا التاريخ الحافل لكلارك من هباء، فهو ابن المدعي العام الامريكي السابق توم كلارك الذي ادين بسبب علاقته بزعيم المافيا الامريكي الشهير كارلوس مارسيللو. وقتها انتاب القلق الرأي العام الامريكي من ان يؤدي تعيين توم كلارك في هذا المنصب الى انتشار الجريمة المنظمة في البلاد. كما اتضح ان كلارك الاب قد استلم رشوة كبيرة لاطلاق سراح زعماء المافيا من سجن شيكاغو. واعتبر ترومان الرئيس الامريكي السابق في مذكراته"ان تعيين توم كلارك اكبر خطأ ارتكبه في حياته". كما ساهم كلارك الاب في الحملة المكارثية المشينة المعادية للديمقراطية بحجة مكافحة الشيوعية والنشاط الهدام في بداية الحرب الباردة. اذن الابن رمزي على سنة الاب توم كلارك.
الى هذا القدر ونقف مع القارئ عند المحامي "الهمام" رمزي كلارك، ونرجع الى همنا العراقي. لقد حاول طاقم الدفاع البائس اثناء جلسات المحكمة بذل كل جهده لعرقلة سير العدالة فيها والتغطية على جرائم حكام العراق السابقين بشتى السبل بدء من الشتائم والتزييف والتزوير وانتهاء بالتهديد المكشوف باعلان الحرب واثارة الفتن في البلاد وتحريض ازلام التفخيخ والتكفير، في سابقة لم يعهدها سلك المحاماة حتى في اشد عهود الظلام والتخلف، مستعينين بذلك بـ"فضائيات" سلك الارهاب والتجبر والتجهيل والاجرام في العالم العربي. وتحولت هيئة الدفاع الى اداة بيد المتهمين لايصال رسائلهم الى فلول النظام السابق للعبث بالبلاد. وشكلت تمثيلية مقاطعة هيئة الدفاع المتكررة بسبب عجزها عن التغطية على جرائم موكليهم اضحوكة لمن يتابع مجريات المحكمة. ولم يبق لدى هيئة الدفاع، يوم الاعلان عن الحكم يوم الخامس من تشرين الثاني، من ذريعة لعرقلة سير العدالة سوى الاحتجاج على احد الحاضرين بكونه "يعلك العلكة، ويضحك على المتهمين اثناء قراءة الحكم بإعتبار ذلك معرقلاً لسير المحكمة!!".
ان الحكم الذي اصدرته المحكمة بحق المتهمين جاء متناسباً مع حجم الجريمة التي ارتكبها الجناة ضد العراقيين خلال اربعة عقود سوداء خيمت على العراق وسادت فيه شريعة الغاب و"ثقافة أبوطبر" وحرق الاخضر واليابس. كما سالت انهار من الدماء البريئة سواء في حروب هذا النظام البائس او في اقبية التعذيب الرهيبة. لقد طالت هذه الموجة الرهيبة جميع العراقيين وبكل اعمارهم وجنسهم واطيافهم، ولم تقتصر على فئة او حزب كما عبر عن ذلك للاسف السيد رئيس الوزراء نوري المالكي في خطابه عقب الاعلان عن الحكم. نعم ان هذا الحكم الشرير قد استباح دم رجال الدين واعضاء في حزب الدعوة وعائلات دينية محترمة، ولكن هذا الحكم لم يفرق بل واباد الالاف من الشيوعيين ومنتسبي الاحزاب الكردية والالاف من ليس لهم حزب ومن غير الحزبيين، بل والالاف من البعثيين ايضاً من الذين عارضوا ديكتاتورية صدام حسين وعملوا على ازاحته. ان الوثائق والافلام عن ذلك موجودة وتعرض على الملأ. وكان من واجب رئيس الوزراء، وهو الذي يجب ان يمثل كل العراقيين وكل ضحايا النظام، ان يتجنب لغة التعصب الحزبي او الطائفي او احتكار الفداء الذي يثير احزان اهالي الضحايا، ويعيد مأساة كل من تعرض للعسف وفقد من فقد من اعزاءه في حمامات الدم التي نفذها النظام السابق.
لا شك ان غالبية العراقيين الساحقة قد رحبت بقرار المحكمة. وايضاً خرج البعض من فلول النظام من اوكارهم للاحتجاج على الحكم. وقبع أخرون من ضحايا النظام في منازلهم خوفاً من انتقام العصابات المسلحة التي ارتهنت هؤلاء وسيطرت على بعض النواحي في البلاد. ولكن دماء ضحايا النظام في تلك المناطق تستصرخ ضمائر هؤلاء وتدعوهم الى التحرك وتقديم طلباتهم الى المحكمة الجنائية العراقية لاستعادة حق الضحايا من تلك المناطق التي يخرج البعض الآن فيها محتجين على قرار المحكمة. ونصيحة لاؤلئك الذين يثيرون الضجيج على هذا الحكم من العراقيين ان لا يراهنوا على حاكم ومشروع حكم بائس ثبت فشله في العراق ودمر البلاد والعباد. ويكفي ان نقارن العراق الغني بكل شئ مع امارة خليجية لم تر النور الا منذ عقدين لنرى ما حققه الجبابرة في العراق من تدمير وتفتيت للشعب، ويستمرون الى الآن في مشروعهم التدميري.
ان القضاء العراقي قد خطى الخطوة الاولى في تأسيس نظام قضائي منصف وعادل وبعيد عن تدخل الحاكم او زبانيته، هذا الحاكم الذي دمر السلطة القضائية في السابق، وحول المتهمين الى ابرياء وبالعكس بفعل الرشوات والفساد الذي طال القضاء العراقي في السابق. وما على هذا القضاء الجديد الا الاستمرار في مسيرته الجديدة وفتح ملفات غطاها الغبار بفعل مساومات رخيصة مثل ملف اغتيال المرحوم عبد المجيد الخوئي والاغتيالات التي طالت رموزاً في الحركة السياسية والانتهاكات في سجون وزارة الداخلية، اضافة الى ملفات الفساد المالي التي مازالت محفوظة بفعل سياسة المساومات والمحاصصات الطائفية المشينة التي تطغي على الساحة العراقية،اضافة الى انتهاكات فصائل التكفير والقتل المحمية من قبل بعض من يشارك في العملية السياسية والميليشيات المسلحة المنفلتة. كما ان من الواجب على القضاء العراقي المشاركة في التصدي لممارسات بعض منتسبي القوات المتعددة الجنسيات من الذين ينظرون بعين الازدراء الى المواطن العراقي، ويرتكبون الجرائم المشينة ضدهم، والقيام بملاحقتهم قضائياً تجنباً لتكرار مثل هذه الممارسات الاجرامية.
نعم ان القضاء العراقي، بالحكم على طاغية العراق السابق، يخطو الخطوة الاولى المهمة على طريق بناء عراق يحمي افراده بقانون وليس بشريعة الغاب، عراق يحترم المؤسسات المنتخبة وليس الفرق المسلحة والجيوش المدمرة غير القانونية.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. موريتانيا.. تقرير أميركي يشيد بجهود البلاد في محاربة الاتجار


.. اللاجئون السوريون -يواجهون- أردوغان! | #التاسعة




.. الاعتداءات على اللاجئين السوريين في قيصري بتركيا .. لماذا ال


.. الاعتداءات على اللاجئين السوريين في قيصري بتركيا .. لماذا ال




.. الحكم بالإعدام على الناشطة الإيرانية شريفة محمدي بتهمة الخيا