الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


شخصية الرئيس قيس سعيّد وسيكولوجية السلطة في تونس

رضا لاغة

2023 / 8 / 22
مواضيع وابحاث سياسية


عندما نتحدث عن شخصية السيد الرئيس قيس سعيد ، نحن لا نقصد بذلك أننا سنتعقب أطوار حياته الخاصة وسيرته الذاتية . إن هذه المهمة من صميم عمل المؤرخ، لذلك فان وجهة نظرنا تنطلق من حيز أكاديمي مخصوص يحاول أن يفهم التقاطع بين علم النفس وعلم السياسة. وهو ما يعني أننا سنهتم بالطبيعة السيكولوجية للقائد. وهو توجّه فرضته التطوّرات التي مسّت المشهد السياسي العام بعيد انتخاب الأستاذ قيس سعيد، من واقع يشهد هدوء مبني على توافق ( مغشوش) الى صراع مبني على الهدم والتفكيك.
سنركز في هذا القسم الثاني على توضيح هذا الاطار الذي سنتحرك ضمنه وأعني علم النفس السياسي ومحاولة الاستفادة من هذا المنظور السيكولوجي ( شخصية الرئيس) لنتبين اتجاهات مسار ما بعد 25 جويلية.
سنكتفي ونحن بصدد الاشارة الى علم النفس السياسي بالقول أنه يقوم على فهم الفعل السياسي من منظور نفسي. ويعرف مورتون دويتش علم النفس السياسي بأنه: “دراسة تفاعل علم السياسة مع علم النفس، خاصة أثر علم النفس في السياسة”. ولو شئنا مزيدا من الدقة لقلنا أننا سنستخدم الأساليب والمفاهيم والنظريات المعتمدة في علم النفس لتحليل الجهة المتحكمة في العملية السياسية .
إن أهم فكرة يمكن أن ننطلق منها تتعلق بتحديد مقاصد السلوك السياسي بما هو فعل عقلاني رشيد ينشد الحد من التوتر الاجتماعي من خلال بلورة حلول ناجعة ومناسبة للواقع الاجتماعي.
إن هذه الحقيقة تبدو منطقية إذا ما استحضرنا بنية المجتمع بما هو مجموعة من الأفراد المتنافسة فتتدخل السياسة لتنظيم آلية هذا التنافس ، لذلك صح تحديدها بأنها علم إدارة الصراع الاجتماعي ( سواء بين الأفراد أو الطبقات أو العشائر أو الأعراق أو الجندر...) . فكما أن السياسة فن لحل النزاعات بين الدول بالأساليب الدبلوماسية قبل أن تتغير لتأخذ أشكال المواجهة العسكرية ، فهي أيضا تحل في نهاية المطاف بالوسائل الضرورية اللازمة المبارزة التي قد تنشأ بين الأفراد من خلال بناء تعاون وطيد في المجتمع الواحد ومن ثمة تعزيز الوحدة الاجتماعية.
في هذا المضمار ستواجهنا نظريات حول استراتيجيات التعلم ومناهج التنشئة الاجتماعية وشروط تأمين الدور القيادي .
ولأننا نهتم بشخصية القائد السياسي حصريا ، فإن هدفنا في هذه الدراسة هو تفسير الأحداث السياسية منذ الانتخابات الرئاسية لسنة 2019 باعتماد مقاربة في علم النفس السياسي تحاول أن تفسّر و تتنبأ بالأحداث السياسية من خلال البينة السيكولوجية لشخصية الأستاذ قيس سعيد رئيس الجمهورية التونسية الجديد وطريقة تعامله مع الأحداث والأزمات التي استجدت في الساحة السياسية التونسية.
غير أننا هنا ينبغي أن نتوجه للقارئ لنبسط وجهة نظرنا كضرورة عقلية تعنى بسيكولوجية السلطة و سيكولوجية الجماهير ، سيكولوجية المعارضة والفساد . وهي حلقات تتشكل في علاقة صميمية بالزعيم السياسي بما هو كينونة قائمة بذاتها تحقق توازن سياسي ما.
إن فكرة طرحنا للمشكلة السياسية التي تواجه مسار 25 جويلية ومآلات حلها في المستقبل تحاول أن تتخلص من حدية التبرير للمسار أو شجبه لتنظر من زاوية أكثر اتساقا للب الحقيقي للمشكل الذي يكشف عن نفسه من خلال كاريزما السيد الرئيس الغير منفصل عن واقع الجماهير أو ما أسميه تعزيز الدعم الشعبي الذي يغطي نفسه بقشرة مناهضة ولكنها ناعمة للقوى الصلبة داخل أجهزة الدولة وأخرى متحفزة وشرسة ضد الخصوم السياسيين التي تظهر مطبوعة بتهمة الفساد والخيانة العظمى للوطن .
شخصية الأستاذ قيس سعيد تحت المجهر
ولد علم النفس من خلال سلسلة من الملاحظات السلوكية واستراتيجيات التعلم والتكيف لدى الأفراد والتي إذا أخذت بمعناها الفردي لدراسة عواملها الفردية تزداد تشعبا وتعقيدا واختلافا.
هذا المضمون المتشابك استمد منه مبحث الشخصية . والحق أن معرفة هذه الاختلافات وما تتميز به كل مدرسة في علم النفس عن الأخرى يظل مبحثا مستعصيا والإلمام بقواعده العقلية في التعريف والتصنيف والقياس حكرا على أهل الاختصاص. ولكي نوّمن عملنا مغبة الوقوع في مثل هذه الهوة ، فقد اكتفينا بالإشارة إلى أهمية مفهوم الشخصية في علم النفس والذي يعتبر من المباحث الكلاسيكية التي تفحص السمات العامة للطبيعة السيكولوجية للفرد كطريقة تفاعله واستجابته للبيئة و كيفية تصرّفه ودراسة شعوره كوظيفة نفسية إزاء وضعيات معيشية ودرجة استقراره النسبي للمواقف التي تجابهه وحدود توتره العصبي الذي تفرضه المواقف والمعجم المفاهيمي المتداول عنده لوصف أو بلورة موقف.
ربما تطرّق الى أسماعكم ، بغير شك ، قول ليستر وميلبريك: "إن دينامية الشخصية التي تدفع إلى العمـل السياسـي هـي مـن التعقيد بحيث تتحدى أي إيجاز" لذلك فكل ما سنقوم به هو محاولة لإلقاء الضوء على شخصية الأستاذ قيس سعيد بمعزل عن حياته الذاتية كذات طبيعية . إن عملية التشريح ستكترث بمضمون الحقل الدلالي المستخدم من قبله كمنصة للاستقطاب الجماهيري.
يبين شلدون سلمون أن كل الدوافع البشرية مستمدة من غريزة بيولوجية هي المحافظة على الذات. إن هذه الفرضية العلمية التي صاغها تحت مسمى الشعور بالتهديد يمكن قياسها اجرائيا وفق عينية مماثلة لقياس درجات الذكاء . نحن هنا نتحدث عن تحليل الشخصية من خلال السمات التي تختلف في وجودها من شخصية إلى اخرى. أي أننا لا ننطلق من مبحث نظري وإنما من زاوية وصفية ، يعرفها ريكمان بأنها " مجموعة ديناميكية تنظم الخصائص التي يمتلكها الشخص وإدركاته وسلوكاته ودوافعه المختلفة".
هل لدى السيد الرئيس نمط سلوكي محدد يمكن أن نقيس به سر فوزه في الانتخابات الرئاسية والمنعرج السياسي الذي انتهجه منذ 25 جويلية؟

قيس سعيد والانتخابات الرئاسية
بقدر ما تعاظمت الحملات الانتخابية وعائداتها المالية ، لم تكن هناك حملة انتخابية معلنة بالمعايير المتعارف عليها عند المرشح الأستاذ قيس سعيد. فلربما جاز أن نقول أنه خاض حملة صامتة . وهذا ما ينقلنا إلى أشد جوانبها غرابة.
إن التواصل المباشر مع شباب الثورة الذي مكث على هامش الحياة السياسية أحد أهم مقاييس قوة الحملة الانتخابية للأستاذ قيس سعيد. داخل هذا التعديل السياسي والجماهير في إدارة الحملة الانتخابية تكوّنت دوائر انتخابية مغلقة خلقت نمطا جديدا من التواصل العامل المسيطر فيه سياسة القرب والعالم الافتراضي.
سياسة القرب
الإطار الدقيق لحملة الأستاذ قيس سعيد يقوم على نمط جغرافي عريض ممثّل في مفهوم الهامش. وهي حلقة قوية تتنقل في خطين محوريين: خط الأحياء الفقيرة ذات الكثافة السكانية مثل حي التضامن وحي هلال وسيدي حسين ...وخط جاذبية التنمية كشعار معطّل في الجهات الداخلية. وبغض النظر عن ثقل كلمة الهامش كحقيقة مؤثرة ودالة، اعتمد الأستاذ قيس سعيد استراتيجية التبني والمعايشة من خلال زيارات ميدانية مطّردة أهم سماتها مشاركته الصورة البائسة التي تجمعه بأهلها. لم يكن هناك تزويق ولا ديكور ولا مساحيق ولا مضخات صوت ولا منصة للاجتماعات... بل كان الأساس قاعدي. ففي كل زيارة يعبر شخص الأستاذ قيس سعيد للمجموعة الشبابية بالهام التقمّص : ولد الشعب ، منّا فينا.
والخلاصة المؤكدة أن سياسة القرب المتبعة من الأستاذ قيس سعيد لم تكن مفتعلة بل نابعة من نظرته أن الهامش أكثر رسوخا من المركز وهو من صلب هذا الهامش.
وأيّا ما كانت النوايا ، فجلوسه وهو يحتسي قهوته أو كأس من الشاي بطريقته الخاصة وهو يجالس الشباب في الأرياف والقرى النائية والأحياء القصديرية بالعاصمة، يعتبر أسلوبا جديدا للعصر وينم عن تفرّد عجيب.
صفحات التواصل الاجتماعي
لو أنك مكثت عند الطريقة التقليدية للحملات الانتخابية ، لفضّلت اللامبالاة وعدم الاكتراث . تبدو هذه السطحية مريحة إلى اقصى حد عندما نتحدث عن شباب وجّه اهتمامه لمنصات التواصل الاجتماعي.
إن إدارة حملة انتخابية بطراز جديد يحتاج الى ثقافة وبصيرة جديدة . والواقع أن هذا اللون الفريد هو بمثابة دين جديد للشباب المساند للأستاذ قيس سعيد . وحين نعلم أن 90 بالمائة من الشباب الذين تتراوح أعمارهم بين 18 -25 سنة قد صوّتوا للأستاذ قيس سعيد ،تصبح الأساليب التقليدية للحملات تافهة وليست ذات قيمة لأنها استعراضية مزعومة وليست من ثوب الشعب ( حماية شخصية للمرشح وسيارات رباعية الدفع ...) . هذا المعطى يتظافر معه رغبة الشباب الملحة في دعم مرشحهم الذي رفض التمويل العمومي فخلق ديناميكية ثورية جديدة لشباب متحمّس وغيور على الثورة ، فجمعوا له آلاف التوقيعات في لمح البصر لحثه على الترشح واخترعوا صفحات خاصة باسم الأستاذ قيس سعيد أو أنصار قيس سعيد حصدت مئات الآلاف من المتابعين.
لقد استطاع الشباب بوسيلته الذي برع فيها أن يتغلب على البارونات والأحزاب وأن يسيطر على الموقف بطابع مميز .
إن هذه العبقرية الشبابية لم يكن لها أن تتحقق بالفعل ، إلا من خلال الاقتناع بمرشّحها . الرجل الأكاديمي البسيط الذي يجسّد عاطفهم الجياشة باسترجاع جذوة ثورتهم. يقول الأستاذ قيس سعيد إبّان فوزه:" ولقد حققنا انتصارا كاسحا ينسبة 72,71 وفق النتائج الرسمية .إنهم جيل جديد يرغب في التغيير وتاق الى ثورة حقيقية تخرجه مما اعتبروه ظلما في حق ثورتهم".
لو أن الأحزاب الوطنية شغلت نفسها بمحاولة فهم ما جرى ورسم صورة حول تجديد شروط عملها وفق هذا المعطى الجديد ، لاستطاعت أن تبرهن على وجودها بدل أن تكتفي بحماقة الهروب الى الأمام متجاوزة حتمية نقدها الذاتي.
إن الصلة الحميمية بين الأستاذ قيس سعيد وهذا الجيل الجديد المتعطش للتغيير ، هو ما يشكّل المعنى الأكثر عينية لما سبق أن وصفناه . ولكن هناك مغزى خاص يعيدنا من جديد الى شخصية الأستاذ قيس سعيد. هل هو فعلا يتذسم بالبساطة والعفوية أم أن له نظرة نافذة ترمي الشباك بعيدا لتصيد مقعد الرئاسة؟
من خلال الواقع والأحداث المرافقة الذي اتخذها الأستاذ قيس سعيد وتصريحاته العلنية و سكناته الصامتة يجعلنا ازاء نمط حياتي ونفسي خاص يعتمد على استراتيجية كسب الوجاهة والنفوذ في قلب الناس.
التفاعل الاجتماعي العاطفي
دخل الأستاذ قيس سعيد من بوابة تنشد تشكيل روابط عاطفية متينة مع عامة الشعب. فقد كان عقله السياسي في معظم الوقت يسعى أن يكون جاذبا للطرف الآخر من خلال:
ــ نمط خطابي فريد متميز عن المعتاد يصيب المتلقّي بالحيرة ، فهو لا يدري أنه يقع في شباك شخصية استحواذية تحمل بريقا خاصا.
ــ البعد الأكاديمي الذي يتخطّى صورة السياسي الزئبقي. وهو ما منحه الاعتراف التدريجي الهادئ كذات أمينة وصادقة. كيف لا وهو الأستاذ الجامعي المنتمي للطبقة المثقفة والمتنورة في المجتمع والتي ترى فيه القدوة و المثال.
ـــ اثبات الانتماء للشعب من خلال تكرار صورة احتساء القهوة في الحي الشعبي في مواجهة صورة نمطية مغايرة للسياسي المستعلي والمتباهي والمرفّه.
ــ ايجاد ثغرة في مخيال الشعب حول مسألة الهوية وسحب البساط من الإسلام السياسي بأسلوب ناعم من خلال تثبيت صورة أداء فريضة الصلاة لهندسة المعلومة وسلب هيمنة الدين بعناية من الأحزاب الاسلامية.
وهذا أمر مسلّم بصحّته حين ننتقل للحديث عن سيكولوجية السلطة.
سيكولوجية السلطة
فيما بين بداية الحملة الانتخابية للأستاذ قيس سعيد ونهايتها، ظلّ اهتمامه بالشعب مستمرّا عبر رغبة جامحة للتأثير من خلال وكالة الشعب. ولا شك أن هناك مداخل كثيرة لتشكيل خارطة هذا الوعي . ولكن تظل سيكولوجية السلطة الأهم بلا منازع . وقد كان الأسلوب المعتمد ثمرة لتدريسه في الجامعة بأسلوب التلقين الأحادي. فما هي أهم الخطوط والملامح الأساسية لهذا البعد؟
الفكرة الأساسية لسيكولوجية السلطة تقوم على التحقق الفعلي لحقوق ومصلحة الشعب.وهنا علينا أن نعود القهقري قللا لنقول كلمة موجزة حول الترتيبات السياسية السابقة . فهي لم تكن وفية لهذا الحق بل لو نظرنا الى حصيلة المسار السياسي عن كثب سنلاحظ أن الانطباع العام يقوم على فكرة تناثر دم الثورة والشهداء بين قبائل الأحزاب الحاكمة. أي أن القعل السياسي الذي دبّر المسار هو انتهاك للحق أكثر مما هو استجابة له.
معنى ذلك أن الحملة عند الأستاذ قيس سعيد قائمة على برهان البداية الذي يستهدف شريحة مقتنعة أيما اقتناع بفكرة سرقة روح الثورة ، ألا وهي فئة الشباب معززا فرصة تغيير مراكز النفوذ بوجود جذوة أو نبض داخلي للثورة لم ينطفئ بعد. إن جرعة الأمل التي سكبها الأستاذ قيس سعيد في مكينة الشباب ( له قدرات هائلة مشتتة وغير مفعّلة لغياب المهندس) ، تنطلق من تبرير تاريخي يقوم على إدانة الأحزاب التي أجهضت واستباحت شعارات الثورة كغايات قصوى تعرف نفسها بنفسها عند عموم الشعب .
ما نودّ توضيحه أن الأستاذ قيس سعيد كمترشح للانتخابات الرئاسية ليس هو قيس سعيد الشخص وانما قيس سعيد الفكرة . ولهذا السبب نعتقد أن الأستاذ قيس سعيد يعبّر عن موقف بسيط للغاية : النقاء الثوري الذي يستعد لجولة ثأرية من المعتدين تكريسا لأغراض وطموحات الشعب أو الفئة الشبابية منه.
الآن يمكننا أن ندرس هذه الفكرة: سيكولوجية السلطة بشيء من التفصيل.
الملاحظة الأولى أننا عندما نستخدم مفهوم السلطة فنحن نقطع جذريا مع التصورات الكلاسيكية التي سادت في القرنين الثامن والتاسع عشر من مونتسكيو إلى ماركس حين كان الفهم القانوني للسلطة منحصرا في سيادة الدولة . نحن هنا ننشد معنى أوسع مستوحى مما استخلص فوكو في الفكر الفلسفي المعاصر .بمعنى أن التجلّيات الأبرز في فهم السلطة هو تخفّيها حين تخترق القوانين الداخلية للذات فتغدو مبثوثة في شكل شبكة معقدة من العلاقات داخل حيز الواقع . ولكي نعي طبيعة هذا المفهوم يتوجّب علينا البحث عن التقنيات السياسية التي تتشكّل انطلاقا منها ممارساتنا. ولأجل ذلك فالسلطة التي تعنينا هنا هي تلك اللا مرئية والميكروفيزيائية التي تسري في المجتمع. هنا يغدو السؤال الذي يواجهنا: كيف يمكن تحليل سيكولوجية السلة كنموذج تطبيقي اعتمده الأستاذ قيس سعيد في حملته الانتخابية وعلى امتداد فترة حكمه؟
تظهر امكانية الاجابة من خلال حرص الأستاذ قيس سعيد على أن يحتوي طاقة الجمهور الذي ينتجها فكره الانعكاسي على اخفاقات المرحلة التي سبقته بما هي مرحلة حزبية برلمانية بامتياز.
إن المتابع لخطابات الأستاذ قيس سعيد يرصد انفعالاته الجسدية الصارخة التي تؤجج كرهه للأحزاب فيمتص هذه الطاقة الى مستوى شمولي يقوم على التصنيف بين مؤيد ومعارض. إنه يمارس السلطة اللامرئية عبر لعبة من العلاقات المتحركة وداخل وضعية ايحائية مرتبطة بمبدأ التمييز بين الوفي للشعب وخونة الشعب. إنه يشقّ طريقه نحو هذه الغاية بحماس وانفعال حركي باليد وبقسمات الوجه وخصوصية المكان الذي ينغمس فيه المتلقي ضمن رمزية اللحظة كزيارة قبر شهيد أو تنظيم اجتماع بالقصرين أو سيدي بوزيد أو قفصة أو باب الفلة أو حي التضامن ... وهي علامات تظهر بوضوح أن المعركة ما تزال مستمرة.
إن هذا الخطاب التاريخي السياسي مختلف عن الخطاب القانوني للأستاذ قيس سعيّد الأكاديمي والمتشبّع بالقانون، لأنه يقوم على صراخ أو ضجيج السلطة إن جاز التعبير ، وهو خطاب تنقصه المعقولية ، لأنه لا يفكّر في ذات القانون وإنما يدرك نفسه من خلال التفكير في إذكاء نار الحرب مع الآخر لإثبات حق الشعب بجدارة التصحيح الثوري. ولعل 25 جويلية 2021 توضّح لنا توالد هذا المعنى المكثّف للسلطة الذي يضرب بجذوره العميقة لسبر أغوار الخيانة التي وسمت عشرية الأحزاب الحاكمة.
وما دامت الخيانة تتخذ من نفسها موضوعا ، فهي تحرّض على المتقبّل على منح الأستاذ قيس سعيد شرف تحقيق هذه الغاية ألا وهي تحرير الوطن من الخونة. ويزداد هذا الشرف كلما اندفع بعيدا في الصراع متغافلا عن حقيقة الانجاز التي تحتّمها طبيعة الظروف القاسية التي يعيشها المواطن التونسي. وحين تسأل البعض عن انجازات الأستاذ قيس سعيد يجابهك بالقول: ألم ينه حكم النهضة؟ ثم انه الآن بحاجة الى انهاء المعركة مع اللوبيات والمنظومة . كيف يتسنّى له أن ينجز وهم يترصّدونه ؟ وهم يتمنّعون ؟
هنا بالضبط تتسرّب سيكولوجية السلطة التي تستغني عن تحقيق أغراضها المعلنة: العدالة الاجتماعية ، الرفاه الاقتصادي ... لتنخرط صراحة في معركة زرع بذور الاختلاف كوقود لحرب تستحوذ على كل شيء ولا ترتبط إلا بنفسها بدل أن ترتبط بالانجاز ، بل إن هذه السيكولوجية تلتهم فكرة الانجاز وتستخدم الوعي في اشباع حاجاتها الثأرية لحيازة النصر كحالة نفسية ليس لها رصيد واقعي في مستوى البعد المعيشي للمواطن.
هذه الطريقة تثبت فاعليتها عن طريق ممارسة فعل حيازة السلطة من قبل تنسيقيات الأستاذ قيس سعيد التي تضع علامة مميزة تدلّ على تشكيل جديد تسند له الخطط والوظائف السامية ( وزراء ، ولاة مديرين عامية ...) . وهو فعل يتبدّى كعربون أو مكافأة للمقربين الأوفياء.
إن هذا العقد الشعوري للأتباع بنظر اليه للوهلة الأولى على أنه طعم للمتسلّقين والانتهازيين فيغدو السؤال: هل أن كل أنصار الأستاذ قيس سعيد بهذه الصفة؟
والجواب هو قطعا لا ولكن في نفس الوقت المخيال الشعبي لتوسيع قاعدة المناصرين يعتمد حينئذ على مقولة : "اللهم انصر سيدنا " طالما أنه يوزّع الأنصبة . ومن هنا تحديدا بدأ تسويق ملكية المناصب المكوّنة لحزام السلطة حتى أننا صرنا نعيش ما يشبه الرّقّ السياسي متغاضين عن بنية المجتمع المدني كمنصّة جوهرية لتعصير الدولة التونسية نحو أشكال أسهل تقلل من مكانة العقل النقدي وتعزز سلطة المزمار والطبل.
وحين نسترسل في تحليل هذه الآليات السيكولوجية المتّبعة من قبل الأستاذ قيس سعيد ، فإن ما يدهش ويبهر هو أسلوب مواجهة المختلف الذي يبدو صراحة أنه متسبب في الفساد الذي ينخر جسم الدولة وهو ما اصطلحنا على تسميته بسيكولوجية محاربة الفساد.
سيكولوجية محاربة الفساد
في استطاعة أيّ مواطن شريف أن يمنح صوته لفترة محدودة من الزمن لحزب أو شخص أو جمعية حين يتبلور لديه ادراك الوعي الذاتي بمجابهة الفساد المستشري كيقين خالص وكمضمون سياسي لغاية مختارة تنشد العدل والحوكمة الرشيدة لمؤسسات الدولة التي ينتمي لها.
في هذا الصدد يحرص الأستاذ قيس سعيد على إثارة وإعادة انتاج السياق الذي اختار فيه قرار 25 جويلية بتجميد البرلمان والأمر 117 . إن هذا الاجراء ليس سوى محاولة لوضع حدّ لمشكلة التنكيل بالدولة . هنا لا يفرّق الأستاذ قيس سعيد بين من انتفع من الحزب كسلطة حاكمة ومن عارض لأجل سلامة المسار والذود عن مؤسسات الدولة. والغريب أنه ليس من الصعب أن نضع تفرقة حاسمة بين أنصار 25 وما قبل 25 جويلية والمواطن البسيط يدرك بوضوح حين يعيد قراءة الأحداث السياسية بطريقة جديدة لماذا سقطت حكومة السيد الفخفاخ ومن الجهة التي اتخذت القرار. لقد كانت محاولة لازاحة حركة الشعب من منظومة الحكم والتفاف لتطويق سلطة الأستاذ قيس سعيد كرئيس منتخب للبلاد.
ما نود قوله أن بذور التعاقد بين السيد الرئيس وكل من ساند مسار 25 جويلية هي في صميمها غير قيمية لأن السيد الرئيس يستخدم ضدية شاملة للأحزاب كعامل مسؤول عن مصير التنكيل بالدولة . إن هذا التعميم لا ينمّ عن خطأ اتصالي بقدر ما يخفي سيكولوجية تؤدي بذاتها الى التضييق على الحياة الحزبية. وحين يضطر لضرب من التخصيص يستخدم عبارة المخلصين التي لا تكشف عن هوية واضحة.
إن هذا الجانب يؤدي بذاته الى التمييز بين ما يعتقده الأستاذ قيس سعيد من يقين يبشّر بنهاية الأحزاب وما ينصص عليه الدستور الجديد الذي يعتبر الأحزاب مكوّن دستوري للدولة التونسية. أي أن 25 جويلية مهّدت لتغيير الشروط القيمية لشكل وجود الأحزاب والأستاذ قيس سعيد يريد أن يوظّف شمّاعة سيكولوجية الفساد كحجة لموت الأحزاب بما في ذلك التي ساندت 25 جويلية. إن هذا التضاد بين كاريزما السيد الرئيس والحياة الحزبية يهدف الى حدّ بعيد تمشّيا تاريخيا يبسط سلطة الزعيم الذي له الحق الكلّي لتدبير شؤون الدولة ضمن رؤية سيكولوجية تبلغ منتهاها ضمن أخلاق الضمير. أعني أن تتحوّل الدولة كنسق كلّي لذات السيد الرئيس.
ضمن هذا النمط الصوري تبدأ معالم الانهيار للمضمون الجوهري الذي قامت عليه 25 جويلية.
إن النقطة الحرجة وفقا لهذا التوصيف تكمن في مشروعية النقد الداخلي للمسار مع نقد وضغط خارجي من قبل الشريك الأوروبي والولايات المتحدة الأمريكية. إن تماثل من هذا الصنف يدفعنا من جديد لطرح ذات السؤال:
هل تُعزى التجاذبات الدولية لخلاف حول نمط نظام الحكم الذي حاد عن المكسب الديمقراطي أم تثبيت لمصالح اقتصادية مهددة؟
أمّا هذا ، مرّة أخرى ،حديث آخر.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الجامعات الأميركية... تظاهرات طلابية دعما لغزة | #غرفة_الأخب


.. الجنوب اللبناني... مخاوف من الانزلاق إلى حرب مفتوحة بين حزب 




.. حرب المسيرات تستعر بين موسكو وكييف | #غرفة_الأخبار


.. جماعة الحوثي تهدد... الولايات المتحدة لن تجد طريقا واحدا آمن




.. نشرة إيجاز بلغة الإشارة - كتائب القسام تنشر فيديو لمحتجزين ي