الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


جسد النص ، جسد الحكاية وجسد الجسد

فتحية دبش
كاتبة، روائية، ناقدة ومترجمة

(Fathia Debech)

2023 / 8 / 23
الادب والفن


تصدير:
" ماذا أفعل؟ وأين أجد الصبر والسلوان وقد شاهدت بطن موزة منتفخا بمولود قد يعمي بصيرتي العمياء ويستوطن كرتونتي ويقتلني...؟" ( مراد سارة، قطة فوق صفيح ساخن، ص 70، ط دار جفرا، 2023)

دون الوقوف على العلامات الأيقونية وعتبات النص وعبورا بها كلها يمكن الاهتداء إلى ذاتية هذه الرواية التي تمنح نفسها للقارئ في غلالة من التجريب والتجديد تلفت النظر.
لا يكتفي مراد سارة باللغة المكتوبة بل يجاورها ويخترقها بالصورة الفوتوغرافية، لا ليجعل الصراع بينهما في خدمة النص بل ليجعل النص ( الرواية) في حد ذاته مشغلا ينصاع للغتين. قطة فوق صفيح ساخن تجعل الرواية في مفهومها الشامل جسدا فيه الفنون قابلة للتزاوج والأنواع قابلة للتداخل. وإذا ما توقفنا عند جسد الرواية للتشريح، يمكن القول أنه نص روائي يلبسه الكاتب الخيال مرة وينزع عنه الغلالة مرة فيتعرى إلى حد أن يتحول إلى فانتازيا.
هكذا، كان السرد يقدم روائية الرواية في اشتغالاتها الأدبية والفنية حيث التفضئة والشخصيات والحبكة والحدث تبدو كلها عناصر متفاوتة الحضور ولكنها حاضرة. ويجاورها فن الصورة الفوتوغرافية التي تشكل داخل هذا النص الروائي نصا آخر يحيل هو الآخر على الفضاءين الزماني والمكاني ويمتلئ بالأحداث التي تعيد القارئ إلى السرد لتضيء منه ما يرى الكاتب أنه يستحق الإضاءة. إذ كما يمكن للقارئ الإتكاء على السرد لفهم الصورة يمكنه ايضا الاتكاء على الصورة لفهم هذا الواقع المسرود وسرّاده ومادته.
فالنص البصري وإن شكل رواية أخرى للشتات وشنلر وفلسطين اللاجئة إلا أنه لا يشكل أي اختلاف لونيا حيث أنه احتفظ بقيمة اللونين الأسود والأبيض تماما كما النص السردي. فالكاتب لا يبغي في نهاية المطاف غير أن تكون كل اللغات الممكنة حاملة لحمولة هي سيرة المكان، سيرة مخيم شنلر و فلسطين وهي أيضا سيرة اللاجئين واللجوء وسيرة الغجرية التي فقأت عين هرهورة وجعلت من مخاوف هذه الأخيرة حقائق مرعبة.
لا يكتفي مراد سارة بتجاور السرد والصورة بل يمضي مجاورا بين الفانتازيا والواقعية. فيمنح للقطة صوتها الأعلى من كل الأصوات حتى صوته هو شخصية وساردا ومؤلفا. فهي تعي تماما فعل السرد وفعل الحكاية كما تعي خصوصية هذا النص الذي أرغمها مراد كما تناديه دائما على لعب دور رئيس فيه. حتى أنها لا تنفك تسأله لماذا يكلفها بهذه المهمة قبل أن تستسلم لدورها وإخبار القارئ الحكاية: حكاية الواقع بمن فيه مراد سارة نفسه. ولعله سؤال تريد به هرهورة - الرواية/النص - إعادة سؤال الرواية والالتزام كما سؤال لماذا فلسطين ولماذا الفلسطينيون ولماذا المخيمات.
يقع مراد وهرهورة على طرفي الحكاية فيسردان تارة منفصلين وتارة متصلين عبر تقانة الحوار مرة والوصف مرة. تارة تتفوق عليه فتحيله إلى أسئلة الكتابة الابداعية للرواية، تسأله عن اختياراته للشخصية المحورية، تقترح عليه أفعال سرد وتدقيقات لغوية وتعيد تثبيته في محيط المخيم الذي جعل منه كاتبَ روايات وجعل منها بطلةَ روايات دون رغبة منهما. هرهورة تتحدث عن نفسها تارة لتفتك من روائية الرواية مكانا لسيرتها ( متى ولدت وأين وكيف فقدت عينها، الخ..) ثم تنسل بعيدا لتصبح سيرتها ذاتها سيرة كل من في المخيم قططا وبشرا وأغراضا وأسئلة وحتى سيرة مراد نفسه.
غير أن مراد سارة الذي تحول بفضل شنلر والانوروا والتواطئ العالمي مؤلفا روائيا بعين هرهورة يفضل الجلوس وراء الكاميرا لا ليرفع الصور الفوتوغرافية ويبثها كالسموم في جسد النص بل ليعلها حاملات إنارة وشواهد حقيقية وليضطلع بدور التوثيق الذي يعتبره دوره الأساسي حتى قبل الرواية نفسها- والحديث عن مراد سارة هنا مقترن دائما بوجوده كشخصية في الرواية- فمراد يتحدث عن أشخاص عاشوا وماتوا وآخرين على قيد الحياة أو الموت، يسميهم بأسمائهم وصفاتهم وأحوالهم ومصائرهم ويتحدث عن المخيم بكل مظاهر الحياة والموت فيه، بخيمه، بصفيحه البارد والساخن، بشاحنات الانوروا وتوزيع المؤن والمرض وهي تتجاور هي الأخرى. مراد سارة يفتك في الرواية دور التوثيق إذ الحرب ليست فقط حرب سلاح بل هي أولا حرب معلومة وتاريخ. وحتى عندما يلبس جبة السرد والروْي فهو يفعل ذلك من أجل رسم المشهد فتصبح الكتابة كناية عن الصورة وكلاهما سلاحه الحقيقة. ومع ذلك فهو لا يتخلى عن أحاديث طفولته وذكرياته وأحلامه وانشغالاته التي تشبه انشغالات الجميع حتى الذين هم من خارج شنلر كأنه يذكّر العالم أن الطفل كفل حتى في اللجوء والمخيم.
بل لعل تلك البوابة الصغيرة التي فتحتها هرهورة وتسلل منها مراد سارة ليفتح وعيه على أهمية الفنون (السينما ص 75) في تهريب اللاجئ من المخيم وتهريب الطفل من سجن طفولته ثم تهريب واقع المخيم من خطابات الساسة إلى صدق الرواية والصورة ( حتى وإن لم ينشد القارئ الصدق في الرواية بصفة عامة) . غير أن هذا الوعي يقوده أيضا إلى الوعي بأنه حتى السينما وبروسلي نسي التنديد بما تفعله اسرائيل (ص 79) فيستعيد هو وهرهورة والمخيم فعل التنديد والفضح والاحتجاج وتستعيد الرواية مهمتها الأولى توثيق جريمة التشتيت والتهجير والاستيطان.
هرهورة، الجسد المتنقل بين المخيمات والكنتونات، المجبر على العيش داخل كرتونة وهبتها هيئة تدعي الدفاع على حق كل جسد في الحياة ولكنها هي نفسها التي تصون حق هيمنة هذا على ذاك وحق الغجرية في السكن والتوالد،. مراد، الجسد المليئ بالسخط المملوء برغبات الحياة والاصرار على ان العودة حق. والمخيمات ومن فيها، كل هذا يشكل جسد فلسطين التي استباحها كيان غاصب واستحل بيوتها وشوارعها وأراضيها وشتت أهلها... الجسد الذي بقي معلقا في اجتماعات الساسة وندوات حقوق الإنسان كما ليشكل مجرد جسد لا يراد له أن يصبح كينونة بل يراد له أن يكون موضوع ندوات وجدل يرى الحقيقة ويخشاها.
ولكن أمام كل محاولات المحو يشهر مراد سارة قطة فوق صفيح ساخن كشاهد لا يقبل االمحو ولا يندس في كرتونة ليثبت أن ( المخيمات لا يجب أن تزول ما لم يكن هناك عودة، فهي الشاهد الوحيد المتبقي على الجريمة - والكلام لمراد سارة -) التي لا تسقط أحداثها بالتقادم.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. القبض على الفنان عباس أبو الحسن بعد اصطدام سيارته بسيدتين في


.. تأييد حكم حبس المتسبب في مصرع الفنان أشرف عبد الغفور 3 سنوات




.. عاجل .. إخلاء سبيل الفنان عباس أبو الحسن بكفالة 10 آلاف جنيه


.. أول ظهور للفنان عباس أبو الحسن بـ-العكاز- بعد حـــ ادث اصـــ




.. القبض على الفنان عباس أبو الحسن بسبب دهس سيدتين