الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


رواية للفتيان السندباد البحري طلال حسن

طلال حسن عبد الرحمن

2023 / 8 / 23
الادب والفن




شخصيات الرواية
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1 ـ السندباد البحري
2 ـ السندباد الحمال
3 ـ الخادم
4 ـ القبطان
5 ـ الجد ماجد
6 ـ التاجر حسن
7 ـ الحورية لؤلؤة
8 ـ ابن عم الحورية
9 ـ الصياد العجوز
10 ـ الملك
11 ـ الوزير العجوز
12 ـ الحارس الضخم
13 ـ السجان
14 ـ مسؤول السجن
15 ـ جارية الملك
16 ـ حراس



" 1 "
ـــــــــــــــــــ

طوال فترة الصباح ، من يوم تموزي قائظ ، ظل الحمال سندباد ، منهمكاً بحمل قفصه ، الذي ينقل فيه ما يتبضعه بعض الزبائن ، ويسير به متعباً إلى بيوتهم ، مهما كانت بعيدة .
وعند منتصف النهار ، أوصل ما تبضعه تاجر من خضراوات وفواكه ولحوم إلى قصره ، الذي يقع في حيّ التجار ، وقفل عائداً إلى السوق ، وقد هدّه الحرّ وشدة التعب .
وفي طريق العودة ، مرّ بقصر ضخم ، بابه موارب ، وقد بدت منه حدائقه الواسعة الغناء ، التي جاءته منها روائح طيبة لمختلف الأزهار ، وأنسام عذبة ، فيها شيء من الرطوبة الباردة .
وتوقف الحمال عند الباب الموارب ، وتلفت حوله وقال بصوت واهن : إنني متعب جداً ، فلأجلس هنا قليلاً ، ريثما أرتاح .
وجلس الحمال متنهداً ، ونظر عبر الباب الموارب ، ثم قال : يبدو أن هذا القصر لتاجر غنيّ جداً ، ترى ما علة أن يكون هو تاجراً غنيّاً ، وأن أكون أنا مجرد حمّال ؟
وصمت لحظة ، ثم قال ساخراً : العلة واضحة ، لقد تزوجت أمي الغريرة حمالاً فولدتني حمالاً ، أما هذا التاجر ، فقد كانت أمه أكثر ذكاء من أمي ، فتزوجت تاجراً .
ومن بين أسنانه الجائعة ، الغاضبة ، تابع الحمال قائلاً : لن أدع ابنتي تتزوج حمالاً ، مهما كان السبب ، هذا إذا تزوجتُ ، وصار لي بنت ، في يوم من الأيام .
وأغمض الحمال عينيه المتعبتين ، اللتين أثقلهما النعاس ، ويبدو أنه استغرق في النوم ، فقد أفاق على صوت رجل آمر يهزه قائلً : أيها الحمال ، أفق من نومك .
وأفاق الحمال ، وما إن رأى من أفاقه ، حتى هبّ واقفاً ، وقال بصوت مذنب مضطرب : عفواً ، يبدو أنني غفوت .
فقال الخادم : لا عليك ، تعال معي ، سيدي التاجر يريدك .
وبدا الخوف على الحمال ، حين سمع هذا ، وقال : عفواً ، يا أخي ، ماذا فعلت ليستدعيني سيدك ؟ كنت متعباً جداً فغفوت ، و ..
وقاطعه الخادم بصوت هادىء : اطمئن ، أنت لم تفعل شيئاً ، لقد سمعك سيدي عرضاً ، ويريد أن يتحدث إليك ، تعال معي .
ورغم خوفه وتردده ، سار الحمال وراء الخادم ، حتى دخل به غرفة واسعة من غرف القصر ، يقف عند أحد نوافذها رجل في أواسط العمر ، يرتدي ملابس تزينها الأحجار الكريمة ، فنظر الرجل إليه ، وقال : أهلاً ومرحباً بكَ ، تفضل اجلس .
وفغر الحمال فاه ، فهو لم يعتد من قبل ، على مثل هذا الترحيب والمعاملة الطيبة ، من صاحب قصر في مثل هذا الغنى ، ثم قال : عفواً ، يا سيدي ، أنا .. أنا حمال .
وابتسم الرجل ، وقال : وأنا تاجر ، كلانا يكدح من أجل لقمة العيش ، ما اسمك ؟
أجاب الحمال بصوت متردد : اسمي .. اسمي سندباد .. يا سيدي .
واتسعت ابتسامة الرجل ، وقال : يا للصدفة ، أنا أيضاً اسمي سندباد .
وتمتم الحمال مندهشاً : السندباد البحري !
وهز سندباد رأسه ، وقال : بالضبط ، هكذا أعرفُ ، السندباد البحريّ .
وصمت لحظة ، ثم قال : كنتُ على مقربة من باب الحديقة ، قبل قليل ، وسمعتك صدفة تتكلم .
وقال الحمال متردداً : عفواً سيدي ، إنني أن لا تظن أنني أحسدك ، فقط أردت أن ..
وقاطعه سندباد قائلاً : لا عليك ، أنت ضيفي اليوم ، سأحكي لك ما لم أحكه لغيرك .
ونظر عبر النافذة ، المطلة على حديقة القصر ، وكأنه ينظر إلى الماضي البعيد ، وتابع قائلاً : اسمك سندباد ، وأنا سندباد ، سأحكي لك ، وكأني سأحكي ما سأحكيه ..للسندباد .




" 2 "
ـــــــــــــــــــ

بعد الغداء ، أوى التاجر سندباد إلى فراشه كالعادة ، يريد أن يرتاح قليلاً ، ويفكر في ما سيرويه لسندباد الحمال ، عند لقائه به اليوم ، خلال ساعات الليل .
وكما فكر منذ البداية ، قرر أن يروي له كلّ شيء ، ومنذ البداية ، وإلا ما قيمة الرحلات السبع ، مع كلّ ما فيها من مغامرات وغرائب وأخطار ، إن لم يتحدث عن الدافع الحقيقي ، الغامض ، الذي يكمن وراءها جميعاً ؟
وأغمض التاجر سندباد عينيه ، وأرهف سمعه ، وكأنه يريد أن يسمع ثانية ، ذلك الصوت ، الذي سمعه لأول مرة ، قبل أن يبدأ رحلته الأولى ، ولم يعرف وقتها حقيقته ، ومن أين يأتي ، يهيب به أن تعال .. تعال .. تعال .
من هنا بدأت الرحلة الأولى ، والتي كانت أساس الرحلات كلها ، وربما لولاها ما كانت رحلات السندباد البحري السبع .
واستجابة لذلك النداء الغامض ، تعال .. تعال .. تعال ، جمع سندباد ما ورثه عن أبيه من ثروة ، واشترى بضاعة مناسبة ، ليتاجر بها مع التجار الراحلين صوب الجزر والمدن والأقطار البعيدة ، عبر البحار المختلفة ، التي يراها للمرة الأولى في حياته .
بدأ رحلته من بغداد ، عاصمة الخليفة هارون الرشيد ، متجهاً بتجارته إلى ميناء البصرة ، حيث يتجمع التجار ، من مختلف أنحاء العراق ، وينطلقون على السفن الشراعية ، نحو شتى الأقطار في العالم .
وركب سندباد من البصرة ، مع مجموعة من التجار ، إحدى تلك السفن ، وانطلقت بهم صوب البحر ، في صباح مشرق ، تهب فيه أنسام دافئة رخية عذبة .
ومنذ الساعات الأولى ، لدخولهم البحر ، تعرف السندباد على عدد من تجار الموصل وبغداد والبصرة ، ومدن العراق الأخرى ، وراحوا يتجاذبون أطراف الحديث ، حول رحلاتهم المختلفة ، والمتاجرة في مختلف الجزر والمدن والأقطار البعيدة .
كما تعرف على البحارة ، والقبطان الشاب ، وتعرف على جده ماجد ، الذي تجاوز السبعين ، والذي مع ذلك ولعشقه الشديد للبحر ، ومعايشته له فترة طويلة ، يصرّ عل مرافقة حفيده ، في كلّ رحلة بحرية يقوم بها .
ولعل حبّ القبطان الشاب لجده العجوز ، وإرضاء له ، كان يوكل له أحياناً ، قيادة السفينة ، وتوجيه دفتها ، وخاصة إذا كانت الرياح هادئة ، والبحر ساكناً ، عاقل الأمواج .
وعند منتصف النهار ، في اليوم الثاني لدخولهم البحر ، توقف سندباد عند سياج السفينة ، ينظر إلى الآفاق البعيدة ، وقد اختفت اليابسة تماماً ، ولم يعد يرى حوله ، سوى مياه البحر ، تمتد زرقاء هادئة على امتداد البصر .
وانتبه سندباد إلى تاجر تجاوز منتصف العمر ، يتوقف إلى جانبه ، والتفت إليه مبتسماً ، إنه تاجر من الموصل اسمه حسن ، وقال : الجو رائع اليوم ، والبحر هادىء .
وابتسم التاجر حسن ، وقال : نعم ، إنه هادىء حتى الآن ، وأرجو أن يبقى هادئاً .
ونظر سندباد إليه صامتاً ، فقال التاجر حسن : أظن أن هذه هي رحلتك الأولى في البحر .
وردّ سندباد قائلاً : على العكس منك ، مادمت قد خمنت أنها رحلتي الأولى .
وضحك التاجر حسن ، وقال : ليلاي هي حياة البحر ، وأنا مجنونها .
وقال سندباد : رغم أن مصاعبها ، ومخاطرها ليست قليلة .
وضحك التاجر حسن ثانية ، وقال : نعم ، لكن عذوبتها وسحرها أكثر بكثير ، بحيث لم أستطع حتى الآن أن أقاومها ، وأقرر البقاء في مدينتي الهادئة الجميلة .
وصمت التاجر حسن لحظة ، وقد كفّ عن الضحك ، ثم قال : إنني من الموصل ، ورغم أنها أم الربيعين ، فإنني أشعر بالضيق والاختناق ، على العكس من هنا ، وسط البحار ، أكون مرتاحاً تماماً ، وأشعر أنني حر .
وصمت التاجر حسن ، ولاذ السندباد بالصمت أيضاً ، وراح يتطلع إلى الآفاق البعيدة ، كأنه يبحث عن شيء افتقده ، ثم قال : يبدو أننا ، في هذا المكان بعيدون عن البرّ .
فقال التاجر حسن : لن نرى براً ، ربما خلال أكثر من أسبوعين .
وتساءل السندباد : ولا حتى جزيرة صغيرة ؟
فردّ التاجر حسن : ولا حتى بقعة جرداء من اليابسة ، يا سندباد .
وصمت لحظة ، ثم قال : أحياناً ، وهذا ما لم أره شخصياً ، تظهر جزيرة صغيرة ، جرداء على الأغلب ، وسرعان ما تختفي .
لم ينبس سندباد بكلمة ، فمال عليه التاجر حسن ، وقال : لديّ شراب عرق السوس موصلي ، تعال معي إلى قمرتي ، وتذوقه .



" 3 "
ـــــــــــــــــــ

مرّت أيام عديدة ، والبحر عاقل الأمواج ، تنقل خلالها سندباد ، بين العديد من الأصدقاء الجدد من التجار والبحارة ، وإن كان معظم وقته ، يقضيه مرتاحاً ومتمتعاً ، مع صديقه التاجر الموصلي حسن .
وأكثر من مرة ، قال سندباد للتاجر الموصلي حسن : آه يا أخي ، إنني أحنّ إلى اليابسة ، أية يابسة ، حتى لو كانت صحراء .
ويردّ التاجر الموصلي حسن ضاحكاً : مهلاً ، يا سندباد ، سترى اليابسة قريباً ، بل وستملها ، وتحن إلى البحر .
وذات يوم ، والشمس تكاد تميل إلى الغروب ، ارتفع صوت أشبه بصرخة مندهشة حد الذهول : جزيرة .. جزيرة .
وسرعان ما اختلط بالصرخة الأولى ، عدة صرخات بدا بعضها حائرة ، مترددة : جزيرة .. جزيرة .. جزيرة .
واعتدل التاجر الموصلي في فراشه ، وتمتم : جزيرة ! يا للجنون ، هذا مستحيل ، نحن في وسط البحر .
وأسرع سندباد ، وأطل من حاجز السفينة ، حيث تجمهر بعض التجار ، ورأى بالفعل جزيرة صغيرة خضراء سندسية ، وتمتم مذهولاً : حقاً إنها جزيرة ، جزيرة صغيرة جداً .
ومن بين المتجمهرين قرب السياج ، سارع أحد التجار ، إلى موقع الدفة من السفينة ، وهو يصيح : أيها القبطان .
وبدل القبطان ، رأى التاجر الجد العجوز ماجد ، يمسك بالدفة ، فقال له : أيها الجد ، توقف ، هناك جزيرة صغيرة أمامنا ، نريد أن ننزل إليها ، ونرتاح فيها قليلا .
وتوقف الجد ماجد ، والدفة بين يديه ، وقال مذهولاً : ماذا تقول ، يا رجل ؟ الجزر مازالت بعيدة عن هذا المكان .
فأمسك التاجر يد الجد العجوز ، وأخذه بعيداً عن الدفة ، وقاده إلى سياج السفينة القريب ، وأشار بيده ، وقال : أنظر .
ونظر الجد ماجد ملياً ، صحيح أن عينيه عجوزتان ، أتعبتهما الأيام وأنواء البحار ، لكن ما يراه جزيرة خضراء حقاً ، وأوقف السفينة متردداً ، وهو يقول : أيها الإخوة ، أرجوكم ، أصغوا إليّ ، لا تتعجلوا ، دعونا نتأكد أولاً أنها جزيرة فعلاً .
وقهقه أكثر من تاجر ، وهم يندفعون نازلين إلى الجزيرة الصغيرة الخضراء ، وظن بعضهم أن الجد ماجد قد خرف ، حتى أنه غير متأكد من أن ما رآه قد لا يكون جزيرة .
وتقافز التجار فوق الجزيرة الصغيرة الخضراء ، وكان بينهم سندباد ، وراحوا يركضون مقهقهين سعداء حول الجزيرة ، فأقدامهم لم تلمس الأرض ، منذ أن غادروا ميناء البصرة .
وأطل التاجر الموصلي حسن ، من سياج السفينة ، ورأى صديقه التاجر سندباد يركض فرحاً حول الجزيرة ، مع عدد من التجار ، فصاح بأعلى صوته : سندباد .
وتوقف سندباد ، ورأى التاجر الموصلي حسن ، يطل قلقاً من أعلى السياج ، فصاح بأعلى صوته : أخي حسن ، انزل ، الجزيرة جميلة ، رغم أنها صغيرة ، انزل ، انزل .
وتوقف التجار مذهولين ، قلقين ، حين شعروا بالجزيرة الصغيرة الخضراء ، تميد تحت أقدامهم ، وهنا أطل القبطان من أعلى السفينة ، وصاح بأعلى صوته : ماذا تفعلون هناك ؟ اصعدوا إلى السفينة ، اصعدوا ، اصعدوا .
وقال الجد ماجد : هؤلاء الحمقى ، قالوا إنها جزيرة ، فنزلوا مسرعين إليها ، دون أن يصغي أحدهم إلى تحذيري المتكرر لهم .
وتوقف التجار فوق الجزيرة الصغير الخضراء ، التي راحت تميد بهم أكثر وأكثر ، فصاح بهم القبطان : أيها المجانين ، هذه ليست جزيرة ، وإنما حوت كبير جداً ، من نوع حيتان العنبر .
وتدافع التجار المرعوبين متصايحين نحو سلالم السفينة المصنوعة من الحبال ، ولم يمهلهم الحوت ، فقد انتفض بقوة ، وغاص إلى أعماق البحر ، ومعه غاص عدد من التجار ، الذين لم يستطيعوا التشبث بالسلالم ، وغابوا في الأعماق ، وكان بينه التاجر الشاب سندباد .
وأسرع القبطان الشاب إلى الدفة ، وهو يقول : لنبتعد بسرعة عن هذا المكان ، قبل أن يعود هذا الحوت اللعين ، ويحطم السفينة ، ويغرقنا جميعاً ، ويغيبنا في أعماق البحر .



" 4 "
ــــــــــــــــــــ

فتح سندباد عينيه ، وفوجىء بوجه فتاة ، يقطر الماء من شعرها ، تطل عليه من علٍ ، فحدق فيها ملياً ، ثم تساءل : هل أنا في الجنة ؟
وافتر ثغر الفتاة عن ابتسامة مشرقة ، وهزت رأسها ، وقالت : نعم .
وهتف سندباد بفرح : أنتِ حورية إذن .
فقالت الفتاة ، وابتسامتها تزداد إشراقاً فوق ثغرها : نعم ، أنا حورية ، حورية بحر .
وقطب سندباد مفكراً ، ثم قال : لم يقل لي أحد ، أن في الجنة حوريات بحر .
وأشارت الفتاة إلى ما حولها ، وقالت : هذه الجزيرة ، هي جنة البحر ، الذي تراه هنا ، وأنا حورية من حورياته .
وتحامل سندباد على نفسه ، واعتدل قليلاً ، وعلى ضوء القمر ، الذي كان يطل بدراً من فوق الأشجار ، راح يتطلع إلى ما حوله ، ورأى غابات من الأشجار ، تسد الأفق .
والتفت سندباد إلى الحورية ، وحدق فيها ملياً ، ثم تساءل : من أنتِ ؟
وردت الحورية قائلة : أنا الحورية لؤلؤة ، وأمي هي ملكة هذا البحر .
وتطلع سندباد إليها ، وقال : وأنا سندباد ، تاجر من بغداد ، عاصمة الخليفة هارون الرشيد ، ركبت سفينة تجارية من البصرة ، وآخر ما أذكره ، أننا رأينا جزيرة صغيرة خضراء ..
وابتسمت الحورية لؤلؤة ، وقالت : هذا الخطأ وقع فيه الكثيرون ممن مخروا بسفنهم هذا البحر ، وكانت حياتهم هي الثمن .
ونظر سندباد إليها مندهشاً ، وقال : لكنني كما ترين ، مازلت على قيد الحياة .
فقالت الحورية لؤلؤة : إنها الصدفة ، فقد كنت ألهو على مقربة من ذلك المكان ، ورأيتك تتهاوى إلى الأعماق ، وقد فقدت الوعي ، فأسرعت إليك ، وحملتك إلى هذه الجزيرة .
وصمتت الحورية لؤلؤة ، إذ تناهى صوت من بعيد ، ورفع سندباد رأسه ، وتطلع نحو مصدر الصوت ، وقال : أصغي ..
وأشارت له الحورية أن يسكت هامسة : هش .
وتطلعت نحو مصدر الصوت ، ثم قالت : إنه صياد السمك العجوز .
وقال سندباد : الوقت مازال مبكراً .
فقالت الحورية لؤلؤة : كبار السن ، كما تعرف ، يستيقظون مبكراً ، ونحن على ما يبدو في أواخر الليل .
وتراجع سندباد خائفاً ، وهو يقول : لنبتعد عن هنا ، أخشى أن يراني .
وتلفتت الحورية حولها ، وقالت : أنت محق ، تعال سآخذك إلى تلك الأشجار .
وتحامل سندباد على نفسه ، ونهض بصعوبة ، ثم راح يسير ببطء ، مستنداً إلى الحورية ، حتى وصل الأشجار ، المطلة على شاطىء البحر .
وتوقف لاهثاً وراء إحدى الأشجار ، وتوقفت الحورية على مقربة منه ، وقالت : هذا مكان منعزل ، قلما يأتي إليه أحد ، غير هذا الصياد العجوز ، ويبدو أن كوخه في الجوار .
وقال سندباد : كنت أظن أن هذه الجزيرة غير مأهولة .
فقالت الحورية : سكانها بسطاء وطيبون ، تسلط عليهم ملك عدوانيّ شرير ، بعد أن تآمر على أخيه الملك الطيب ، وأزاحه عن العرش .
وقال سندباد : ما أكثر أمثال هذا الملك ، أرجو أن أغادر الجزيرة ، وأعود إلى بغداد ، دون أن أقع بين يديه الشريرتين .
ومال القمر للغروب ، فتطلعت الحورية إلى البحر ، وقالت : الليل يوشك أن يرحل ، عليّ أن أعود إلى البحر ، لابد أن أمي قلقة عليّ الآن ، وقد يأتي ابن عمي للبحث عني .
ونظر سندباد إليها ، وقال : إنني وحيد على هذه الجزيرة ، أرجوك لا تتركيني وحدي ، ابقي إلى جانبي بعض الوقت .
فردت الحورية قائلة : لا عليك ، سأذهب الآن ، وأطمئن أمي ، انتظرني ، سأعود إليك الليلة ، عند ظهور القمر .
ومضت الحورية نحو البحر ، فهتف سندباد بها : لؤلؤة ، أرجوكِ ، لا تتأخري ، سأنتظرك على أحرّ من الجمر .
ولوحت الحورية لؤلؤة له ، دون أن تتوقف ، وقالت : إلى اللقاء .
وتابعها سندباد بعينيه المتعبتين ، وهي تركض تحت أضواء الفجر الأولى ، ثم تقفز إلى البحر ، وتغوص إلى أعماقه الدافئة .


" 5 "
ــــــــــــــــــ

أغفى سندباد ، بعد أن عادت الحورية إلى البحر ، واستغرق في نوم عميق ، ولم يفق حتى صعدت الشمس إلى منتصف السماء ، وأطلت ساطعة دافئة ، فوق مياه البحر .
ولأنه لم يأكل شيئاً منذ البارحة ، شعر سندباد بالجوع يعضه ، لكن ما العمل ؟ إنه ليس في قصره ، ليصيح بالخادم : هاتِ الطعام .
هنا ليس ثمة خادم ، ولا هاتِ الطعام ، ليس هنا غير الجوع ، والجوع يعض ، ولا يرحم ، ما العمل إذن والحالة هذه ؟
وتحامل سندباد على نفسه ، ونهض بشيء من الصعوبة ، وتلفت حوله ، ثم خطا ببطء وتوجس ، متوغلاً في الغابة .
حقاً هذه الجزيرة جنة ، كما قالت الحورية لؤلؤة ، فهنا أشجار مثمرة ، تجري من تحتها مياه رقراقة شفافة عذبة ، وما عليه إلا أن يأكل ويشرب ، حتى يشبع ويرتوي .
وأخذ يتنقل بهدوء ، من مكان إلى آخر ، يأكل من هذه الشجرة أو تلك ، حتى شبع ، ثم توقف عند نبع ماء ، ينبثق من بين الصخور ، وأخذ حفنة من الماء براحتيه ، وشرب حتى ارتوى .
وتجول سندباد في أرجاء الغابة ، وحاول أن لا يبتعد ، حتى لا يضل الطريق ، ولا يستطيع العودة إلى شاطىء البحر ، حيث سيلتقي الحورية ليلاً ، عند ظهور القمر .
وتوقف سندباد ، وتلفت حوله متوجساً ، فقد تناهت إليه حركة من مكان قريب ، أهو واحد من أعوان الملك ؟ من يدري ، فهذا الملك شرير ، كما تقول الحورية ، وهو لا يريد أن يقع بين يديه .
وتنهد بارتياح ، حين برزت من بين الأشجار غزالة ، يرافقها خشفها الصغير ، ورأته يحدق فيها ، فتوقفت لحظة ، ثم سارت مبتعدة ،ون أن يبدو الخوف عليها ، يتبعها خشفها الصغير .
وقفل سندباد عائداً إلى حيث كان بين الأشجار المطلة على شاطىءالبحر ، ترى أليس في هذه الغابة وحوش ضارية ؟ يا للعجب ، جزيرة جنة ، أناسها ـ كما تقول الحورية ـ طيبون ومسالمون ، إلا ملكها الشرير .
وأوى سندباد إلى الشجرة ، التي أغفى في ظلها لأول مرة ، وأغمض عينيه ، ها هو قد أكل حتى شبع ، وشرب حتى ارتوى ، فلينم قليلاً ، حتى يرتاح ، ريثما يحل الليل ، ويبزغ القمر ، وتأتيه الحورية لؤلؤة ، من أعماق البحر .
وأفاق سندباد ، والشمس تميل للغروب ، على صوت يأتي من شاطىء البحر ، ونظر إلى مصدر الصوت ، وإذا الصياد العجوز ، يسحب قاربه إلى الشاطى ، ويحمل شبكته ، وما اصطاده من سمك ، ويتجه بخطى متعبة ، بعيداً عن الشاطىء .
وخطر لسندباد خاطرة ، فنهض بهدوء ، وبهدوء أشد ، ومن مسافة بعيدة ، راح يسير في أثر الصياد ، لعله يعرف موقع كوخه ، في هذه الغابة .
وتوقف الصياد العجوز أكثر من مرة ، ومعه كان يتوقف سندباد حذراً ، من الواضح أن الصياد العجوز كان ينوء تحت ثقل الشبكة وما اصطاده من اسماك ، وتمنى سندباد لو يتقدم منه ، ويعرض عليه مساعدته .
لكن هذا أمر خطر ، فقد يسرع هذا الصياد العجوز ، لسبب من الأسباب ، إلى الملك الشرير ، ويشي به ، ويقع ما لا تحمد عقباه .
وتوغل الصياد العجوز في الغابة ، حاملاً شبكته ، وما اصطاده من أسماك ، وسرعان ما توقف أمام كوخ صغير ، عتيق ، أبلاه الزمن ، يكاد لا يظهر بين الأشجار الكثيفة المحيطة به ، ثم دفع بابه المتداعي ، ودخل فيه ، وأغلق الباب .
وتوقف سندباد ، هذا هو إذن كوخ الصياد العجوز ، وتلفت بحذر حوله ، لا أحد هنا غيره ، ومن يدري ، لعله يعيش وحده في الكوخ .
وتراجع سندباد قليلاً ، ثم استدار ، وقفل عائداً من حيث أتى ، فهاهو الليل يسدل ستائره ، وفي السماء العميقة ، تلمع أولى النجوم ، وسيبزغ القمر ، وعندئذ تأتيه الحورية ، من أعماق البحر .



" 6 "
ـــــــــــــــــــ

عند منتصف الليل ، طلع القمر من خلف الأشجار ، وعلى الفور ، طلعت الحورية لؤلؤة ، من أعماق البحر .
وعلى رمال الشاطىء الفضية ، وتحت ضوء القمر ، رأى سندباد الحورية لؤلؤة ، تقبل نحوه مشرقة ، وعلى ثغرها ابتسامتها الطفولية الجميلة .
ونهض سندباد مرحباً : أهلاً لؤلؤة .
وأسرعت الحورية لؤلؤة إليه ، وهي تقول : ابقَ في مكانك ، أخشى أن يراك أحد .
وتوقف سندباد ، وقال : نحن في منتصف الليل .
وردت لؤلؤة قائلة : عيون الملك الشرير ، لا ينامون ليلاً ولا نهاراً .
وتراجع سندباد نحو الشجرة ، وقال : تعالي نجلس هنا إذن .
وجلست الحورية ، وقالت : نعم ، هذا أفضل .
وجلس سندباد على مقربة منها ، وراح يتأملها على ضوء القمر ، ثم قال : لو تعرفين ، يا لؤلؤة ، كم خشيت أن لا تأتي .
وضحكت لؤلؤة ضحكة في صفاء ضحك الأطفال ، وقالت : إن وعودي دقيقة جداً ، إنني حورية .
وقال سندباد : وهذا ما يعجبني .
وابتسمت الحورية ، وتساءلت بلهجة مداعبة : ماذا يعجبك مني ، دقة موعدي ، أم كوني حورية .
وتطلع سندباد إليه ، وقال : كلاهما .
وابتسمت حورية فرحة ، ولاذت بالصمت لحظة ، ثم قالت : حدثني ، كيف قضيت يومك ، في هذا المكان من الغابة ، وأنت تنتظرني ؟
ونظر سندباد إليها ملياً ، وهو يحدثها قائلاً : نمت قليلاً ، ثم تجولت في الجوار ، وتناولت بعض الفواكه ، وأي فواكه .
وصمت لحظة ، ثم تساءل : وأنت ؟
ونظرت الحورية إليه ، وقالت : حدثت أمي عنك ، يا سندباد .
واتسعت عينا سندباد دهشة ، وقال : لابد أنها حذرتك مني ، فأنا إنسان .
وقالت الحورية : في عروقي ، إلى جانب دماء الحوريات ، تجري دماء إنسان .
ونظر سندباد إليها متسائلاً ، فتابعت لؤلؤة قائلة : لقد أحبت أمي بحاراً في شبابها ، وارتبطت به مدة ، لم تطل كثيراً .
ولاذ سندباد بالصمت ، فقالت الحورية : لم تلمه أمي ، فقد حنّ إلى وطنه وأهله ، واستقل أول سفينة مرت بالجزيرة .
وصمتت الحورية برهة ، ثم قالت مبتسمة : أنت أيضاً ستستقل أول سفينة تمرّ بهذه الجزيرة ، فأنت إنسان .
ونهض سندباد ، وقال : الناس ليسوا سواسية ، يا حورية ، بعضهم كأبيك ، وإن لم تلمه أمك ، وبعضهم يختلف .
ونهضت الحورية ، وقالت : يبدو أن القمر سيغيب قريباً ، عليّ أن أذهب .
ووقف سندباد في مواجهة الحورية ، يتأملها بصمت ، ثم قال : لؤلؤة .
ونظرت الحورية إليه صامتة ، وقال : ليتني رأيتك في غير هذه الجزيرة .
وقالت الحورية ، دون أن تبتسم : لكن ، للأسف ، رأيتني هنا .
وقال سندباد : أنا مدين لكِ بحياتي .
وقالت الحورية : لا تقل هذا ، ما فعلته واجب ، وقد أسعدني جداً التعرف عليك .
وقال سندباد : سأنتظرك غداً .
ومضت الحورية نحو البحر ، وهي تقول : إلى اللقاء ، يا سندباد .
فقال سندباد ، وهو يتابعها بعينيه : إلى اللقاء ، يا لؤلؤة ، لا تتأخري .
وظل سندباد يتابعها بعينيه المحبتين ، حتى دخلت البحر ، وغاصت إلى الأعماق .




" 7 "
ــــــــــــــــــ

أفاق سندباد مبكراً ، رغم أنه لم ينم إلا في ساعة متأخرة من الليل ، فقد كان لا يفكر فقط في الحورية ، التي راحت تتوغل في أعماقه يوماً بعد يوم ، وإنما أيضاً كان يفكر في طريق للهرب من الجزيرة ، قبل أن يقع في يد ملكها الشرير .
ومع أن الحورية لؤلؤة ، نصحته أن لا يبتعد عن مكمنه بين الأشجار ، أو يقترب من الشاطىء ، إلا أنه تسلل عبر الأشجار ، وراح يمشي على رمال الشاطىء ، لعله يرى سفينة قادمة إلى الجزيرة ، أو مارة بها ، ولو من بعيد ، فيراه بعض ركابها ، وينتشلونه من محنته ، ويأخذونه بعيداً عن هذه الجزيرة ، وملكها الشرير .
وتوقف سندباد ، وقلبه يخفق بشدة ، فقد لمح في الأفق المضبب البعيد ، نقطة متحركة ، ترى .. أهي سفينة ؟ لماذا لا .
وعلى الفور ، انطلق راكضاً ، عبر الشاطىء الرملي ، إلى البحر ، وهو ينزع قميصه الأبيض ، وخاض في المياه الضحلة ، ملوحاً بالقميص ، لعل أحداً من ركاب السفينة يراه من بعيد ، لكن النقطة السوداء المتحركة ، بدل أن تكبر راحت تصغر ، حتى تلاشت ، وانمحت من الأفق .
وتوقف سندباد عن التلويح بقميصه ، وعاد محبطاً إلى الشاطىء ، تلك النقطة السوداء المتحركة ، في الأفق المضبب ، أكانت سفينة حقاً ، أم أنها مجرد سراب ؟
لكن السراب ، على ما يعرف ، يظهر في الصحراء ، وليس في البحر ، من يدري ، لعل للبحر سرابه الخادع أيضاً .
وغادر سندباد الشاطىء ، لكنه لم يعد إلى مكمنه بين الأشجار ، بل توغل في الغابة ، متجولاً في أرجائها ، على غير هدى .
وبدون شهية ، راح يأكل من ثمار هذه الشجرة أو تلك ، حتى شبع ، وشعر بالعطش ، وتوقف عند النبع ، وانحنى ليشرب قليلاً من الماء ، لكنه توقف ، وأرههف سمعه ، وقلبه يخفق بشدة وتوجس ، فقد ندت حركة مريبة من بين الأشجار القريبة ، أهي الغزالة وخشفها ؟
ورفع رأسه ، والتفت سريعاً ، ولمح خيال رجل يتواري وراء إحدى الأشجار ، وتلفت سندباد حوله ، إنه ليس الصياد العجوز ، وخفق قلبه خوفاً ، أهو عين من عيون الملك الشرير ؟ من يدري .
وعلى عجل ، وبدون أن يشرب ماء من النبع ، تراجع بحذر ، وبحذر أشد ، قفل عائداً إلى مكمنه ، بين الأشجار القريبة من أشجار الشاطىء .
وظل سندباد ، قابعاً في مكمنه بين الأشجار ، يراقب منه البحر ، والشاطىء الرملي ، ومحيط المكان ، وهو يتوقع ، في كلّ لحظة ، أن ينقض عليه حرس الجزيرة ، ويقودوه إلى الملك .
وفكر ، لابد من مغادرة هذه الجزيرة ، وفي أسرع وقت ممكن ، وإلا لن يخرج منها حياً ، ولن يرى وطنه ، وحبيبته بغداد ، مرة أخرى .
وخطر له ، مرة أخرى ، أن يطلب من الحورية لؤلؤة ، وكذلك من أمها ، أن يساعداه ، لعلهما يستطيعان ، بطريقة أو أخرى ، إيصاله إلى سفينة مارة ، أو تدلان سفينة ، قد تقترب من الجزيرة ، إلى مكمنه ، فيأتون إليه سراً ، وينقذونه من محنته ، قبل أن يقع في يد الملك الشرير .
وقبل أن يصل سندباد إلى قرار ، قد يساعده على تجاوز محنته ، ويعيده إلى وطنه ، استغرق في نوم عميق ، ولا يدري كم استغرق في النوم ، عندما أفاق ، إثر حلم غريب ، فقد رأى فيما يرى النائم ، الصياد العجوز ، يمخر البحر بقاربه ، ويلوح له من بعيد ، أن تعال .
وفتح عينيه ، وإذا بهما تقعان على الصياد العجوز ، يسحب قاربه إلى الشاطىء ، ثم يحمل شبكته ، وما اصطاده من أسماك ، ويسير بخطواته الثقيلة المتعبة ، نحو كوخه ، القابع خلف الأشجار المطلة على شاطىء البحر .
واعتدل سندباد ، وراح يتابع الصياد العجوز ، وفكر في الاستعانة به في محنته ، لماذا لا ؟ فقد يفيده في تجاوز محنته ، بقدر ما قد تفيه الحورية لؤلؤة أو أمها حورية البحر .



" 8 "
ـــــــــــــــــــ

اقترب سندباد متلفتاً ، من كوخ الصياد العجوز ، ثم طرق بابه بهدوء ، وتراجع قليلاً ، وراح ينصت ، لكنه لم يسمع رداً ، فتقدم وطرق الباب ثانية ، ووقف جانباً ينتظر .
وفتح الباب ، بعد قليل ، وأطل منه الصياد العجوز ، وما إن رأى سندباد يقف جانباً ، حتى اتسعت عيناه دهشة ، وقال : إذا كنت إنساناً ، وليس جنّياً ، فأنت عربي .
وردّ سندباد ، دون أن يتحرك من مكانه : نعم ، أنا عربيّ ، من بغداد .
فقال الصياد العجوز : آه ، هارون الرشيد .
وقال سندباد : أنت تتكلم العربية .
ولمعت عينا الصياد العجوز الخابيتان ، وقال : في شبابي ، عملتُ مع تجار عرب ، وتعلمت اللغة العربية .
ثم تنحى قليلاً ، وقال : عفواً ، تفضل ، نحن أيضاً نكرم الضيف مثل العرب .
ودخل سندباد الكوخ ، فأغلق الصياد العجوز الباب ، وأشار له أن يجلس ، وقال بصوته الشائخ : تفضل ، اجلس .
وجلس سندباد على حشية قديمة بالية ، وقال : عفواً أيها العم ، أخشى أن أكون قد جئت في وقت غير مناسب .
فقال الصياد العجوز : لا عليك ، إنني أعيش هنا وحيداً ، بعد أن توفيت زوجتي ، ورحل ابني عن هذه الجزيرة إلى جزيرة بعيدة ، أنت تعرف الشباب ، هذه الجزيرة لا تلبي طموحه .
وصمت الصياد العجوز لحظة ، ثم قال : عفواً ، عليّ أن أكون عربياً معك ، فأنتم العرب تكرمون الضيف أولاً وقبل كلّ شيء ، قبل أن تسألوه عن الهدف من الزيارة .
وهمّ سندباد أن يتكلم ، فقاطعه الصياد العجوز متابعاً كلامه : عندي لبن وخبز ، هذا عشائي ، أم تريد أن ..
وقاطعه سندباد قائلاً : بل خبزاً ولبناً .
وعلى الفور ، وضع الصياد العجوز أمام سندباد ، رغيفاً من الخبز ، وإناء فيه شيء من اللبن ، وجلس قبالته ، وقال : تفضل ، لنأكل معاً .
وراحا يأكلان الخبز واللبن ، دون أن يتفوه أحدهما بكلمة واحدة ، وتوقف سندباد عن تناول الطعام ، فتوقف الصياد العجوز هو الآخر ، ونظر إلى سندباد ، وقال : عفواً ، يا بنيّ ، لا أريد أن أتدخل في شؤونك ، لكني لا أعرف من أين أتيت إلى هذه الجزيرة ، فأنا لم أرَ سفينة ترسو على شواطئنا منذ فترة طويلة .
فتطلع سندباد إليه ، وقال : أنت محق ، لقد مررتُ بظروف لا تصدق .
وصمت لحظة ، ثم قال : كنت في سفينة ، مع عدد من التجار ، وفي وسط البحر ، رأينا جزيرة صغيرة خضراء ، فنزلت إليها مع بعض التجار ، دون علم القبطان ..
وتوقف سندباد عن الكلام ، فهز الصياد العجوز رأسه ، وقال : لابد أنها كالعادة ، لم تكن جزيرة صغيرة .
فقال سندباد : نعم ، كانت دون أن نعرف ، حوتاً ضخماً ، كأنه جزيرة صغيرة خضراء .
وقال الصياد العجوز : هذا ما تصوره العديد من البحارة والمسافرين ، المتشوقين لرؤية البرّ ، فدفع بعضهم حياته ثمناً لذلك .
ونظر سندباد إلى الصياد العجوز ، وقال : وهذا ما حدث لنا ، فقد غرق العديد ممن نزلوا معي إلى ما ظنناه جزيرة خضراء .
وسكت سندباد ، وهرب بعينيه هذه المرة ، عن عيني الصياد العجوز ، فأطرق الصياد العجوز رأسه ، ثم قال : يبدو أن هناك سراً ، لا تريد لسبب من الأسباب ، أن ترويه لي .
وتوقف الصياد العجوز عن الكلام ، لكن سندباد ظل مطرقاً رأسه ، دون أن يتكلم ، فتابع الصياد العجوز قائلاً : هذا حقك ، لكن يا بنيّ ، كن حذراً من الملك ، فهو شرير للغاية .
ورفع سندباد رأسه ، ونظر إلى الصياد العجوز ، وقال : لعل هذا لا يكفي ، قد أقع في أيدي الملك وأعوانه ، مهما كنتُ حذراً ، لابد أن أغادر الجزيرة ، وبأسرع وقت ممكن ، ولهذا جئت إليك ، لعلك تساعدني في ..
وسكت سندباد متوجساً ، وتلفت الصياد العجوز حوله ، ثم قال بصوت خافت : بنيّ ، من الأفضل أن تذهب ، أخشى أن يكون أحد أعوان الملك ، يراقب الكوخ .
وعلى الفور ، وبدون أن يتفوه بكلمة ، هبّ سندباد من مكانه ، وتسلل إلى خارج الكوخ ، ومضى تحت جنح الظلام ، عبر أشجار الغابة ، إلى مكمنه ، بين الأشجار الكثيفة ، القريبة من شاطىء البحر .


" 9 "
ــــــــــــــــ

في منامه ، رأى سندباد فيما يرى النائم ، أكثر من كابوس ، أحدها ، ولعله آخرها ، مجموعة من الغربان الغريبة الضخمة ، انقضت عليه فجأة ، لا يدري من أين ، وصاح به أحدها بصوت منفعل شرس : انهض .
وفتح سندباد عينيه مذعوراً ، وإذا مجموعة من الحرس ، المدججين بالسلاح ، يحيطون به من كل جانب ، يتقدمهم حارس ضخم شرس ، أشار له برمحه غاضباً : هيا ، انهض .
وهبّ سندباد واقفاً ، وقد تملكه الخوف ،وقال متمتماً : الملك !
وعلى الفور ، أشار له الحارس الضخم برمحه غاضباً ، أن تحرك .
وتحرك سندباد ، متعثراً في مشيته ، بين الحرس المدججين بالسلاح ، وسار به الحارس الضخم ، عبر الغابة ، إلى قصر الملك ، الذي تحيط به حديقة واسعة الأرجاء .
وأخذه الحارس الضخم ، إلى داخل القصر ، وقاده عبر ممرات عديدة إلى غرفة العرش ، حيث الملك ووزيره العجوز .
وانحنى الحارس الضخم للملك ، وقال : مولاي ، هذا هو الغريب .
وحدق الملك في سندباد ، ثم أشار للحارس الضخم ، أن أخرج ، فانحنى الحارس الضخ للملك ، ثم مضى إل الخارج .
وخاطب الملك سندباد قائلاً : ما اسمك ؟
فردّ سندباد : اسمي .. سندباد .
وصاح الملك : قل يا مولاي ..
وعلى الفور قال سندباد : يا مولاي .
وتابع الملك صائحاً : وانحنِ .
وانحنى سندباد على الفور ، وظل منحنياً ، فقال الملك : اعتدل .
واعتدل سندباد خائفاً ، فقال الملك : والآن أنظر إليّ ، وتحدث .
ونظر سندباد إلى الملك ، وقال متأتئاً بصوت مضطرب : مو .. مولا.. ي ..
ثم إلتفت إلى الوزير العجوز حائراً مستاجداً ، فقال الأخير : جلالة الملك المبجل ، يريد أن يعرف أولاً ، من أنت .
فردّ سندباد متردداً : أنا تاجر .
وتساءل الوزير العجوز : من أين أتيت ؟
فقال سندباد : من البحر .
ونظر الملك إلى الوزير ، وهو يتميز غيظاً ، فتابع سندباد قائلاً : كنت في سفينة ، مع مجموعة من التجار ، ورأينا وسط البحر ، ما ظنناه جزيرة صغيرة ، فنزلنا إليها ، وإذا هي حوت ضخم ، سرعان ما غاص في البحر ، وغاص معه العديد من التجار .
وصمت سندباد لحظة ، ثم تابع قائلاً : وكتبت لي النجاة ، فوصلت إلى هذه الجزيرة .
وصاح الملك غاضباً : سباحة !
ولاذ سندباد بالصمت ، فقال الوزير العجوز : لابد أن جدتك كانت سمكة قرش ، يا سندباد .
وفغر سندباد فاه ، ثم قال : لا يا سيدي ، أنا كما ترى ، إنسان .
واقترب الوزير العجوز منه ، وقال : سندباد ، أخبرنا ، وكن صادقاً ، كيف وصلت ، من وسط البحر ، إلى جزيرتنا هذه ؟
ولاذ سندباد بالصمت ، فانفجر الملك غاضباً : أريد الحقيقة ، والحقيقة وحدها .
واقترب الوزير العجوز من الملك ، وقال : سنعرف الحقيقة منه ، يا مولاي ، عاجلاً أو آجلاً .
وزام الملك ، كاظماً غيظه ، فالتفت الوزير العجوز إلى سندباد ، وقال : ستكون الليلة ضيفاً علينا ، في السجن طبعاً ، وسندعك تفكر حتى الغد ، وبعدها ستقول لنا الحقيقة ، أو تكون طعاماً لسمك القرش في البحر .
ثم التفت إلى الباب ، وهتف : أيها الحارس .
وعلى الفور ، أقبل الحارس الضخم المتجهم ، وانحنى ثم قال : سيدي .
فقال الوزير العجوز : خذ ضيفنا هذا ، وأودعه السجن حتى الغد .
وأخذه الحارس المتجهم ، وأودعه زنزانة داخل سجن تحت القصر ، وأغلق عليه باب الزنزانة ، ومن إحدى الزوايا المظلمة ، جاءه صوت واهن يتمتم : بنيّ .. سندباد .
والتفت سندباد مندهشاً ، وقال : من ! الصياد ؟
وتقدم الصياد العجوز منه بتثاقل ، وقال : لقد أخذوني حالما خرجت من كوخي .
وهزّ سندباد رأسه ، وقال : عفواً أيها العم ، لقد سببت لك أذى شديداً .
فقال الصياد العجوز : لا عليك ، هذا قدري .
وصمت لحظة ، ثم قال : لقد سألوني عنك ، فأخبرتهم بكل ما أعرفه ، لكن هناك أمر لم أسألك ، ولن أسألك عنه ، وهذا ما يريدون أن يعرفوه منك ، ولعلهم إذا عرفوه سيتخلصون منك .
وصمت الصياد العجوز ثانية ، ثم قال : الوزير العجوز ثعلب ماكر ، غدار ، احذره .
وبعد منتصف النهار ، جاء عدد من الحرس ، وأخذوا الصياد العجوز ، وقبل أن يخرجوا به من الزنزانة ، نظر إلى سندباد ، وقال بصوت واهن حزين : وداعاً ، يا بنيّ .



" 10 "
ــــــــــــــــــ

في اليوم التالي ، عند حوالي الضحى ، دُفع باب الزنزانة ، ودخل مسؤول السجن ، ومن حوله عدد من الحرس المدججين بالسلاح .
ونهض سندباد متثاقلاً ، فهو لم ينم ليلة البارحة ، إلا في ساعة متأخرة من الليل ، بعد أن جاء الحرس ، وأخذوا الصياد العجوز إلى مصير مجهول .
وحدق المسؤول في سندباد ، وقال بصوت جاف : وزير جلالة الملك جاء لزيارتك ، إنه في غرفتي الآن ، سآخذك إليه .
ولاذ سندباد بالصمت ، فتابع المسؤول قائلاً بنبرة تهديد واضحة : أنصحك أن تعمل بما يأمرك به الوزير ، وإلا فسيكون مصيرك مصير الصياد العجوز .
وأطرق سندباد رأسه ، دون أن ينبس بكلمة ، فتابع المسؤول قائلاً : هيا ، تعال معي بسرعة ، الوزير ينتظرك .
وخرج المسؤول مسرعاً من الزنزانة ، وهو يقول للحرس ، الذين يحيطون بسندباد : خذوه ، والحقوا بي إلى غرفتي .
واقترب الحرس المدججون بالسلاح من سندباد ، ودفعه أحدهم بشيء من الخشونة ، وقال : هيا ، لا تتماوت ، تحرك .
وتحرك سندباد ، وسار مفكراً بين الحرس المدججين بالسلاح ، في أثر المسؤول المتجهم ، الوزير العجوز ينتظره الآن في الغرفة ، وينتظر منه الحقيقة ، ويا للحقيقة التي يصعب تصديقها ، وهل يمكن أن يصدق الوزير العجوز أو الملك ، أن من أنقذه من الغرق ، وجاء به إلى هذه الجزيرة ، هي حورية البحر ؟
واندفع مسؤول السجن إلى غرفة ، لايبدو أنها زنزانة ، لابد أنها الغرفة الخاصة به في هذا السجن ، وقال لسندباد : تعال ، ادخل .
ودخل سندباد الغرفة ، وإذا هو وجهاً لوجه مع الوزير العجوز ، الذي نظر ألى المسؤول ، وقال : دعنا وحدنا .
وانحنى مسؤول السجن ، ثم تراجع قليلاً وقال : أمر سيدي .
ثم أسرع بالخروج ، وأغلق باب الغرفة ، ونظر الوزير العجوز إلى سندباد ، وقال : بنيّ سندباد ، جلالة الملك يبلغك تحياته ، واعتذاره .
وفغر سندباد فاه ، دون أن يتفوه بكلمة ، وتابع الوزير العجوز قائلاً : لقد وقع خطأ ، فمكانك ليس هنا في هذا السجن الرهيب ، وإنما في قصر من قصور الملك العامرة .
وصمت لحظة ، محدقاً في سندباد ثم قال : سندباد ، نحن نعرف كيف وصلت إلى الجزيرة ، ولعل في هذا معجزة ، تنقذ جلالة الملك .
وصمت الوزير العجوز لحظة ، وقد شاع الحزن في قسمات وجهه الشائخ ، ثم قال : إن الملك مريض ، يا سندباد ، ولن تشفيه إلا من أنقذتك وشفتك من جراحك .
ونظر سنداد إلى الوزير العجوز ممذهولاً ، فمال عليه الأخير ، وأضاف قائلاً بصوت ذي معنى : الحورية .. حورية البحر .
واتسعت عينا سندباد ذهولاً ، لكنه لم يتفوه بكلمة واحدة ، فقال الوزير العجوز : نحن نعرف كلّ شيء عنها ، ونعرف أنها زارتك مراراً ، وهذا يدل عل طيبتها ، وما نريده منك أن تدعوها لزيارة الملك ، لعلها تعالجه وتشفيه .
ونظر سندباد إلى الوزير العجوز ، وقال : أنا لا أستطيع أن أعدك بشيء ، صحيح أن الحورية أنقذتني ، وعالجت جراحي ، ولكني لا أستطيع أن أضمن موافقتها على الحضور إلى القصر .
ونظر الوزير العجوز إليه ، ثم قال : أنت محق ، لكن حاول ، فقد توافق ، وهذا عمل خيّر ، لن ينساه لك جلالة الملك .
وتلفت سندباد حوله ، ثم قال : أنا في السجن .
فقال الوزير العجوز مبتسماً : هذا كان خطأ ، سنصلحه في الحال ، وقد خصص لك جلالة الملك واحداً من أجمل قصوره ، وستسكنه ما شئت ، حالما يلتقي الملك بالحورية .
ومدّ الوزير العجوز يده ، وأمسك بيد سندباد ، وقال : تعال معي ، يا سندباد ، سأخرج بك من السجن ، وأرجو أن أراك في قصرك الملكي ، في أقرب وقت ممكن ، وهذا يتوقف عليك .




" 11 "
ــــــــــــــــــــ

عاد سندباد إلى مكمنه ، بين الأشجار الكثيفة المطلة على شاطىء البحر ، الذي لم يعد مكمناً ، فهو حرّ الحركة في الجزيرة كلها ، بعد حديث الوزير إليه ، وإطلاقه من السجن .
وأول شيء قام به ، بعد أن ارتاح قليلاً ، تفقده للصياد العجوز ، فتجول على الشاطىء ، لعله يراه أو يعثر على أثر له ، وبدل ذلك عثر على القارب ملقى فوق الرمال ، وكأنه جثة هامدة ، غادرتها الحياة منذ فترة طويلة .
وقبيل المساء ، توغل سندباد في الغابة ، قاصداً كوخ الصياد العجوز ، وحين لاح الكوخ مختبئاً بين الأشجار الكثيفة ، بدا له موحشاً مهجوراً ، قد غادرته الحياة ، مثلما غادرت القارب الملقى على رمال الشاطىء .
وطرق سندباد الباب ، وانتظر قليلاً ، لكن أحداً لم يردّ عليه ، وطرقه ثانية وثالثة دون جدوى ، فمدّ يده إلى الباب ، ودفعه برفق ، وبدا الكوخ من الداخل ، موحشاً لا أثر فيه للحياة .
وتوقف سندباد ، لم يشأ أن يدخل ، والصياد العجوز غائب عنه ، ترى أين هو الآن ؟ يا للمسكين ، ربما كان ضحية لزيارته ، آه .
وقفل سندباد عائداً إلى مكمنه ، بخطى حزينة تائهة ، عبر أشجار الغابة ، وجلس بين الأشجار الكثيفة ، المطلة على شاطىء البحر ، وسرعان ما استغرق في نوم عميق .
وأفاق مراراً خلال الليل ، وغالباً ما كان يتطلع نحو السماء القاتمة ، التي لا يُرى في أعماقها ، غير نجوم متباعدة ، تنبض بأضواء بعيدة ، فيتحول بعينيه نحو الشاطىء الرملي ، ويرهف السمع ، فلا يسمع غير المياه ، وهي تزحف فوق الرمال ، ثم تنسحب متراجعة إلى البحر .
وتراءى له الصياد العجوز ، أكثر من مرة ، وهو يقول له : احذر الوزير العجوز ، إنه ثعلب ماكر غدّار .
وفكر سندباد ، ربما كان الصياد العجوز على حق ، فها هو المسكين يختفي ، لا أحد يدري أين ، وما هو مصيره ، لكن الوزير العجوز نفسه ، وعلى العكس من الملك الشرير ، عامله برفق ، ولم يطلب منه سوى أن يحاول إقناع الحرية ، بأن تزور الملك ، وتحاول معالجته .
وتراءى الملك الشرير لسندباد ، وكأنه يقف الآن أمامه ، بثيابه المزركشة ، وخنجره اللامع ، وجنونه الخطر ، ذلك اللعين ، لا يبدو مريضاً ، لكن من يدري ، لعل مرضه غير ظاهر ، مهما يكن ، فليأخذه الشيطان ، ويخلص الجزيرة منه .
وقبيل الفجر ، أفاق سندباد على صوت يعرفه ، يهتف به : سندباد .
واعتدل سندباد ، باحثاً عن مصدر الصوت ، الذي ظنه حلماً ، وتمتم هامساً : لؤلؤة !
وجاءه صوت لؤلؤة ، ليس من الحلم ، وإنما من وراء شجرة قريبة : أرجو أن يكون المكان آمناً ، يا سندباد .
وردّ سندباد قائلاً : اطمئني ، يا لؤلؤة ، تعالي ، لا أحد هنا ، أنا وحدي كما ترين .
وبرزت لؤلؤة من وراء شجرة قريبة ، وتقدمت منه متلفتة ، وهي تقول : يخيل إليّ ، يا سندباد ، أن الحرس يتربصون بي ، في كلّ مكان من الغابة ، لا أدري لماذا .
وردّ سندباد قائلاً : إنه الملك ، يا لؤلؤة ، يريد أن ..
وقبل أن يتم سندباد كلامه ، انقض عدد من الحرس المدججين بالسلاح ، من وراء الأشجار ، يتقدمهم حارس ضخم ، عكر السحنة ، وأحاطوا كالطوق الحديدي بالحورية لؤلؤة .
وتلفتت الحورية حولها خائفة ، وصاحت مستنجدة ، حائرة ، متوجسة ، بصوت مضطرب : سندباد !سندباد !
واندفع سندباد نحوها ، وهو يقول : دعوها ، أنتم ترعبونها ، دعوها ، دعوها ، سآخذها بنفسي إلى الملك .
وضربه الحارس الضخم بطرف رمحه ، وهو يقول : ابتعد أنتَ ، هذه مهمتنا .
وتهاوى سندباد على الأرض ، والدماء تنزف من جبهته ، وتوقفت الحورية بين الحرس ، تنظر إليه بمرارة ، وقالت : هذا ما لم أتوقعه منك أنت بالذات ، يا سندباد .
ودفعها الحارس الضخم أمامه ، وقال : هيا ، الملك ينتظرك على أحرّ من الجمر .
ومضت الحورية ، يحيط بها الحرس المدججون بالسلاح من كلّ جانب ، والدموع تغرق عينيها الزرقاوين ، اللتين بلون البحر .




" 12 "
ــــــــــــــــــــ

بعد تناوله لطعام الفطور ، راح الملك يتهيأ للذهاب إلى قاعة العرش ، تساعده كالعادة ، جاريته الشابة ، وحين انتهى من ارتداء ملابسه ، ووضع التاج على رأسه ، تأملته الجارية جيداً ، وقالت : أنت اليوم مستبشر ، يا مولاي .
وبدت في عينيّ الملك الضيقتين ، اللتين قلما تبتسمان ، نظرة حالمة ، وقال : رأيت الليلة في المنام أنني أطير .
فقالت الجارية الشابة مستبشرة : ليتحقق حلمك ، يا مولاي ، وتطير .
وهنا دخل الحاجب مسرعاً ، وقد علا وجهه الفرح ، وقال : مولاي ، أبشر .
والتفت الملك إليه متلهفاً ، فتمتمت الجارية الشابة فرحة : ستطير ، يا مولاي .
واقترب الحاجب من الملك ، وقال : جاء الحرس بحورية البحر ، وهي الآن في الجناح المخصص لها ، مع الوزير .
وعلى الفور ، انطلق الملك خارج جناحه ، والحاجب يهرول في أثره ، وتابعتهما الجارية الشابة بنظرها ، وهي تقول : طار الملك .. طار الملك .
واندفع الملك إلى الجناح المخصص لحورية البحر ، وإذا الوزير العجوز يقف منتصراً ، وعلى مبعدة منه ، تقف الحورية متكدرة حزينة ، لكن هذا لم يخفي جمالها النادر .
وتوقف الملك مبهوراً ، إلى جانب الوزير العجوز ، محدقاً في الحورية ، وتمتم : لؤلؤة!
ومال عليه الوزير العجوز ، وقال بصوت هامس ، لا يكاد يُسمع : لقد تحقق لنا بخداع سندباد ، يا مولاي ، ما لا يمكن أن يتحقق ، بأية وسيلة أخرى ، مهما كانت .
لكن حورية البحر سمعته ، وأدركت ما يرمي إليه ، مما زاد في كدرها وحزنها ، سندباد إذن لم يتوطأ معهما كما ظنت أول الأمر ، آه سندباد .
وقال الملك ، وعيناه مازالتا تحدقان في الحورية : اسمعني جيداً .
وقال الوزير العجوز : إنني أسمعك ، يا مولاي ، لك الأمر ، وعليّ الطاعة .
فقال الملك ، وعيناه الشرهتان تلتهمان حورية البحر : هذا الشاهد ، يجب أن يختفي .
فردّ الوزير العجوز : أمر مولاي ، سيتكفل زوار الفجر من الحرس ، تنفيذ هذه المهمة .
وتقدم الملك من الحورية ، وتوقف على مقربة منها ، يتأملها وكأنه يتأمل تحفة نادرة : لؤلؤة ..
وحدقت الحورية فيه ، دون أن تتفوه بكلمة ، فتابع الملك قائلاً : أنتِ لؤلؤة حقاً .
وابتسم الوزير العجوز ابتسامته المعروفة ، وقال : لا تليق إلا لملك مثلك ، يا مولاي .
وقال الملك ، وعيناه مازالتا تلتهمان قسمات وجه الحورية : وهذا ما ينبغي أن يكون .
ومال الملك على الحورية : لؤلؤة ..
وتراجعت الحورية قليلاً ، دون أن تتفوه بكلمة ، فتابع الملك قائلاً : أصغي إليّ جيداً .
وحدقت الحورية فيه ، ومرة أخرى ، لم تتفوه بكلمة ، فقال الملك : الجميع في هذه الجزيرة يعرفون ، أن ما أريده أحصل عليه ، أو أزيله من وجه الحياة كلها .
وصمت الملك لحظة ، ثم قال : أنت لي ، لقد حصلتُ عليك ، وستكونين لي ، أو لا تكوني ، ستكوني الأولى بين جواريّ ، لؤلؤة لآلئي ، أو لا تكوني أيّ شيء .
وتراجع الملك قليلاً ، ثم قال : هذا جناحك ، وستكون لك وصيفاتك ، سأذهب الآن ، وحين أعود ليلاً ، أريد أن أراك لؤلؤتي حقاً .
وخرج الملك من الجناح ، ولحق به الوزير العجوز ، وهمس له ، وهما في طريقهما إلى قاعة العرش : مولاي ..
وردّ الملك ، دون أن يتوقف : صحيح إنها لؤلؤة ، لكنها امرأة ، وأنا كما تعرف ، لم تقف في وجهي امرأة ، مهما كانت .
وقال الوزير العجوز ، وهو يسير في أثر الملك : أنت محق ، يا مولاي ، ولكن علينا أن لا ننسى أنها حورية من حوريات البحر .
ودخل الملك قاعة العرش ، وقال وكأنه يضع حداً لحديثه مع الوزير العجوز : لم أنسَ ، ولكن لا تنسَ أنت ، من أنا ، أنا ملك الجزيرة كلها .
وتوقف الوزير لحظة ، وقد لاذ بالصمت ، ثم دخل قاعة العرش ، في أعقاب الملك ، وتوقف على مقربة منه ، دون أن يتفوه كلمة واحدة .



" 13 "
ــــــــــــــــــــ

بين عشية وضحاها ، وعلى غير المتوقع ، تغير الحال ، ليس في القصر وحده ، وإنما في الجزيرة كلها ، وانقلب كل شيء رأساً على عقب .
كيف جرى هذا ؟
ومن كان وراءه ؟
هذا ما لم يعرفه ، وربما لن يعرفه أحد ، حتى النهاية .
ففي ساعة من ساعات الليل ، اختفت الحورية لؤلؤة من القصر ، واختفى معها تماماً ، ويا للغرابة ، الملك الشرير نفسه ، وكأنّ لم يكن له وجود مطلقاً ، في أي مكان من الجزيرة .
هذا ما عرفه الجميع ، منذ فجر اليوم التالي ، لكن ماذا حدث بالضبط ؟
وكيف حدث ذلك ؟
هذا ما لم يعرفه أحد من السكان .
قيل ، والعهدة على القائل ، أن الحورية هربت من القصر ، هربت وحدها ؟ أمر لا يعقل ، لابدّ أن أحداً ، والحالة هذه ، قد ساعدها على الهرب ، ولحق بها الملك ، وكما اختفت الحورية ، مثل ـ فص ملح وذاب ـ اختفى الملك ، دون أن يترك وراءه أثراً يذكر .
وقيل ، وهذا أكثر غرابة ، ولا معقولية ، أن ابن عم الحورية ، وهو من جبابرة أعماق البحار ، ويقال أنه كان خطيبها ، تسلل إلى القصر ليلاً ، كيف حدث ذلك ؟ وأين كان الحرس المدججون بالسلاح ؟ المهم هذا ما قيل ، تسلل إلى القصر ، فأخذ ابنة عمه الحورية ، ومعها أخذ الملك نفسه ، بعد أن قيده ، وكمم فمه ، ثم غاب الثلاثة في عتمات أعماق البحر .
وعلى الفور ، تجمع الناس حول قصر الملك فرحين بالخلاص من الملك الشرير ، وسرعان ما اتجهوا نحو السجن ، وأطلقوا سراح الملك الطيب ، ، عاونهم في ذلك جميع الحرس ، وحملوه على الأعناق مهللين ، وعادوا به إلى العرش ، وعاد كلّ شيء إلى مجراه الأول ، قبل أن يغتصب الملك الشرير العرش ، ويحكم الجزيرة وأهلها الطيبين ، بالحديد والنار .
ودعا البعض إلى إلقاء القبض على الوزير العجوز ، وتقديمه إلى القضاء ، ليقول فيه كلمته العادلة ، لكن الملك الطيب ، وربما لكبر سن الوزير ، فضل أن يعزله ، ويبقيه في قصره ، لا يغادره مطلقاً ، حتى النهاية .
وعلم سندباد بما جرى ، وشعر بالفرح لنجاة الحورية من براثن الملك ، وإن ظل على شعوره بالمرارة ، لما قد تظنه فيه .
وفي اليوم التالي ، أرسل الملك الطيب في طلب سندباد ، واستقبله مرحباً في قاعة العرش ، وقال له : نحن نعتذر عما أصابك ، وهذه ليست من شيم أهالي هذه الجزيرة ، ولك أن تبقى بيننا معززاً مكرماً ، أو تعود إلى وطنك ، على أول سفينة ترسو إلى شواطىء جزيرتنا .
وبدا سندباد مرتاحاً إلى ما قاله الملك ، لكنه قال : أشكرك ، يا مولاي ، إنني مشتاق إلى أهلي ووطني ، وأفضل العودة إلى الوطن .
وابتسم الملك الطيب ، وقال : لك هذا ، وقد خصصنا مؤقتاً قصراً من قصورنا تقيم فيه ، إلى أن ترحل إلى وطنك .
وبدل أن يسكن سندباد القصر ، الذي خصصه له الملك الطيب ، عاد إلى مكمنه بين الأشجار الكثيفة ، التي تطل على شاطىء البحر .
وانتظر في مكمنه ، يوماً بعد يوم ، وليلة بعد ليلة ، وخاصة عندما اكتمل القمر ، وصار بدراً ، أن تأتيه الحورية ، ولو مرة واحدة ، ليوضح لها أنه لم يخنها ، وأنه لم يغدر بها ، ويبيعها للملك الشرير ، ولن يبيعها حتى لقاء لآليء العالم كله .
وذات ليلة ، غاب فيها القمر ، استيقظ سندباد من نومه فجأة ، كأن أحدهم أيقظه ، ففتح عينيه ، وخفق قلبه فرحاً ، فقد لمح على بعد خطوات منه ، في عتمة الليل ، لؤلؤة كبيرة تشع ، فهب واقفاً متلفتاً حوله ، الحورية لؤلؤة كانت هنا ، جاءته وهو نائم ، وقدمت له أعز ما تملك ، اللؤلؤة الكبيرة ، التي أهدتها لها أمها ، لتحييه وتقول له ، إنها تعرف عواطفه ، وتعرف أنه لم يخنها ولن يخونها .
وأخذ سندباد اللؤلؤة الكبيرة بين يديه ، ولعلها أكبر لؤلؤة في العالم ، وضمها بين يديه ، وكأنه يضمها إلى قلبه ، وهي مازالت معه ، وستبقى معه حتى النهاية ، فهي هدية لؤلؤة البحر ، الحورية الحبيبة .. لؤلؤة .




" 14 "
ــــــــــــــــــــ


هيأ الخدم ، على عادتهم كلّ مساء ، مجلس سندباد ، الذي يسمر فيه مع أصدقائه وخاصته ، ليلة كلّ يوم .
وأقبل سندباد ، وقد ارتدى أجمل ملابسه ، وجلس في مكانه المعتاد ، فتقدم منه الحاجب ، وقال : سيدي سندباد .
ورفع سندباد عينيه إليه ، وقال : نعم .
فقال الحاجب : ضيفنا الحمال ينتظر في غرفته أمركم ، يا سيدي .
فأشار له سندباد قائلاً : اذهب ، وأتي به .
وانحنى الحاجب قليلاً ، وقال : أمر سيدي .
ومضى الحاجب ليأتي بالحمال سندباد ، واتكأ سندباد على إحدى الوسائد الوثيرة ، وراح يستعيد سريعاً ما قرر أن يرويه للحمال .
سيحدثه في الرحلة الأولى ، عن الحوت الضخم ، الذي ظنوه جزيرة ، وعن طائر الرخ ، في الرحلة الثانية ، وكيف أن محيط بيضته " 50 " خطوة ، وسيحدثه عما رآه ، في الرحلة الثالثة ، من جنّ وعجائب المخلوقات البحرية ، وفي الرحلة الرابعة ، سيحدثه عن العواصف ، التي حطمت السفينة ، وكيف أنه نجا مع بعض أصحابه ، بعد أن تعلقوا بلوح خشبي ، ووصلوا إلى جزيرة قوم عراة ، وسيحدثه عن الرخ ، في الرحلة الخامسة ، وكيف انقض على سفينتهم ، وأغرقها بمن فيها ، لأن التجار كسروا إحدى بيضاته ، وقتلوا فراخه ، وأكلوا لحومها ، وكيف أنهم تاهوا في البحر ، في الرحلة السادسة ، وتحطمت سفينتهم قرب إحدى الجبال الشاهقة ، ولجأ الناجون منهم إلى جزيرة ، فيها كنوز من الجواهر والياقوت والمعادن الثمينة ، كما سيحدثه عما جرى له ، في الرحلة السابعة والأخيرة ، التي وصلوا فيها إلى الصين ، وكيف صادفوا بعدها ، عدداً من الحيتان الضخمة الشرسة ، التي هاجمت إحداها السفينة وحطمتها ، ولم ينجُ أحد غيره ، حيث تعلق بلوح من الخشب ، وصل به إلى إحدى الجزر المأهولة ، عاد بعدها إلى بغداد ، وأقسم أن لا يسافر ثانية ، بعد أن استغرق في رحلاته السبع " 27 " عاماً .
وتململ سندباد في مكانه ، وفكر ثانية ، سيحدثه عن كلّ هذا وبالتفصيل ، ثم يكرمه ، ويمنحه مبلغاً من المال ، يقيه شرّ الحاجة والعوز ، لكن شيئاً واحداً لن يحدثه عنه ، كما لم ولن يحدث أحداً عنه ، وسيبقى في داخله ، كما اللؤلؤة في قوقعتها ، نعم الحورية اللؤلؤة ، لن يحدثه عنها ، وستبقى تضيء داخله ، وتدفئه ، طول العمر .
وأفاق سندباد على الحاجب ، يميل عليه ، ويقول : سيدي .
ورفع سندباد عينيه إليه ، وقال : نعم .
فقال الحاجب : الضيف سندباد ، يا سيدي .
وتنهد سندباد ، وقال : أهلاً به ، ليتفضل .
وأقبل سندباد الحمال ، وجلس حيث أشار له سندباد ، على حشية وثيرة قبالته ، وقال له : أهلاً بالضيف العزيز سندباد ، سأحدثك الليلة عن رحلاتي السبع ، التي استغرقت " 27 " عاماً .
واعتدل سندباد الحمال في جلسته ، وقال متلهفاً : كلي آذان صاغية ، يا سيدي .
وبدأ التاجر سندباد ، يروي للحمال سندباد ، رحلاته السبع ، الواحدة بعد الأخرى ، ولكن ، وكما قرر منذ البداية ، لن يروي له ، أو لغيره ، لا الآن ولا في المستقبل ، حكايته الغريبة ، التي لا تكاد تصدق ، مع حورية البحر .. لؤلؤة .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الفلسطينيين بيستعملوا المياه خمس مرات ! فيلم حقيقي -إعادة تد


.. تفتح الشباك ترجع 100 سنة لورا?? فيلم قرابين من مشروع رشيد مش




.. 22 فيلم من داخل غزة?? بالفن رشيد مشهراوي وصل الصوت??


.. فيلم كارتون لأطفال غزة معجزة صنعت تحت القصف??




.. فنانة تشكيلية فلسطينية قصفولها المرسم??