الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الحملة العنصرية ضد الأفارقة جنوب الصحراويين في تونس:خلفياتها، سياقها وأهدافها.

علي الجلولي

2023 / 8 / 23
الهجرة , العنصرية , حقوق اللاجئين ,و الجاليات المهاجرة


الحملة العنصرية ضد الأفارقة جنوب الصحراويين في تونس:
خلفياتها، سياقها وأهدافها.
1-تقديم:
تتناقل وسائل إعلام عالمية ومواقع التواصل الاجتماعي وبيانات لمنظمات دولية غير حكومية، وهياكل الأمم المتحدة معطيات حول انتهاكات جسيمة لكرامة وحقوق مواطنين جنوب صحراويين تم الاعتداء عليهم جماعيا خاصة في مدينة صفاقس، وترحيل أعداد كبيرة منهم إلى الحدود الليبية والجزائرية حيث تمّ رميهم في الصحراء دون أكل ولا شرب تحت درجات حرارة استثنائية وقد قضى العديد منهم فيما لا يزال عدد كبير منهم يعيش على الحدود محاصرا من الأجهزة الأمنية والعسكرية من الجهتين. وتتجه الأوضاع إلى مزيد التعقد مع التطورات الأخيرة في السودان، وفي بلدان جنوب الصحراء أين تتالى التوترات على خلفية الانقلابات العسكرية وآخرها في النيجر، وتصاعد سعير الصراع بين قوى الهيمنة القديمة ممثلة في الامبريالية الفرنسية والقوى الجديدة ممثلة في روسيا وكتائب "الفاغنر". إن أعدادا كبيرة من الفارين من جحيم الحرب والفقر تتجه شمالا لتصل إلى تونس أين ينتظرهم جحيم آخر هو جحيم الاستغلال والعنصرية وعصابات الهجرة اللانظامية، كما ينتظر العديد منهم الموت في "مقبرة المتوسط"، فحسب تصريحات متطابقةلوزيري الداخلية التونسي والايطالي فقد مات في عرض البحر 900 "حارق" في الفترة بين جانفي وبداية جويلية 2023. ولئن خفتت موجة العنصرية التي مارسها الأفراد في المدة الأخيرة إلا أن كل عناصر ومحفزات عودتها بقوة لا زالت موجودة خاصة بعد إمضاء مذكرة تفاهم حول الشراكة الإستراتيجية والشاملة بين النظام التونسي والاتحاد الأوروبي يوم 16 جويلية الجاري بمشاركة نشيطة من رئيسة حكومة ايطاليا، وهي مذكرة موجهة أساسا لموضوع الهجرة اللانظامية والمهمات المحمولة على كاهل الدولة التونسية للحد منها وهي التي ستقوم بدور الحارس للحدود الجنوبية لأوروبا.
إن موضوع الهجرة اللانظامية وضمن تفاصيله هجرة جنوب الصحراويين إلى تونس وما فرضه من نقاش عام في مجمل أوساط الشعب، يتطلب في تقديرنا تدقيق المعطيات وضبط المواقف التي زاغت عند بعض مدّعي التقدمية. لقد كشف هذا الموضوع حقيقة بعض الأوساط التي لم تتخلص من العنصرية وهاهي تجهد نفسها لإيجاد التبريرات دفاعا عن مواقف مشينة وصادمة.
2ـ قصة الموجة العنصرية في تونس.
لا شك أن تصريح رئيس تونس قيس سعيد حول الجاليات جنوب الصحراوية وما تبعه من أفعال وأقوال في الساحة العامة التونسية يمكن اعتباره من أبرز أحداث بداية هذا العام. ونحن نعتقد الآن أنه قد مرّ ردح من الزمن بما من شأنه أن يوسع مساحة الموضوعية شرحا وتحليلا في التعاطي مع الحدث الذي هزّ تونس وكانت له تداعيات إقليمية/قارية ودولية لازالت متواصلة وستستمر لمدة قادمة.
وحتى يكون إلمامنا بالموضوع دقيقا وجبت العودة إلى بداية الأحداث التي نستطيع الجزم أنها كانت مفاجئة إلى حد كبير، بل أنها أثارت الاستغراب من أوساط عديدة بما فيها بعض المناصرين لقيس سعيد. فالأشقاء جنوب الصحراويين لم يكونوا في يوم تهديدا حتى ينعقد مجلس الأمن القومي مساء يوم 21 فيفري 2023ويطلق فيه رئيسه الذي هو رئيس الدولة ذلك التصريح الذي جاء فيه:"إن جحافل من المهاجرين غير النظاميين من دول إفريقيا جنوب الصحراء...تحولوا إلى مصدر عنف وجرائم...، وهم جزء من ترتيب إجرامي استعماري يهدف إلى تغيير التركيبة الديمغرافية لتونس... "(1)، وهي جمل وتعابير وأفكار صادمة، بل ثمة من اعتبر أن الرئيس لا يتحدث عن تونس بقدر ما يتحدث عن أحد سيناريوهات أفلام الخيال. والسؤال الذي يجد مشروعيته هنا، على ماذا أسس قيس سعيد مقاربته وموقفه؟
3-مهاجرو جنوب الصحراء، مهاجرو جنوب المتوسط.
3-1-تونس بين قدر الجغرافيا وعنف السياسة.
تعتبر تونس أهم معبر للهجرة البحرية غير النظامية إلى أوروبا، يعود ذلك إلى عديد الأسباب علّ أهمها قرب شواطئ جزيرة لمبادوزا الايطالية التي لا تبعد سوى 70 كيلومترا عن الشواطئ التونسية، كما يعود إلى السهولة النسبية وحتى العالية في النجاح في بلوغ الشواطئ الايطالية وهو ما يفسره البعضبتساهل السلط التونسية عموما مع "الحراقة" وهي التسمية المحلية للمهاجرين غير النظاميين الذين تدفعهم الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية الصعبة إلى خوض مغامرة البحر. "التساهل" يعود إلى رغبة النظام في التخلص من أكثر ما أمكن من المعطلين عن العمل أولا وثانيا لتحويل ورقة هؤلاء المهاجرين إلى ورقة من ورقات التفاوض مع الطرف الأوروبي والايطالي تحديدا الذي بات منزعجا من التصاعد الكبير لموجات الهجرة التي تتجه إلى أراضيه والمقدرة مثلا في سنة 2021 بأكثر من 20 ألف تونسي حسب "المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية"(2)، مع العلم أن هياكل الاتحاد الأوروبي خصصت مبالغ مالية لتوجيهها بلدان الجنوب وعلى رأسها تونس(3)لتمكينها من آليات أكثر نجاعة في مراقبة حدودها البحرية، فتونس تريد الاستئناس بالتجربة التركية فيما يهم المهاجرين السوريين الهاربين من عنف الحرب الأهلية التي التهبت بسوريا منذ أواسط 2011، فقد فتحت تركيا حدودها لملايين المهاجرين غير النظاميين السوريين وغيرهم الذين تدافعوا إلى اليونان وتشيكيا...مما حدا بالاتحاد الأوروبيإلىالإذعانإلى المطالب التركية بتوجيه مبالغ طائلة لها باسم "حماية الحدود" و "التصدي للهجرة غير الشرعية". إن تونس لم تصل إلى مستوى الضغط التركي، لكن حاجتها للمال على وقع الأزمة الاقتصاديةالعميقة جعلها تفكر في الاستفادة قدر الممكن من هذا المعطى الجغرا/سياسي لذلك تشهد العلاقات التونسية الايطالية خاصة منذ وصول"جورجا ميلوني"اليمينية المتطرفةإلى رئاسة الحكومة في 22 أكتوبر 2022 تطورا هاما وخاصة على خلفية ملف الهجرة اللانظامية. وقد قامت ايطاليا في المدة الأخيرة بضغط كبير وضخ تمويلات إلى السلط التونسية كي تتخذ إجراءات أكثر صرامة وحزما ليس ضد مواطنيها الذين يعبرون البحر خلسة فقط، بل أيضا ضد مواطني البلدان الإفريقية المختلفة وخاصة من جنوب الصحراء الذين يتوافدون على تونس كمعبر للوصول إلى الضفة الشمالية. وللتصدي لهذه الموجة التي تتزامن مع تعمق الأزمة الاقتصادية في ايطاليا وفي مجمل بلدان المركز، حرّكت الحكومة الايطالية كل منظومة التفكير العنصري الذي يقودها ويقود اليمين الأوروبي المتطرف الذي تحكمه العنصرية المقيتة ضد السود والعرب والمسلمين وكل الأعراق والثقافات المخالفة لـ"ثقافة الرجل الأبيض". ضمن هذا السياق كان انخراط النظام التونسي فجّا وغير مسبوق، فكل الحكومات السابقة ورغم انخراطها عموما في المقاربة الأوروبية لموضوع الهجرة، إلا أنها لم تنسق إلى خيار الحملة العنصرية المنظمة ضد الأشقاء جنوب الصحراويين، فحتى سنة 2011 حين تزعزعت أجهزة الدولة في تونس على وقع الثورة الشعبية وحين تدفق الآلاف من الأفارقة هروبا من تعقيدات الأوضاع في ليبيا غداة انتفاضة فيفري2011 التي تحولت إلى حرب أهلية طاحنة مازالت مستمرة إلى اليوم. لقد دخل إلى بلادنا عشرات الآلاف من الأفارقة وأغلبهم من بلدان جنوب الصحراء الذين كانوا يشتغلون في ليبيا والذين وجدوا أنفسهم في كماشة الحرب فكان ملجأهم تونس التي فتح شعبها بيوته لهم باعتبارهم أشقاء. ولما كانت الحدود البحرية مفتوحة بشكل شبه كامل فقد اتجه آلاف الأفارقة إلى خوض مغامرة البحر، ومع ذلك لم تتجرأ أي حكومة من تحويل وجهة الموضوع إلى الوجهة العنصرية عكس قيس سعيد الذي لم يتردد في إعلان حملة عنصرية لم تعرفها البلاد منذ عقود، ويبدو أن الرئيس قد وقع في فخ حزب عنصري ناشئ.
3-2-حزب عنصري في تونس.
لم يتفطن عديد التونسيين أن خطاب رئيسهم كان مسبوقا بحملة نظمها حزب يسمى "الحزب القومي التونسي" وهو حزب تم بعثه في ديسمبر 2018 رغم قيامه على أسس مناقضة للمرسوم المنظم لتأسيس الأحزاب السياسية(4)، والذي ينصّ في مادته الرابعة على ضرورة رفض الأحزاب لكل الأفكار العنصرية مهما كان أساسها: "يحجر على الأحزاب السياسية أن تعتمد في نظامها الأساسي أو في بياناتها أو في برامجها أو في نشاطها الدعوة إلى العنف والكراهية والتعصب والتمييز على أسس دينية أو فئوية أو جنسية أو جهوية" .
تجدر الإشارة إلى أن تونس أصدرت في 2018قانونا يجرّم التمييز العنصري(5)، ويعتبر هذا القانون من مكاسب ترسانة التشريع في تونس، وللتذكير فان إصدار هذا القانون قد اقترن سياقيا بظهور موجات عنصرية ضد السود سواء الأجانب منهم أو التونسيين، وقد قامت عديد الفعاليات المدنية والحقوقية والسياسية بتنظيم أنشطة توعوية تحسيسية عبر الوسائط الاجتماعية والأعمال الميدانية انتهت بالضغط على البرلمان لإصدار هذا القانون الذي يعتبر خطوة مهمة على درب تفكيك الايديولوجيا العنصرية التي مازالت معشّشة لدى بعض الأوساط المحافظة في تونس رغم كونها (أي تونس) تعتبر رائدة في مجال مقاومة العنصرية وهي التي أصدرت قانون 1846 القاضي بتجريم العبودية والرافض للتمييز على أساس عنصري(6)، وتونس تفخر بأنها أصدرت هذا التشريع قبل البلدان الغربية التي كانت تعيش على وقع ثورة التحديث العميقة التي مست كل هياكل المجتمع والتفكير.
في غفلة من التونسيين وخاصة النخب الرافضة للعنصرية تسلّل هذا الحزب الذي ظل نكرة إلى أن ظهر مسؤولوه في وسائل التواصل الاجتماعي بصدد ترويج عريضة و تنظيم حملة حول "تهديدات جدية لتونس من قبل المهاجرين الجنوب صحراويين" وأعطوا أرقاما بعيدة جدا عن الأرقام الرسمية سواء التي تهم المهاجرين النظاميين أو غير النظاميين، والتهديد يعزى حسب هذا الحزب إلى تنامي العدد وتنامي مظاهر الإجرام والاعتداءات على التونسيين مستحضرا بعض الحالات التي حدثت في العاصمة وفي مدينة صفاقس، ومركزا خاصة على كون هؤلاء المهاجرين يعيشون في إطار كيانات لها نظامها الخاص في العيش والتفكير وتسيير الحياة اليومية بما في ذلك الاحتكام لنظام قضائي وجزائي خاص هو غير النظام التونسي، ومجمل هذه المعطيات تشكل في رأيه جزء من مخطط استعماري غربي مموّل من دوائر أوروبية يستهدف تونس ووحدتها الترابية والسكانية، وقد انخرطت في هذه الموجة دوائر تحمل نفس التفكير في مصر والمغرب.. معتبرة أن شمال إفريقيا مهدد في كيانه من قبل موجة عنصرية زاحفة من جنوب الصحراء مرتكزة على فكرةتحرير شمال إفريقيا من الوجود غير الإفريقي والمقصود به العرب البيض الذين استوطنوا شمال القارة من مصر إلى موريتانيا، وأنه آن الأوان كي تعود إفريقيا للأفارقة. ولا تتردد هذه الدوائر في الاستشهاد بالنموذج الفلسطيني وكيف غير الصهاينة القادمون من مناطق مختلفة التركيبة الديمغرافية في فلسطين تحضيرا للاستيطان والاحتلال.
نفس هذه الحجج أطلقها قيس سعيد في خطابه يوم 21 فيفري بحضور أعضاء مجلس الأمن القومي من عسكريين وأمنيين، علما وأن رئيس "الحزب القومي التونسي"(7) قد صرح بكونه قد راسل رئيس الدولة حول الموضوع وبكونه أمدّه بكل المؤيدات التي تؤكد موقفه داعيا إياه للتدخل بسرعة ونجاعة للتصدي لهذه المؤامرة وطرد كل مواطني جنوب الصحراء وفرض التأشيرة على دخولهم إلى تونس للتصدي لمخاطر "الاستيطان الاجصي" كما يسمّونه. وضمن منطق المؤامرة انطلقت حملة غير مسبوقة ضد الأفارقة جنوب الصحراويين.
3-3-افريقيّة تنظم حملة طرد ضد الأفارقة.
من المعروف أن القارة الإفريقية تحمل الاسم التاريخي الأصلي لتونس وهو "افريقيّة"، وكان التسليم بالبعد الإفريقي في تشكل هوية الشعب التونسي عبر التاريخ يكاد يكون عاما خاصة مع ظهور الحركة التنويرية المعاصرة في القرنين 18 و19، ويعتبر إصدار قانون 23 جانفي 1846 خطوة متقدمة قياسا بعصرها ومحيطها، علما وأن العبودية في تونس ومجمل بلاد المغرب تمارس غالبا على السود من أصول افريقية، وتعتبر ترسانة التشريع التونسي المعاصرة متقدمة نسبيا في استلهام مفهوم المواطنة وتجريده من الأبعاد العنصرية والدينية. صحيح أن الممارسة خاصة لدى الأوساط الارستقراطية والثرية ظلت محتكمة لتراث عنصري بقيت ملامحه إلى وقت قريب وحتى إلى وقتنا الحالي، لكن ذلك لا يمنع من القول إن المجتمع التونسي في عمومه غير عنصري وأن السود هم جزء من النسيج الاجتماعي التونسي. لذلك استنكر وسط هام من الشعب وكل القوى المدنية والحقوقية والنقابية والسياسية خطاب رئيس الدولة، واستنكروا الحملة الأمنية التي استهدفت أشقائنا المهاجرين والتي ذكرت التونسيين بما كان جرى معهم سنتي 1980 و 1985 في ليبيا حين اندلعت أزمة سياسية حادة بين نظامي البلدين الشقيقين والتي كان ضحيتها عشرات الآلاف من العمال التونسيين المشتغلين بليبيا والذين هجمت عليهم جحافل البوليس في بيوتهم ومقار عملهم وتم ترحيلهم بعد افتكاك كل مقدراتهم و إهانتهم بكل صنوف الإهانة التي كانت شاشات التلفاز تنقلها على الأثير تشفيا و انتقاما من نظام سياسي من طرف نظام مقابل. لقد استحضر التونسيون الصور القاتمة لحملات التهجير التي لحقت ولا زالت الأبرياء في مناطق التوتر بما فيها في قارتنا الإفريقية. لكن الوقفة الصارمة للمجتمع المدني والسياسي وللغالبية القصوى من المواطنين الذين فتحوا أبواب بيوتهم لأشقائهم بعد انطلاق حملة أمنية متعاضدة مع حملة "أنصار قيس سعيد" الذين امتدت أياديهم إلى العُزّل للتنكيل بهم وإهانتهم والاعتداء على كرامتهم ومن فرط جنونهم كانوا ينقلون ذلك على مواقع التواصل الاجتماعي، لكنهم لم يحصدوا إلا السخط والغضب.
لقد ارتجفت أيادي السلطة بسرعة بعد التدخل الحاسم للقوى المدنية المحلية (8) والدولية، وتدخل الهيئات الإفريقية الرسمية وعلى رأسها الاتحاد الإفريقي، هذا وقد نظمت بعض الأقطار الإفريقية رحلات جوية مباشرة لنقل منظوريها بمن فيهم طلبة كانوا يجرون امتحاناتهم، كما نشرت عديد البلاغات لجمعيات الجاليات الجنوب صحراوية المقيمة في تونس لأخذ الحذر في التنقل وعدم الخروج ليلا، وفتحت بعض السفارات أبوابها لاحتضان مواطنيها فيما قامت أخرى باكتراء محلات لتجميعهم تحت أعينها. فيما خرج النشطاء في بعض العواصم الإفريقية للتنديد بما يجري في تونس (السينغال مثلا)، كما عمد البعض إلى ردود أفعال عنصرية ضد تونسيين في بعض المناطق غرب إفريقيا كما تمت الدعوة لمقاطعة السلع التونسية. وقد تم إلغاء عديد الأنشطة والفعاليات السياسية والاقتصادية... بين تونس وهيئات محلية أو قارية.
ما يثير الانتباه في هذا الملف الذي تمّ اصطناعه من قبل رأس السلطة في تونس ووجد اعتراضا وتنديدا من أغلب الأوساط والهيئات الدولية الغير حكومية منها والرسمية، جهة واحدة فقط ساندت نظام تونس هي الحكومة الايطالية، فقد صرحت رئيستها " جورجا ميلوني" ووزير خارجيتها "أنطونيو تاياني" بكل عبارات المساندة والدعم لموقف رئيس دولة تونس الذي يتفانى في حماية الحدود الجنوبية للقارة العجوز لذلك وجب تمكينه من الوسائل المادية واللوجستية للاضطلاع بالمهمة على الوجه المطلوب والموفّق. ومن الأوساط غير الرسمية جاء الرد بضعة دقائق بعد خطاب قيس سعيد من طرف "اريك زمور"، المرشح الرئاسي الفرنسي السابق، وأحد أبرز العنصريين والمعروف بعلاقاته الوطيدة بالدولة الصهيونية والذي صرح أن"البلدان المغاربية نفسها بدأت في دقّ ناقوس الخطر في مواجهة موجة الهجرة. هنا، تونس هي التي تريد اتخاذ إجراءات عاجلة لحماية شعبها. ما الذي ننتظره لمحاربة الاستبدال العظيم". (9)
إن مساندة ما أتته الدولة التونسية من قبل حكومة ايطاليا اليمينية المتطرفة و "اريك زمور" العنصري المعادي للمهاجرين، هو في حد ذاته إدانة سياسية وفكرية وحتى أخلاقية. وقد قامت الحكومة التونسية بمجهودات جبارة كي تدافع عن نفسها وتفسر وتبرر وتعتبر أن الجميع لم يفهم ما قاله رئيس الدولة أو أراد قوله، ودون تقديم اعتذار ولا تنديد بما تعرض له الأبرياء من مسّ من كرامتهم وحقوقهم من قبل الأجهزة الرسمية للدولة أو من قبل أفراد فالتين عن القانون لكنهم يشعرون بالحماية طالما هم مساندون لرئيس الدولة، وهؤلاء الأفراد هم من أنصار "الحزب القومي التونسي" هذا الحزب العنصري الذي يشكل وجوده مسّا من القوانين الوطنية المعتمدة.
4-الحقيقة في ملف هجرة جنوب الصحراويين إلى تونس.
بالعودة إلى الأرقام الرسمية التي نشرها "المعهد الوطني للإحصاء" في تقريره عن "المسح الوطني للهجرة الدولية" الصادر في 7 ديسمبر 2021 بأن عدد الأفارقة من جنوب الصحراء المتواجدين في تونس هو في حدود 21.466 من أصل 58.990 أجنبيا (12 ألف من أصل 53 ألف أجنبي سنة 2020)، ولئن أكدت عديد الجهات تزايد أعدادهم في السنتين الأخيرتين(2022/2023)،فان الأرقام المقدمة تبقى تقديرية وغالبا مبنية على الخلفية والموقف منالموضوعبرمته. وتؤكد عديد المصادر التونسية وخاصة "المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية" الذي يتابع موضوع الهجرة اللانظامية إلى تونس ومنها إلى أوروبا، أن التواجد الجنوب صحراوي الغير قانوني تزايد بداية من سنة 2011 على خلفية الأحداث التي شهدتها المنطقة وتحديدا ليبيا التي كانت تحتضن أعدادا كبيرة من العمالة جنوب الصحراوية والتي اضطرت تحت وقع الأحداث العنيفة إلى اللجوء إلى تونس ضمن موجة هجرات هي في الغالب غير منظمة، وبعضها كانت تحت إشراف هيئات الأمم المتحدةو التي فتحت ملاجئ في الجنوب التونسي لاستقبال العابرين من مختلف الجنسيات، ولئن غادر أغلبهم تراب تونس في رحلات منظمة أمنتها بلدانهم الأصلية مثلما فعلت مصر، فان مواطني بلدان جنوب الصحراء سقط أغلبهم ضحية النسيان واللامبالاة من قبل حكوماتهم، و تكفلت منظمات اللاجئين الدولية والمحلية بإعالتهم وإعاشتهم، وفيما بقي البعض في خيام اللجوء، خيّر آخرون أو اضطروا إلى الهجرة اللانظامية إلى أوروبا وتحديدا إلى ايطاليا التي عرفت "الحرقة" إليها في تلك الفترة تحولا كميا ونوعيا كبيرا. وقد ساهمت الأوضاع الاستثنائية التي عاشتها مجمل المنطقة وخاصة فيما يهم انهيار أو تفكك أنظمة الحكم في تصاعد كبير لموجات الهجرة إلى بلدان الشمال وهو الحلم الذين يراود الملايين من المفقرين والتعساء في بلدان الجنوب بما فيها القارة الإفريقية. لقد انخرط العديد من الجنوب صحراويين في موجات الهجرة اللانظامية، وقد قضى العديد منهم في البحر ودفنوا في "مقابر الغرباء" كما تسمى في المدن والقرى الساحلية التونسية أين خصصت بعض البلديات قبورا لضحايا "الحرقة" البحرية وهم غالبا من مجهولي الهوية، وهو موضوع أثار بدوره جدلا واسعا في الأوساط الحقوقية والمدنية التونسية نظرا لمسّه من كرامة البشر الذي يدفن تحت الأرض دون أي جهد للكشف عن هويته التي أصبحت متاحة علميا، يدفن هكذا دون شاهد على القبر مما اصطلح السكان على تسميتهم بقبور الغرباء. أما الجزء الآخر من الجنوب صحراويين فبقي يتحيّن الفرصة من خلال العمل على جمع المبلغ المالي المطلوب من عصابات التهريب، وهذا المبلغ يختلف طبعا عن نظيره الخاص بالتونسيين، ويضطر هؤلاء إلى العمل في ظروف قاسية وصعبة لا لهدف سوى جمع المبلغ المطلوب، ويشمل هذا الصنف لا فقط المتسللين من الحدود الليبية بل أيضا من وصل إلى تونس عبر مسالك أخرى غير نظامية مثل الحدود الجزائرية، أو من دخل البلاد بشكل قانوني ثم قرر "حرق" إقامته، علما وأن من بين هؤلاء جزائريون ومغاربة وليس فقط مواطنو جنوب الصحراء. لقد أتى جزء منهم بقصد اجتياز الحدود خلسة نحو ايطاليا، فيما اتجه آخرون إلى الإقامة غير القانونية مع تعاطي أنشطة وأعمال هامشية مثل العمل في حظائر البناء والعمل الزراعي الموسمي، وهي أنشطة استغلالية يتغاضى أصحابها عن الوضع القانوني للمهاجر خاصة بفعل استنكاف السكان الأصليين وخاصة من الشباب عن تعاطيها إضافة إلى رخص اليد العاملة الجنوب افريقية.أما الجنوب صحراويين ذوي الوجود القانوني فأغلبهم من الطلبة والمستخدمين.
إن هذه الخارطة لتوزع الأفارقة الجنوب صحراويين لا تشكل لا من جهة الكمّ ولا من جهة النوعية خطرا على الوضع الديمغرافي التونسي، ولا على الثقافة والمجتمع ووحدة المنظومة القانونية فضلا عن الأمن. على أن تورط أي كان من المهاجرين وبقطع النظر عن جنسيته، في أي جريمة مهما كانت، فالقانون الجزائي هو الفيصل، وهذه القاعدة تشمل كل المهاجرين في كل العالم. وأن يقع التعلل في خطاب رئيس الدولة ومريديه أن مجموعة من المهاجرين "وضعت قواعد قانونية خاصة بها تشمل الزواج والطلاق..."، فهذا لا يمكن التعاطي معه إلا في إطار القانون ولا شيء غيره، علما وأن ضوابط عيش بعض الأفراد في عديد الحالات والبلدان قد تنزع إلى مثل هكذا سلوك وهو ما يتم التصدي له بالمعالجة القانونية.
5-هل هي زوبعة في فنجان؟
تتجه عديد الأوساط في تونس إلى اعتبار ما حدث مجرد زوبعة في فنجان، وهي جزء مما أصبح يتسم به الوضع التونسي منذ 25 جويلية 2021، أي منذ وضع قيس سعيد أياديه على مجمل مفاصل القرار. فالرئيس غالبا ما يصرّح على الأثير بمواقف تثير الجدل مثل تصريحه مؤخرا حول "الجرف القاري" الذي يهمّ النزاع الحدودي البحري مع الجارة ليبيا وهو ما حكم فيه القضاء الدولي أمام محكمة لاهاي منذ 1982، أو تصريحه قبلها أنه ثمة فرق بين المساواة بين الجنسين والعدالة، وأن حقوق المرأة لا تشمل إلا ما يهم الفضاء خارج البيت، أو تصريحاته المتكررة حول رفض المديونية بعد إمضاء ميزانية العام الجديد القائمة أساسا في مجال مواردها على الاقتراض الداخلي والخارجي، أو تصريحه عن كون المدرسين الذين ينظمون إضرابا إداريا (حجب الأعداد) دفاعا على حقوقهم المادية والمعنوية إنما يضعون التلاميذ رهائن عندهم، أو تصريحه أن "الذكاء الاصطناعي هو تهديد للذكاء الطبيعي"، وذلك في حفل يوم العلم (9 أوت 2023). لقد تعود التونسيون ومتابعي الشأن التونسي على مثل هذه التصريحات المتسرّعة والمتشنجة والتي تعكس توجها شعبويا يستثمر في افتعال الأزمات.
لقد تكلفت تصريحات سعيّد وممارسة أجهزة حكومته وأنصاره غاليا على سمعة تونس وعلى مصالحها، وعوض الاعتذار ورأب الصدع مع أشقاء مبجلين في تونس، اعتمدت الحكومة الأساليب الملتوية، فاتخذت بعض الإجراءات مثل تمديد الإقامات القانونية بعام إضافي للطلبة ولـ 3/6 أشهر لبقية المقيمين وتسهيل العودة الطوعية. لقد كان من الممكن انجاز ذلك مع دعوة المهاجرين غير القانونيينإلى تسوية أوضاعهم سواء بالمغادرة أو تقنين وجودهم، أما ربط الهجرة السرية إلى ايطاليا بالجاليات الجنوب صحراوية، فهذا مجانب للصواب، فنسبة هؤلاء لا تقاس مع التونسيين الذين يهاجرون أو يريدون الهجرة السرية،وتشير كل الدراسات الرسمية منها وغيرها إلى أن ظاهرة الهجرة السرية أصبحت تمسّ فئات جديدة من السكان مثل النساء وكبار السن والمتقاعدين والأطفال، وأيضا موظفي القطاع العمومي والخاص الذين تتدهور أوضاعهم المعيشية بشكل مستمر. مع العلم أن ظاهرة الهجرة اللانظامية من بلدان الجنوب المفقّرة إلى بلدان الشمال لها نفس الخصائص تقريبا، ففي كل مناطق التماس الجغرافي ثمة بلدان عبور، مثل المكسيك ومنطقة الكراييب إلى الولايات المتحدةالأمريكية، ومثل السواحل المغربية إلى اسبانيا وهي التي يقطعها البعض سباحة (15 كلم في مضيق جبل طارق)، ومثل تونس وتركيا وبلدان أوروبا الشرقية كصربيا، علما وأن بحيرة المتوسط التي تقابل بين ثلاثة قارات هي إفريقيا وآسيا وأوروبا، هي فضاء نشيط جدا للهجرة السرية فقد عبرها سنة 2015 لوحدها مليون مهاجر سري. ومن المعلوم أن مناطق العبور هي مناطق تتكاثر فيها مظاهر الوجود اللاقانوني لأعداد كبيرة من المهاجرين السريين وما يتبع ذلك من مظاهر اجتماعية وثقافية وأيضا إجرامية. وقد ساهمت الأوضاع التي تعيشها تونس منذ ثورة 2011 في تنشيط مسالك الهجرة السرية سواء المرتبطة بالأفراد أو العصابات المحلية والدولية، وتدلّل أعداد الغارقين والناجين في عرض البحر المتوسط على حجم الظاهرة، لكن في كل الحالات فان المعالجة السليمة لا يحب أن تحتكم إلى المنطق العنصري الذي يستهدف الحلقة الأضعف وهي مواطني جنوب الصحراء. إن هؤلاء المواطنين لم يأتوا جميعا للهجرة السرية إلى أوروبا(10)، فهذا إجحاف في حقهم وفي حق الحقيقة، فجزء منهم أتى من أجل التمدرس أو العمل أو العيش.
6-الهجرة اللانظامية في تونس .
حسب الأرقام المنشورة من قبل "المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية" فقد تمكن من "الحرقة" في الفترة جانفي/جويلية 2023 ما يقارب 6087، وقد بلغ العدد ذروته في شهر جويلية (1769مهاجرا) رغم الحملة الإعلامية والأمنية الكبيرة المتزامنة مع إمضاء "مذكرة التفاهم". هذا وقم تم إجهاض محاولة 35143 مهاجرا سريا من تونسيين وغيرهم منذ جانفي إلى جوان 2023.ويتوزع هذا الرقم كما يلي:

الشهر جانفي فيفري مارس أفريل ماي جوان
العدد 2322 5147 7494 4756 4049 3528

وتؤكد الأرقام المنشورة من جهات رسمية وغير رسمية تفاقم الظاهرة واتساعها والتي أصبحت تمسّ حتى القصّر الذين وصل منهمإلىايطاليا حسب المنتدى في تحيين له منشور في 5 أوت 2023 الأعداد التالية:

العام 2019 2020 2021 2022 2023
العدد 192 615 1476 1602 1526

أما عدد النساء الواصلات إلى ايطاليا فقد كان كما يلي:
العام 2019 2020 2021 2022 2023
العدد 36 134 244 363 379

ولم تقف تحولات ظاهرة الهجرة اللانظامية على السن والجنس، بل طالت أيضا الفئات الاجتماعية المعنية والتي كانت مرتبطة أساسا بالفئات المعطلة والمهمشة بما فيها خريجي الجامعات، وهاهي تطال اليوم موظفين وحتىإطارات في الإدارة العمومية والقطاعين العام والخاص تضررت من تدهور المعيشة. ولئن غابت الإحصائيات حول أعداد هؤلاء ونسبتهم، إلا أن وسائل الإعلام والتواصل تداولت أكثر من مرة معطيات حول حالات شبيهة، مثل الإطار البنكي المتقاعد الذي قضى في أحد الرحلات السرية، أو عون الأمن الذي حصل على قرض بنكي غادر بعده بيوم البلاد في إطار "حرقة" صحبة زوجته وشقيقه. والواضح أن أعدادا متنامية من الموظفين والمستخدمين والعمال ضاقت بهم الدنيا وأصبح مزاجهم يتجه أكثر للتفكير في "الحرقة" خاصة مع تعقيدات الحصول على تأشيرة أو عقد شغل في إطار الهجرة النظامية، وهي تعقيدات تقل أو تنعدم مع فئات اجتماعية معينة وهي أساسا فئة الإطارات العلمية مثل الأطباء والمهندسين والجامعيين والباحثين المختصين.لقد غادر تونسحسب "المعهد الوطني للإحصاء" 39000مهندساو3300طبيبا بين 2015 و2020، وهذا النوع من الهجرة ليس في الحقيقة سوى "حرقة مقنّعة" تختلف بكونها تتمّ من المطارات وفي واضحة النهار، فأسباب الهجرتين هي على العموم واحدة أو متشابهة في ارتباطها أساسا بتدهور المعيشة.
هذا وتشكو عديد المؤسسات والمنشئات العمومية نقصا في الإطارات المختصة بفعل غلق باب الانتداب من قبل الدولة من جهة، ومن جهة أخرى بفعل النزيف الحاد من هجرة الأدمغة والذي يعود في المقام الأول إلى الأسباب المادية المتعلقة بالتأجير ومستوى العيش.فحسب "الجامعة العامة للتعليم العالي" التابعة للاتحاد العام التونسي للشغل فان عدد الأساتذة المساعدين والمحاضرين الملحقين بالوكالة التونسية للتعاون الفني وصل منذ 2014إلى 200أستاذا أي ما يعادل 18.56°/° من إجمالي المدرسين الجامعيين، وهو رقم مرشح لأن يتجاوز قريبا الـ 25°/°(11).أما عدد الباحثين الجامعيين المغادرين فهو في حدود 4000من أصل 12 ألف، وللعلم فان ميزانية البحث العلمي تراجعت منذ 2011 بنحو 75°/°، وهو في حد ذاته سبب كاف لتصاعد نزيف الهجرة (12)، علما وان 80°/° من الجامعيين ينوون الهجرة حسب دراسة أعدها "اتحاد الأساتذة الجامعيين الباحثين التونسيين" (13)، كما كشف "المسح الوطني حول الهجرة" الذي أنجزه "المعهد الوطني للإحصاء" في جويلية 2020 أن 20°/° من التونسيين الذين فاقت أعمارهم 15 سنة أي مليون و700 ألف يفكرون في الهجرة من تونس.
لاشك أن تدهور الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والسياسية هو السبب الأساسي للهجرة أو للتفكير فيها، وطالما أن هذه الأوضاع على ماهي عليه من سوء، فان إفرازاتها ستتواصل بل ستتصاعد. وان نظرة موضوعية على تنامي ظاهرة الهجرة اللانظامية تؤكد أن بلادنا تحولت فعليا إلى بلاد طاردة لأبنائها. إن ذات الأسباب تفسر عموما ظاهرة الهجرة اللانظامية على مستوى العالم وتحديدا من بلدان الجنوبإلى بلدان الشمال.
7-الهجرة اللانظامية كظاهرة عالمية.
الهجرة اللانظامية مثلها مثل الهجرة النظامية تجد أسبابها الأساسية في محدودية أو ضعف شروط العيش الكريم في البلد الأصلي لذلك يتم الاتجاه لبلد أخر للعمل أو الدراسة أو العيش. وتجد الهجرة بشكل عام تفسيرها في التطور اللامتكافىء لبلدان العالم. والهجرة في الغالب تتم من البلدان الأقل تطورا إلى أكثرها تطورا. وتجد هذه الهجرة كثافتها اليوم في الهجرة من بلدان الجنوب والشرق إلى بلدان الشمال والغرب بحكم الاختلال الكبير بينها كخاصية من خصائص الرأسمالية كنظام احتكاري عالمي يقوم على هيمنة المراكز الرأسمالية الكبرى دولا ومؤسسات على العالم برمته وهو الحال اليوم، فبلدان الجنوب وجزء من الشرق هي مصادر الثروة والطاقة وبها أغلب المقدرات الباطنية التي تشكل الشرط المادي الأساسي لنمو الرأسمالية. إن هذه البلدان ليست سيدة ولا مستقلة، بل تابعة وخاضعة عضويا للمنظومة الامبريالية وهو ما ينعكس بالفقر المدقع والبؤس والبطالة وتردي الخدمات مما يدفع أعدادا كبيرة من أبنائها إلى الهجرة لتعزيز اليد العاملة التي تتطلبها آلة الإنتاج الرأسمالي الضخمة المتركزة في البلدان الرأسمالية الأكثر تطورا. يضاف إلى ذلك الحروب والتوترات والتغيرات المناخية وهي أسباب تعززظاهرة الهجرة بكل تفريعاتها.
لقد شهد العالم المعاصر منذ نهاية القرن التاسع عشر وطوال ردح طويل من القرن العشرين موجات كبيرة وواسعة من الهجرة شملت الملايين الذين كانت الرأسمالية في أهم مراكزها الصاعدة في حاجة إليهم. لقد شكل هؤلاء جزء هاما من اليد العاملة التي بنت الاقتصاد الرأسمالي، كما شكل الملايين منهم الجنود الذين تصدروا جيوش الاحتلال والحروب التي نظمتها الرأسمالية أو انخرطت فيها سواء لفرض سيطرتها على بلدان الجنوب والشرق، أو في إطار الصراع مع القوى الامبريالية الأخرى لاقتسام وإعادة اقتسام مناطق النفوذ. لقد شكل مهاجرو إفريقيا واسيا وأمريكا الجنوبية عصب ما حققته الرأسمالية من تقدم مثلهم مثل أسلافهم من العبيد الذين تم تهجيرهم قسريا من القارة الإفريقية نحو شمال أمريكا أو "العالم الجديد" لبنائه وتشييده، وأسلافهم من العالم العربي والقارة الآسيوية وجنوب القارة الأمريكية الذين تم تهجيرهم جماعيا لتعزيز الجيوش التي كانت تخوض الحروب الرجعية والهيمنية بين الإمبراطوريات الإقطاعية ثم الرأسماليةالاستعمارية.
لقد شكل هؤلاء الأحياء القصديرية المحيطة بالمدن والمراكز الرأسمالية، كما شكلوا مدنا بحالها مثل أغلب ولايات الجنوب في الولايات المتحدة الأمريكية، شكلوا هذه التجمعات بمعيّة أفقر العمال والكادحين القادمين من الأرياف والذين ألحقتهم الرأسمالية بمراكزها. وقد شهدت موجات الهجرة الصعود والهبوط على وقع أزمات الرأسمالية، فكلما كان رأس المال في حاجة إلى اليد العاملة أو الجنود انتعشت الهجرات، وكلما ضربه الكساد تراجعت الهجرات التي أصبح ينظمها ويقودها "مختصون" من بلدان المصدر وبلدان الوجهة مرتبطون ببعضهم وأصبحت لهم مصالح مادية بتحول الهجرة إلى مجال استثمار خاصة بعد الحرب العالمية الثانية، كما ظهرت الأطر الدولية التي تنظم أو تراقب حركة التنقل العالمية.وفي عالمنا الراهن، فان عدد المهاجرين (جوان 2019) حسب "المنظمة الدولية للهجرة" التابعة للأمم المتحدة قد بلغ 272 مليونا بزيادة 51 مليون عن سنة 2010،ثلثاهم من العمال،يضاف إليهم 79.5 مليون من النازحين قسرا منهم 26 مليون لاجئا. وتشكل النساء 48°/° من عدد المهاجرين،ويبلغ عدد الأطفال 38 مليونا (14).
لقد ولدت من رحم حركة الهجرة العفوية ثم المنظمة الهجرة اللانظامية والمقصود بها الهجرة الفردية و/ أو الجماعية التي تتم خارج الأطر والمسالك الرسمية/ القانونية التي تضبطها دولة الانطلاق ودولة الوجهة وفقا لحاجياتها من التدفق الذي أصبح بحكم التحولات الحاصلة في المنظومة الرأسمالية العالمية مرتبطا أكثر باليد العاملة المختصة والمميزة (main d’œuvre spécialisée et qualifiée )، فلم تعد الهجرة على وقع الأزمة العميقة التي تضرب الرأسمالية محتكمة إلى المقاييس التقليدية أي التي تهمّ الاختصاصات التي تستحقها منظومة الإنتاج في بلدان المركز (عمال صناعيين،زراعيين، في قطاع الخدمات...)، بل أصبحت تتجه أكثر إلى المهن الجديدة والنادرة والتي تتطلب مهارات عاليةفي مجالات التكنولوجيا والتقنية لذلك تتجه الدول والمؤسسات الكبرى إلى استهداف هجرة الأدمغة سواء من تلاميذ وطلبة تخصص لهم منح عالية لاستقطابهم للتمدرس في أهم مؤسسات صناعة الدماغ ثم تشغيلهم ودمجهم في "بلدانهم الجديدة". وفي هذا الصدد تحتكم الدول الامبريالية إلى برامج دقيقة لاستقطاب الأدمغة سواء من الطلاب أو من الكفاءات. ومثلما أشرنا إلى حجم هجرة هؤلاء في تونس، فان الظاهرة عالمية وتشمل كل البلدان التابعة التي يعجز اقتصادها على استيعاب اختصاصات علمية أصبح من المسلم به أن "مكانها الطبيعي" هو العواصم الغربية.
ففي العالم العربي مثلا، أكدت تقاريرمتطابقة أن خمس السكان في 14 بلدا عربيا يفكرون في الهجرة بأي شكل ولأية وجهة وفي مقدمة هذه البلدان الأردن وتونس والسودان ومصر ولبنان والمغرب. وأن الوطن العربي خسر جراء هجرة الأدمغة/العقول والكفاءات ثلث طاقته البشرية، وان من بين هذه الأدمغة نجد 50°/° أطباء مختصون، و23°/° مهندسون. وأن 54°/° من الطلاب العرب في الخارج لا يعودون إلى أوطانهم ويخيرون البقاء في البلدان الغربية وخاصة أمريكا الشمالية وأوروبا واستراليا. وأكدت ذات التقارير أن البلدان العربية مثل لبنان والمغرب وسوريا وتونس تعيش نزيفا فعليا لمواردها البشرية (15). وأكدت دراسة لجامعة الدول العربية أن عدد الكفاءات العلمية العربية المهاجرة حتى سنة 2020 بلغت 1.081.282 في مجتمع عربي وصلت فيه نسبة الأمية 49°/°، علما وان الوطن العربي يساهم ب 31°/° من الكفاءات المهاجرة من بلدان الجنوب، وأن 75°/° من العلماء المهاجرين يتجهون الى ثلاثة بلدان هي الولايات المتحدة وبريطانيا وكندا، وان البلدان العربية تتكبد بفعل ذلك سنويا خسائر بـ 200مليار دولار (16).
ولئن وجدت هجرة الأدمغة كل التسهيلات والتشجيعات، فان بقية الهجرات التي تتطلب مهارات فقد أصبحت ترتبط بمخططات محددة وبطاقة استيعاب مضبوطة مسبقا عبر الهياكل الرسمية وغير الرسمية. لقد أصبحت القيود على الحركة عالية جدا فقد فرضت كل الدول الامبريالية نظام التأشيرات المعقد لدخول الأجانب إلى أراضيها مقابل مرونة قصوى في التعاطي مع حركة رأس المال وهي مفارقة تشكل أحد خصائص الاقتصاد العالمي في عصر الرأسمالية الاحتكارية. لقد تكيفت الرأسمالية العالمية وصاغت الأطر والقوانين للتعاطي مع كل الظواهر التي أنتجها تطورها الخاص مثل تنظيم حركة رأس المال والسلع واليد العاملة. ولئن اتسمت حركة المال والبضاعة بالمرونة التي تتوافق مع مصالح الدول والمؤسسات والشركات العابرة للبلدان والقارات، فان حركة البشر واليد العاملة شهدت تقييدات كبيرة تصل اليوم مع تنامي أزمة الرأسمالية في دول المركز إلى ما يشبه الاستحالة بالنسبة لأغلبية المقدمين على السفر والهجرة. لقد بعثت الرأسمالية الأطر اللازمة لتنظيم التجارة البينية والدولية فبعثت سنة 1995 "منظمة التجارة العالمية" التي عوضت اتفاقية "القات" (1948)، والتي وضعت القواعد التي تحكم حركة الإنتاج والبضائع والمواد الخام والخدمات والملكية الفكرية حركة الرساميل، أما حركة البشر وتحديدا اليد العاملة واحتياطيها فتعرف التقييد الأقصى سواء من جهة الشروط أو من جهة الإجراءات بما يخدم فقط مصالح رأس المال. لقد فسحت العولمة الرأسمالية المجال واسعا لتصدير السلع وتوريدها وضيقت إلى الأقصى على حركة البشر وأساسا من القوى المنتجة أو المهمشة. وفيما استفادت حركة البضاعة والمال من التقدم التكنولوجي والاتصالي الكبير في العقود الأخيرة، فان جماهير الكادحين والمهمشين تضاعفت مآسيها بذلك التطور الذي قيّد حركتهم إلى أبعد الحدود وبشكل غير مسبوق في التاريخ.
ضمن هذا المنطق في إعادة تنظيم العمالة وحركتها على المستوى العالمي تطورت حركة الهجرة اللانظامية وأصبحت تستقطب أعدادا ضخمة من المشاركين فيها. ولأن الرأسمالية تستثمر في كل شيء،فقد أصبحت هي التي تسهر على تنظيم الهجرة اللانظامية أو بالاستفادة منها وهي التي تمكنها من اليد العاملة البخسة في قطاعات الزراعة الموسمية والسياحة والقطاعات المهمّشة أو غير المنظمة، فالمهاجر غير النظامي مستعد لأي نشاط أو عمل، وهو غير مصرّح بوجوده أصلا ولا يتمتع بالتغطية الاجتماعية، لذلك تلجأ عديد الأوساط الرأسمالية خاصة بحكم أوضاع الأزمة إلى الاستفادة من خدمات هؤلاء بصفة مؤقتة أو متقطعة.
ضمن سياق تطور الهجرة اللانظامية، ولدت العصابات الدولية "المختصّة" من رحم الحاجة إلى الهجرة وهي تعتبر اليوم المجال الإجرامي الثالث بعد تجارة المخدرات وتجارة الأعضاء.وحسب وزارة الخارجية الأمريكية فقد بلغ عدد ضحايا الاتجار بالبشر سنة 2022 نحو 27.6 مليون بشر(17).وأن عائدات الاتجار بالبشر في أوروبا لوحدها تبلغ حوالي 29.4مليون اورو. وان ربعهم هم من القصر، وان 64°/° منهم متورطون في عصابات الدعارة وتجارة الجنس (18).لقد تحولت الهجرة اللانظامية وأصبحت عموما مرتبطة عضويا بعصابات الاتجار بالبشر وهي مجال إجرامي يتداخل مع أنشطة إجرامية أخرى (تجارة الرقيق الأبيض، الإرهاب، التهريب،تجارة الأعضاء...) وهي أنشطة أصبحت منتعشة بما يؤكد طبيعة الرأسمالية ويقيم الدليل على عمق تعفنها. كما نشأت وتطورت على تخوم ظاهرة الهجرة اللانظامية شبكة مصالح مع الأجهزة الأمنية والعسكرية خاصة في بلدان العبور التي أصبحت معروفة بتركز كبير للنشاط التهريبي للبشر، وأصبحت ثمة حلقات جغرافية للتسلل من بلدان الجنوب المفقر إلى بلدان الشمال "الحلم"، وهي المكسيك وبحر الكراييب في الانتقال من جنوب القارة الأمريكية إلى شمالها،والمغرب وتونس والبحر المتوسط للانتقال من إفريقيا إلى أوروبا، وتركيا وصربيا والبحر الأسود للانتقال من آسياإلى أوروبا. ولبلوغ كل هذه المسالك ثمة مسالك قبلية يجب المرور منها وقد تمتد المسافة بالمرور من عشر بلدان مثل الانتقال من الأرجنتين أو الشيلي أو البرازيل لبلوغ المكسيك، فبعضها يتم مشيا على الأقدام وبعضها باجتياز الحدود خلسة أو بدفع رشاوي لأعوان الجمارك والأمن والجيش، وبعضها بالربط مع عصابات التهريب والمخدرات وتجارة البشر لاجتياز بضعة كيلومترات برية أو بحرية، ورغم كهربة الأسلاك الشائكة الفاصلة بين المكسيك و "الجنة الأمريكية الموعودة"، إلا أن الآلاف ينجحون في الاجتياز في لحظة تتساوى فيها عندهم الحياة مع الموت، علما وأن العديد منهم يقضي قبل أن يصل. وفي إفريقيا يمتد المسلك للوصول إلى تونس أو المغرب مسارا طويلا يمتد على طول الصحراء الممتدة من السواحل الغربية أو الشرقية لوسط إفريقيا وصولا إلى الصحراء الكبرى بالجزائر أو ليبيا. ويتركز الآلاف على ضفاف مضيق جبل طارق لبلوغ اسبانيا (15كلم) أو على طول السواحل التونسية لبلوغ جزر ايطاليا (لمبادوزا تبعد 70كلم). وفي تركيا وعلى عرض البحر الأسود قد تمتد الرحلة بالعازمين على الهجرة السرية من أفغانستان أو باكستان أو الهند أو بنغلاديش...وصولا إلى سواحل أزمير وجبالها للولوج إلى سواحل اليونان أو أنهار تشيكيا وصربيا وصولا إلى فرنسا أو ألمانيا أو ايطاليا...
لقد عرفت ظاهرة الهجرة اللانظامية تحولات كبرى مرتبطة بتحولات الاقتصاد العالمي وأزماته التي تنعكس أكثر في البلدان التابعة التي تتصاعد فيها البطالة والفقر والتهميش وتردي الخدمات، كما تتضرر أكثر من غيرها من التغيرات المناخية الحاصلة على الكوكب،فصلا عن تنامي الحروب والتوترات والنزاعات المسلحة. إن هذه الأوضاع تشكل السبب الرئيس لتنامي الهجرة عموما والهجرة اللانظامية خصوصا التي أصبحت تستقطب فئات جديدة شهدت أوضاعها المادية والمعاشية تدهورا كبيرا. لذلك تتجه الظاهرة للاتساع لا للتقلص رغم الإجراءات الأمنية الصارمة المتخذة في بلدان الأصل أو بلدانالوجهة، فطالما غابت المعالجة الصحيحة وهي المعالجة الاقتصادية والاجتماعية العميقة، فان التعاطي الأمني والقمعي يبقى قاصرا ولا تأثير له.
8-أية معالجة لظاهرة الهجرة اللانظامية؟
إن الإقرار بكون الظاهرة عالمية وتجد أسبابها في جوهر النظام الرأسمالي العالمي كنمط إنتاج قائم حصرا على الاستغلال وتحقيق الربح الأقصى وتكديس الثروة بما يحتم تكديس الفقر والبؤس في المعسكر المقابل. إن هذا يقتضي طرح معالجة عالمية تتجه رأسا إلى تحميل الرأسمالية مسؤولية كل المآسي التي يعيشها البشر ومنها مأساة الهجرة اللانظامية. إن الظاهرة لن تتوقف ولن تتناقص طالما بقي الاختلال بين بلدان المركز والبلدان التابعة، طالما بقيت الهيمنة والسيطرة ووضع اليد على مقدرات بلدان الجنوب وثرواتها وإمكانياتها المادية الضخمة التي تصنع الثروة لأرباب رأس المال لا لشعوبها ومواطنيها. إن المعالجة الجذرية تقتضي تعبئة القوى لاستهداف الرأسمالية وتقويض هيمنتها العالمية. إن تحرر بلدان الجنوب وافتكاك سيادتها على مقدراتها هو الخطوة الأقصر لحل المشكل نهائيا والى الأبد. إن تحرر بلدان الجنوب يوجه مقدراتها لخدمة أهدافها وحينها فقط لن يفكر مواطنوها في الهجرة، وان تم ذلك فلن يتم لغرض العيش خارج بلدانهم. إن تقسيم بلدان العالم إلى بلدان الجحيم وأخرى للنعيم هو تقسيم يجد معقوليته ضمن ملامح النظام الاقتصادي العالمي ومنطق التقسيم العالمي للعمل الذي يقابل بين مراكز السيطرة وبلدان التبعية والخضوع، والخروج من هذا النظام وحده الكفيل بحلّ مشاكل الشعوب المضطهدة التي يلجأ أبناؤها وبناتها إلى الموت في عرض البحار والمحيطات لهثا وراء لقمة العيش التي افتكّها الرأسماليون الاحتكاريون وهرّبوها إلىمراكزهم ليجري المحرومون لنيل جزيء منها يتمثل في عمل هامشي أو موسمي أو شاق ومرهق. إن معادلة النظام الرأسمالي هي معادلة الهيمنة وافتكاك الحق من أصحاب الحق والثروة من أصحاب الثروة معتمدا في ذلك بشكل جوهري على الدور الوظيفي للطبقات الطفيلية الريعية المسيطرة محليا كوكيلة للرأسمال الاحتكاري الخارجي لا غير. إن وضعية الفقر المدقع التي تعيشها أغلب بلدان الجنوب إن لم نقل كلها ليست فضاء وقدرا بل هي نتيجة حتمية للاحتكام لخيارات طبقية لا وطنية ولا شعبية موجهة كليا لخدمة الاحتكار العالمي وأذنابه وأتباعه المحليين. وحين تتحول بلدان الجنوب إلى بلدان سيدة بفضل نضال طبقاتها وقواها الثورية والوطنية حينها ستقلب المعادلة ولن يموت مواطنوها في معركة عبثية من أجل وهم العيش في الشمال على أنه "الجنة الموعودة". إن الجنّة الحقيقية بالنسبة للعمال والكادحين والمفقرين والمهمشين هي في التحرر والانعتاق والقدرة على تلبية الحاجيات المادية والمعنوية الأساسية للبشر.
إن حل معضلة الهجرة اللانظامية يتطلب سيرورة كاملة ومعقدة من النضال المحلي والعالمي من أجل تفكيك منظومة الاستغلال الرأسمالي وفرض تحرر الطبقات والشعوب والأمم المضطهدة. إن هذه القناعة تقتضي وجوبا ضبط آليات الاشتغال المباشر في التعاطي مع الظاهرة وتجلياتها وتبعاتها.
إن التعاطي الأسلم اليوم هو التركيز على جملة من الأولويات فرضها هذا الملف على المستوى العالمي، وفي مقدمة ذلك ضرورة النضال العنيد من أجل التعامل مع المهاجرين اللانظاميين باعتبارهم بشرا لا باعتبارهم سلعة أو بضاعة كما تتعامل معهم عصابات التهريب التي تمتص أموالهم وتتحيّل عليهم وكثيرا ما ترميهم في عرض البحر لمواجهة الموت المحتّم. كما يتعرضون لسوء المعاملة من قبل الأجهزة الأمنية والعسكرية والتي تصل في بعض الحالات إلى الرمي بالرصاص. وأيضا من قبل القوى العنصرية التي تقيم أطروحاتها على أساس أن المهاجرين عموما واللانظاميين تحديدا هم المسؤولون عن كل الأزمات الاجتماعية التي تضرب المجتمعات الغربية والتي يحرم أبنائها من الشغل والخدمات الاجتماعية لحساب هؤلاء المهاجرين.
إن التعاطي الحقوقي مع ملف الهجرة هو أحد المداخل الهامة لاحترام كرامة المهاجرين، فلقد فرضت الحركة الحقوقية والاجتماعية والنقابية والمهجرية مكاسب مهمة في الاتفاقيات الدولية التي أصدرتها الجمعية العامة للأمم المتحدة في الغرض (19)، وهي اتفاقيات تتجه عديد الدول خاصة تحت وقع وصول الحركات اليمينية المتطرفة إلى سدة الحكم إلى التخلي عنها وتعويضها بتشريعات واتفاقيات جديدة تركز أكثر على المعالجة الأمنية للمسألة، وتتجه أكثر لتكليف دول الجنوب بدور حارس الحدود مثل ما يجري اليوم مع النظام التونسي والمغربي.
إن موضوع الهجرة اللانظامية يحمل في أحشائه كل تناقضات النظام الرأسمالي ويكشف حقيقته البشعة، فهو النظام الذي يزرع الطبقية والفقر والتبعية، ويقمع ضحاياها حين يبحثون عن حلول خارج إرادته ورغبته. فمن المعلوم أن القبضة الأمنية على الحدود وملاحقة المهاجرين على الأرض تتصاعد وتتناقص بحسب حاجة الدول الرأسمالية لليد العاملة البخسة، ففي الأوقات التي تحتاج فيها إلى عمالة كبيرة تغض الطرف شيئا ما بل وتتواطؤ مع عصابات الاتجار بالبشر كي تمدها بحاجياتها، وحين تتراجع الحاجة لهؤلاء، تتصاعد الهراوات ويعلو صوت الرصاص في البحار والمحيطات. إن الرأسمالية تخلق المآسي وتخلق الحلول المغشوشة لها، وتتصدى بقوة لأي حلول جذرية، أو جدية.
إن النضال المتماسك ضد الرأسمالية وخياراتها يقتضي اليوم تنشيط الحركة العالمية المناهضة لقهر المهاجرين والاتجار بهم وانتهاك كرامتهم. لقد رفعت هذه الحركة الناهضة شعارا يحمل عدة معاني ودلالات وهوشعار: " كلنا مهاجرون"، بمعنى أن نمط الإنتاج الرأسمالي حول الجميع إلى مهاجرين بمعنى أن حركتهم في هذا الاتجاه أو ذاك تبقى رهينة مصلحة رأس المال، فأغلبية المجتمع هي قوى منتجة ويد عاملة أو احتياطي عند آلة الإنتاج الرأسمالي.
إن تشبيك القوى وتوحيد المجهودات وخلق الضغط الضروري في بلدان الجنوب كما في بلدان الشمال للدفاع عن كرامة وحقوق المهاجرين ومنهم اللانظاميين هو خطوة لازمة في عالمنا المعولم. وفي قلب هذا الجهد تتبوأ القوى الثورية والتقدمية دورا هاما بحكم وعيها بالعمق الاجتماعي والاقتصادي للمشكل. ولئن كان الحل الجوهري لمشكل الهجرة بين الدول هو خلق ظروف العيش المناسبة وضرب منظومة التفاوت العالمي، فان الحلول المباشرة تقتضي النضال العنيد من أجل إعادة النظر في قوانين الهجرة ونظام التأشيرات الذي تصوغه الدول الكبرى حسب مصالحها الضيقة بما ينتهك حق التنقل وحصره عمليا في فئات اجتماعية محددة. أما المعالجة الأمنية والقضائية فيجب تشديدها ضد عصابات التهريب والاتجار بالبشر، أما المقهورون من المهمشين والمعطلين الحالمين بالهجرة إلى الغرب، فان نضالهم من أجل سيادة بلدانهم على ثرواتها وتمكينهم من حقوقهم في الشغل الكريم والصحة والتعليم ...، هو الحل الأسلم وأقصر الطرق لتحقيق إنسانيتهم المهدورة.

9ـ خاتمة
تسود القناعة لدى أوساط واسعة في تونس أن ما حدث على خلفية عنصرية هو جزء من حالة الارتجال والارتباك والعبث الذي يتصف به أداء الدولة على وقع أزمة اقتصادية واجتماعية عميقة وغير مسبوقة في تاريخ البلاد. ويزداد الطين بلّة بفعل خيارات وسياسات وتصريحات رئيس الدولة الذي يتصرف دائما تحت ضغط التقارير الأمنية وتفاعلات الوسائط الاجتماعية خاصة بعد احتكاره كل السلط دون استثناء. لكن رد الفعل القوي للمجتمع المدني وللمعارضة السياسية الديمقراطية والتقدمية، فضلا عن حركة التعاطف الشعبي مع الأشقاء الجنوب صحراويين خففت إلى حد كبير من الضغط النفسي والاجتماعي والأمني الذي عاشه هؤلاء ولا يزالون. لقد خرج النشطاء مناهضي العنصرية في مسيرة ضخمة رافعين شعارات" كلنا أفارقة" و "كلنا مهاجرون"، وتشكلت للتو "جبهة مناهضة الفاشية" للتصدي لما تم اعتباره إهانة للضمير الإنساني التونسي. لقد صرح عديد التونسيات والتونسيين أنهم يشعرون بالخجل لما جرى في بلادهم، هذه البلاد التي تعتبر في محيطها فضاء للضيافة والتفتح والتسامح مع الآخرين فما بالك بالأشقاء الأفارقة من جنوب الصحراء وشمالها، من ضفاف الأطلس إلى سواحل المتوسط والبحر الأحمر وصولا إلى المحيط الهندي.

بقلم: علي الجلولي
تونس في 22 أوت 2023




الهوامش:
(1)جاء في صفحة رئاسة الجمهورية على الفيسبوك يوم 21 فيفري 2023 ماي يلي:
" ترأس رئيس الجمهورية قيس سعيّد، عصر اليوم الثلاثاء 21 فيفري 2023 بقصر قرطاج، اجتماعا لمجلس الأمن القومي خُصّص للإجراءات العاجلة التي يجب اتخاذها لمعالجة ظاهرة توافد أعداد كبيرة من المهاجرين غير النظاميين من إفريقيا جنوب الصحراء إلى تونس.
وأكّد رئيس الجمهورية على أن هذا الوضع غير طبيعي، مشيرا إلى أن هناك ترتيب إجرامي تمّ إعداده منذ مطلع هذا القرن لتغيير التركيبة الديمغرافية لتونس وأن هناك جهات تلقت أموالا طائلة بعد سنة 2011 من أجل توطين المهاجرين غير النظاميين من إفريقيا جنوب الصحراء في تونس، مشيرا إلى أن هذه الموجات المتعاقبة من الهجرة غير النظامية الهدف غير المعلن منها هو اعتبار تونس دولة إفريقية فقط ولا انتماء لها للأمتين العربية والإسلامية.
وأوضح رئيس الجمهورية أن تونس تعتزّ بانتمائها الإفريقي فهي من الدول المؤسسة لمنظمة الوحدة الإفريقية وساندت عديد الشعوب في نضالها من أجل التحرر والاستقلال. كما أن تونس تدعو إلى أن تكون إفريقيا للأفارقة حتى ينتهي ما عانته الشعوب الإفريقية على مدى عقود من حروب ومجاعات.
وشدّد رئيس الجمهورية على ضرورة وضع حد بسرعة لهذه الظاهرة خاصة وأن جحافل المهاجرين غير النظاميين من إفريقيا جنوب الصحراء مازالت مستمرة مع ما تؤدي إليه من عنف وجرائم وممارسات غير مقبولة فضلا عن أنها مجرّمة قانونا.
ودعا رئيس الدولة إلى العمل على كل الأصعدة الدبلوماسية والأمنية والعسكرية والتطبيق الصارم للقانون المتعلق بوضعية الأجانب في تونس ولاجتياز الحدود خلسة.
واعتبر رئيس الجمهورية أن من يقف وراء هذه الظاهرة يتّجر بالبشر ويدّعي في نفس الوقت أنه يدافع عن حقوق الإنسان".
https://www.facebook.com/Presidence.tn?__cft__[0]=AZUZtyVQ9g7PxD_XFsky_x9cSxAMYQufTYGrZuG5v1kWBa0WmJRJ9JvDweLrv6zSzxGegLHmYlTlaLbCq1wJwB1ttL3dw2NJ5bB1-CicV-zK-VIMt4oAMcq-Y00kuMaK41ck3dBxJXbzNA0QhLzJps16i2ZGcX-DT6hnDbNKqvB-nRT_egdD6UHZPVExY7Ncfyw&__tn__=-UC%2CP-R

(2)منظمة غير حكومية تأسست سنة 2011 بهدف الدفاع عن الحقوق الاقتصادية والاجتماعية محليا ودوليا. نشرت عديد الدراسات حول ظاهرة الهجرة والهجرة اللانظامية.
الموقع الالكتروني : http://ftdes.net/ar
(3)المبلغ المخصص من الاتحاد الأوروبي لتونس عبر آلياته (الصندوق الائتماني للطوارئ، وصندوق اللجوء والهجرة والاندماج، والآلية الأروبية للجوار) بعنوان سنوات 2021/2025 هو 30مليون أورو. إضافة إلى تمكينها من معدات مادية وتقنية لتأمين الحدود (قوارب...)
(4) المرسوم عدد 87 الصادر في 24 سبتمبر 2011.
(5) القانون الأساسي عدد 50 الصادر في 23 أكتوبر 2018 والمتعلق بالقضاء على جميع أشكال التمييز العنصري.
(6) قانون 23 جانفي 1846 المتعلق بإلغاء الرق وعتق العبيد.
(7)للاطلاع على أفكار هذا الحزب ومواقفه من ملف الجنوب صحراويين في تونس: http://www.tnp.tn
(8) تم يوم 25 فيفري 2023 بعث "جبهة مناهضة الفاشية" التي شكلها مناهضون للعنصرية أصدروا بيانات ونظموا تحركات ميدانية وإعلامية ضد موجة الميز العنصري .
(9) تصريح على "تويتر"(@ZemmourEric)، نقلته جريدتي " le parisien "(http://www.leparisien.fr)و"le figaro"(http://www.lefigaro.fr) ، يوم 22 فيفري 2023.
(10)حسب الأرقام الرسمية الايطالية لسنة 2022 فقد وصل من تونس 32 ألف مهاجر غير نظامي منهم 18ألف تونسي والبقية من أقطار متعددة عربية وافريقية وآسيوية.
أنظر:القدس العربي ليوم 23 فيفري 2023ـ الموقع الالكتروني: http://www.alquds.co.uk
(11) جريدة الصباح نيوز ـ الأحد 8جانفي 2023.
(12) العربي الجديد ـ 20سبتمبر 2022.
(13) عربي21ـ 2 جانفي 2018.
(14) https :www.un.org.migration
(15) انظر "التقرير العالمي لرصد التعليم في الدول العربية" لسنة 2019، وتقرير "البنك الدولي" تقرير: "الكساد المتعمد"، 2020.
(16) منظمة العمل العربية، نقلا عن مجلة "أريد" (ARID)،الـ عدد4، 11نوفمبر 2020، مقال د.سلوان العاني، ملف العدد: "هجرة العقول خطر كبير يهدد المجتمعات العربية".
(17) وزارة الخارجية الأمريكية، بيان صحفي، 19 جانفي 2023.
(18)منظمة "أنقذوا الأطفال"، تقرير بعنوان"العبيد الصغار غير المرئيين"، صدر بمناسبة اليوم العالمي لمكافحة الاتجار بالبشر، أوت 2022.
(19)بروتوكول منع وقمع ومعاقبة الاتجاربالأشخاص، وبخاصة النساء والأطفال،المكمل لاتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الجريمة المنظمة عبر الوطنية. اعتمد وعرض للتوقيع والتصديق والانضمام بموجب قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة المؤرخ في 15 نوفمبر 2000.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. نذر حرب ووعيد لأمريكا وإسرائيل.. شاهد ما رصده فريق شبكتنا في


.. رغم تصنيفه إرهابيا.. أعلام -حزب الله - في مظاهرات أميركا.. ف




.. مراسل الجزيرة ينقل المشهد من محطة الشيخ رضوان لتحلية مياه ال


.. هل يكتب حراك طلاب الجامعات دعما لغزة فصلا جديدا في التاريخ ا




.. أهالي مدينة دير البلح يشيعون جثامين 9 شهداء من مستشفى شهداء