الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


سردية الذاكرة بين هامشية عنوان وعتباتية ثانٍ واد جده سجين قشرة البندق رواية معاصرة للأديب المصري مصطفى البلكي دراسة ذرائعية مستقطعة بقلم الناقدة الذرائعية السورية د. عبير خالد يحيي

عبير خالد يحيي

2023 / 8 / 23
الادب والفن


مقدمة إغنائية:

Robert Eagleston وهو أستاذ للأدب والفكر المعاصر في قسم اللغة الإنكليزية بجامعة لندن, يقول في كتابه / الرواية المعاصرة- مقدمة قصيرة جدًا/ أنها باختصار: قول كل شي.
"إن الطريقة التي يعمل بها الأدب كأداة للتفكير ملتصقة تمامًا بما عليه نحن_ وأعني بذلك سمتنا الإنسانية, الأدب يُعنى بالكيفية التي نجعل بها أنفسنا واضحة ومفهومة لنا؛ ومن هنا تنبع أهمية الرواية المعاصرة لأنها ترمي في المقام الأول وقبل كل شيء لأن ترينا من نحنُ في زماننا هذا الذي نعيشه" .
ومنذ تشكّلها في القرن التاسع عشر, امتلكت الرواية ولعًا شديدًا بالماضي, والتأريخ والذاكرة, وتشهد الرواية المعاصرة عودة حديثة للتفكير بالماضي, ولكن هذه العودة تتخلى عن الرواية التأريخية التقليدية, وتركز على استكشاف الذاكرة, والتأزمات والصدمات التاريخية, والطريقة التي يمكن فيها للماضي أن يؤثر على الحاضر, في محاولة للارتقاء بهذا الحاضر بالاستفادة من وقائع الماضي ونتائجها, " فالماضي لا يموت أبدًا, بل هو حتى ليس بماضٍ انقضى وزال فحسب" كما قال وليم فوكنر.
ولا تسعى الرواية المعاصرة إلى أن تكون انعكاسًا للتغيرات العادية التي تحصل على صعيد فهمنا للماضي فحسب, وإنما ترمي "لمساءلة الكيفيات التي ننتمي بها للماضي, وكذلك مساءلة جوهر تجربتنا الإنسانية بشأن ( ماضوية Pastness ) الماضي ذاتها" .
ومن خلال دراستي هذه عن رواية ( واد جده- سجين قشرة البندق) للأديب المصري مصطفى البلكي, سأعرض لأهم خصائص واتجاهات الرواية المعاصرة, والتي تنتمي إليها هذه الرواية من خلال أنها رواية ماضوية تأريخية تعتمد على الذاكرة في بحثها عن الذات الفردية الإنسانية لفهم الحاضر المعاش.
السيرة الذاتية للمؤلف:
مصطفي البلكي.
ـ قاص وروائي مصري
ـ أخصائي كيميائي بالتأمين الصحي بأسيوط
صدر له روايات:
ـ تل الفواخير ..قصور الثقافة
ـ طوق من مسد قصور الثقافة
ـ سيرة الناطوري مجموعة النبيل
ـ بياع الملاح مركز الحضارة
ـ نفيسة البيضا دار سما
ـ قارئة الأرواح دار سما
ـ ممرات الفتنة هيئة الكتاب
ـ جلنارة حمراء دار سما
ـ سيدة الوشم دار سما
ـ بيت العدة والكرباج منشورات إبييدي
ـ البهيجي دار سما
المجموعات القصصية:
ـ الجمل هام للنبي مركز الحضارة
ـ صور مؤجلة للفرجة دار شرقيات
ـ دوامات الصمت والتراب قصور الثقافة
ـ أصوات الجوار القديمة دار سما
ـ حكايات مبتورة دار أطلس
ـ نصف الدهشة منشورات بتانة
روايات لليافعين:
ـ رمسيس الثاني روايات الهلال
ـ الكاهن الأكبر روايات الهلال
ـ دير المدينة روايات الهلال
ـ ساوتي روايات الهلال
كتب الأطفال:
ـ البحث عن السعادة كتاب الهلال للاولاد والبنات
الجوائز:
ـ أفضل رواية من الهيئة العامة لقصور الثقافة
ـ جائزة الرواية من جمعية أصدقاء أحمد بهاء الدين الثقافية عام
ـ جائزة نادي القصة في الرواية
ـ جائزة إحسان عبد القدوس في الرواية
ـ جائزة القصير في الإبداع القصصي 2010
ـ جائزة اتحاد الكتاب فى الرواية 2010
ـ جائزة ساقية الصاوي فى الرواية 2012
ـ جائزة الروائي الكبير بهاء طاهر في الرواية 2017

1. البؤرة الفكرية الثابتة:
عن ثيمة الكاتب واستراتيجيته:
تكان تكون استراتيجية ملموسة عند الكاتب اعتماده الثيمة التاريخية في كتاباته, ولقد استخدم الكاتب أنماطًا عديدة حاكم بها العلاقة بين الماضي والحاضر, وهي خصيصة في الرواية المعاصرة, منها الذاكرة الجمعية, وتُعتبر التقاليد الشكل الأقوى المعبر عنها. يقول البطل ( واد جده):
لمستُ الماضي, ولم أندم على إلحاحي, وقبلت ب " ما كان" و " ما يجري" فنضجت بسرعة دون أن أغضب, ناسيًا يوم مولدي الذي خرج فيه جدي, وهو يحمل عبء حكاية لا تريد أن تفارقني..
بالإضافة إلى الذاكرة الفردية, وهي الرواية الجوهرية التي تعبر عن الذات, ومقياس لاستمرارية الذات الفردية الخاصة في الزمن. وكلاهما, الذاكرة الجمعية والفردية, تؤشران إلى مكامن صيرورة الفرد في المجتمع ومعه.
دخلت في مواجهة مع أفراد عصابتي, فزادت عزلتي, ووجدت نفسي في عالم صغير آخر, عالم الفكرة,سمحت لي أن أفتح عيني وأسمح لعقلي بالاكتشاف, فاكتشفت ذاتي, وذهبت حيث أردت... ص 39
فالذاكرة الفردية الخاصة مُكتسبة في المجتمع, وعلى مقياس متفاوت من الأسرة حتى الأمة, وهذه الهيكلية الاجتماعية للذاكرة لا توفر المحتوى لذاكراتنا فحسب وإنما تشكّل السياق الذي تعمل فيه الذاكرة ذاتها, ويرى (هالبوك) أن الذاكرة كينونة اجتماعية قبل أن تكون فردية, وهذا ما يفسر سبب كون ذاكراتنا الجمعية المتشاركة بالغة الأهمية.
تعوّدت على السير للخلف كلما تقدمت إلى الأمام,مع كل سطر أقرؤه أنقذ شيئًا ما في روحي من الضياع, حتى جاء الوقت الذي سألت نفسي فيه: " إلى أين يأخذني هذا الغياب"...... ص39
وثمّة سياسات للذاكرة, لها آثار قوية وبالغة في تحديد الطرق التي يمكن بها تشكيل تلك الذاكرة واستخدامها, وهي قوة راسخة لا يمكن غض البصر عنها في عالم اليوم, ويمكن عزو هذا التأثير الهائل لسياسات الذاكرة, بصورة جزئية, لحقيقة أن ممارسة التقاليد وعيشها( أي الأشكال التي تتمظهر بها الذاكرة الجمعية) شهدت تغييرات واضحة من خلال تجربة الحداثة التي عمّت العالم الحديث, بعض هذه التغييرات إيجابية : مثل توسع الكبير في ميدان الحقوق الإنسانية, المشاركة الأكثر فعالية للنساء. وبعضها سلبية لها تأثيرات مؤذية, مثل التغير التقني والاجتماعي المتسارع, بالإضافة إلى التغير والانتقال الفكري عبر الجغرافيات البشرية, وهناك تغيرات لها ملامح إجرامية: مثل التطهير العرقي والحروب والاعتقالات والقتل لأتفه الأسباب, هذه التجارب الصادمة أثرت تأثيرًا حاسمًا على الصعيدين الثقافي والشخصي, وعملت على إعادة تشكيل التقاليد والذاكرات البشرية, وبقيت تذكّرنا أن علاقاتنا مع الماضي يمكن أن تكون مثقلة بالتجارب الصادمة التي لا يمحوها زمن.
زرعت نفسي في المقهى, .... أتابع نشرات الأخبار, وسماع كل ما كان يدعو إلى حفظ النظام والعمل, والكثير من الأغاني لعبد الحليم وأم كلثوم ورشدي, .... فلا شيء يشدني منها ولا شيء بقادر على ربطي بالمكان, وكأن الزمن توقف, وحينما ينفلت, يأخذ معه ثرثرات, الذاكرة الواعية لا تحفل بها, فأرسلها إلى النسيان. أبقى على مذاق القهوة, وصوت الخطوات والنظرات المتواطئة التي أعرفها من الرواد ومن المخبرين ومن ضابط النقطة حينما يمر أمام المقهي, ويدخلها بقصد التفتيش, وجملته الأثيرة : " وريني بطاقتك".... ص47
يمكن للرواية المعاصرة أن تكون مرآة كاشفة لتلك الصدمات الجمعية, ويمكن اعتبارها بحق الميدان المناسب لمساءلة أغلب تلك التجارب الثقافية الصادمة بطريقة لا تخلو من آلام مبرحة, ولكنها لا تخلو أيضًا من فائدة معرفية مبتغاة في نفس الوقت.
ذات ليلة, وحتى أهرب من حلمي, ولدت فكرة تسجيل كا ما مر بي من حكاية تشبه الحكايات التي كنت أقصها على اللصوص في البيت الذي تحوّل لنقطة شرطة..... ص 49
وأما عن ثيمة النص:
التي اشتغل عليها الكاتب فهي الثيمة الأنثروبولوجية ( الإنسانية ), بحمولات الثيمات النفسية والاجتماعية والرمزية والفلسفية, حيث قدّم لنا سيرة إنسان ألقت به الحياة موجودًا, ابنًا لأب مجهول, وأمّ لم يرَها, منسوبًا لجدّه, في عالم المهمشين, يبحث عن ذواته المتشظية, التي حاول أن يمتلك مقوّمات خلقها, وحينما تحصّل على ذات قارئة وعين حادة وميتة, وجد نفسه في درب اللصوصية, وعندما بلغ سن الشباب انساق وراء صوت أنثوي سمعه يهتف باسمه في أحد المعتقلات, كلما التقى بامرأة ظنّها صاحبة الصوت, وتاه في مجاهلها, المرأة( راجية) التي اقترحت عليه أن يحضر كل من مرّوا بحياته ويحاسبهم, كانت أول من خذله, ومع ذلك جمعهم كلهم في جدارية, جدّه وجدّته ( الجذور,والماضي والتقاليد), وأمّه (المرأة المستلبة) التي رسمها بوجه غريق, ورسم ( راجية) في وسطهم متربعة كالملكة على كرسي, هي الوحيدة المتبقية في الحاضر, وقبل أن يحاسبهم وجد الجدارية مشوّهة, أدرك عندها أن كل غاياته مسحوقة مسبقًا بالخذلان, ووقّع للحياة صك العبثية, اختار الهجرة, بالأحرى الهروب, فغاب ثلاثين عامًا ثم عاد عجوزًا ستينيًّا خالي الوفاض إلّا من عناده وإصراره على أن يعرف المزيد, أن يشحن ذاكرته بما غاب عنه من الماضي, ليتمكن من العيش في الحاضر, العيش فقط, مجرّدًا من العزوة والحب, لم يجد إلّا صديقه (مصلح), وللاسم قصدية ودلالة, الوحيد الذي تذكّره, والذي قاده إلى صاحبة الصوت ( راجية) عازفة الجيتار, فوجدها قد فقدت الذاكرة, لكنها دوّنت ما جرى, وعندما اطلع على المدونة, كل ما أمكنه القول عنها أنها تحوي فصولًا سيئة لا ينبغي معرفتها, ثم وضعها في الحقيبة إلى جانب كتابه الذي ألفه عن حيل اللصوص.
وكأن الكاتب أراد أن يجعل يضع للرواية أكثر من معادل موضوعي, ما أخذها باتجاه الانزياح الرمزي (وقد تبدى ذلك بوضوح أيضًا من خلال الأسلوب), فكانت راجية, كما وجدتها معادل موضوعي لمصر, التي استلفت من الغرب في فترة السبعينات والثمانينات جيتارًا بدلًا من العود, وعاشت مغرّبة عن هويتها العربية, وكان الخياط معادل موضوعي عن الشعب المصري المغيّب عن أحلامه المشروعة, والذي أُرغم على ارتكاب جريمة سرقة, سرقة عصا ( التركة) ثأرًا من صراعات الماضي التي سمحت للشواف وهو( معادل موضوعي عن الطبقة الارستقراطية) بامتلاك تلك العصا ( السلطة) في الماضي, والذي نهبت منه الثورة الاشتراكية جل ثروته ولم تُبق له إلا تلك العصا دليلًا بارزًا على تلك السلطة البسيطة التي ظلت تؤرق نوم وأمن المحافظ (السلطة الحاكمة), فأمر (الخياط) بسرقة العصا منه مهما كلف الأمر ولو اضطر إلى قتله, هرب الشواف مع راجية, بعد أن خاتلا الخياط بمكر الخيانة, ثلاثون سنة بين 1981- 2011 تاريخ مغيّب عن الخياط بفعل الهجرة والهروب, ومنسي من راجية بفعل غياب وفقدان الذاكرة.
فقط هناك فصول سيئة كتبتها راجية بفترات الصحوة, مدونة بفصول سيئة, وكتاب في حيل اللصوص, في حقيبة واحدة أمر مثير جدًّا, يحتاج باحثًا جادًّا عن الحقيقة, لا هاربًا منها, فالغياب هروب بحضرة الحقيقة, والحقيقة لا تعطي نفسها إلا للحضور.
دلّني على ذلك الرسالة التي تركتها راجية للخياط صفحة 176- 177, التي كانت مشبعة بالعتب, عتب بلد على شعب, وشعور بالخيبة والخذلان, من شعب تخلّى عن أحلامه وقَبِل بأن يكون يدًا مأجورة تطلقها السلطة, تسرق وتقتل, الرسالة تتنبأ بغربة الشعب, كما تتوعده بدفع ثمن تلك الغربة, والبحث عن وسيلة العودة :
" قبلت هزيمتي أمامك, قبلت العجز نفسه, وذهبت مع الأسئلة التي لم تتم الإجابة عليها .... تركتُ في خلفية المعارك التي خضتها معك لأنتزع منك كلمة واحدة تقول لي إنك عرفتني في البداية,..... وأن الحقيقة عادة ما تكون الضحية الأولى لكل منها: تاريخك, علاقاتك, رغبة الغير في استغلالك, ومع مرور الأيام قفزت كل الأحلام في الهواء أمام صورة الرجل الذي سعى خلف حلم غيره, خرجت من داخلي امرأة تقدر كرامتها, فالتزمت الصمت حتى لا أساهم في الضرر أو الضجيج لروحي, حينما تقرأ اسمي ستعرفني, وعليك أن تدفع ثمن غربتك التي سوف تعيشها بعدي, حتى تجد الوسيلة التي تأخذك إلي". ...
أما ثيمة الناقد:
فهي النظرية الذرائعية المستلة من المنهج الذرائعي, والتي سأعتمدها في دراستي النقدية هذه, منطلقة من هذا المستوي الاستاتيكي باتجاه المستويات الذرائعية الأخرى :
2- الخلفية الأخلاقية :
أنا الأسير في معتقلي, وغايتي أن أعود حرًّا في جوف المكتوب عليه المغادرة ... ص 66
بهذه العبارة القليلة الكلمات اختزل الكاتب الرسالة التي يريد إيصالها لمجتمعه, أفرادًا وجماعات, القضية الجوهرية التي ألقت بحمولاتها الثقيلة على كاهل المواطن الضعيف, الذي أسرته الحياة في معتقل لقمة العيش, والخوف من انتهاك حياته وكرامته وإنسانيته, وتقاوت عليه السلطات لإخراس ما بقي حرًا من صوته في حنجرة القهر والغضب, لماذا لا يعودًا حرَا وقد أدرك أنه مغادرًا مهما طالت به الحياة؟! غاية إنسانية جليلة, مقاومة الخوف والذل والهوان, للحفاظ على الكرامة الإنسانية والعزة والأنفة, وحرية التفكير والتعبير, دعوة للكفاح والتحرر من الظلم والطغيان لاستعادة حق الحياة والحرية والكرامة, ليكون إنسانًا مؤثرًا في الحياة, يمرّ فيها ويزرع شجرته, يعبرها ولا تعبره.
3- المستوى البصري :
لوحة الغلاف:
عتبة بصرية تختزل ثيمة النص الروائي, الجد والجدة المتساندان ظهرًا لظهر, ورأسًا لرأس ونظرات تحمل ألف معنى ومعنى, ومن الجهة الأخرى شابة ( راجية) لم يخفِ النقاب ملاحة وجهها, وما بين الجدّين والصبية, شاب بسترة جلدية سوداء يدير ظهره لواجهة الصورة, لا يظهر وجهه, ومؤكد هو يجيل بنظره بين الجدَّين والشابة, الماضي والحاضر, لوحة دالة ومعبرة جدًّا.

العنوان:
واد جِدهْ
سجين قشرة البندق
لطالما تساءلت عن جدوى اعتماد كاتب عنوانَين لمنتجه الروائي, فكان لزامًا علي العودة لدراسة وظائف العنوان.
العنوان بالدرجة الأولى هو علامة لسانية وسيميائية, لها وظيفة مدلولية, ووظيفة تأشيرية أثناء تلقي النص, وله وظيفة إشهارية وقانونية " تتجاوز دلالاته الفنية والجمالية لتندرج في إطار العلاقة التبادلية الاقتصادية والتجارية تحديدًا؛ وذلك لأن الكتاب لا يعدو كونه من الناحية الاقتصادية منتوجًا تجاريًا يفترض فيه أن تكون له علامة مميزة, وبهذه العلامة بالضبط يحول العنوان المنتوج الأدبي أو الفني إلى سلعة قابلة للتداول, هذا بالإضافة إلى كونه وثيقة قانونية وسندًا شرعيًا يثبت ملكية الكتاب أو النص وانتماءه لصاحبه ولجنس معيين من أجناس الأدب أو الفن"
وهناك وظائف أخرى, نعدّد منها: الوظيفة الإيديولوجية, وظيفة التسمية, الوظيفة التعيينية, الوظيفة البصرية, الوظيفة الموضوعاتية ( الثيمة), والوظيفة التأثيرية, والوظيفة الإيحائية, وظيفة الاتساق والانسجام, الوظيفة التأويلية, الوظيفة الدلالية أو المدلولية, والوظيفة اللسانية والسيميائية.
والحقيقة أن العنوان الأول ( واد جده) : لا يمكن تحديد ماهيته الوظيفية إلا بعد إدراك طريقة نطقه, فهو عنوان بلهجة صعيدية محلية, وكنت أتمنى لو أن الكاتب وضعه ضمن قوسين للتدليل على غرابته عن اللغة الفصحى, يحتمل الوظيفة التأويلية من حيث كثرة التأويلات الذهنية التي يمكن أن يأخذنا إليها باختلاف ثقافة المتلقين, ( واد) خلف ل ( جد) سلف, حاضر وماضي, شبيه جده, ... إلخ .
وهذا العنوان, واد جده, تأطيره يأتي ضمن الهوامش ( هوامش النص ) وليس ضمن العتبات أو النص الموازي, وهو " عنصر من النص الكلي الذي يستبقه ويستذكره في آن, بما أنه حاضر في البدء, وخلال السرد الدي يدشنه, يعمل كأداة وصل وتعديل للقراءة" . وهذا العنصر أورده الكاتب للمرة الأولى في الفصل الأول من الرواية من خلال حوار بين البطل الخياط وصديقه مصلح وهو يسأل البطل عن سيرته:
- أنت من ؟ واد جده أم الخياط؟
قلت له :
- أنا الخياط من كره واد جده.
بطريقة عرض العنوان بهذا الأسلوب المثير, رفع الكاتب مستوى التشويق عند المتلقي الذي أخذته التأويلات في اتجاهات عديدة, ليركز مع المفهوم الذي أراده الكاتب, ناسفًا الكثير من تلك التأويلات, في محاولة منه لكسر أفق التوقع, لندرك أن البطل هو ابن جده بوثيقة الميلاد الرسمية, بعد أن ولدته أمه, ثمرة حادثة اغتصاب, فرّ بعدها المغتصب بعيدًا, واضطر الجد, درءًا للفضيحة, لمغادررة القرية مع زوجته وابنته الحامل, باتجاه المدينة, وهناك أشار عليه خياط الحي أن يسجل الطفل باسمه, فسمّاه الجدّ ( الخياط) تيمّنًا بصاحب النصيحة, متبوعًا بلقب ( واد جده).
أما العنوان الثاني ( سجين قشرة البندق): فهو مؤطّر ضمن النص الموازي أو العتبات, كما يعبر هنري متران, وهذه العتبات عبارة عن ملحقات تحيط بالنص من الناحية الداخلية أو من الناحية الخارجية, وهي- العتبات- تنسج خطابًا ميتاروائيًا عن النص الإبداعي, وترسل حديثًا عن المجتمع والعالم. وهي شديدة الارتباط بالنص الروائي الذي تقف في بوابته ومداخله, مهما بدت مستقلة أو محايدة.
هو عنوان نصّي موازي ملتصق بالثيمة العامة للعمل الروائي, "فهو صيغة مطلقة للرواية وكليتها الفنية والمجازية, تحدّد هوية الإبداع ويجمع شذراته في بنية مقولاتية تعتمد الاستعارة والترميز" .
وثيمة العمل الرئيسية هي البحث عن الذوات المحبوسة في خوفها, داخل الكيان الإنساني, ضمن سجنها الهش الذي يشبه قشرة البندق. أورده الكاتب في نهاية الفصل الأول محدّدا فيه رسالة العمل:
وكان لابد أن أتدخل وأتحرك وحدي كاسرًا سجن قشرة البندق التي عشت فيها طويلًا....
العتبات الداخلية كانت عبارة عن إهداء وتصدير:
الإهداء لسيدة لم يذكر اسمها :
إلى من قالت لي إن الكلمات في جيوبي,
يطيب لي أن تكون هذه الرحلة من
نسائم وجودك
والرواية هي رحلة فعلًا, رحلة في العالم الداخلي لإنسان لا يجيد من القول إلا سرد الحكايات, ينافس شهرزاد ويزاحم حكاياتها.
التصدير : مختزل, دالة يحيل إليها العنوان الثاني ( سجين قشرة البندق):
لاتصدّق هذه الصلابة يا صديقي, أنا هشّ
من الداخل ولست على ما يرام
دوستويفسكي
على امتداد حوالي 200 صفحة, سكب الكاتب حبر قلمه, مؤطرًا ضمن 17 فصلًا معنونة, معظمها عناوين زمكانية:
2011- واد جده 1952- الأشرار لا يقرؤون- بائع متجول- كاتب مجهول – الحياة على الضفة الأخرى – خنجر – شرفة الموت- يناير 1977- سبتمبر 1981- جسور معلقة- الجدارية – يوم الحزن 28 سبتمبر -عزف حزين -18 أكتوبر 1981- 2011 – كسر القيد.
4- المستوى اللساني والجمالي :
النص الروائي متخم بالصور الجمالية التي التي بناها الكاتب ممتلكًا نوعَي الجمال:
البلاغي( البديع والبيان), وعلم الجمال ( استخدام أسلوب الخطف المستخدم في المدارس الأدبية والأسلوبية الحديثة: الواقعية والبرناسة والرمزية والأدب للمجتمع والأدب للأدب والمدرسة التجريدية والطبيعية والرومانسية و مدارس أخرى) , حيث تمكّن من صناعة وبناء الجملة الواحدة بحرفنة ودقّة متناهية.
وهذه بعض الصور الجمالية :
- مددت روحي, فكانت على مقاسي, وبها حضنت نفسي كطفل استقبلته القابلة في قماط قديم.
- واعتلى الشغف صهوة الوقت.
- بقي الوصول إليها محالًا رغم وجودعلامات عواصف العطر وحضورها على مدى البصر.
- بيني وبينها استقر الوقت, ومن دهاليزالأيام القديمة التي لم أشبع فيها بالحنان حئت بالمتناثر من الأفراح, فرقصت بين يديها حتى استوت العتمة خارج البيت.
- ولد الفرح كثيفًا داخلي, بكثافة لم أعهدها وقت أن كان يتسلل إلى روحي كضيف زائر.
- انحرف نظري إلى صدرها وجدته خريطة مبسوطة بمساحة وطن.
- انتفضت كنخلة عصفت بها الريح, فمددت يدي في المسافة الفاصلة ونامت على كتفها فارتسم الهدوء على وجهي, فاستراح الوهج في العينين وعلى الشفتين وعلى الوجنتين.
- تدفق داخلي نهر من الكلام فمشيت وحدي حافي القدمين.
- خفت من اكتشاف هشاشتي فاحتميت بتاريخي ومشيت بهدوء عبر السنوات.
- جئت بكل شيء غريب فارتبطت بظلي وانتظرت موعد انصرافه.

5- المستوى المتحرّك :
أتناول فيه البنية المعمارية الفنية والجمالية للمتن الروائي, ونبدأ ب :
 البناء الفني:
الموضوع :
إلى جانب الموضوع الرئيس الذي تحدّثت عنه كثيمة للمتن السردي, هناك مواضيع ومضامين أخرى رفدت الثيمة الأساسية وقوّت من صلبها, ولا يمكن للعمل الروائي أن يستكمل بناءه فنيًّا بدونها, وكلما تنوّعت هذه المضامين كلما اكتسبت الرواية صفة المعاصرة, طالما أن الحياة مجموعة من القضايا الشائكة التي تعترضنا, ولا تكتفي بقضية واحدة.
من هذه المضامين:
• المضمون السياسي والتاريخي :
نجده مضمّنًا في عدد من فصول الرواية:
- فصل واد جده 1952 :
الراديو يعلن أنباء تشكيل وزارة أحمد ماهر باشا.... ص 17
الراديو يعلن البيان الصادر عن القيادة العامة للجيش يشرح أسباب نكبة فلسطين في العام 1948 وتسبب المرتشون المغرضون في هذه الهزيمة .... ص 22
- فصل بائع متجول :
عرض لثورة يوليو 1952, وما رافقها من اعتقالات, وتعذيب واعتداءات جسدية ونفسية وجنسية.
- فصل كاتب مجهول :
عرض لموت الزعيم جمال عبد الناصر والدموع التي انهمرت حزنًا عليه. .. ص 59
- فصل الحياة على الضفة الأخرى :
الجرائد تنعي موت الزعيم , وبيان من إذاعة القاهرة تعلن النبأ .... ص 60
ثم نصر حرب أكتوبر 1973 عبر بيان القوات المسلحة المصرية من الإذاعة المصرية.
- فصل يناير 1977
عرض لثورة الجياع في العام 1977, في فصل يناير 1977 والتي أطلقت عليها الحكومة اسم ثورة الحرامية وأحداث الشغب وتخريب الممتلكات العامة, والمواجهة الأمنية بإطلاق الرصاص والقنابل المسيلة للدموع.
- فصل سبتمبر 1981
ذهاب أنور السادات إلى القدس, وتوقيع معاهدة كامب ديفيد مع الكيان الصهيوني, وإقصائه كل الرافضين للاتفاقية, وردود الأفعال الشعبية الغاضبة في مصر, والتغيرات التي حدثت ابتداء بأسعار الذهب الذي أصبح ب 12 جنيهًا, والدولار الذي قفز ليصبح ب 81 قرشًا, وانتهاء بأسعار متر الأرض مباني. ... ص 115
كما جاء على ذكر حدث حريق القاهرة ...ص 116
- فصل عزف حزين:
عرض لحادثة العرض العسكري الذي انتهى باغتيال الرئيس أنور السادات ... ص165
2011 : عرض فيه لثورة 25 يناير والأسباب الاجتماعية والاقتصادية المؤهبة .
• المضمون الفلسفي:
الرواية متخمة بفلسفات الأشياء: فلسفة الصوت, فلسفة الحضور والغياب, فلسفة الصمت, وفلسفة المكان.
وكلها فلسفات تعطي أشياءها أبعادًا مجسدة حية, برع الكاتب في خلقها, وأطلقها على مسرح الصراع الدرامي, وبقي يراقب حركتها الفنية, وصراعها مع البطل, حيث عوّضت عن النقص في عدد الشخصيات التي تحتملها الرواية, وهذه براعة سردية معاصرة تُحسب للكاتب, أن يستخدم الفلسفة في تخليق شخصيات ثانوية مناوئة أو مساندة على حد سواء:
فلسفة الصوت :
إذا كان الفيلسوفان (جون كيج) و( إيمانويل كانط) يقبلان الأصوات كما هي, دون أن يكون لهما متطلبات نفسية, ودون أن يريدا من الصوت أن يدعي بأنه شيء آخر, ولا يريدان لصوت أن يدعي حبه لصوت آخر "أريده فقط أن يكون صوتًا", فإن الموسيقي الفرنسي بيير هنري, يحتم تأويلات يقوم بها الذهن عند لقائه مع الصوت, فهو يعتقد أن الصوت المنطلق في المساحة أو الفراغ يقترح عددًا كبيرًا من التأويلات تفرض نفسها على الفكر, وأن الصور الذهنية تتولد أيضًا من الأصوات.
ويبدو أن مصطفى البلكي يتوافق مع ما ذهب إليه بيير هنري, وزاد عليه براعة التجسيد الحي, فكان نحلة وطائر, وإنسان, حتى جعل للصوت حواس كالرائحة والرؤية :
-أدركت أن هناك لغة لم أقربها, وأنا في محبسي لم يغادرني الصوت, ركض حولي وحينما توسدت يدي لأنام رسمت نفسي في هيئة صاحبته وأدركت أنه نحلة, فالنحل كما تعلمت لا ينام ...ص 41
- عندما أعرف نهايتي سوف أرسم صوت المرأة, وأستلهم منها قدًّا وجسدًا... ص 57
- تعلقت بالصوت الذي سكنني سنوات مرت وهو يتجدد... ص 57
- ركضت على أرض موحلة, أروح وأجيء, والأصوات تموت ...ص 58
- الضوضاء حولي تشتد, وأصوات بعيدة تسقط في أذني من الماضي تأتي, ومن الحاضر الذي لا يقهر, وصوتي يخرج قويا رغم ما ناله من وجع... ص58
- ... صوتي ما هو إلا طائر غادرني إليها ... ص 59
- ... ليستحيل فضاء السوق إلى فاترينة عرض لصوتها الذي عاد من داخلي... ص 59
- كنت في عراك دائم بين حبي لنفسي وحبي للصوت الغائب... ص 62
- الأصوات من حولي : ريح, نباح, ارتجاف ورق الشجر .... سمعت وبداخلي أمنية تكبر بأن تظل تلك الأصوات محجوبة عني,حتى لا أرى ما يخفيه الصوت من حقائق. ..ص 72
- غاصت الأنامل ثم توقفت فجأة لعارض اعترضها, وكأن القشرة تقاوم هذا الغزو, وسمعت الصوت, صوت المقاومة .... ص 73
- شدتني الطرقات بضجيجها, فالأصوات اختلطت مع بعضها البعض في سبيكة واحدة يصعب على المتعجل أن يفرق بينها.... ص ص76
- لا شيء يعلو فوق صوت الروائح.... ص 89
- الذين جئنا من أصلابهم لا يموتون, يبقون بيننا طالما هناك رؤية تدير أصواتهم... ص 144
فلسفة الحضور والغياب:
ليس الغياب عدمًا, أو هدمًا للكائن ليتوارى وينتقل من منطقة الحضور إلى منطقة الغياب, بل هوعلامة وسمة من سمات الحضور, فما هو غائب ماديًّا هو حاضر ذهنيًّا في الذاكرة الجمعية.
يترتب التمييز بين نوعين من العلاقات التي يمكن ملاحظتها في العمل الأدبي, علاقات تقوم بها العناصر الحاضرة وأخرى تقوم بينها وبين العناصر الغائبة. وعلى هذا الأساس نبه دي سوسير Soussure في أكثر من مرة إلى هذه القضية, واعتبر أن الدال يمثل حضورًا ( حضور مادي) وأن المدلول يمثل غيابًا ( غياب مادي ولكنه حضور معنوي) .
وعند مصطفى البلكي نرصد حضورًا للذات الساردة عندما تروم الغياب عن واقع مرير, وعندما تروم الانتصار على حال مزرٍ, وعندما تروم التواري أمام الخوف مع رغبتها بالحضور في الذاكرة الجمعية والفردية على حد سواء:
- والأيام اللعينة تجري, وأنا بحضوري نفسه أغيب, أذهب إلى المقبرة المنهوبة, كأني لم يعد لي ذكر... ص 61
- لن أكون خاضعًا لصوت لا يملك إلا الغياب لي, وقررت أن أقتل ضعفي ... ص 62
- وخجلت من الغياب كوني مددت حبالي لبعيد... ص 81
- ركضت خلف أشيء كانت قريبة مني وأنا تركتها لتمضي, طاردتها وعدت بعد غياب, وقد بقيت مني نتف صغيرة من ذكريات ترى من نافذة من عاش الحياة بكل رغباته ... ص 88
- سجلت النهاية, وأسكنتها داخلي , فأنا تعلمت في الغياب أن أغني لطيفها... ص 137
- جمعت الحكايات والغموض والتعاويذ وأحاسيس الخوف والرهبة؛ حتى أبقى في النفوس مع غيابي حاضرًا. .. ص 142
- تخيلت وجودها كشمعة, يحق لها أن تعيد السؤال بأي شيء سيكون الوجود أكثر حضورًا؟ ص 173
- أسئلة بلا أجوبة , فالغياب كان أمرًا طبيعيًّا لا يمنعني ولا يوقف تقدمي إلى الأمام, وبت أعتقد بأن ما كان جاء من أجلي... ص 143
فلسفة الصمت :
إن الصمت في العالم المعاصر أصبح هو الضجيج والزحام, وهو غني, متنوع , غير متوقع ومفاجئ باستمرار, يقول جون كيج لمن يعتقد أن الصمت مجرد سكون أو طرش: " أتشك بوجود الصمت؟ حسنًا اذهب إلى غرفة مفرغة, وأنصت إلى تنفسك, وإلى توتر جهازك العصبي, هذا هو الصمت, إنه مليء بالضجيج" , ويستحيل خلق الصمت أو توليده بحسب كيج, يستحيل تحقيق الصمت المطلق, والصمت ممتلئ دومًا.
ومصطفى البلكي أصاف للصمت أشكالًا عديدة :
- أظن أن الصمت واحدًا من أشكال الإغراء... ص 76
- وهو واحد من أشكال العودة
- من يترك أناقة الصمت يضل
- هو الصدر الذي لا يرد دعوة القصاد أبدًا
- ألجم الصمت لساني, فقتلت كلماتي ... ص 85
- إن الصمت يختلف كثيرًا عن الهدوء ... ص 121
- الصمت بحق عبادة الكلمات أو قناعها أو روحها,
- أما صمت الخوف الذي كان يتلبسني, كان مؤلمًا للغاية أمام صمت كل الموجودات التي مررت بها, وهي تتحدث كثيرًا بلغة لا يفهمها إلا المتأمل. ص 189- 190
-
فلسفة المكان:
إن الأمكنة التي نتعامل معها تكون أمكنة استعارية لما تماثله, على الأرض أم في السماء, وهذه الأمكنة الواقعية ليست إلا محاكاة لتلك التي لم تُرَ, ولم تُعش, ولكنها موجودة بوجود خالق كوني .
والتحوّل الاستعاري هو أن الأمكنة الواقعية ليست" إلا تسمية شيء ما باسم يخص شيئًا آخر" .
أما المكان عند مصطفى البلكي فكان الناس الذين عاشوا فيه, والحكايات التي تحدث فيه:
- حينما يغيب وجه ما, أذهب إلى مكان أرتبط به, أجلس فيه فيجلب لي ما أحب. ص 51
- لدي ما يكفي من أشياء وحكايات تصلح لتنقلني من مكان لمكان,
- رحت أقصد الأماكن الأقل ضجيجًا, فوجدت السحر في الأفراح, وفي الكلوبات وفي حومة الفراش الذي يحلق حولها...ص53
• المضمون الرومانسي:
وجدته في علاقة الجدّين :
في تلك الليلة فهمت ما معنى الحب الحقيقي؛ هو شخصان ملتزمان بالعمل معًا من أجل حياة سعيدة.... ص 34
ولم أجده فعليًّا في علاقة الخياط مع راجية, لكن كان هناك خيوط رفيعة شكّلت نسيجًا رخوًا قابلا للتمزق عند أول ملامسة. كانت توقًا للذة وشغفًا يتململ, وحبًّا لم يبلغ حد اليقين :
يفوح من نظرتها العطر فينزل كستر المحبة على صدر يرخي سدول دلاله وخصر يحاكي نسيم الربيع في رهافته,... فيستغيث الشوق لدي بيد الفتنة الحكيمة فيتململ من داخلي الشغف,.... تودع العطر في أماكن تختارها, فتكون كياسمينة تجاهد كي تظل مورقة على حد يقين الحب.... ص 173
• المضمون النفسي الوجودي:
تبدو الرواية المعاصرة كجملة ناقصة غير مكتملة, وعدم اكتمالها هو انعكاس لعدم اكتمال الفكر والإيمان والمجتمع, وتحت تأثير النظريات النفسية الحديثة ينقطع فيها جريان الحياة, ولا يبقى مستمرًّا, بل يتجزّأ إلى سلاسل منفصلة للحظات متقطعة ومتلاحقة, فالرواية المعاصرة بالغالب هي رواية نفسية.
نلمس ذلك في مواضع عديدة, منها هذا المثال:
قلت له أنني عدت لأني أبحث عن نفسي, عن وجودي, عن رحلة طويلة بدأت على البحر, واستمرت بعد ذلك من خلال تفاصيل البداية, سألته:
- لماذا أنت كما أنت ؟
قال لي:
- لأني لم أغادر القرية.
قلت له:
- لكنك رأيت الكثير.
ونظرتُ إلى البيت, وأكملتُ:
- رأيتَ نهاية أهله.
قال:
- كل واحد أخذ نصيبه من الحياة.... ص11
كان هناك صراع داخلي نفسي دائم بين واد جده والخياط, غربة كبيرة بينهما:
..... فخرجت وأنا لا أتجنب مواجهة الآخر, إذ كانت المعاناة نفسها تتجدد, واد جده في مواجهة الخياط....ص91
• المضمون الميتافيزيقي والفانتازي :
عندما يكون الصوت ندّاهة للانفصال عن الواقع والهجرة إلى عوالم ميتافيزيقية, في صورة تتجاوز الخيال, هذا ما فعله صوت راجية بالخياط, وما فعله به أيضًا صوت الناي في غرفة الحجز:
تمنيت أن يطول زمن عزفه. وأنا بجوار الباب ألصق أذني بحديده, ولدت بداخلي رغبة شديدة الغرابة, أن أموت واقفًا وأنا أنصت له! وذهبت بعيدًا مع فكرة العبور من الباب, لأكون في مكان آخر, لأواصل الحديث هناك مع وجوه لن تكون واقعية في لحظتي, بتفكيري هذا كنت خارج جسدي أتحرك, رأيت المستقبل بعين ترى الماضي, وجدته سلسلة من الهزائم.... ص 160- 161
نرصد سمات البطل الأسطوري وقد أسبغها الكاتب على بطل الرواية في أكثر من موضع, منها:
ولطالما أحببت نظرته لي, يراني أسطورة من فعل الأيام, وما زال على إيمانه بأن وجودنا معا هو الوقت الذي يمكن أن يحدث فيه شيء مهم.... ص 9
• المضمون الجنسي:
للجنس في الرواية المعاصرة أهمية كبيرة في الحبكة, وهناك طرق يمكن بواسطتها التبئير على الأفعال الجنسية بطريقة غير مباشرة, كإعادة استخدام لحظات الحبكة المتوهجة, أو خزين العبارات المتواترة على نحو غريب ومختلف, وهناك من يعيد استخدامها كتأريخ للمتعة والبهجة الأنثوية عوضًا عن كونها وسيلة لتشييء النساء وحصرهن في زاوية ضيقة وإساءة التعامل معهن, فهي خروج عن فكتورية الجنس, لكن باتجاه قضوي تسمح لنا بإعادة تشكيل علاقاتنا مع تقاليد الماضي لا من خلال تمثّل العلاقات الجنسية خارج مؤسسة الزواج, سواء أكان اغتصابًا أم زنا, وإنما من خلال إلقاء الضوء على تقاليد الرواية التي كُتبت في الماضي وتحكي عن هذه العلاقات الجنسية الخارجة, وفي مشهد نموذجي عن ذلك في الرواية, في الصفحة 67, وكذلك في الصفحة 84, يمكن الرجوع إليها.
فالجنس في هذه الروايات ليس هو الموضوع الأساسي المطروح, وإنما هناك الكثير من المواضيع الاجتماعية والوجدانية والسياسية والتاريخية العميقة, التي نجد انعكاسها حتمًا في حياتنا المعاصرة.

الزمكانية:
الزمان : حقب زمنية عاشتها مصر والمصريين بين ثورتين : 1952- 2011
المكان: ليس له هوية جغرافية محددة, محدد فقط بعمومية الريف المصري ومدنه, بدون أسماء.
إن الرواية المعاصرة تمارس "فعل المساكنة في منزل الماضي" , حيث تبرز التقاليد, تتحدث وتراود اللحظة الحاضرة, كما لو أن بطل الرواية, المأسور بماضيه, يسمع أصوات الأطياف والأشباح والموتى, ويسمعنا إياها وهي تعلو بأصواتها, ليست ماهيات محسوسة بل تتساوى مع العدم, تقاليد حية وميتة معًا, ويمكن أن تكون أرواحًا لأناس موتى, حاضرة وغائبة معًا, عصية وباعثة على التفكير بها, ولكنها رجراجة وزلقة وغير محسومة:
فكّرت أن أبتعد بعيدًا, أبعد من الشارع, ومن بيت منسيّ, أذهب إلى الطرقات التي كنا نذهب إليها معًا, بصحبة المشاعر التي لا تتغيّر, ... وحيدًا أمضي, خطواتي تعرف فقط الطريق لشارع الدكان, والشارع الذي غادره جسد همّت بعد موتها. .. ص8
لذا كان لزامًا على بطل الرواية أن يعمل بنصيحة راجية : أوجدهم وحاسبهم.
وتتيح الحداثة اختيار مسعى البحث عن الماضي بحيوية فاعلة لأجل خلق نسق المساكنة الذي نستطيع فيه تزكية وإنماء تقاليدنا, نستطيع حسب هذه الاستعارة المجازية ( المساكنة) التحدث إلى شبح الماضي والسكنى في تقاليده التليدة, كما فعل البطل حينما رسم شخوص الماضي في جدارية, كما نستطيع إنكار ذلك الشبح وإلغاء وجوده من حياتنا, كما حدث عندما تشوّهت الجدارية, وقرر بعدها البطل الهروب بعيدا, وبذلك يمكنه نكران الماضي وأشباحه كقدر لا مفر من سطوته:
كانت الجدران كالحة, فركزت فيها, باحثًا عن وجوه من كانوا فيه, اقتربتُ ومددت أناملي, وبداخلي اعتقاد بأن لمسات من عاشوا في البيت خالدة عليها, خفت ولم أكمل, وغادرته. ... ص11
لكن, الرواية المعاصرة لا يمكن أن تغفل عن فكرة محسومة بافتراض شرطي: إن لم نكن نتساكن مع الماضي فإن الماضي ذاته يسكننا, نعيشه, نستخدم بيوته, ونروي حكاياته, ونسرده من خلال المرويات التي تعتمد اللغة كوسيط, عدا عن أن اللغة ذاتها هي من موروثات الماضي, فقط تعرضت لتطور عبر تغييرات بطيئة أصابتها بعبور الزمن:
فكرت في الذهاب بعيدًا, أبعد من شارعنا, ومن شارع بيت المنسيّ, فذهبت في الطرقات التي يذهب إليها داخلي, تجوّلت فيها وجلست إلى أماكن فقدت عطرها, إلا لدي. كانت البدية مع السوق, انقدتُ إليه وأنا أدرك أن هذا الانقياد بداية لعودة الذكريات....ص 13
ولعل مصطلح ( الاستحواذ) أكثر تعبيرًا من مصطلح المساكنة, فالماضي لا يتساكن معنا بل يستحوذ علينا, وهو استحواذ يمسك بنا بوسائل متشظية ومخاتلة, لا يعمل كوحدة متكاملة وبالطريقة التي اعتدناها من التقاليد.
إن الشكل الجوهري من الاستحواذ في الرواية المعاصرة هو اللغة ذاتها, فالماضي يمتلك سطوة استحواذ كاملة على لغتنا اليومية العادية, لسنا نحن من يستخدم اللغة بقدر ما أن اللغة هي التي تستخدمنا, إن اللغة المصنوعة من حروف غير مستقرة, وتتغير مع الزمن, والكلمات التي نستخدمها في في حياتنا اليومية هي التي تشكّل الكيفية التي نفكر بها ونجد بها أنفسنا في هذا العالم, لذلك لا نستطيع إنكار الكلمات التي نعتمدها في لغتنا اليومية لأنها بالتحديد ما يشكّل كينونتنا في هذا العالم.
أنا وهو عشنا الحياة حلوها ومرها, بدلنا بيتنا مرتين, ويوم ما تركت بيت والدي, أخذنا عزالناورحنا لمكان بعيد, خالي من الناس, وبقينا نسند بعضنا, يروح هو البندر ليعمل في فبريكة القطن, وأنا في البيت أنتظره إلى أن يرجع, كان يقول لي :يجعل يومي قبل يومك, أبص له بعتاب, فيبتسم ويقول لي : لا أريد لنفسي أن أعيش وجع فراقك ووجع دفنك, وأكون وحيدًا بعد رحيلك, أتمنى أكون أنا ولا أحب أن تعاني من بعدي.... ص 33

التشابك السردي :
مؤكد أن الرواية المعاصرة تحررت من الحبكة النمطية القائمة على التراتبية السببية, ورغم أن الواقعية بقيت خصيصة مهيمنة على الشكل الروائي للرواية, إلا أن الكثير من الروايات المعاصرة خرج عن تيار الواقعية كمُعطى روائي وصفي يهتم بتصوير الواقع بأحداثه وشخوصه وزمكانيته, ونقله من غير مساءلة ولا شروط, كما خرج عن نمط الرواية المسهبة في الإطناب, وكذلك عن رواية الراوي العليم واليقيني ذات النهايات المتوقعة, والتي تهدف إلى تحقيق الراحة للمتلقي, بعيدًا عن أي جهد يبذله للمشاركة في العملية الإنتاجية للمنتج الأدبي.
وهذه الرواية خرجت عن هذه الأنماط الحبكية, وانضوت تحت خيمة المساءلة الواقعية بطرق درامية أكثر شدة من الأنماط السابقة, وباستخدام تقنيات سردية معاصرة جديدة, أبرزها تيار الوعي والذكريات والمنولوج الداخلي وبدرجة أقل الحوار الخارجي المقتضب, الذي يمكّن الكاتب من الحصول على تمثّلات درامية تلامس, بل تحتك بشدة, مع الوعي الإنساني, ينسف التراتبية الخطية للأحداث في نسقها الزمني, حسب مخطط التشابك السردي: بداية –صراع – عقدة – انفراج – نهاية.
تقول فيرجيينيا وولف: " الحياة ليست سلسلة من المصابيح المنيرة المتوزعة بتناغم وانتظام؛ بل هي هالة قداسة مشعّة, وغلاف رقيق شبه شفاف يحيطنا منذ لحظة بدء إدراكنا لوعينا وحتى انطفاء ذلك الوعي" . كما أن النهاية المقفلة هي فعلًا عصية التحقق في الحياة, وذريعة ذلك الصعوبة الكامنة في ضم خيوط الحبكة الدرامية في الحياة الفعلية, والحركة الدائمة للنفس البشرية وهي تمضي في الحياة على تيار الزمن, بين الإقدام إلى الأمام والرجوع إلى الخلف, فتارة تهاجمها ذكريات الماضي بخيباته, وتارة تأخذها توقعات المستقبل بالرجاء والمخاوف, في عالم صاخب ومعقد, يتمدد فيه الشك مزاحمًا اليقين.
في الكثير من الروايات المعاصرة هناك حبكتان: ظاهرة ترصد الأحداث الدرامية الواقعية الخارجية, ومخبوءة ترصد الصراع الدرامي النفسي الداخلي, وكلا الحبكتين في هذه الرواية بدأت من حدث العودة من غربة ثلاثين سنة بعد لحظة التأزم ( العقدة), معتمدًا (الطريقة الحديثة) في بناء الحدث السردي: التي يشرع فيها الكاتب بعرض الحدث من لحظة التأزم أو قبلها أو بعدها بقليل, المهم أنها قبل حدث النهاية, ثم يعود إلى الماضي flashback ليروي بداية الحدث السردي, مستعينًا بتقنيات سردية معاصرة مثل تيار الوعي والذكريات, وبعدها يستأنف سرد صراع الانفراج للوصول إلى حدث النهاية, نهاية مفتوحة على نافذة الحيرة والشك, وضعها الكاتب مستعينًا بتقنية المونولوج الداخلي:
سألت نفسي:
" هل فعلت دائمًا ما أريد؟"
كان الطريق كافيًا لأن أقول: لقد فعلت المطلوب مني!
ففي الرواية المعاصرة تقلّ الشروحات الميلودرامية باختزال الحشو, وقد تلاشت الحبكة بعد نهاية القرن العشرين بتداعي سيل الوعي, فجاءت الرواية بلا نهاية وصارت تلك الحالة سمة للرواية الحديثة المعاصرة, رواية بلا نهاية.
كما لم تكن البداية أقل حيرة من النهاية, وبنفس التقنية:
لا أعرف على وجه الدقة, ماذا أريد في كل مرة أقول فيها:
- أريد أرقد في سلام.
هل أريد النهاية, أم أريد أن أعرف المزيد.
عطف الكاتب النهاية على البداية مستخدمًا تقنية التدوير.
 البناء الجمالي:
 السرد :
بضمير المتكلم ( أنا) للشخصية الرئيسية, وهذه خصيصة لصيقة بالروي المعاصر, لم يسمح الكاتب إلا لشخصية واحدة, وهي ( الشواف) للتعبير عن نفسها, وعلى مساحة محدودة جدا لم تتجاوز الصفحة والنصف, وعبر تقنية الحوار المسرود, صفحة 116-117, كما سمح بذلك للشخصية الثانية (راجية), عبر تقنية الرسالة, التي لم تتجاوز النصف صفحة.
 الأسلوب:
أسلوب أدبي إنشائي بدرجة انزياح عالية نحو الجمال والرمز, وكنت قد تحدثت عن المستوى الجمالي البلاغي,
الانزياح الرمزي تجلى واضحًا باستخدامه دلالات مادية ( شخصيات) كمعادل موضوعي لرموز مضمرة, وأيضًا اعتماده في التعبير على" بيانات المعنى , مثل الألوان والأصوات والحساسية اللمسية والحركية, وبيانات الرائحة والذوق, واعتبارها رمزًا إيحائيًّا" , ودخوله " عالم غير محدود, كعالم الأحلام والحالات العقلية الغامضةأو الضبابية, والمشاعر الواسعة الحساسية, والاختراق في أسرار الروح, ومحاضرها" , واعتماده الغموض في بعض الفقرات بقصد التصرف في اللغة على نحو غير مألوف, وإفساح المجال لخيال القارئ لمعرفة المرموز إليه, ووجود الإشارات والتلميحات التي تحتاج إلى معرفة واسعة وشروح, والتكثيف الشديد, والوصول إلى الدقائق النفسية التي يصعب التعبير عنها.
بالإصافة إلى استخدامه الأسلوب الفلسفي الذي أخذه باتجاه مستوى عميق جدًّا من مستويات العمق الأدبي.
 الحوارات الخارجية: مقتضبة, سؤال وجواب.

6- المستوى النفسي:
في هذا المستوى, تقر الذرائعية أن أصل كل فعل وقول يجريه الإنسان, إنما يتأتّى من دواخله السيكولوجية, بأوامر تصدر أحيانًا من اللاوعي, وأحيانًا من الوعي نفسه, فالأوامر الصادرة من اللاوعي هي نتاجات حتمية في رأس قلم الكاتب, ولا يستطيع التخلص والتملص منها بسهولة, إلا إذا كان واعيًا ومتمكنًا وواثقًا من قدرته على التملص من سيطرة النفس, أما الأمور النفسية والسيكولوجية الواعية فهي تصدر عن رضى نفسي بالتضافر بين الوعي واللاوعي, لسيطرة الضمير كموجّه حتمي للتوازن الانفعالي للفرد .
والرواية المعاصرة أثبتت أن الضمير الإنساني هو عبارة عن مواقع أو ساحات عميقة ومدفونة تحت الوعي نفسه, ويسمى بالوعي الملحق أو الثانوي أو اللاوعي.

 المدخل السلوكي :
وهو مستوى نفسي, باعتبار الأدب نوع من السلوك الإنساني, الذي يفرز بين طياته محفزات تتطلب استجابات آنية ومؤجلة التنفيذ, المحفز والاستجابة, أو الفعل ورد الفعل, أو السؤال والجواب, لكي نتوصل إلى أعماق الأديب, من خلال نصّه , وإلى أعماق النص من خلال موجودات الأديب الظاهرة بالتوازي النفسي, وهي حالة من التداعي والاندماج بين شخصية الأديب والمتلقي أو المحلّل ...
استعطت رصد التساؤلات التالية, من طبيعة التساؤلات الحائرة والاستنكارية, والميتافيزيقية, والفلسفية, والوجودية ,....:
- لماذا أنتظر مستقبلا بعيدًا وأخسر حاضرًا ؟ ص 99
- كيف أعيش ما فرض علي؟
- ماذا سيكون الحبل المشدود في لحظة المواجهة ؟ ص 101
- الجواب المطلوب منك العودة إلى المغامرة لساعات, السعادة في أن تعرف.
- كيف أذهب إلى أيام بلا أحلام؟
- ماذا أفعل عنما تكون الفرشاة في يدي؟ ص 139
- من يوجد من؟ ص 140
- كيف أنجو من الغد؟ ص 156
- هل ستتغير الحياة اليوم؟ ص 164
- سيكون الوجود أكثر حضورًا؟ ص 173
- من فقد بصيرته ليفعل هذا؟ من سئم الحكايات ليوقفها؟ ص 174
- من خاف من الحياة الساكنة ليطمسها؟ ص 175
- لماذا لا أكون طائرًا؟ ص 182
- من الذي خذلك؟
- ألم يأت أحد من الغائبين؟ ص184
- هل كنتُ على الطريق؟ ص 188
- إلى متى سوف أكون قادرًا على السيطرة عليها؟ ص 192
- مع حركتك هل سأكون قادرًا على الراحة؟ ص 192
- هل فعلت دائمًا ما أريد؟ ص 202

 المدخل العقلاني:
نقصد به تجربة الأديب المكتسبة من الاتجاهات الأدبية الفكرية من قراءاته وثقافاته السابقة المتوازية, والتي أثرت على إنتاجه الأدبي بالتوازي أو بالتناص مع أدباء آخرين , مضافًا إليها إرهاصاته الإنسانية الحاضرة .
هناك تناص بلاغي مع النص القرآني :
ربي اشدد بها روحي ... ص 138
سمحت لي بالنظر إلى ما وراء الحقيقة فقبضت قبضة منها مثل زهرة أسقطت أريجها في روحي ص142
كما وجدت الكاتب المصري مصطفى البلكي على تناص مع الكاتب العراقي حسن البحارفي روايته ( النوتي) في الأسلوب الجمالي والتقنيات السردية المعاصرة, وموضوع الرحلة داخل النفس الإنسانية.
يتناص أيضًا مع نجيب محفوظ في رمزية الشخوص, على سبيل المثال مع رواية ( أفراح القبة). كما يتناص مع كل من سبقه في كتابة الثيمة التاريخية, المعتمدة على استحضار الماضي للكشف عن عوار الحاضر.
 المدخل الاستنباطي :
فيه تقمّص لشخصية الأديب من قبل الناقد, " للبحث عن المفاهيم والدلالات العقلانية من حكمة وموعظة فلسفية أو اجتماعية أو إنسانية, ما دام الأدب حالة وجدانية تصيب الأديب , يختلف فيها عن الإنسان العادي , عندها يقوم بتقمّص شخصية غير شخصيته, ويسجل إرهاصاته الشخصية بأسلوب عميق" ... وقد رصد بعضًا منها :
- عندما يكبر الخوف يحافظ على سطوته.
- مقولة مدرس التاريخ : من لا يجرؤ لا يعبر النهر.
- مقولة شيخ الكتاب: الأشرار لا يقرؤون.
- سمعت صوت جدتي يأتي من بعيد وهي تخبرني أن الضعف لو غاص فيّ يكسرني كعصا سيدنا سليمان حينا أكلها السوس.
- خنجر جدي الذي أودعه لدى جدتي بعد أن اقتلع به عين خاله, وقبل أن تخفيه جدتي, قالت إن زخارفه التي تزين جرابه لن تخفي تاريخه المليء بالغدر.

التجربة الإبداعية:
البلاغة في التعبير هي محاكاة في الإبداع، والإبداع بكلمة موجزة هو إضافة الجديد.
ببراعة لافتة, استطاع الكاتب أن يأخذنا برحلة عبر عالَمين مختلفين, خارجي وداخلي, بكل تقلباتهما وتحولاتهما, عالمان يتأجج فيهما الصراع الدرامي كاملًا بكل مرحله, وبخبرة قائد محترف استطاع الكاتب أن يماهي بين الرحلتين, وأن يعرّفنا على الذوات العديدة لبطل العمل وكأنه يعرّفنا على شخصيات عمله , كما فعل الروائي العراقي حسن البحار في بحثه عن الآخر في روايته ( النوتي), وهذا تناص وجدته بين النصّين. قدّم لنا الذوات المختلفة, ماهيتها ومؤهبات خلقها, بتراتبية زمنية وموضوعية, مختصرًا سرد حياة سيرية من الطفولة إلى النضج, الابتكار الذي يُحسب له هو أنه بنى الحبكة السردية وصعد بها على درجات هذه التقنية الموازية :
رصدت العديد من هذه الذوات, منها, وليس كلها:
الذات المتلصلصة, والثرثارة والكذابة :
اشترت لي جدتي بندقية صيد, .....تدربت على مراقبة العصافير, فأصبحت عيناي أكثر قوة كعيني الصقر, لدرجة أني استطعت نسج المسافات التي تدلني على فريستي, ومع كثرة المشي, تعلقت بالحكايات والسرار, ووقت أن بدأت ألقي بها بين يدي جدتي , وبختني, وحذرتني من الاستمرار في التلصلص على الناس, فتعلمت ارتداء الأقنعة ولم أشعر بالذنب وقت ان بدأت أختلق الحكايات الوهمية عن خط سير اللعب...ص 25
الذات القيادية:
تعلقت بالبيوت البعيدة التي تظهر لي, فحملت بندقيتي وسرت, رقصت الفرحة بداخلي وقت أن وجدت حفنة من العيال يتبعوني, أصبحت قائدًا لفيلق مستعد أن ينفذ أي أمر لي ما دامت البندقية في يدي! ص 25
الذات الوحيدة وأوهامها:
كنت في عمر العاشرة حينما دخل ( الجد) البيت بساق واحدة, بعد بتر الثانية بسبب مرض السكري...... ومنذ تلك اللحظة كنت أكثر صخبًا في استقبالي للشمس,.... طريقة طفل صغير حافي القدمين, يركض على طريق متربة وهو يمتطي حصانًا وهميًا, ... كنت وحيدًا, وحدتي ليست في لعبي وحدي, أو جلوسي بين أربعة حيطان أكلم نفسي, وحدتي كانت في عدم قدرتي على تفسير الهمس الذي بدأ يسري في البيت.... ص31
الذات الحالمة:
وجدت ضالتي في أحلامي, كنت أغيب معها, أشرد طويلًا, أرى أني قد أصبحت مالكًا للملقة كلها .... ص 31
الذات المكتشفة :
في أول رحلة لكسر الخط الذي حدده لي جدي, وجدت عالمًا مختلفًا, رحت أنصت إليه,.... حولي المزيد من تغريد العصافير التي تسكن الأشجار, وما يفوق تصوري اكتشافي أن أرض الشونة لم يكن لها أي لحن, كانت أرضًا صامتة تمامًا,..... ص 32
الذات التخزينية :
بدأت أجرب تقنية التخزين, فأحببت التفاصيل, شجرة نادرة, ابتسامة عجوز, بقعة يقتلها النور, ظلال يحتلها كهل , فرحة في عيني طفل يشبهني.... ص 32
الذات الخيالية:
أحكمت مقارنتي, وأصبحت أستمتع باكتشافاتي, وفي اللحظة التي أجلس فيها لأرتب ما يحدث لي, تحركت في مسار خلقته بخيالي... ص36
الذات القارئة :
... أشار إلى الكتب ( زعيم اللصوص) وقال أنهم لا يجيدون القراءة , والكتب سرقوها من قصر قديم,.... سحب كتابًا وطلب مني البدء في القراءة,.... فخلقت في عالمهم مساحة لا نهائية من الخيال والتحدي ... ص38
الذات المفكرة:
كان شاربي قد خط وبقيت حيرتي التي كبرت واللصوص يرسمونني كبيرًا عليهم.... وجدت نفسي في عالم صغير آخر, عالم الفكرة, سمحت لي ان أفتح عيني وأسمح لعقلي بالاكتشاف, فانكشفت ذاتي وذهبت حيث أردت.
الذات العنيدة :
حاربتني السلطة, فأضافت إلى حياتي غرفة جديدة اسمها الإصرار... ص 40
الذات الكاتبة :
وذات ليلة وحتى أهرب من حلمي, ولدت فكرة تسجيل كل ما مربي من حكاية تشبه الحكايات التي كنت أقصها على اللصوص في البيت الذي تحول لنقطة شرطة... ص49
الذات القارئة:
ومع الأيام انتصر الورق على كل شيء بداخلي, فاكتشفت نفسي وخرجت مع الكلمات إلى الشوارع, ذهبت إلى عوالم أخرى مع القراءة.... ص100
الذات الهادفة الواثقة :
أنا من جاء من أجل الاستيقاظ وبث الحياة في حكايات نائمة, وتأكيد أني ما زلت قادرًا رغم كل شيء على الوصول لأي مكان ولأي فكرة .
الذات الآثمة :
عدت إليها ذات ليلة, وجدت على سريرها رجلًا غريبًا, فرّ الجبان وتركها لي, أخرجت الخنجر من جرابي وغرزته في صدرها! قتلتها, كان الدواء لها , لأن بعض الأشياء الضرورية لا تدخل في قائمة الأسواق, لذلك نوجدها بارتكاب الآثام.
وهناك أيضًا, ذات الشيخ, وذات الرسام, وذات الباحث.....
في الختام :
لا يسعني إلا أن أعترف بعجزي عن الإلمام المستحق بكل جوانب العمل, أعتذر عن أي تقصير, وأهنئ الأديب مصطفى البلكي على هذا المنجز الإبداعي اللافت والمميز متمنية له المزيد من النجاح والإبداع.

#دعبيرخالديحيي الاسكندرية 19/ 8/ 2023











المراجع والمصادر
1- روبرت إيغلستون- الرواية المعاصرة مقدمة قصيرة جدًا- دراسة – ترجمة وتقديم : لطفية الدليمي- دار المدى – الطبعة الأولى 2017- ص 35
2- رواية واد جده – مصطفى البلكي- دار سما للنشر والتوزيع- القاهرة – مصر – الطبعة الأولى 2023
3- إدريس الناقوري: لعبة النسيان – دراسة تحليلية نقدية - الدار العالمية للكتاب, الدار البيضاء, ط1, 1995
4- كلود دوشيه: ( عناصر علم العنونة الروائي), أدب , فرنسا, عدد 12, كانون الأول , 1973
5- د.جميل حمداوي – صورة العنوان في الرواية العربية – مقال في مجلة ندوة – المغرب
6- البحر وأدب الرحلة- عند حسن البحار( دراسات ذرائعية )- د. عبير خالد يحيي- دار المتن – بغداد – العراق- ط1 – 2023
7- حسين خمري- الظاهرة الشعرية الحضور والغياب- اتحاد كتب العرب – دمشق – سوريا-2001-
8- في تعاريف الصمت والصوت والضجيج والموسيقى- علاء رشيدي – موقع رصيف – 14 يناير 2020
9- فلسفة المكان – ياسين النصير – مجلة الفيصل – 1 يوليو 2020
10- تيرنس هوكس, الاستعارة, ترجمة عمرو زكريا عبد الله- المركز القومي للترجمة – القاهرة – ط1 – 2016
11- الذرائعية بين المفهوم الفلسفي واللغوي- تأليف عبد الرزاق عوده الغالبي- الدراسات التطبيقية الناقدة د. عبير خالد, دار النابغة للنشر والتوزيع – طنطا- مصر – ط1- 2019
12- الذرائعية في التطبيق طبعة مزيدة منقحة- - تأليف عبد الرزاق عوده الغالبي- الدراسات التطبيقية الناقدة د. عبير خالد, دار النابغة للنشر والتوزيع – طنطا- مصر – ط1- 2019
13- الذرائعية والعقل – تأليف عبد الرزاق عوده الغالبي- الدراسات التطبيقية الناقدة د. عبير خالد يحيي – إصدار الاتحاد العام للأدباء والكتاب في العراق – بغداد- المكتبة الوطنية – 2021
14- القص الموجز المكثف( ق. م. م) تأليف:/ د. عبير خالد يحيي - / عبد الرزاق عوده الغالبي – دار الأدهم للنشر والتوزيع- القاهر – مصر- ط1-2023
15- الأدب النسوي العربي المعاصر بمنظور ذرائعي- د. عبير خالد يحيي- دار المفكر العربي – القاهرة – مصر – ط1- 2022
16- قصيدة النثر العربية المعاصرة بمنظور ذرائعي- د. عبير خالد يحيي- دار الحكمة للطباعة والنشر والتوزيع- القاهرة – مصر – ط1 – 2021
17- تحليل نقدي في أدب الفانتازيا والخيال العلمي – دراسات ذرائعية – د. عبير خالد يحيي- دار المفكر العربي للنشر والتوزيع- القاهرة – مصر – ط1 -2020
18- أدب الرحلات المعاصر بمنظور ذرائعي – تأليف الدكتورة عبير خالد يحيي – دار الحكمة للطباعة والنشر- القاهرة - ط1- 2021








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مت فى 10 أيام.. قصة زواج الفنان أحمد عبد الوهاب من ابنة صبحى


.. الفنانة ميار الببلاوي تنهار خلال بث مباشر بعد اتهامات داعية




.. كلمة -وقفة-.. زلة لسان جديدة لبايدن على المسرح


.. شارك فى فيلم عن الفروسية فى مصر حكايات الفارس أحمد السقا 1




.. ملتقى دولي في الجزاي?ر حول الموسيقى الكلاسيكية بعد تراجع مكا