الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


إنهم يغزلون الصَّمت ( قصة )

فاروق عبد الحكيم دربالة

2023 / 8 / 25
الادب والفن


على المقهى في تلك الأمسية الهادئة كان عددهم أكثر من عشرة شبان ، تقاربت أعمارهم التي تتراوح بين العشرين والثلاثين تقريبًا ، أخذوا جانبًا داخليًا من المقهى الكبير وجلسوا في انتظام , لم يجتمعوا صدفة ، ولكنهم جاءوا – كما يبدو – بموعد سبق في الزمان و المكان . في البداية كان أحدهم يوجه الحديث ، و الباقون يستمعون ، كان نحيلا رشيقًا ، يملك شخصية تبدو جذابة ولها تأثير واضح ، وكان يحرك يديه بحركات متواصلة ، ويعطي اهتمامه لكل الجالسين بالتساوي ، ويقلب فيهم نظراته الودود ، بينما هم يتابعون بعيونهم وكيانهم في شغف ، وكانت جوارحهم تصغي بعمق واهتمام. وابتسامات خفيفة تعلو الوجوه من حين لآخر، وأحيانا تهتز الرؤوس بحركات تدل على الاستيعاب والموافقة .
كنت قريبا منهم ، أتابع حركاتهم وإصغاءهم ، وبعد فترة اتخذ الحديث بينهم وجهة أخرى ، شارك فيه معظمهم وبدا علي هيئة ثنائية ، فالحوار يتقاطع أحيانًا ، أو يتوازى ربما بين اثنين متقابلين وآخرين مثلهما ، وقد زاد الحماس والنشاط ، وسَرَتْ في المكان روح من الألفة المحببة وزادت حركات الأيدي , وكانت تصدر عن معظمهم ابتسامات خفيفة متتابعة ، ارتسمت مساحتها على الوجوه والتمعت معانيها في العيون ، التي تميزت تعبيراتها بالقوة والوضوح ، وأحيانًا بالجِديَّة التي تصل الى مستوى الحدة وتقطيب الحاجبين ، وفي أثناء المتابعة تحول كل اهتمامي إلى قراءة هذه الوجوه السخية ، التي تدربت ملامحها طويًلا على التعبير بثقة ، ورسم المشاعر والمواقف بعمق لإيصال المعاني ، وفي المقابل كان التركيز الشديد من جانب المتابعين ، حتى إنك لا تلاحظ انصراف واحد منهم عن محدثه ، أو مجرد التراخي والنظر بعيدًا عنه ، وكأنما تحول كل منهم إلى كتلة من الانتباه والتجاوب ؛ فالردود والتعليقات تأتي في موعدها ، وفي حضور بالغ يشارك فيه الذهن مع باقي الحواس ، فلا يكون التراخي والشرود .
انسجام في الأداء ، وتركيز في النظرات ، مع براعة في التعبير بلغة الجسد عن طريق الوجه والأيدي والأصابع الرشيقة التي تعلو وتهبط وتنقبض وتنبسط وتروح وتجيء ، والعيون تتابع في شغف ، وتترصد الحركات المحسوبة ، وهي تبدو كيد قائد الفرقة الموسيقية ( المايسترو ) عندما تنقل مفاتيح اللحن وانحناءاته إلى الفرقة معبرة عنه بكل إحساس وقوة وانفعال جميل ، أو جمال منفعل .
كانت االسعادة تفيض من العيون في دفء وبراءة ، تفصح عنها ابتسامات تجول على الشفاه ولفتات حانية ، والجميع يتدفقون بالحيوية والنشاط ، حتى تعبيراتهم وحركاتهم كانت تتسم بالعفوية والبساطة ، فتشعرك بمساحة المودة التي تنداح في الصدور الشابة ، كما أن الأرواح المتجاذبة والقلوب العامرة بأشياء سعيدة وطيبة ، تسطيع أن تلحظها بينهم .
امتدت الأيدي إلى أكواب الشاي الساخن وأنواع المشروبات أمامهم في تلقائية وحماس وإقبال على الحياة ، لا يتوفر لدى مجموعة أخرى من البشر في هذا العصر .
عامل المفهى يحضر المشروبات من حين لآخر وكأنه متعود على ذلك ، فمن الواضح أنهم يأتون دائما دون ضجيج ويجلسون في مكانهم هذا ، وقد افصحت ملامح النادل عن سعادته وارتياحه ، وهو يروح ويجيء ، وينظر إليهم في ود وبشاشة وإعجاب مكنون بما يراه من سلوك وحيوية دافقة مع تآلف وانسجام في مجلسهم الأنيق ، دون أن يصدر عنهم شيء من التجاوز أو الميوعة والطيش أو الصخب الأجوف الذي نجده عند كثير من التجمعات الشبابية ، فلا تسمع جدالًا أو تشنجات حوارية ، ولا أحد يقاطع المتحدث ، وليس هناك تداخلات صوتية أو ضجيج وفوضى كما هي الحال بين بعض رواد المقاهي حين يتخاصمون ويختلفون حول مباريات الكرة وغيرها من أمور.
شعور جارف قوامه الإعجاب بدأ يسيطر، وأنا اتابعهم في أريحية واهتمام ، وقد وجدتني في تلك اللحظات أراهن بيني وبين نفسي على وجود قدر كبير من السعادة ، تفيض به تلك الأفئدة الغضة العاشقة للحياة . والتي تحيي أوقاتها بكثير من الشفافية والصدق ، وعلى نحو أراه أعمق من الآخرين ؛ فهم جميعًا يسهمون في إثراء أوقاتهم والاستمتاع بها وشحنها بالمشاعر السخية الدافئة ، وهم في مجلسهم هذا كأنهم فرقة متناغمة يسيطر عليها الحماس والحب ، تعزف سيمفونية من الأخبار والأسرار والحكايا ، وكل منهم قد عرف دوره الذي يؤديه بصدق واقتدار، ليس في شكله الخارجي وحده ، ولكن في مضمونه العميق ، وأنت إزاء هذا اللحن الأخاذ لا تملك إلا الدهشة والإعجاب بما يفعلونه ، وهم يتواصلون في تناغم ، ويتناقلون الأفكار والمشاعر في خصوصية وانسجام ، ويتبادلون نكاتهم وطرائفهم ، ويضحكون ملء قلوبهم وملء وجوههم وعيونهم دون جلبة أو لغط ، ويشحنون أوقاتهم بالسعادة والأمل ، وتلمح في وجه كل منهم حفاوة بأصدقائه ، وفرحة باللقاء ، وكأنه يختزن أخباره وأفكاره لمثل هذه الجلسة البديعة .
قال رجل خمسيني ، يرتدي ثوبًا ، داكنًا وقد كًبًسً في رأسه طاقية مَكْويَّة لها حروف حادة ، كان يجلس عن يساري ، ويبدو كمخبر سِّرِّي – " شُوفْ يا أخي الشباب وتفاهمهم .. سبحان الله .. وقعدتهم الحلوة منسجمين ع الآخر"، قلتُ موافقًـا: فعلًا .. من غير كـــلام ، آخر انسجام .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. عام على رحيل مصطفى درويش.. آخر ما قاله الفنان الراحل


.. أفلام رسوم متحركة للأطفال بمخيمات النزوح في قطاع غزة




.. أبطال السرب يشاهدون الفيلم مع أسرهم بعد طرحه فى السينمات


.. تفاعلكم | أغاني وحوار مع الفنانة كنزة مرسلي




.. مرضي الخَمعلي: سباقات الهجن تدعم السياحة الثقافية سواء بشكل