الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الاشتراكية في رواية -النهر- جان الكسان

رائد الحواري

2023 / 8 / 26
الادب والفن


الاشتراكية في رواية
"النهر"
جان الكسان
لولا الحقيقة والموضوعية لقلت إن كل الأدب الذي وجد قبل تسعينيات القرن الماضي جيد ويستحق القراءة، لا أعرف لماذا عندما أقرأ أدب تلك الفترة أتناوله في جلسة واحدة وبمتعة وسلاسة، ودون اضطراب أو توتر، أيمكن أن تكون العاطفة التي يحملها العربي للماضي/لماضيه؟ لكن ليس هذا هو السبب، فالرواية لم اقرأها من قبل كحال الأعمال أخرى، ويمكن أن تكون جودة الكتابة واهتمام الكاتب بما ينشره من أدب، وحرصه على أن تكون أعماله جاذبة للقارئ، من هنا جاءت السلاسة.
لكن الرواية تحمل أفكار اشتراكية، بمعنى أنها صيغت ضمن توجيه فكري رسمي، ومع هذا لم تنحرف عن مسارها الأدبي والفني، وبقيت متألقة جذابة للقارئ، مستمتعا بالأفكار والشكل والطريقة التي قدمت بها.
بداية أشير إلى أنها من منشورات اتحاد الكتاب العرب، دمشق، طبعة1979، فعمرها يزيد على الأربعين عاما، وبما أنها جميلة وممتعة وشيقة فلا بد لي من التوقف عندها، لتبيان ما فيها من جمال أدبي وطرح فكري.
الرواية تتحدث عن تحكم رجل الإقطاع "الشيخ زرقان" في كل مفاصل الدولة والاقتصاد والمجتمع، فهو يمتلك أكثر من قرية، ويأخذ من الفلاحين ثمانين بالمائة من إنتاجهم، ويتحكم في القضاء حتى أن ابنه الذي اقترف جريمة قتل، تم التغطية عليه وتلبيس التهمة إلى شخص آخر، لهذا نجد رئيس المخفر تابع مجرور للشيخ، ويتلقى الأوامر منه كما لو كان هو قائد الشرطة.
طبعا هناك أعوان له مثل "المختار" الذي يرى في الختم والمخترة أهم شيء في حياته، وهناك "حسن" الذي يرى تأييد الشيخ مكسب له، كما نجد رجال الشيخ الذين يتصرفون مع الأهالي على أنهم عبيد، فيقومون بضربهم وسلبهم الحبوب وإجبارهم على إطاعة الشيخ زرقان.
لكن هناك قوة ثورية تتمثل في "أبي محمود" وابنه وابنته "رابعة"، حيث قام بتخبئة مائة وعشرة أكياس من القمح حتى يبذرها في أرضه، وهذا يشير إلى حجم الأراضي التي يستفيد منها "الشيخ زرقان" لكن أمره ينكشف، وهنا يبدأ الشيخ في مساومته على إبقائها له إذا ما وافق على تزويج ابنته "رابعة" من "عفين" رغم أنها مخطوبة ل"حمدان" والقصد من وراء هذا الزواج أن تكون محظية الشيخ بعد أن يتزوجها "عفين" لكن والدها يرفض بشدة، ويفضل أن يتلقى العقوبة ويسلب منه الحنطة على أن يلبي رغبات "الشيخ زرقان".
يتعرض للأذى الجسدي هو ومحمود، والأذى المادي بسلب قوته ومدخراته من الحنطة، مما جعله يتعب نفسيا وجسديا، يتم استدعاء "حمدان" للمخفر الشرطة للتحقيق معه، لكنه يلاقي معاملة سيئة فيه، مما يجعله يضرب رجال الدرك و"أديب أفندي" ويهرب من المركز، ليصبح مطاردا من رجال الأمن ومطلوبا لهم، وبعد مقتل "عفين" رجل الشيخ يتم اتهام "حمدان" بعملية القتل، وهذا جعله يختفي عن الأنظار.
الحالة المتردية لأسرة أبا محمود جعلت بعض الأصوات ترتفع مطالبة بتحقيق شيء من العدالة، فكان "الأستاذ أحمد" المعلم في القرية، وسلطان، وعقاب" وجلهم من الشاب، وهذا يأخذنا إلى دور الشباب في التغيير، كما أن وجود نساء مثل "رابعة، ونايفة، ونشمية، وأخريات جعل الفعل الثوري متكامل بين النساء والرجال.
بهذا الشكل تم تناول أحداث الرواية، فهناك قوة تقليدية تتمثل بالإقطاعي "الشيخ زرقان" ورجالة وأتباعه مثل المختار ورئيس المخفر، وقوى جديدة معارضة، ترفض الواقع يمثلها "أبا محمود عائلته، وأحمد والشباب والنساء.
الإقطاع
الرواية تتناول واقع الناس في ظل الإقطاع وما يعانونه من ظلم وبطش وقهر، "أبا محمود" يتحدث عن هذا الأمر بقوله: "أنه يريد ثمانين بالمائة من المحصول ضريبة حاصل.. بأي حق؟ لماذا يطمع في بذاري؟ ألا تكفيه قراه التسع؟ لم يبق إلا أن يشلحنا "القصيرة" والسروال...بأي حق يأخذ القمح يا حمدان؟" ص13، نلاحظ أن هناك صورة شبة وافية عن طبيعة القطاع وأثرة السلبي على الاقتصاد والأفراد والمجتمع، فهناك هوة اقتصادية سحيقة بين أفراد المجتمع، وهناك ظلم وجور يمارس على الفلاحين.
السارد يعطي القارئ صورة أوضح عن قذارة الإقطاعي، يحدثنا عن الوسائل التي يستخدمها لإخضاع الناس وإبقائهم ساكنين ضمن حالة الظلم والقهر الذي يعانونه: "بحق المشيخة.. بحق القوة.. قوته.. وقوة رجاله.. وبنادقهم.. وبقوة أديب أفندي، ورئيس المخفر، والذي أكبر من رئيس المخفر... يرفع أرجلنا بحامل البندقية، ويجلدنا بقضيب الرمان حتى أمام رئيس المخفر، هل نسيت أنه نائب في الشام؟" ص14، إذن هناك أكثر من قوة يمتلكها الإقطاعي، الاقتصادية، نفوذه عند رجال السلطة، مركزة الاجتماعي كشيخ عشيرة، وقوته السياسية كنائب في البرلمان، وهذا يعطيه صفة رسمية وأخرى شعبية، بحيث يكون صاحب القرار المطلق فيما يتخذه من قرارات وأفعال، فطبيعة نظام القبيلة والعشيرة تفرض على الأفراد أن يخضعوا لشيخهم، وبما انه أ نائب في البرلمان، وهذا أعطاه قوة إضافية تجعله يتحكم في ممثلي الدولة.
بهذه القوة والمكانة والمركز كان "الشيخ زرقان" وبما أن هناك تمرد من رجال عادي "أبي محمود" على هذه القوة المتمركزة في "الشيخ" فهذا يعد حدث ثوري بامتياز، فتمرده يعد تمردا على فكرة القبلية، ومفهوم السلطة/الحكومة، والنفوذ الاقتصادي/الطبقي.
أما عن طبيعة "زرقان" وكيف يتعامل مع العامة والخاصة: "يفسد الدفء ويفسد التعليلة.. لا يتكلم إلا من أنفه، ولا يفهم إلا لغة الفلق" ص16، كما انه يتحكم في العلاقات العادية في القرية، فنجده يريد أن يفرض تزويج "رابعة" من "عفين" رغم أنها مخطوبة: "ـ أقول أن رابعة ستتزوج عفين.. هل كلامي مفهوم؟" ص45، ونجده يستخدم الترغيب كما يستخدم الترهيب: "ستنازل الشيخ زرقان لأبي محمود عن القمح، ويدفع له فوقه خمسين إنكليزية.. سياق رابعة" ص45، بهذا الطريقة تعامل الشيخ مع العامة من أهل القرية.
أما عن تعامله مع أتباعه ومنهم المختار، نجد هذه الصورة: "أستمع إلي يا مختار.. تبين من التحقيق أن لا علاقة لمحمود أو لأبيه بمقتل عفين.. فإذا لم أعرف القاتل، سأهدم هذه القرية على رؤوسكم" ص62، فالشدة والتعالي على كل من يتعامل معهم تمثل حالة (عادية) عند الإقطاعين فهو يرى أن الكل وجد لخدمته ويجب أن يكونوا تحت أمره.
ولم تقتصر الشدة على هذا الأمر الشخصي، بل طل أيضا العامة، يطلب بأن تستبدل زراعة القمح بزراعة الأرز، وهذه تحتاج إلى مجهود كبيرا جدا من الفلاحين، فرغم معرفته بصعوبة زراعة الأرز، حيث فالمياه مالحة وغير مناسبة لهذا النوع من الزراعة، وهناك فيضان قادم يشغل بال الناس، وتريد أن تضع سدة ترابية لتحمي البيوت والأرضي، ومع هذا يطلب من المختار: "لا مجال للمناقشة يا مختار.. يجب أن يبدأ الحفر منذ الصباح.. أنا بلغتك وأنت المسؤول" ص167، وهذا ما يجعل النظام الإقطاعي عقيما على كافة المستويات، فهو لا يعالج المشاكل بطريقة صحيحة، وقراراته فردية بعيدة عن الموضوعية مما يجعلها فاسدة وتزيد في الخراب والأوجاع الناس.
وعن تجاوزه للقانون والالتفاف عليه: "أبنك قتل ذنون الصالح لم يعتقله الدرك... محمد السحل بريء، ولكنكم ألصقتم التهمة به لإنقاذ ابنك" ص111، وهذا ما يجعله صاحب نفوذ وقوة ومن الصعب مواجهتها أو الوقوف أمامها، وعدما تحداه رجل عجوز "أبو محمود" فهذا يقودنا إلى فكرة أن شعلة الثورة يمكن أن تأتي من اضعف الناس، إذا أرادوا وقرروا أن يخضوا التمرد.
أما عن وضعه الاقتصادي وكيف ينفق الأموال، يخاطبه أبا محمود بقوله: " كم أنت غني يا شيخ زرقان.. هذا الأراضي كلها ومثلها أراضي ثماني قرى كاملة... تأكل حاصلها وحدك... كم تنفق زوجتك الشامية وحدها في الشهر؟ ... سراويل زوجته الشامية من الحرير، وعلى الرغم من أنها صغيرة الحجم إلا أنها أكثر ثمنا من السراويل الطويلة التي ترتديها الشيخة الكبيرة" ص91.
النظام الإقطاعي والعسكر ورجال الأمن
ولم تقتصر القوة والشدة في التعامل مع العامة فحسب، بل طالت رجال الأمن أيضا، يتحدث "أديب أفندي" عن غياب "داعس" رغم انه مريض بهذا الشكل: "ليس لدي دركي يمرض.. أنه يعرف حالنا هذه الأيام ويعرف أن الدورية عندما تخرج لا يبقى في المخفر سوى دركي واحد.. ألم يكتفي بالإجازة فألحقها بتقرير طبي" ص144، وهذا يؤكد أن عدم الإنسانية صفة عامة في النظام الإقطاعي، فهو لا يرحم البعيد ولا القريب.
والجميل في الرواية أن السارد جعل العسكر ورجال الأمن يتحدثون بما في نفوسهم، يتحدث "أديب أفندي" لرئيس المغفر عن مشاعره بقوله: "أبي يعمل حاجبا في مدرسة.. أي أنه مثل هؤلاء القلاحين.. أنه يكدح مثلهم لقاء ثمانين ليرة في الشهر... أنني أتذكر هذا أحيانا فأجدني من طبقة هؤلاء الناسـ ولكن البذلة الرسمية هي التي تجعلني اقف مع الشيخ ضدهم" ص117و118، وكأن السارد يريد القول: إن العسكر ورجال الأمن هم من الشعب، ويمكن الاعتماد عليهم وقت الثورة، فطبيعتهم الطبقية تجعلهم ينتمون إلى العامة وليس إلى السلطة لحاكمة والمتنفذة.
يمتعض "أديب أفندي" من طبيعة عمله كمنفذ للأوامر بقوله: "ملعونة هذه اللقمة كم هي صعبة.. ألا يكفي أننا مشردون عن أسرنا وعيالنا في البرية، حتى نعيش في رعب من تهديد قيادة الفصيل ومن الناس الذين هم فوق.. والذين هم في الشام" ص146ز147، وبهذا يكون العسكر ورجال الأمن من الذين يمكن الاعتماد عليهم عند الثورة، فهم ـ طبقيا ـ ينحازون لقضايا الشعب ويعانون كما يعاني الشعب.
الطرح الطبقي
بما أن هناك إقطاع فهناك صراع طبقي، بين المتنفذين والعامة، وإلا ما الداعي للحديث عن "الشيخ زرقان" وسطوته وظلمه؟ يدور حديث بين "أبا محمود وعقاب" يقودنا إلى فكرة الصراع الطبقي: "ـ الذين زرعوا قطنا في الجزيرة حصدوا ذهبا.
ـ الذهب ليس للفلاحين.. إنه لصاحب الأرض ولصاحب المضخة، وصاحب السلول، وصاحب الشحن، والتاجر وصاحب الخان" ص190، نلاحظ أن السارد يركز على الملكية الاقتصادية وأثرها السلبي على الفلاح الذي ينتج ولا يملك، من هنا نجد تحالف الرأسمالي مع الإقطاعي لضرب الفلاحين ليبقوا خاضعين مشغولين بواقعهم الفقير، يأتي "أبا أسعد" صاحب الجرار في القرية ليستعيده، علما بأنه يمكنه الاستغناء عنه، وأهل القرية بحاجة ملحة له: "كيف سمح له الشيخ دخول مملكته والسيطرة علة جزء من مقدرات القرية من خلال الجرار الذي يملكه.. لماذا يسنح له بمزاحمته في هذه القرية؟ لعل بينمها مصالح مشتركية، وإلا فهل الشيخ زركان عاجز عن استثمار جرار في هذه القرية والجرارات التي يملكها أكثر من الكلاب الشاردة في أزقة القرية ليلا؟
ـ جئت لأسحب الجرار من القرية" ص149، فكرة التحالف بين الإقطاع والرأسمالي واضحة، لكن السارد قدمها من خلال حوار بين الشخصيات، وعندما جعل الرأسمالي يتحدث بنفسه أكد طبيعة هذا التحالف الذي وجد لأذية الناس وإبقائهم في عوز وحاجة، وهذا يستدعي من الفلاحين أن يقفوا في جه هذا التحالف.
أبو محمود شعلة التمرد
الشخصية المركزية في الروية "أبي محمود" به تبدأ الأحداث فرغم فقره إلا انه يمتلك كرامة وعزة نفس تجعله لا يرضخ أو يخنع للشيخ: يخاطب ابنته "رابعة" بقوله: "سنظل بلا بذار.. ولا طعام.. ولن نستغفره.. لن أقف أمامه ذليلا.. ليأخذ القمح، ولكني لن أرضخ له.. سأتحداه.. ولتتحدث الديرة عني، وليرفع قدمي في الفلق" ص19، إذن فكرة التمرد حاضرة في "أبي محمود" وهو مستعد للمواجهة وما يترتب عليها من ضيق وقسوة وألم.
يقوم "الشيخ زرقان" باستخدام الترغيب معه ليبقي له القمح ويعطيه فوقها خمسين إنكليزية ليوافق على زواج "رابعة" من "عفرين" ومع هذا يبقى موقفه صلبا الصخر: "ـ ستكون رابعة كنة الشيخ زرقان.. فهو يعتبر عفين في منزلة ولده.
ـ أنه كلبه وليس ولده.
ـ أضبط كلامك يا ابا محمود.. أنت شايب فلا تضطرني لأن أهلين شيبتك.. ها! ماذا قلت؟ هل توافق على زواج رابعة من عفين؟
ـ أهذا هو إذن سبب المطالبة بأكياس الحنطة؟
ـ لن يأخذ الشيخ زرقان الحنطة.. ستكون "نقوظ" العروس
ـ كثر الله خيرك وخيره.. نحن لا نريد نقوطا" ص50، رغم وضعه الصعب، ورغم انه أمام الشيخ والرئيس المغفر، إلا أنه لم يوافق على طلبهما واستمر محافظا على موقفه.
وعندما يطالب "الشيخ زرقان" بأخذ فرس "حمدان" التي وضعها في عهدة أبي محمود يخاطب رجل الشيخ "حصيني" بقوله: "الفرس أمانة.. ولن أسلمها" ص97، هذا الموقف يؤكد أننا أمام شخصية قوية، صلبة رغم القسوة التي تعانيها، فهو يمثل الثائر الصلب، العنيد، المقدام الذي لا يلين ولا يضعف.
من هنا كانت شرارة الثورة والتمرد، فأخذ الناس يتحدثون عنه وعن مواقفه وتحديه للشيخ وسلطته قائلين: " إذا استطاع أبو محمود وأسرته الصغيرة والفقيرة أن يتحدى الشيخ زرقان ورئيس المخفر، فكيف الأمر إذا أصبح الجميع يدا واحدة في جه ظلم الشيخ وظلم المخفر" ص125، نلاحظ أن بناء حبكة الرواية متماسكة ومتكاملة، فالسارد قدم فكرة الثورة بطريقة لافته، بعيدا عن المباشرة، وهذا يحسب له، فعندما جعل العامة تتحدث عنها أكد احترامه لعقل المتلقي، فهو لا يقدم بيان سياسي بل عمل روائي أدبي، من هنا اهتم بالجانب الفني وفي الوقت ذاته اهتم بالفكرة التي يريد تقديمها، فكرة الثورة والتمرد على الإقطاع وسلطته ونفوذه.
ينقل "حسين" ل"شيخ زرقان" حقيقة ما أحدثه "أبو محمود" من تغييرات على أهل القرية بقوله: "ـ شيخي.. أطال الله عمرك.. لم يكونوا قبل حادثة أبي محمود يجرؤون على أي نوع من أنواع التمرد" ص211، هذا الخبر الذي نقله "حسين" يمثل نوعا من (التحدي) فلم يكن يجرؤ أحدا من رجال الشيخ على إيصال أخبار مزعجة له، لكننا نجد "حسين" يخبره بهذا الواقع المزعج والمؤذي للشيخ، وبهذا يكون أثر "أبا محمود" قد طال حاشية الشيخ ورجاله.
الشباب
هناك اكثر من عنصر شاب في الرواية، منهم، الأستاذ أحمد، محمود، عقاب، سلطان، رابعة، نشمية" وكلهم لعبوا دورا إيجابيا في إحداث التغير في القرية، لكن أبرزهم كان "الأستاذ احمد" الذي مثل دور المثقف الثوري، فكان كلامه موزنا، ويجد الصدى عند مستمعيه الذين يكنون له الاحترام والتقدير، فهما لم يتوانوا عن الحديث عن الظلم الواقع ومن يوقعه بهم، نجد الحمية عند كل من "محمود وأحمد" في هذا الحوار: "هون عليك يا محمود... شدة وتزول
ـ والله يا أستاذ لا تزول الشدة حتى يزول عنا هذا الطاعون
ـ قصدك الشيخ زرقان؟
ـ الشيخ والمختار ورئيس المخفر .. كلهم" ص70، بهذه الروح الرافضة كان الشباب يتفاعل مع واقعهم، وعندما تم مصادرة الحبوب من أبي محمود وأصبحت معاناته أكثر، يجتمع الأستاذ أحمد في "ربعة" مع الأهالي والمختار، يخاطبه بهذا الشكل: "يا مختار أنا لا أطلب له صدقة.. هذا لن يحل المشكلة.. كان عليكم جميعا أن تقفوا إلى جانبه.. أن تقفوا في وجه الشيخ زرقان وتمنعوه من أن يأخذ الحنطة" ص81، روح التمرد نجدها حاضرة ومتقدة، فرغم علم أحمد أن المختار من رجال الشيخ إلا أنه أوصل للأهالي المجتمعين أهمية العمل الجماعي لتنجح الثورة ويزول الظلم والظلام.
إذن "الأستاذ أحمد" هو مفكر الثورة، لهذا يركز على العمل الجماعي وليس الفردي كحال "أبا محمود ومحمود" فهو يسعى لوجود تحالف (طبقي) يواجه به الطرف الآخر، من هنا نجده يركز على أهمية العمل الجماعي لتكون الثورة ناجحة وتحقق أهدافها، يخاطب "محمود" المنفعل والمتشنج تجاه ما يحصل له ولعائلته بقوله: "هناك طريقة واحدة تبعد ظلم الشيخ عنك وعن أرضك وعن بذارك وعن فرس حمدان
ـ ما هي؟
ـ أن تكون أنت وبقية الفلاحين يدا واحدة ضده" ص105، التركيز على العمل الجماعي ونقد ردة الفعل الفردية وما يتبعها من (عنف ثوري) تجعل أحمد يمثل المفكر الثوري الذي يتخذ قرارات مناسبة لطبيعة النضال والمرحلة، وهذا يشير إلى نضوجه وكمال معرفته، لهذا يتصرف بحكمة وعقلانية بعيدا عن الانفعال والتشنج.
وعندما يرى "سلطان السويلم" أهل القرية مجتمعين في "الربعة" يستمعون إلى قصة الزير سالم يخاطبهم: "ـبيوتكم خراب.. ومواسمكم ضياع، ولحاكم في الوحل، وأنتم تجلسون مثل طرش الغنم تستمعون إلى قصة الزير سالم، حرام لم يبق في القرية رجال" ص143، وهذه يشير إلى حيوية الشباب وما يمتلكونه من طاقة على الفعل والعمل، والتقدم لمواجهة الأخطار والصعاب، إن كانت بشرية أم طبيعية.
وعندما احتار الأهلي بنوع الزراعة، تقدم "محمود بهذا الاقتراح: " دعونا نتفق منذ الآن على أن يزرع نصف أرضنا قطنا ونترك نصفها الآخر لزراعة الحبوب.. ثم نقارن بين نتائج موسمي المحصولين ونختار أحدهما فيما بعد أو نبقي عليهما هما الاثنين" ص190، بهذه العقلية المنفتحة تعامل الشباب مع الأفكار الجديدة، فهو لم ينساقوا وراء زراعة القطن وأرادوا التأكد من جدوى زراعته لهذا (عامروا) بنصف الأرض لزراعته، وعلى حجم المحصول يكون قرارهم النهائي.
وبعد أن يقموا سدة من تراب ويجرفها الفيضان يحصل نقاش بين من أهل القرية المؤيدين وبين الشيخ زرقان المعارض، يرد الشاب "عقاب" على طرح الشيخ الذي يريد هم أن يزرعوا الأرز بقوله: "في كل سنة سنبني يدو في وجه الفيضان/ في هذه السنة بينيها من تراب، فجرفها الفيضان وفي العالم القادم سنبينها من حجارة.. وإذا جرفها الفيضان سنبنيها من أسمنت.. وإذا جرفها سنبنيها من حديد" ص225، رد حاسم وقاطع يشير إلى قوة الإرادة والعزيمة في مواجهة الفيضان، وتحدي أوامر الشيخ زرقان.
المرأة
الأدب الاشتراكي اهتم بالمرأة وأعطاها دورا حيويا، إن كان الفعل متعلق بالثورة والعمل الاجتماعي، أم كان متعلق بالعمل والإنتاج، وبما أن الرواية تتحدث عن مجتمع ريفي وعن أسرة فقيرة فقد كانت "رابعة" تمثل المرأة المتمردة على الشيخ برفضها الاقتراب ب"عفين" وتمسكها بخطيبها "حمدان" المطارد، والوقوف إلى جانب والدها وشقيقها، ومحاولتها سد النقص الموجود في البيت من خلال اجتهادها في تأمين ما يلزم.
يدعو الشيخ زرقان الأهالي إلى اجتماع في "الربعة" وتحضر رابعة فيكون هذا الموقف بينهما: "قال الشيخ زرقان وهو يوجه الحديث إلى رابعة:
ـ أنا دعيت الرجال فقط
فردت رابعة: أنت طلبت فرس خطيبي حمدان، وقد جئت لأقول لك أن الفرس أمانة، والأمانة لا تسلم إلا لصاحبها" ص110، نجد رابعة امرأة قوية تتحدث بمنطق أخلاقي، يعرفه العامة والخاصة، لهذا كان موقفها سليم وصحيح ولم يعترض عليه أحد سوى الشيخ زرقان.
وعندما يحتدم النقاش بينهما ويخرج الشيخ عن انضباطه: "ـ وماذا ستفعل أكثر مما فعلت يا شيخ زرقان؟
ـ أخرسي أنت
فردت فطيم:
ـ ولماذا تخرس؟ أعطاها الله لسان لتحكي به." ص112، نلاحظ مؤازرة النساء لبعضهن البعض، متصديات للشيخ ولقراراته، وهذا يشير إلى أنهن جزء أساسي من الثورة، وبعد أن يقرر الشيخ بأخذ الفرس، نجد "رابعة" تتخذ هذا الموقف: "سأقف بجانب الفرس، والذي يتقدم منه سأشك صدره بهذا الخنجر" ص114، وهذا ما جعل "دعاس أفندي" يتراجع أمامها تاركا الفرس مكانها.
وبعد الأزمة المالية التي تمر بها عائلة "رابعة" تقوم الأرملة "نوفا" بتقديم مائة ليرة ل"رابعة" التي وجدتها مبلغ كبير جدا: "هذه أول مرة أمسك بيدي قطعة من ذات المئة ليرة .. أليس مبلغا كبيرا
ـ عندما تقفين كما وقفت فوق التل الغربي، وتنظرين إلى القرية غارقة في الوحل، لن تجدي المبلغ كبيرا" ص130، نجد "نوفا" كريمة، حكيمة، تستخدم مالها لرفع الأذى عن الآخرين، وهذا يجعلها امرأة تمتلك من الأخلاق ما لا يملكه الرجال.
يمر "محمود" بحالة ضغط كبيرة فيأتيه الخلاص من خلال "نشمية" التي أنشدت أمامه وأمام الأستاذ أحمد هذا النشيد
"يا بو فرد بزنارك يا بو تسع ضروبي
حط التسعة بقليبي بس لا تأخذ محبوبي" ص168، مما جعله يتراجع عن قراره بالهجرة من القرية، وبهذا تكون "نشمية" تثبت "محمود" في قريته، ليكون أحد أبرز المقاومين للشيخ.
وبعد الفيضان تخاطب النساء الرجل بهذا الشكل: "بدل أن تظلوا جالسين كالبهائم في الربعة، قوموا إلى العمل.. أقيموا سدة، أفعلوا أي شيءـ فالفيضان سيكون كبيرا وقد يؤدي بالقسم الأكبر من القرية.
وقال أخرى لزوجها:
ـ كان علينا أن نرفض النوم معكم حتى تفعلوا شيئا من أجل الفيضان القادم" ص208، إذن النساء لعن دور ثوري كحال الشباب، لهذا كان طرحهن قويا وصحيحا.
ضمن هذا الصراع كان لا بد من إيجاد أحداث تخفف من وطأة القسوة الكامنة في الرواية، من هنا أوجد السارد علاقات حب بين نشمية ومحمود، وبين "حمدان ورابعة" ورغم أنه كان حبا خافتا وليست متقدا إلا أنه ساعم في إعطاء لمسة من الهدوء.
كما أن تحدُث الشخصيات باللهجة المحكية، وغناء بعض الأغاني الشعبية ووجود الأمثال كل هذا جعل من الرواية سهلة وممتعة.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. بعد فوز فيلمها بمهرجان مالمو المخرجة شيرين مجدي دياب صعوبة ع


.. كلمة أخيرة - لقاء خاص مع الفنانة دينا الشربيني وحوار عن مشو




.. كلمة أخيرة - كواليس مشهد رقص دينا الشربيني في مسلسل كامل الع


.. دينا الشربيني: السينما دلوقتي مش بتكتب للنساء.. بيكون عندنا




.. كلمة أخيرة - سلمى أبو ضيف ومنى زكي.. شوف دينا الشربيني بتحب