الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


قصور في مسيرة اليسار-7

سعيد مضيه

2023 / 8 / 27
اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي


الصهيونية تفارق الليبرالية الى الفاشية بمهمة اقتلاعية
المجتمع الفلسطيني رازح تحت نير احتلال كولنيالي اقتلاعي منذ عقود عدة، يتهدده خطر لم يواجه شعبا آخر في العصر الحديث. فقد تقرر في عام 1963 احتلال ما تبقي من فلسطين التاريخية ووضعت خطة بمضامينها الاقتصادية والسياسية والإدارية والثقافية، كي يكون الاحتلال مرحلة انتقالية لتطهير عرقي شامل ومكتمل لفلسطين التاريخية. كان جدول أعمال الاحتلال جاهزا للتنفيذ منذ أيامه الأولى في حزيران 1967 ، تقضي بنوده ان يعيش شعب فلسطين داخل سجن كبير مقيدين تتراكم حولهم وتقعدهم عن النضال تفاهات الرأسمالية في مرحلة انحطاطها الليبرالي الجديد- نظام أبارتهايد وأحكام عرفية وحصار وعقوبات جماعية؛ اختزل اهل البلاد الأصلاء ، القاطنون مع أسلافهم في هذه البلاد عبر آلاف السنين أجيالا متعاقبة لم يتخلوا عن وطنهم ، ولا قبلوا يوما وطنا غيره.. اختزلوا الى ساكنين مؤقتين برسم التهجير. والرأسمالية بطبيعتها اختزلت البشر ، كما قيمها ماركس "الاستحواذ على القيمة الزائدة هو الغاية العليا للاقتصاد، فقد كشف(ماركس) أوجه التفاهة وغاياتها في عالم الرأسمال . البشر حولتهم الرأسمالية الى مجرد قوة عمل لا رأي لها في ما تنتجه". وفي هذه المرحلة اختزل الرأسمال شعب فلسطين الى مجموعة بشرية لا رأي لها في مصيرها ومصير وطنها، شعبا بلا حقوق إنسانية، مجرد فضلات يتوجب الاستغناء عنها. بذا تجسدت على أرص فلسطين مكرهة التفاهة بالانحطاط الذي كشف عنه الان دونو في كتابه "نظام التفاهة".
من أحكم إغلاق أبواب السجن؟
إسرائيل بعتلاتها الاقتصادية وضعت الشعب الفلسطيني في حالة تبعية مطلقة، شددت قبضتها على كل من الطاقة والمياه والعمل وإدخال المواد الغذائية وكذلك الطرق؛ يمكنها ببضعة جنود فرض الحصار الشامل على منطقة بأكملها، وتقطيع أوصال الضفة. في أي لحظة تحكم إسرائيل حصارها على الشعب الفلسطيني في المناطق المحتلة وتقطع مصادر الحياة عن الفلسطينيين. حياة التفاهة مكتملة الأسباب.
بينت الانتفاضة الشعبية عام 1987 ان الشعب باكمله يستجيب معها ويشارك بها ؛ كانت انتفاضة حقيقية لشعب يكابد الاحتلال؛ اما في العام 2001 فقد مارس الاحتلال سطوته على حملة السلاح والسلميين؛ نجحت مساعي الصهيونية لاستدراج المظاهرات الشعبية وفصائل معينة الى الصدام المسلح كي تقضي بالسلاح على المقاومة الفلسطينية. الحركة الصهيونية تحتفظ بهيئة مخفية تقرر التوجهات السياسية ، توزع الأدوار وتترك للنظان الانتخابي الليبرالية مهمة التنفيذ. فاز شارون بانتخابات شباط 2001 ، تسلم رئاسة الحكومة وبمكر وحقد عنصريين مضى يجرجر المقاومة الى الصدام المسلح ثم التفجيرات الى ان أعلنت الحرب على الإرهاب وكان الشعب الفلسطيني ومقاومته هما الإرهاب.
في العام 2000 رغبت إسرائيل في الدخول في صدام مسلح مع المقاومة الفلسطينية ورغبت المقاومة ايضا في الصدام المسلح. ردد المقاومون بالإجماع على شاشات التلفزة "سوف نعلم شارون درسا لا ينسى" و" سوف نزلزل الأرض تحد أقدام إسرائيل"؛ تكفلت فضائية عربية بإغراء الفلسطينيين بدخول مبارزة السلاح الى ان تمت الهزيمة التامة واستباح جيش الاحتلال كامل الضفة واحكم الحصار على قطاع غزة. لم تجر مراجعة نقدية ولم يتعلموا شيئا من تجربة الهزيمة، لا ولم ينسوا شيئا.
أعلن شارون انه سيتفرغ لتهويد الضفة، وما زال شعب فلسطين وكل القوى بالمعمورة عاجزين عن ردع عملية تهويد الضفة. يجري الحديث عن معادلات مع الاحتلال وعن تعادل في الردع، كما يدور الكلام عن انتصارات سيف القدس ودخول المقاومة مرحلة جديدة مع الاحتلال؛ اما الواقع فيؤكد ان تهويد الضفة، ومنها القدس – اغتصاب الأراضي وبناء المستعمرات – جار بلا توقف، تماما طبقا للخطة الصهيونية . وبمكائد الصهيونية وحليتها الامبريالية أجهز على التجربة الناصرية الرائدة، بينما واصل بعض حلفائها درب التتحرر والتنمية المستدامة، وهاهم يقودون حركة عالمية لتقليم اظافر الامبريالية وحسر نفوذها.
ملاحظات على تصريحات السيد العاروري لفضائية الميادين
مع الشعوب العربية تعيش المقاومة الفلسطينية أضعف حالاتها، حيث نشاط الجماهير مجمد، والوحدة الوطنية بادية الهزال؛ فصائل المقاومة المسلحة انشغلت بتأهيل الكوادر لحمل السلاح ، وغيبت جماهير الشعب الفلسطيني في عزلة عن الحياة السياسية، ينما حراك الجماهير في مقاومة شعبية ديمقرطية مقوّم أساس لنجاح الكفاح الوطني. تم تفويت مهمة رفع كفاحية شعب فلسطين عبر التنظيم والتوعية ينجزها الفصيل الثوري. أكبر فصيلين من المقاومة الفلسطينية، تسلما الحكم في كل من الضفة والقطاع، والحكم بطبيعته يفضل التهدئة ويمارس قمع المعارضة . اكتمل السجن بسياج مانع. بدل ان تضطلع حماس، الفصيل المناهض للاحتلال، بمهمة التنظيم والتوعية، وبدون نظرة تأملية موضوعية ومسئولة ، فإن أحد قادتها ، السيد صالح العاروري، نائب رئيس المكتب السياسي الحركة ، قد باغت جمهور فضائية المقاومة ، برغبته في " حرب شاملة" ...و" يجب أن يشارك الجميع في التصدي .. يجب على كل شاب ان يكون شريكا في المقاومة ( ويقصد الحرب الشاملة، ويمنّي الجمهور بالنصر المحتم . وفي الصدامات المسلحة عام 2001 وعدت المنظمات الجمهور بالنصر المؤزر.
الرغبات لا تسوق الشباب كما يشتهي السيد العاروري؛ فالموضوعية والضرورة تقتضي التوعية والتنظيم في أوساط الشباب كي يستجيبوا لندائه. وهذا غير متاح في ظروف التوتر.
والحرب يقررها طرف ، ولا يعقل أن يقرر الطرف سلفا انتصاره . فالحروب قد يبداها طرف ويستحيل التنبؤ بمن ينهيها بانتصاره ومتي وكيف. والسيد العاروري مصيب إذ نفض يده من الدول العربية . حقا دول الجوار ليست على استعداد في الوقت الراهن لإغضاب الامبريالية الأميركية والوقوف بصلابة وحزم بوجه إسرائيل. والجماهير الفلسطينينة كطائر الفينيق تنهض من إحباطاتها، تتداول المثل "ما بكسر الرطل غير رطل ووقية: وتردد عبارة عبد الناصر " ما اخذ بالقوة لا يسترد بغير القوة"؛ لكنها ، إذ تراوح بين شيطنة وتنزيه ، تغفر خطيئة عبد الناصر ومصدر فشل تجربته الرائدة، حين انكر بأن قوة الجماهير الشعبية هي الغلابة. عواطف الجماهير ، في ضوء ما سبق، مع قعقعة السلاح ، و"خلي السيف يقول"!. وحين يحتد فيهاالمزاج مع العنف المسلح ترفض الإصغاء الى التثقيف ولا تلتزم بالتنظيم والوعي ، فهذا يتطلب الهدوء. لا تتقبل تلقائيا نصائح اهل الخبرة؛ بذا تتكر الأخطاء الموردة الى النكسة!
هناك نقاط عدة في تصريحات السيد العاروري تحتاج الى مناقشة ويمكن مقاربتها في مجال آخر؛ لكن لابد من الإقرار بأن السيد العاروري مصيب في تقديره ان الائتلاف الفاشي "يقف على أرض صلبة"، وأن إسرائيل الفاشية تشارك حماس الرغبة في حرب شاملة. الفاشية انتصرت حقا في إسرائيل، والليبراليون المحبطون سوف يتسربون من البلاد، لتتصدر الفاشية الحركة الصهيونية.
نرى التحالف الفاشي في عجلة من امره لإنجاز مشروعه الاقتلاعي. وقريبا جدا سيتحول الى تشديد النكير على شعب فلسطين ، والعدوان على الأقصى وتشريد اكبر عدد من الفلسطينيين. وهذا يخالف الرؤية بان الكيان الفلسطيني في حالة تآكل وقلق واضطراب. الائتلاف الفاشي ومرشدوه بالخارج مدركون ان تحولات دولية جارية تنحسرمعها القوة النسبية للولايات المتحدة على المسرح الدولي، وسوف يتشكل وضع دولي يرفض استثنائية اميركا أو إسرائيل من الشرعية الدولية .
والسيد العاروري صادق في مهادنة السلطة في رام الله، ولكن ليس عن حكمة سياسية، إنما إشهارا باتفاق حضاري على الطلاق مع تقاسم التركة البائسة؛ وفي الجوهر إفصاح بان الانقسام كما تمظهر طول ستة عشرعاما كان مجرد اقتسام برضا أصحاب القرار في مرحلة العولمة .
بذا تتوضح خطيئة اليسار إذ انتظر "إنهاء الانقسام" هذه المدة الطويلة، مكتّفا الأيدي، معلنا تذيل أطرافه لهذا او ذاك من أصحاب السلطة. كان عليه ان يعمق الرؤية ويمسك في تواصل الخلاف جنوحا الى تقبل الأمر الواقع والانفراد بالحكم . لكنه ، وبدلا من أن يكشف الحقيقة ويتوجه الى الجماهير يستنهضها ويهيب بها لتحمل مسئوليتها، بدلا من انتزاع قيادة المرحلة، يجنح أيضا الى التذيل لليمين، منتظرا الذي لن يجيء.
والملاحظ أيضا ان السيد صالح العاروري فاجأ الجمهور نيابة عن حماس، دون أن يبلغ الجمهور هل تشاور أو استشار الآخرين من الفصائل المسلحة؟ لم يعلن الموقف الحاسم عدة فصائل مسلحة، كما كان الوضع عام 2001؛ على الأقل لم تشارك حركة الجهاد الإسلامي في إعلان خيار الحرب الشاملة، وهي في طليعة قوى المقاومة حسب تقدير جبهة المقاومة. رغم هذا يتحدث السيد العاروري أن الشعب يريد.
الشعب الفلسطيني ينفعل مع الكفاح المسلح ولا يتفاعل معه. التفاعل ليس تلقائيا عفويا، بل مشاركة واعية وفي حالة نهوض ثوري؛ والشعب الفلسطيني حساس لما يجري في الأقطار العربية، ومن أشد الشعوب العربية تمسكا بالوحدة القومية وبالتضامن القومي ووحدة الحركات الوطنية ، خاصة في المشرق العربي. وحينما نشبت الانتفاضات الشعبية في العقد الماضي، تأثر بها الشعب الفلسطيني واستهواه بصورة خاصة شعار الانتفاضات في أكثر من بلد عربي "الشعب يريد إسقاط النظام". وهذا شعار ثوري نظرا لأن الأنظمة تزعم ان سلطتها ليست مستمدة من الشعب، بل من الله،، والخروج على الحاكم تجديف. رفعت جماعة الإخوان المسلمين هذا التقييم شعارا لها في الأيام الأولى من انتفاضة 25 يناير 2011، ثم طوت الشعار وشاركت بالانتفاضة حين اتضحت تصدعات النظام وعزلته.
سريعا تحركت القوى المضادة المتمترسة في الأجهزة الإدارية والأمنية، عناصر الليبرالية الجديدة في الاقتصاد والإدارة وكذلك داخل الجيش والأجهزة الأمنية وضربت ضربتها هوجمت الانتفاضات بضراوة، وطعن في وطنيتها، وقذفت بالاتهامات. ساعد على خلط الأمورأحداث سوريا ، حيث دعمت إسرائيل والامبريالية والرجعية العربية محاولة تدمير سوريا. ساهمت الميديا الرئيسة (الحكومية) في التشنيع على هبة الجماهير لتأخذ المصير الوطني بيدها. للتغطية على دور عومل الردة نزلت لسوق الدعاية حكايات الربيع العربي، ثم الخريف وانحطت الى تفاهة السخرية من النضال ومن الجماهير!! شاركت الميديا الرئيسة في الحملة ضد الانتفاضات ، وأحاطتها بسياج من التفاهة طمس صورتها المشرقة، كي تنساها الجماهير وتستكين للسلطوية الأبوية.
قبل إخماد الانتفاضات برزت في إسرائيل مجموعة وصفت نفسها انها من الجيل الثالث للمهاجرين اليهود من الدول العربية؛ منتشين بانتصار الجماهير العربية، اعتبروا أنفسهم عربا يدينون باليهودية أخضعوا للتضليل السياسي والثقافي ، وحان الوقت لأن يعوا دورهم أنصارا للنضال العربي وللمقاومة الفلسطينية. سرعان ما اختفت المجموعة بصمت وبدون خبر، مثل نار شبت وأطفئت قبل أن ينتشر الحريق. الإسكات القهري للمجموعة يبين يقظة إسرائيل وأجهزتها المختصة للحيلولة دون تطور وعي بين اليهود يتنصل من عنصرية التفوق الديني ويتطلع للتعاون مع العرب.

عوامل الرضوخ للسجن الكبير
ظروف اقتصادية وثقافية تضافرت مع اقتسام السلطة بين الفصيلين التفاهة احدقت بالشعب الفلسطيني. عوامل ذاتية وموضوعية أحكمت إغلاق أبواب السجن الكبير على الشعب الفلسطيني:
أولا، فصائل اليسار لم تر من واجباتها إنهاض الجماهير من كبوتها، علما ان نهب اراضي المزارعين هيأ فرصة لحشد جماهير واسعة في مقاومة شعبية متنامية باضطراد ومرهِقة للمحتلين ومستقطبة لحركة تضامن عالمية مع الحقوق الفلسطينية. البعض من فصائل اليسار بدأ نشاطه السياسي بالمشاركة في الكفاح المسلح دون أن يحدث مع اليمين تبدلا في ميزان القوى داخل منظمة التحرير اوفي المقاومة الفلسطينية. زاود هذا الفريق بان الكفاح المسلح أرقى أشكال السياسية، معفيا كوادره من تعبئة الجماهير وتربيتها سياسيا وفكريا كشرط لابد منه لتغذية الكفاح المسلح وضمان استمراريته وتصعيده وإنضاجه كي يُلحِق الهزيمة بالاحتلال. وبعض آخر من اليسار أكتفى بالتواجد في هيئات منظمة التحرير بدون ادنى تأثير في مجريات الأحداث.
وثانيا ، لم يتخلص الشعب الفلسطيني من إرث تبخيس القرون الوسطى، حيث افتُقِدت القيادة السياسية الحريصة على تحديث وعيه ووضع الأقدام على درب التحرر الإنساني. محدودية الخبرة السياسية والاجتماعية سهلت تمرير الشعوذة وحلولها الزائفة على الجمهور. في غياب اليسار يلوذ الجمهور المرتبك امام صعوبات الحياة الى اليمين، يمثله التيار السلفي. وكما يورد دونو ، " يتعذر قيام اي نضال من أجل نظام ديمقراطي راديكالي إذا ألغت الأكاذيب عقلنا، وفكك الجهل بنية الأحكام المبنية على المعرفة.
وثالثا، اعتمدت سلطة اوسلو اقتصاد الليبرالية الجديدة، وغيبت الجماهير؛ والليبرالية الجديدة تستهين بالجماهير الشعبية ولا تراها جديرة بالاهتمام. يقول الدكتور دونو ان مجتمع الليبرالية الجديدة "أفرغ العمل العام من منظومات الأخلاق والمفاهيم والمثل العليا والمواطنة والإلتزام. صار الهم العام هو الخصخصة . ... أفرغت السياسة من الأفكار الكبرى كالحق والصالح العام والواجب والعمل والالتزام والقيمة . شيئا فشيئا انتقل الاهتمام بالصالح العام من شان سياسي قيمي الى مجرد إدارة عملية".
ورابعا، استنّت السلطة نظام فساد غير مكبوح. تغلغل الفساد بالجهاز الإداري وفي مجمل ممارسات السلطة، تلهب به مواقد السخط والإحباط في أوساط الجماهير الشعبية. تطور الفساد بغير كابح لدرجة احتلال السلطة مواقع بارزة في قائمة الفساد لدول المعمورة ؛ بلغ الفساد حدا أن سخره شارون في التحريض على السلطة، أثناء ما سمي الانتفاضة الثانية، حيث استباح مناطق السلطة ، وشطب جميع الاتفاقات المبرمة في إطار أوسلو.
وخامسا، افتتحت بالضفة والقطاع جامعات عديدة لم تسهم إطلاقا في رفد النشاط الثقافي. المعاهد التعليمية العليا تؤجل البطالة لأربع سنوات او خمس. مخرجات التعليم المدرسي والجامعي خلت من الثقافة ، لأنها قامت على التلقين وأقصت الحوار وتربية البحث عن المعلومة والعمل. حذر شرابي من أن "النشاط السياسي يفقد إمكاناته التحريرية إن هو عجز عن تقديم الشروط التعليمية لتمكين الطلبة وغيرهم من التفكير في المجهول، والتحقق من ذواتهم أفرادا مطلعين نقديين ومنخرطين بالعمل. فلا وجود لنشاط سياسي للتحرير بدون بيداغوجيا قادرة على إيقاظ الوعي وتحدي الإدراك العام وإبداع انماط للتحليل يكتشف الناس من خلالها لحظة إدراك تمكنهم من إعادة التفكير بالظروف التي تشكل حيواتهم".
في فلسطين تستقبل الجامعة طلبة اعتادوا التعليم التلقيني، لم يطوروا قدرة تفكير نقدي أو مهارة البحث عن المعرفة وإلتفكير في حلول للمسائل.التعليم الثانوي لا يؤهل للمرحلة الجامعية ، ويعجز طلبة الجامعة عن الخروج من شرنقة التلقين والتعليم البنكي.
طبيعة الاقتصاد في ظل الاحتلال غير إنتاجي لم يستوجب تنشيط الأبحاث واكتشاف الجديد. تكاثرت أعداد الطلبة ، ذكورا وإناثا ، ولم يزدد الإقبال على الكتاب وشرائه واقتنائه. في أقطار العروبة كافة تطلق الأنظمة الأبوية أيدي الأجهزة الأمنية تلاحق وتترصد وترهب؛ تفرز الأجهزة دائرة في كل منطقة خاصة بالجامعات تتدخل في تعيين الإدارات الجامعية، تراقب الأساتذة في محاضراتهم والطلبة في أنشطتهم وتنظيماتهم، تستدعي وتهدد وقد توصي بفصل الأستاذ الأمين لقناعاته العلمية. وبهذه الممارسات زرع إرهاب المخابرات لدى كل موظف او طالب بالجامعة آلية مراقبة ذاتية ، تغدو غير مدركة مع الزمن.
اما في بلدان الرأسمالية المتقدمة ، إذ تتباهى بديمقراطيتها، فتوكل الى الرأسمال بالذات مهمة ترويض الأساتذة. بعكس ادعاءات الميديا في الغرب فالنظام الرأسمالي يمارس الكبث والقمع ويضع الموظفين، ومنهم أساتذة الجامعات، في حالة خضوع للإملاءات والأوامر والتهديد بالإطاحة . في نظام التفاهة، كما يقول دونو، " تركز الجامعة على التخصصات المهنية وتهيئة الخبير ذي التخصص الضيق المنحصر في خدمة سوق العمل وليس إنتاج العلماء ذوي الافق الواسع والقدرة على التصدي لمشاكل الحيا ة ومهمات التطور... يسلَّع التعليم الاكاديمي، إذ يكثر السعي لملاقاة مطالب الممولين، وتتكاثر مساعي الجامعيين للحصول على المنح من الجهات الممولة ؛ فتنحدر الجامعة الى درك التفاهة، تقلع عن إنتاج المعرفة بالواقع المعاش وتقصّر في طرح العلاج الشافي لمشكلات المجتمع . وقد تعمد الجامعة الى الإكثار من التخصصات الدقيقة فتسطح المعارف وتلغي التشابك والترابط بين فروع المعرفة".
وكذلك تسليع الفنون: "يصل بعض الفنانين الى قناعة بان ’ أرباح الشركة الثقافية التي ‘تشارك في الاقتصاد’ هي مجدية اكثر من أفكارها الجمالية، ذلك انه أيا ما كانت هذه الأفكار فإنها ستكون مقبولة بالنهاية من قبل الجمهور المستهدف من قبل حملة دعائية جيدة التصميم"[269].
تطرق ألان دونو الى دور التفزيون في إنتاج التفاهة وتعميمها ؛ فنقل عن الفيلسوف الألماني، جونتر أنديرس، أن في التلفزيون منذ البداية جهازا " ضارا بعلاقات المجتمع مع الواقع"[285]، اداة لتزييف الواقع وطمس الحقيقة، أداة فصل أفراد الجماعة وعزلهم عن بعضهم البعض"[269].. كذلك الأمر مع جميع منابر الميديا الرئيسة في عالم الرأسمال.
التزم اليسار الفلسطيني موقف عدم الاكتراث حيل تغييب الديمقراطية من قبل النظام الأبوي ، كما التزم موقف الحياد حيال ما أشار اليه المفكر الكندي ألان دونو، حيث بجهود الليبرالية الجديدة " يلحظ المرء صعودا غريبا لقواعد تتسم بالرداءة والانحطاط المعياريين: فتدهورت متطلبات الجودة العالية، وغيب الاداء الرفيع، وهمشت منظومات القيم، وبرزت الاذواق المنحطة، وابعد الاكفاء، وخلت الساحة من التحديات؛ فتسيدت اثر ذلك شريحة كاملة من التافهين والجاهلين وذوي البساطة الفكرية، وكل ذلك خدمة لاغراض السوق بالنهاية، ودائما تحت شعارات الديمقراطية والشعبوية والحرية الفردية والخيار الشخصي".
تشاطر المترجمة ، الأكاديمية الكويتية مشاعل عبد العزيز الهاجري، مؤلف الكتاب تحديد مفهوم التفاهة، وتجسيده في المجتمعات العربية. في مقدمتها للكتاب توضح المترجمة ما أشكل على مثقفين نقديين عرب كيف تدهورت القيم في المجتمعات العربية. الرأسمال "يحث الخطى للتدهور وتبذّل الحياة الاجتماعية، بما يقربها من اوضاع شعوب المنطقة العربية المعلقة بالحبل الصري للعصر الوسيط، وأبرز مظاهره سطوة النظام الأبوي". لم تتحقق هذه السيرورة الهابطة بمحض الصدفة ؛ إنما خضعت لتخطيط وبرمجة عناصر الليبرالية الجديدة ، وجدت القبول لدى النظم الأبوية.
الرأسمال يصحر الوجدان ، ناثرا غباره على أديم الحياة الاجتماعية. والفاشية تستهل سطوتها على المجتمع بتصفية الأقليات. الهجوم اليميني على الديمقراطية ازمة لا يجوز السماح لها ان تتحول الى كارثة يضيع معها كل امل. في بحث حول التعليم من أجل الفاشية، نقل الأكاديمي الأميركية التقدمي، هنري غيروكس، ملاحظة ثوم هارتمان[صحفي وكاتب ومؤلف أمريكي] ، "قبل ان تمسك الفاشية بكامل السلطة في بلد ما يجب اولا ان تكون موضع قبول الناس كنظام ’وطني‘ للحكم ، تمثل إرادة أغلبية الشعب؛ ولهذا السبب تضحّي الفاشية بالأقليات أولا... قبل ان تحصل على السلطة الكافية لإخضاع الأمة ذاتها"؛ يواصل غيروكس ، " ضد هذا التحذير من المهم لنا كمربين ملاحظة ان المرحلة الراهنة يميزها بروز آلات ثلم الخيال تنتج الجهل المصنوع وتنشر الأكاذيب على مستوى غير مسبوق، تمنح السلطوية حياة جديدة".

تلك هي الصهيونية في مرحلة فاشيتها التي تنتهي اليها سيرورتها حركة عنصرية حتى النخاع.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. نارين بيوتي تتحدى جلال عمارة والجاي?زة 30 ا?لف درهم! ??????


.. غزة : هل تبددت آمال الهدنة ؟ • فرانس 24 / FRANCE 24




.. الحرس الثوري الإيراني يكشف لـCNN عن الأسلحة التي استخدمت لضر


.. بايدن و كابوس الاحتجاجات الطلابية.. | #شيفرة




.. الحرب النووية.. سيناريو الدمار الشامل في 72 دقيقة! | #منصات