الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


مجنون الحارة يدافع عن نفسه

عبد الغاني بوشوار

2023 / 8 / 27
الادب والفن


بعث إلي مجنون الحارة بما يلي:
"أيها العاقل الذي لا يتوانى عن الاستهزاء بي ونعتي بفاقد العقل والاتزان، ليكن في علمك، أنت الذي تدعي التعقل، أننا تربينا معا في حارة واحدة بعد هجرتي من البادية وولجنا نفس المؤسسات التعليمية، من "تمزكيدا" و"أخربسيش" (الكتاب) إلى الابتدائي والثانوي، وتبعتك إلى الجامعة خارج الوطن بعدما قضيت سنة كاملة في ولاية مهد الثقافة الامريكية. واعلم أنك تكبرني سنا وتعيب جذوري القروية وتستخف بلهجة أيت تمازيرت وبالتجربة القروية، فهون عليك ولا تتمادى في غرور سنك والثقة الزائدة في قدراتك العقلية ونقاء نسبك.
تذكر أنك كثيرا ما جندت زملاءنا للسخرية والتهكم من نسبي ومن أقوالي ومواقفي من الأحداث ومن آراء الكتاب والفلاسفة الذين تعرضنا لهم في دروسنا ومحاضراتنا الجامعية. ومع كل هذا وتنويه أساتذتنا بتميزي بين الطلاب وتفوقي على المستهزئين بي من أطفال الحارة الذين أقنعتهم بمناداتي "بمجنون الحارة" إلى درجة أن الأجيال الصاعدة الذين وصلت إلى آذانهم تسمية "مجنون الحارة" يتساءلون عن هذا المجنون الذي التصق اسمه بحارتهم.

دعني أيها العاقل أجيب عن تساؤلاتكم وأسرد عليكم ما بعض ما خفي عنكم بالرغم من وضوحه للعيان، كما يلي:
أنا الذي انبهرت بكل ما كنت شهدته في محيطي: من أمي ولبن ثديها الدفيء الذي ما زالت حلاوته وطعمه على لساني، وأبي الذي يتغيب كثيرا وفرحتي بقدومه كل مرة حتى حظيت مرات بمرافقته في سفراته. انبهرت أيضا بأفراد العائلة الكبيرة من الأقرباء من جهة الأم ومن جهة الأب في مناطق مختلفة بسوس حتى خلت نفسي أن أفراد الأسرة يستحيل تعدادهم.
أنا الذي انبهرت بالأرض ونباتاتها وبالسماء ونجومها وبالقمر ونوره وولادته واختفاءه، وبالشمس وضياءها وسواد الليل وغناء أمي ومناجاة شروقها صبيحة أيام الأعياد وبالخصوص في المولد النبوي. وما زلت أتذكر مصاحبتها في ذلك ورأيت الشمس ترقص لولادة المصطفى.
أنا الذي حظيت بقضاء فترة الفطام في كنف جدتي من طرف أمي وكم كانت فرختي عدما تطعمني من بيض الحباري الذي تعثر عليه في الحقول عند جمعها للحشائش الخاصة لبقرتها وحمارتها التي لا تبخل على تقويتها. أتذكر وقوعي من أعلى الدرج الذي يقود إلى غرفة نومها التي شاركتني فيها أثناء فترة الفطام. وما زال حنيني إلى تلك الغرفة راسخا في ذهني ولا أفوت أي فرصة لزيارتها كلما سنحت الظروف لزيارة القرية.
في بيت جدتي كثيرا ما تجتمع الأسرة في مناسبات مختلفة وبالخصوص في موسم "سيدس سعيد أومسعود "، وهو أول سوق جهزتني الأسرة لولوجه بثياب بيضاء وحقيبة جميلة وطاقية. أتذكر مرافقة الوالد إلى السوق والهدايا التي قدمها لي الأقرباء وأصدقاء الأسرة تكريما لأول خروجي الرسمي لعالم البالغين.

أنا الذي تذكرت مشهدا لم أفهمه وقتها، حيث اجتمع أفراد اسرة جدتي في غرفة نومها وكان كتاب على ظهره صورة رجل جميل في ثياب مغربية بيضاء بيد خالي الذي قام بإخفائه في سقف الغرفة وانهوا الكلام عن ذلك الكتاب وبقي مصيره مجهولا إلى يومنا هذا، وما كان تاريخ المشهد إلا سنة 1953 التي قامت فرنسا بنفي سلطان المغرب محمد الخامس. استنتجت من هذا أن عمري لم يتجاوز 3 سنوات.
أنا الذي تذكرت وقوعي في الوادي بوسط مدينة تزنيت وأنقذني من الغرق بعض النساء اللائي كن يقمن بتنظيف الملابس لوفرة المياه وحملتني إحداهن إلى بيتنا وكان ذلك ثمن الذهاب والمجيء من الكتاب في عمر مبكر، وقد تذكرت يوم ختاني والألم في تبزتي(ذكري) وخيانة الكبار وعدم احترامهم لخصوصيات قلمي. آه من ألم وفقدان غطاء القلم.
أنا الذي طفت بكتاتيب شتى في منطقتنا فمنها ما هو داخلي في كنف الشيخ وحرمه، ومنها ما هو خارجي بمباركة الوالدة التي توقظني في الفجر كي تحظى برضاء الوالد وبالحسنات المضاعفة جزاءا على ورعها وتقواها.
لم أتذكر أنني نلت يوما عقابا من أي شيخ جراء حماقتي أو عدم استظهار لوحاتي. بل كثيرا ما نوه الشيوخ بذكاءي وحسن خلقي فضلا عن حفظي لما تيسر من الكتاب ومن المتون، وخصوصا ابن عاشر. أرغبة منهم في التقرب من الوالد أم طمعا في زيادة العطاءات أو كلاهما؟ لكنه لم يعرفني أحد بمجنون سيدي إبراهيم، حتى أتيت أيها العاقل بما لم ينزل الله به من سلطان.
هل تتذكر أيها العاقل الخدمة التي قدمتها لك ونسيت الجميل عندما اتخذتني رسولا لجارتي التي كنت تعشقها ويا ما صعدت الوادي ذهابا وإيابا على دراجتك
آملا القاء نظرة عليها في شباك غرفتها التي تطل على قصبة الشمس. أنسيت ذلك وقصبة الشمس معروفة بمرور "فريكس" المجنون الذي لا يضاهيه أحد في فاللعب بالناي حتى فتن به نسوة الحارة اللائي يلهثن إلى قدومه ليمتعهن بترانيم مزماره الشيطاني، وكن يجدن عليه بالزغاريد السحرية.
في كل هذه الفترة لم تتوقف عن الاستعلاء وفتل العضلات واعتبار أهل قصبة الشمس مجانين، ألأنهم فقط يراقبون خطواتك خوفا على شرف جارتهن؟ فعلا المجانين هم الواعون والحريصون على شرف وقيمة كل الكائنات التي قد يعبث بها من يسمون أنفسهم عقلاء مثلك.
أنا الذي ثرت على ظلم بنات المدينة للقادمة من الجنوب لغيرتهن من جمالها وذكاءها. أيدل مثل هكذا فعل على فقدان الاتزان والاصابة بالجنون؟ ليكن في علمك أنني تعاطفت معها واعتبرتها مثل أختي وأخذتني العزة بالإثم فجندت عددا من رفاقي لطمس اسمها وعبارات القدح والشتم على جدران صور المدينة المعروف ب"دو الصور". أكل هذا عندك من علامات وأفعال المجانين؟
من هم المجانين يا ترى؟ أهم الذين شوهوا وشهروا بالمسكينة، وأنت منهم؟ أم هم الجنود الذين أحبوا الطهارة والشرف وسهروا الليالي لمحو العار؟ لك الخيار يا عاقل.
أضف لمعلوماتك يا هذا تجنيدي لزملاء القسم للانتفاضة ضد المدرس الفرنسي الذي سمى نفسه "بقرة المدرسة" ورفضنا تطاوله على بلدنا وقهرنا كل يوم. فاخترنا السكوت وعدم الإجابة على كل أسئلته، صم بكم كنا في ذلك اليوم الموعود. قد تظننا مجانين، لكن البقرة غاضت وغضبت وغادر القسم خائبا مدلولا. لم يستطع العقلاء وضع حد لمثل هذا المستعمر الحقود، فقام بالعملية من تسميه مجنون الحارة. أين الاتزان والعقلانية في قاموسك؟
أنسيت بيروت وغناءك في شوارعها بعد تصفية ما تيسر من ماء الشعير؟ لا مجنون ولا عاقل استطاع وضع حد للإزعاج الذي يثيره غناءك للمارة.
بيروت وما أدراك ما بيروت، والجامعة وما أدراك ما حلاوة التجربة فيها والصديقات التي آثرن إفشاء أسرارهن لهذا المجنون وتجنبن الحديث مع أمثالك الذين لا يقمن لهم وزنا. تذكر كل هذا وأضف عليه كل المدليات التي توجت بها في المسابقات الرياضية، فضلا على الشهادات الجامعية التي نلتها بتفوق، فتميزت من بين الزملاء بهذا الشرف، أيعني عندك هذا قمة الجنون أم قمة التواضع والتعقل والإنتاج المميز؟
سامحك الله يا عاقل، واسمح لي أن أتحفك بموقف حصلت فيه على تصفيقات زملائي طلاب الدكتوراه والأستاذ الذي كان يحاضرنا في السياسة التعليمية، فجاد علينا سقف الحجرة الدراسية بجرذان صغير سقط أمام الأستاذ وأمامنا وأثار وجوده ذعرا عند لإناث. أوحي إلي آنذاك، فقمت من مقعدي ومسكت المجرمة وتوجهت إلى بيت الماء حيث رميته في الصرف الصحي وغسلت يدي ورجعت إلى مقعدي ووقف الجميع وصفقوا أحر التصفيقات كأنني بطل رجع للتو من المعركة ضد العدو. أهكذا يعامل العقلاء مجنونا؟ وهل يقوم المجانين بهكذا أفعال؟ ربما تحتاج إلى مراجعة معاني الكلمات والمصطلحات التي تستعملها في محادثاتك وكتاباتك.
نسيت أن أذكرك، إن نفعت الذكرى، أن المجنون الذي خلته أنا، كان كريما في استضافته لك مع تحمل أتعاب تذكرة سفرك عبر القارات، وفزت بزيارة إحدى الجامعات الأمريكية العمومية العريقة التي هي "جا معة وسكونسن-مادسون". وبالمناسبة، فعلاوة على التصفيقات السلفة الذكر فقد منحتني الجامعة شهادة الدكتوراه في مجال تسيير مؤسسات التعليم العالي وعلم الاجتماع. وتعتبر هذه الشهادة الأولى من نوعها في تاريخ المغاربة، وبكل تواضع نلت التشطيب من الوظيفة العمومية جزاءا على هذا الإنجاز مما ترتب عليه هجرة الوطن ابتغاءا من فضل الله، كما يقال. ربما هكذا يفعل بالذين يطلق عليهم الناس مجانين. علما أن هذا المجنون أقرضك قرضا حسنا وطلبته يوما أن يرد لك القرض الذي هو عليك وقال لك بأن الدين عليك ولم تصدق حتى زودك بالوثائق الثبوتية، هذه الواقعة جعلتني أشك في سلامتك العقلية.
ماذا أريد إثباته لك وللعقلاء من أمثالك؟
أريد في الحقيقة أن أثبت أن فقدان الاتزان والحماقة التي يتهيأ لك أنها تصفني وأوحى لك من أوحى بتسميتي "مجنون الحارة" فلست صادقا في هذا إلا من وجه،
فمن أنا في الحقيقة؟
أنا هو أنا، ولا أعوذ بالله من الشيطان الرجيم من قول أنا، لأنك إن سألتني: من كتب هذه السطور؟ فجوابي حتما ومنطقيا، لن يكون "مجنون الحارة" الذي سميتنيه، ولا "نحن"، ولا الاسم الذي سجلوني به في الحالة المدنية. ولا "الله". جواب من كتب هذه السطور، هو: "أنا"، وبكل تواضع.
أنا الذي أوتي بي في البادية وفي كنف شظف العيش في حياة بدائية لا أثر لاي منتوج صناعي حديث، اللهم ما كان من ابريق الأتاي الألماني الصناعة. لم أرى أي وسيلة نقل حديثة ولا ركبتها إلا يوم أخذوني من سوق "سبت أيت ميلك" إلى مدينة "انزكان" لألتحق بالأسرة التي لا علم لي بعنوان إقامتها. تركت طليقا في المدينة لتأخر ونسيان الخال تسلمي من سائق الشاحنة التي أوصلتني إلى المدينة.
أنا الذي انبهرت بالمدينة وصرت أجوب أزقتها بحتا عن أمي وإخوتي. لم أفقد الأمل في العثور عليهم وأنا في ثياب الطفل القروي الذي أثار بلا شك فضول بعض المارة وسخرية بعض الأطفال، لكن لا يهم، فالمقصود أهم. وأذني مفتوحة لسماع أسماء إخوتي، ومرت الساعات وألم بي الجوع وأنا أمشي. لا أتذكر إن كان حذاء برجلي، فهو من الكماليات على كل حال.
يا لها من مفاجأة عندما تعرف علي خالي واستوقفني وصحبني إلى بيت أهلي وذقت حلاوة اللقاء ودفأ الترحاب بعد طول الانفصال وبعد المزار. فطاب المقام حتى هبت رياح الانتقال إلى مدينة "تزنيت" المتخلفة حضاريا عن "انزكان" و"أكادير"، وكم حزنت على مصيري وبعدي عن الحضارة وتحملت التأقلم العسير ومتابعة التعليم في المدرسة الحديثة وحفظ القرآن في الكتاب كشرط الوالد للاستمرار في ولوج المدرسة الحديثة، والله غالب على أمره.

مضت ست سنوات في الابتدائي والمتوسطة وانتهى سلم التعليم في المدينة وكان لا بد من الانتقال إلى مدينة اكادير التي تكرمت الوزارة الوصية بفتح ثانوية "يوسف بن تاشفين" لإكمال التعليم الثانوي للتلاميذ الذين ساعدهم الحظ وحسب التوجيه المدرسي.
بعد سنتين في الداخلية والاكل الجيد في الصحون بالشوك والسكاكين، جاءت فرصة الانتقال إلى مدينة "مكناس" لإكمال سنة البكالوريا في ثانوية "مولاي إسماعيل". بعد المعاناة من الوحدانية والنجاح، نزلت فرصة من السماء للذهاب الى أمريكا والانتقال إلى حياة التقدم والحضارة المبنية على الصناعة وعلى العقلانية والقانون. وبذلك شاءت الاقدار أن أكون كما هو أنا وأنتقل الى عالم بعيد كل البعد عن العالم البدائي وشبه الحديث الذي قضيت فيه سبعة عشر سنة في الفقر والتفكر والطموح إلى الانتصار على الفقر والجهل لفائدة كل البشر.
فإسعاد البشر ونهاية الجهل هي طموحاتي وشتان ما بيني، اليوم، وبين بلوغ ما أصبو إليه.
ها أنا ذا، اقترب رحيلي وحانت ساعتي، ونفضت كل ما لا يزيد في معرفتي. أدركت أنني ذرة في هذا الكون الفسيح، والكل ذرات مثلي وكثير منها عم الجهل وجودها، فلا قراءة ولا كتابة ولا وعي، إن ذلك مما زاد في حيرتي، فمن ذا الذي يتفطن لما نبأ به العقلاء والمجانين قبلي؟
أنا الذي انحنيت للعلماء والمتنورين، كما المجانين، وأعجبت بعبقرياتهم وتعجبت من جهلي والاستمرار في البحث عن مصيري. وها أنا ذا أهمس في آذان طلابي وكل من قرأ مقالاتي وسمع صرخاتي. فلا الأعمى ولا البصير يرى مد يدي وعكاز تبصري ويا أسفي وخيبة أملي.
أنا الذي أدعوكم للاستقامة والسير قدما لنفض غبار الجهل والتمتع بالحياة والمؤانسة بحلاوتها وأسرارها.
أيها العاقل، هل مازلت، بعد هذا، تصر على مناداتي بمجنون الحارة؟ لا تظن أن هذه التسمية تقلقني، فلقد صدقت إذا فهمتها وحددتها على النحو الذي نفهم به "مجنون ليلى" واعبرت الحارة الوطن ومسقط الرأس. فيكون هذا وجه الصدق في نعتي بمجنون الحارة.
وفي الأخير أنصحك بالقراءة عن مشاهير المجانين في تاريخ البشرية، ولا تنس أن الرسول اتهم بالمجنون. والحمد لله على إغلاق "بويا عمر" واجتناب تصفيدي وسجني فيه. عاش مجنون الحارة، عاشق الوطن، الغالي والغني، كما تسميه."








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. جريمة صادمة في مصر.. أب وأم يدفنان ابنهما بعد تعذيبه بالضرب


.. عاجل.. الفنان محمد عبده يعلن إصابته بمرض السرطان في رسالة صو




.. انتظرونا غداً..في كلمة أخيرة والفنانة ياسمين علي والفنان صدق


.. جولة في عاصمة الثقافة الأوروبية لعام 2024 | يوروماكس




.. المخرج كريم السبكي- جمعتني كمياء بالمو?لف وسام صبري في فيلم