الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


آخر فرسان العصر- بمناسبة الذكرى الثالثة لرحيل رسول حمزاتوف

إبراهيم إستنبولي

2006 / 11 / 9
سيرة ذاتية


في الثالث من تشرين الثاني الحالي يكون قد مضى ثلاث سنوات على رحيل رسول حمزاتوف – شاعر الحب و الجمال و الكلمة الأصيلة . ثلاث سنوات مضت من دون رسول ... و كأنه لم يغادرنا قط . ثلاث سنوات انقضت و نحن للآن لم نألف غيابه ، بل إن دفء قصائده ما زال يبعث الحلاوة في آذان محبيه ، و إن نور كلماته و حكمته ما لبث يفيض في أرواحنا ، أرواحنا نحن الذين عشقنا أشعاره فانسكبت ألحانه في دمائنا أغنية عصية على الزمن كما هي جبال داغستان راسخة شامخة أبد الدهر .
لقد كان رسول بمثابة الصخرة و القمة الرائعة ، التي من عليها نستشرف الآفاق ؛ كان سياجاً روحياً بالنسبة لنا و كان سداً منيعاً في وجه أولئك ، الذين أرادوا الانقضاض على إنسانيتنا و على روحانيتنا . و قد تحول هو و إبداعه إلى جزيرة نجاة في محيط من البغض و الحقد ، الذي راحت أمواجه تضرب بزماننا و بقيمنا . لذلك رحنا نلتقط الكلمة السحرية في شعره ، كما يتمسك الغريق بقشة ، لكي لا نغرق في لجة الأمواج العاتية و العدائية .

غالباًً ما أفكر كيف ،
أن الأرض بأكملها – بيتي العزيز ،
و أينما وجدتْ معركة ، نار أو رعد –
فإنما يحترق بيتي ،
يحترق بيتي .

القرن العشرون ، و ليس غيره ،
صار بدناً بالنسبة لي ، صار قدراً ، -
تتحارب الأعوام فيما بينها ...
أينما كان رعد ، نار و معركة –
نحترق ، يا قلبي ، و إياك سوية .

كما لو أنها اجتمعت في إبداعه عدة عناصر شعرية – الشعر الغنائي ، الأدب الملحمي و التأملات الفلسفية حول الوقت و حول الذات . لقد أدهشت سعة تحسسه للعالم معاصريه ، و سوف تدهش الأجيال القادمة . فقد رأى الفتى الجبلي ، من قرية تسادا الأفارية الصغيرة ، من هضابها الصخرية ذلك العالم الكبير ، الذي أسكنه أشعاره . فمنذ أن كان طفلاً صغيراً و هو يتفاعل مع جميع الأحداث العالمية دون أن ينسى مطلقاً جذوره العميقة :

كما الحمَل ، و قد أضحى بين أنياب ذئب ،
الآول ، محصوراً بين الجبال ، ينظر للأسفل .
كما العش الهش في الصخور العالية
وقف بيتي معلقاً فوق الهاوية .
أنا ولدتُ لداغستانية فقيرة
في أصعب عام من أعوام الجوع ...

كان إيقاع قلبه يتناغم باستمرار مع إيقاع الكرة الأرضية ، و هذا ما جعله عن حق شاعراً عالمياً بامتياز . لقد كان رسول ، الذي تأثر في شبابه بتقاليد مايكوفسكي ، يميل من ناحية نحو الشعر الجماهيري ، شعر المنابر الشعبية و الحشود ، و من ناحية ثانية كان يتمتع بالغنائية و بسعة الإطلاع ، اللتين كانتا تميزان بوشكين . و قد تحولت البؤر الساخنة في العالم إلى نقاط مؤلمة في قصائده ، و هذا لم يكن منحة الزمن ، و إنما حاجة داخلية للشاعر الذي كان يحب تكرار كلمات الشاعر الألماني العظيم هاينيه ، بأن التصدع ، الذي قسّم العالم ، يمرّ عبر قلب الشاعر . لكن رسول لم يكن في يوم من الأيام شاعر المناسبات الرسمية ، لأن اهتمامه بما كان يحدث في العالم لم يكن مصطنعاً ، بل كان جزءاً لا يتجزأ من التفكر الجدي و العميق بشأن كل حدث بذاته شاء الظرف أن يكتب عنه .
يتميز الطيف الشعري عند رسول حمزاتوف بغنى لا نظير لـه . إذ خلف غنائيته الدافئة تختفي روح رقيقة و شفافة . لقد كان رسول طبيعياً بشكل دائم ، كان صريحاً مع القارئ ، الذي يأتمنه على كل معاناته العميقة . لم يكن حمزاتوف يحب التمثيل أبداً ، بل كان دوماً كما هو بالفعل ، و هذا الإخلاص كان يسحر بعفويته و بسلاسته . و في الحقبة السوفييتية كان رسول حمزاتوف واحداً من أكثر الشعراء حضوراً ، من أكثرهم أصالة ، و كان يعتبر من العشرة الأوائل ، و ربما حتى من الخمسة الأوائل .
ففي تلك البلاد ، حيث كانت توجد تراتبية صارمة للسلطة ، استطاع الشاعر ، الذي تربطه علاقة مباشرة مع هذه السلطة ، أن يبقى هو ذاته و أن يقول ما لم يكن يُسمح لغيره أن يقوله. ذلك أن حياته المكشوفة و حبه للقاء الأصدقاء حول المائدة كانا أمثولة على كل لسان . فقد كان التواصل مع الكثير من الناس ضرورة حتمية بالنسبة له . لقد كان شعاره في الحياة : " و لا يوم من دون كتابة و لا يوم من دون تواصل مع الناس!". و لكنه مع ذلك كان قادراً على التركيز و العمل في أصعب الظروف .
كان رسول حمزاتوف ، الذي أراد كثيرون أن يحولوه إلى شيوعي " أرثوزكسي " ، يتعامل بسخرية مع مختلف الاجتماعات و المؤتمرات الحزبية . و لأنه إنسان حكيم ، فقد كان يعرف أنه " لا يمكن للسوط أن يقطع رأس الفأس بضربة واحدة " ، و لكنه كان يهزأ باستمرار من الحماس البيروقراطي لبعض الشعراء . لم يكن يقبل أن يقاد و أن يتم ضبطه في الرتل . كان قادراً أن يتميز بغض النظر عن أي نظام أو صف يوضع فيه . كان رسول هائلاً في كل شيء – في الشعر ، في الصداقة و في الحب .

على وقع النشيد الوطني
تمنح الأوسمة للجَمال هناك ،
و أكاليل الغار تُعطى للثنائي
الذي لا ينفصم لأجل الوفاء المتبادل .
.....
سيصد مثل هكذا اتحاد
أية مصيبة أو هجوم للكوارث .
شعار جمهوريتي يقول :
" يا عشاق العالم اتحدوا ! " .

كان يشعر دائماً بالمسؤولية تجاه كلمته ؛ و قد نما هذا الشعور بوجه خاص في الزمن المضطرب لروسيا . فقد كان إنساناً ثاقب النظر و الملاحظة ، و لم تكن توجد بالنسبة إليه أشياء تافهة في الحياة أو في الإبداع – كل ما هو موجود كان مادة لأشعاره . و باعتباره يميل إلى التحليل الذاتي ، فقد كان يخشى أحياناً أن تكون قصائده غير مفهومة .
كان الشاعر قادراً على أن يشارك الكرة الأرضية ككل آلامها ، و دون أن ينسى أبداً مشاركة الآخرين كأفراد أحزانهم بغض النظر عن ألقابهم و مراتبهم . كان رسول ينظر إلى نفسه و إلى إبداعه نظرة واعية و واقعية . و كان يميل للتأني و يشعر بأخطائه ، بينما تجده يفرح لنجاحه كالطفل . أما بيته ، الذي ينسجم مع شخصيته ، فقد كانت أبوابه مفتوحة للجميع :

لا في ساعة مبكرة ، لا في ساعة متأخرة
لا تدقوا الباب باستئذان ،
أصدقائي :
إن قلبي مفتوح لكم
كما هو بابي .

في الستينيات و السبعينيات من القرن العشرين ، عندما كان العالم يتعطش للكلمة الشعرية ، جاء شعر رسول حمزاتوف متفقاً و منسجماً مع العصر . ففي تلك الأيام كان الناس يأتون إلى أمسياته الشعرية كما يذهبون اليوم لحضور مباراة بكرة القدم . كانت الصالات الكبيرة و قصور الرياضة الضخمة ، حيث كان رسول يقرأ أشعاره تكتظ بالناس ، بحيث أنه لم تكن توجد " فسحة صغيرة لتفاحة " ، كما يقال . و هذا بالطبع كان يعود للشعبية غير العادية للكلمة الشعرية عند رسول ، التي كانت البلاد بحاجة إليها و كانت تنتظرها ، و التي لم تكن مقررة من فوق .
كانت السلطة كريمة ، و كان لديه الكثير الكثير من القراء في الاتحاد السوفييتي ، الذين كانوا و ما زالوا يحبونه إلى اليوم . فقد كان خطيباً بارعاً و ذكياً . بل إن إيماءات يديه كانت أعمق تعبيراً مما هو في خطابات آخرين كثر . و كان يتمتع بذاكرة رائعة حتى آخر أيامه . كان يحب التحدث ، و لكنه كان يجيد الإصغاء أيضاً ، فكان يثمّن عالياً الكلمة الصائبة عند الآخرين .
قل لي مَن هو صديقك ، و سأقول لك مَن أنت .
أصدقاؤه كانوا مشاهير الكتاب و الشعراء المبدعين : سيمونوف و تفاردوفسكي ، كولييف و أيتماتوف ، يفتوشينكو و روجديستفينسكي .. كتاب و شعراء لا يشبهون بعضهم البعض ، كما يبدو ، و نادراً ما يجتمعون سوية . إلا أنه جمعت بينهم المحبة لرسول حمزاتوف ، لموهبته النادرة كشاعر و كإنسان . فقد كان رسول فناناً في حَبْك العلاقات و الجمع بين الناس من مختلف المهن و الأعمار . كان الناس ، و بعد أن يتعارفوا مع بعضهم في بيته ، يتحولون إلى أصدقاء . و كانت اللقاءات حول المائدة في منزله بمثابة طقس مصاحب لعمله الإبداعي و جزء من فلسفته الجبلية . فكان يقرأ أثناءها قصائده الجديدة و يناقش خططه الإبداعية المستقبلية . لم يكن رسول حمزاتوف يفقد توازنه في أية ظروف ، إذ كان يتمتع ببديهة عبقرية تسعفه في أصعب اللحظات . و كانت النكتة لديه ، على الطريقة " الحمزاتوفية " بامتياز ، بمثابة بطاقة الزيارة ، التي يتقدم بها للآخرين . لم يكن يدع الآخرين يشعرون بالحرج لأنه ، كصاحب نكتة ، كان يقدّر الفطنة و سرعة البديهة بشكل جيد .
كان الناس من مختلف الأعمار يشعرون معه أنهم من أقرانه ، و الناس من مختلف القوميات – أنهم من أهله و مواطنيه . و عندما كان يقرأ أشعاره كان يمكن أن نتلمس فيها التوتر و التوهّج الداخلي . كان يحب الناس بصدق ، الناس من مختلف النوعيات – المشهورين منهم و العاديين البسطاء . فقد كان يثيره كل شيء .
لقد كان رسول حمزاتوف أسطورة حية للشعر . كان شاعر دولة عظمى ، و بهذا كان يفاخر ، و لم يتخلَّ عن هذا اللقب أبداً . و لذلك فإن انهيار الدولة ، التي عاش فيها و أبدع ، انعكس بقوة على صحته . إذ كان يعاني و يتألم لكل ما يحدث في البلاد . و لأنه إنسان صادق و منفتح ، فقد عاش بصمت عدة سنوات دون أن يسافر نهائياً . كان يسعى دوماً لمواجهة الكراهية بالحب ، خصوصاً في الأعوام الأخيرة .
لقد استقبل إعادة البناء ( البِريسترويكا ) كأمر طال انتظاره ، بفرح كالأطفال ، لأنه كان قد تعب كثيراً من النفاق ، الذي اضطر هو نفسه لأن يكون شريكاً فيه . لكن خاب أمله بما حدث لاحقاً ، و لم تكن لديه أدنى رغبة لأن يشارك في ذلك الخداع و تلك الخلاعة . و عندما تشققت و تناثرت بلاده العظيمة ، فقد ظلَّ ملتزماً الصمت و لم ينشد الأهازيج في مديح الإصلاحيين – الذين جلبوا الكوارث ، و هذا ما لم يحظ برضى السلطة حينذاك . فتوقفوا عن طباعة أعماله في موسكو ، كما غيره من الشعراء الكبار ، بالمناسبة . و قد عكس في قصائده الأخيرة لا خيبته هو و حسب ، بل وخيبة كل البلاد :
البلاد العظيمة ممزقة ،
و الكذب يملأ الوقت و الفضاء ...
التفاهة منتشية بفضل الفوضى من جديد ،
و قد ألبست نفسها تاج الرياء .
و الإدعاء يشحذ منقاره الإمبراطوري ،
و هو ينظر في مرآة عوجاء ...
أيها " البين بين " - أنا لا أحبك ،
و كذلك لن أشرفك بعداوتي .

في التسعينيات من القرن الماضي أصاب الكثيرين ما يشبه الانهزام في المعتقد ككل ، و لكن ذلك لم يحصل عند رسول ، لأنه كان يدرك أنه ليس هناك من نظام اجتماعي خال من العيوب ، علماً أن هذه هي غاية كل نظام . لقد كان رسول حكيماً ، مدركاً لكل شيء ، و لكنه كان يتعامل بإخلاص قلبي مع آلام و آفات زمانه . إذ أن الجميع غيروا قناعاتهم . أما هو فقد كان صعباً عليه أن يعترف بأخطائه و بضلاله . لكنه كان قاسياً و بلا هوادة تجاه ذاته في قصائده الأخيرة . و هذه القسوة تظهر حتى في عناوين البعض منها – " الحساب " ، " المحاكمة " ، " التوبة " ، " الوصية " ، " الوحدة " .. الخ . كان يبحث باستمرار و كان يجد في ذاته دائماً من القوة ما يكفي للاعتراف بأخطائه . و الإنسان صاحب الوجدان فقط يكون قادراً على إعلان التوبة الحقيقية ، يكون قادراً لأن يشك ، بينما الثقة الزائدة بالذات هي من صفات الثرثارين و الصلف هو للبلهاء المغرورين . فالكثير من قصائده في السنوات الأخيرة من حياته هي أشبه بالصلوات . بل إن أشعاره كلها خلال مجمل حياته – عبارة عن بحث عن الرب ، و لذلك ليس عبثاً أنه ، و قد كان يعتبر نفسه ملحداً ( برغم كل ما قدمه من خير للناس يومياً ) ، كان يأمل بمكان متواضع بين جهنم و الجنة :

سوف يسأل : - و قد غابت الحقبة ، كما الشهب ،
فما هو الذنب الذي ارتكبته أنتَ بحقها؟
- فقط أنني عملت في السياسة أحياناً ،
مع أني ولدتُ في الأرض شاعراً .

و لكن ، و قبل أن تقرر المحكمة مصيري ،
و بعد أن يلقي على حياتي نظرة ثاقبة ،
سوف أسأل الله من كل قلبي
أن يجد لي مكاناً بين جهنم و الجنة .

لقد كان الشعور الكبير بعدم الرضى عن ذاته بمثابة ترجيع لمجمل حياته الشعرية و الإنسانية . كان رسول يشعر باقتراب الموت و لكنه أبى أن يستسلم لرحمته :

الموت لن يقترب مني –
فأنا إلى الربيع أنتمي ،
طالما أنني أزرع الغلال .
أنا سوف يكفلني الربيع
و أوراق الحديقة الوارفة .
و لسوف يبتعد الموت صاغراً ..!
كلا ، الموت لن يأتي لأجلي ،
طالما أنا أبني بيتي
على الأرض العزيزة بنفسي .
فما أن يرى كيف يرتفع الجدار ،
سينطلق الموت هارباً
إلى الغابة ، التي تقع خلف الجبال ...

كانت شجاعته تدهش الآخرين ، و كان شغفه بالحياة ( مهما كان الثمن ! ) يبعث لديهم الإعجاب . فمع أنه كان يعمل كثيراً ، فقد قام بجردة الحساب باكراً و أدرك أنه لم يقل ما هو الأكثر أهمية ، فراح يحاول التعويض عما فاته . لم تكن توجد لديه رومانسية ثورية ، كما عند صديقه روبرت روجديستفينسكي ، و كجبلي كان ، منذ البداية ، على مستوى المورثات ، أكثر حذراً و أبعد نظراً من الكثير من رفاقه . و لكنه ، كغيره من أبناء جيله ، عانى في أشعاره الأولى من مرض الثوروية و الوطنية الشبابية ، و هذا ما لم يخفيه و ما لم يخجل منه أبداً .
كان رسول يخاف من غياب الذاكرة عند الجيل البديل ، الذي راح ينكر القسمة الأدبية و البحث الإبداعي لأمثاله . و هو كان يشعر بالضبط بهذه الفوضى القادمة ، و لم يكن يخافها بقدر ما كان يحاول فهمها . لقد كان حكيماً جداً و عاقلاً جداً بالنسبة لذلك الزمن الرديء المجنون . و باعتباره واحداً من أهم الممثلين المبدعين و الموهوبين لحقبته ، فإنه صار آخر فرسانها :

وحيداً تماماً ، كما الجندي الباسل ،
و قد نجا من بين كل المشاة بأعجوبة ،
و راح يخرج من الحصار اعتباطاً ،
وقع في مستنقع غير سالك .

وحيداً تماماً ، كما الغرنوق الجريح ،
و قد ابتعد في لحظة شؤم عن السرب ...
حان له من زمن بعيد أن يطير نحو الجنوب ،
لكن جناحيه المكسورين قد تعبا .

لقد راح رسول يبحث عن الله في تاريخ شعبه ، في حاضره و في مستقبله . و في هذه التهتك الإيديولوجي ، في المجابهة بين مختلف الديانات و المعتقدات ، الأحزاب الصغيرة و الكبيرة ، فقد بقيت داغستان هي عقيدته الوحيدة . و أكثر ما كان يخشى في هذه الدنيا أن يفقد إيمانه ببلده داغستان :

بحزن أنظرُ إلى داغستاني ،
فقد تلوّت كما لو من حرق ،
لحدّ الألم لا أعرف الصديق ،
إذ صارَ الكثيرُ فيه غريباً .

لقد كانت داغستان على مدى كل حياته الإبداعية الواعية أساس ديانته ، كانت كلمة السر و الجواب عليها لديه . إلا أن الأساس ، الذي قامت عليه قيمه الروحية ، قد انهار ، فراح بانقباض و اختلاج يتمسك بالجذور ، التي غرست في جباله العزيزة الغالية . و جاءت أسئلة الشاعر المريرة للألفية الجديدة ، التي راحت تتقدم كحتمية ، لتبقى بلا جواب . لقد انطبعت الحقبة في إبداعه ، كما ينطبع أثر الحدوة الحديدية في الحجر .
و لكن مَن قال أن الحقبة الأخرى ستكون أفضل ؟
بسرعة تحرر رسول حمزاتوف من الأوهام ، أسرع بكثير من بعض الشعراء – الستينيين : يفتوشينكو ، روجديستفينسكي ، فوزنيسينسكي ، الذي بدءوا بعده يتغنون بالمُثُل الشيوعية و من بعده خاب أملهم فيها . لكنه ، و قد خاب أمله ، لم يكن يسخر من ضلالاته ، لم يكن يشوهها و لم يلعن ماضيه ، الذي أحبّه كما هو . و لذلك لم يكن عبثاً أن تكون الأبيات في قصيدة " احكم علي بقانون الحب " الأكثر معزّة عليه ، لأن كل ما قام به إنما كان يقيسه بالحب فقط . بما في ذلك ضلالاته في سنوات الشباب . و هو لم يتحول إلى قاض و جلاد ضد ماضيه و لا حاضره ، و إنما راح يدين نفسه فقط على سذاجته و أنه غالباً ما كان يسبح مع تيار الزمن :

كنتُ مختلفاً ، كما كان الزمن مختلفاً –
كما الزاوية ، حاداً ، أملسَ ،
كما الشكل البيضاوي ...
و مع ذلك لم يطفئ العقلُ
الباردُ النارَ في قلبي أبداً .
ثم :
اعذرني ، أيها الزمن المجنون ،
لأنه كان ينقصني بعض العقل ...
رؤوس أخرى كانت تفكر نيابة عني ،
و تضغط أشعاري في مجلدات .

و قوة شيطانية خفية
كانت تقود أحياناً على الورق
يدي غير المُدْرِكـَة ،
و تُحرِفُ القلمَ المستقيم .

كان رسول يكتب أحياناً باستهزاء ،و أحياناً أخرى بمرارة ، لكنه لم يكن يخفي أي شيء أبداً . لا ، لم يطلب حمزاتوف لنفسه أية أحكاماً مخففة ، لأنه كان يعرف أنه كشاعر هو مسؤول لا عن أخطائه و حسب بل و عن أخطاء أولئك ، الذي كان يثق بهم .
كانت قصائده الأخيرة ممتلئة بالألم ، الذي لم لا يستطيع تحمله . و قد تحولت صحوته إلى وداع طويل مع البلاد ككل ، مع قرائه ، مع زوجته فاتِمات ، التي غادرت على حين غرة و بهذا تعرى عصب وحدته . لقد كان رسول حمزاتوف فارساً وفياً في الحب ، و كان ينتمي كلية لفاتِمات . و بالرغم من ميله للعشق و المغامرات العاطفية ، كما كان يمكن تخيله ، فإنه في الحقيقة لم يكن يعشق سوى فاتِمات . كان مخلصاً لها و لذلك فقد عانى كثيراً من فقدانه المفاجئ لها :

و حبي مع طعنة متعبة
قد طار إلى الأبد ،
اختفى و غاب في عمق المجرة ،
كشهب سقط من السماء .

كان يبدو كما لو أن جميع أحاسيسه ازدادت حدّة . لم تكن موهبته الجبارة تخشى أي تكرار في المواضيع ، لأنه كان يعرف – أن البصيرة بل و حتى التكرار لديه فريدان . كان يشك في الكثير من أبياته . و لكن قصائده الأخيرة من حيث تأثيرها على القارئ ( و هذا كان يلمسه من خلال تفاعل الناس في أمسياته ) كانت تمتلك طاقة عاطفية هائلة لا نظير لها . فقدرته على الوعظ كانت آسرة و باعثة على اليأس . و غرانيقه الجديدة كانت تغصّ بالبكاء . كان يبدو في قصائده الأخيرة كما لو أنه يتحرر من كل ما هو زائد و غير لازم. فالأبيات فيها كما لو تتدفق من أعمق أعماق روحه .
لقد تصارع الأمل مع اليأس عنده في السنوات الأخيرة . إلا أن الشاعر لم يتشبث بالحياة ، و إنما ببساطة لم يكن يرغب أن يفقدها كما المرأة المحبوبة ، المعشوقة حتى الوله . و في هذا كانت تكمن مأساة ما .
كان يتمنى دائماً أن يكتب القصيدة الرئيسية الأخيرة في حياته ، و كان دوماً يظن أن هذه القصيدة سوف تكون الأخيرة . كان مهتماً بالقصائد الأخيرة للشعراء الذين أحبهم ، لأنه كان يعتقد أن فيها يكمن و فيها مشفر ما هو الأكثر أهمية . و كان يقرأ أشعاره بطريقة رائعة ، من دون تمثيل ، فكانت تخرج من أعماق طبيعته الملتهبة ، بحماس و لتصبح كالمشعل . و على العموم ، هو نفسه كان دائماً بمثابة المشعل ، الذي ينير الظلام .
إن منتقدي شعره غالباً يتهمونه بخيانة قناعاته و مبادئه . و هذا غير صحيح . و لكن رسول تغير بالتوازي مع الزمن ، الذي بدّل موقفه من الحياة و من الإبداع ، غير أنه ظلّ أميناً لذاته في الأمور الرئيسية :

أواه ، أيها الزمن – أنت كالريح ...
كما تشاء تستبدل الشرق
بالغرب في لحظة .
لكن قرن(ي) مضى ، و برغم أنك قاس ،
فإنك لن ترى خيانتي أبداً .

لم يكن رسول يشطب من إنتاجه الإبداعي أية صفحات ،حتى لو كانت هذه الصفحات مسودة .
أما قصيدته " الغرانيق " فقد صارت واحدة من أعظم الأغاني في القرن العشرين. هذه الأغنية تنحني أمام ذاكرة جميع الشهداء و تحذر البشرية من حروب جديدة . كما إن موضوع الواجب بلا مقابل في " غرانيقه " يبرز كذلك في قصائده الجديدة :

عندما سأغادركم في طريق طويلة
إلى ذلك المكان ، حيث لا عودة منه ،
فإن الغرانيق و هي تطير حزينة ،
سوف تذكركم بي .

يتلعثم المرء و تتشنج الحنجرة و هي تقرأ هذه النبرات الموجعة للقلب . و إذا كان رسول ذاته يشك أحياناً في إبداعه ، فالآن لا يشك أحد فيه مطلقاً . فقد أدرك قبل غيره أكذوبة النظام السياسي ، الذي شاء القدر أن يعيش فيه ، إلا أنه وسط هذه الكذبة العامة كان يبحث عن جزر نجاته – الأب و الأم ، الحب و الصداقة ، العائلة و الأولاد – التي مشى من خلالها إلى الحقيقة . فهو لم يحفظ و لم يدافع سوى عن القيم الأبدية ، التي خاف أن يفقدها هي بالتحديد . كانت لديه موهبة تنبؤ مدهشة . و كان قد كتب ، قبل مأساة بيسلان بوقت طويل ، قصيدة نبوية بحق تحت عنوان " احفظوا الأطفال " :

هذا العالم ، كما الجرح المفتوح في الصدر ،
لن يعود و يندمل بعد الآن أبداً .
لكنني أؤكد ، كما لو أنها صلاة المسير ،
في كل لحظة : " احفظوا الأطفال ! " .

الجميعَ ، كلَّ مَن يؤدي الصلاة ،
و رعايا الكنائس في كل مكان :
أرجو بشيء – " انسوا الشقاق ،
احفظوا بيتكم و أطفالكم العزّل !"

من الأمراض ، من الانتقام و الحرب الرهيبة ،
من الأفكار الطائشة التافهة .
و علينا اليوم أن نرفع معاً في كل أنحاء
العالم نداءً واحداً : " احفظوا الأطفال ! " .

كان رسول يحب أن يتقاسم خططه و أفكاره الإبداعية ، و كثيراً ما كان يطلب النصح دون أن يهتم لسن محدثه . فكان يثمِّن النصيحة الذكية ، و أما الغباء فكان يهزأ منه بطيب خاطر .
هناك من اعتبره شاعراً رسمياً . لكنه لم يكن ينافق أبداً : لا عندما كتب عن ستالين في سنوات الحرب ، و لا عندما صمت في زمن يلتسين ... كان يؤمن بقدسية الوطن فقط و بالوطن لا غير كان يثق ، و عندما خاب أمله ، فإنه غرق في التاريخ حتى رأسه و راح يؤلف حكايات و أساطير أفارية . لم يكن لا رومانسياً و لا مثالياً . و أما لقب شاعر البلاط ، الذي حاولوا إلصاقه به ، لم يكن ينسجم مع صورته . كان رسول يتقلب و يتحرك مع البلاد و هو يحاول أن يخمن طريقها ، بالإضافة إلى أنه كان يعمل كثيراً . كان قد أصبح رسول حمزاتوف آخر - ذلك التراجيدي ، الفيلسوف . لقد استطاع أن يكتب الكثير بلغته الأم الأفارية . إلا أن هذا الإرث لم يصبح في متناول الجمهور . و قد أراد من خلال كتاباته الحديثة أن يقول الكثير ، و أن ينقل الكثير ، و أن يعيد صياغة الكثير . لم تسنح له الفرصة . أعطاه الخالق شهراً واحداً فقط لكي يودع الدنيا ، التي أحبها بقوة ، و لأن يودع الأصدقاء و الزملاء و العائلة ، و موسكو حيث عاش أفضل سنواته . لم يكن رسول يضع نفسه في مواجهة المرحلة الجديدة ، لكنه أيضاً لم يرغب في الانضمام إليها . لقد مشى في دربه الخاص ، الذي كان وعراً إلى درجة لا تصدق . لم يتخلَّ عن أشعاره الباكرة ، بل حاول ببساطة أن يعيد ترتيبها و تهذيبها و أن يعيد التفكير بها و بذاته ، و برؤيته إلى العالم في ذلك الوقت .
في بداية التسعينيات وجد حمزاتوف نفسه ، كما الأدب بصورة عامة ، على قارعة الطريق ، من دون هبات و جوائز ، براتب تقاعدي تافه . لهذا بالضبط انزوى و انطوى إلى نفسه . و لكنه مع ذلك كان يدافع بغيرة عن حقوق الكتّاب و الأدباء . فقد كان على الدوام يعتبر أن الكتابة – هي علـَمُ الأمة و أن السلطة التي تتجاهل ذلك مصيرها الزوال :

كما لو بصوف ممشط ، بالضباب
حُجِب الأفق الشفاف –
حان وقت المشعوذين
و اُحتلَّ الأوتوستراد .

فما الذي ينتظرني خلف المنعطف ،
ماذا ينتظر بلادي ؟..
أيها الزمن ، لقد أفلستَ أنتَ أيضاً ،
و من جديد أنت في الأسر قبل الأوان .

لقد كان رسول حمزاتوف مركز الكون الإبداعي في داغستان ، حيث كان الجميع يتحدثون عنه و في كل مكان . كانوا ينقلون عنه مقتطفات ، يقرؤونه ، و كانوا يمدحونه و يشتمونه ، و لكنهم لم يكونوا غير مبالين به أبداً .
كم كان رسول حمزاتوف ضرورياً في هذه الحياة . من دونه صار العالم مختلفاً . لقد انكمش كالجلد المحبب ( الشغران ) .
يرقد رسول حمزاتوف هناك ، حيث كان يتمنى – عند سفح جبل تاركي – تاو ، إلى جانب رفيقة دربه فاتِمات ، و هو يرى المدينة بأكملها من هناك ، المدينة التي أحب و كذلك البحر الذي تغنى به ، كما بوشكين . و لن يعشوشب الدرب إليه و هو - كما من قبل ، ليس وحيداً .

أدرك تحت سماء داغستان :
بينما أعبر آخر مضيق ،
باكراً جئتُ كشاعر ،
و كنبي – جدّ متأخر .

***
هذه ترجمة لبعض قصائد الشاعر :
(1)

داغستاني

بعد أن زرت العديد من البلدان ،
و رجعتُ إلى البيت تعباً من الطريق ،
و قد انحنى فوقي ، سألني داغستان :
" أَحيُّك البعيدُ أثار فيك الشوق ؟ "

صعدتُ إلى الجبل و من ذلك العلو
أجبت داغستان ، و قد تنهدتُ بعمق :
" لقد زرتُ مناطق كثيرة ، لكنك
تظل الأحبَّ في كل الدنيا .

ربما ، أنا نادراً ما أقسم بالحب لك ،
فلا الحب جديدٌ ، و ليس جديداً أن نقسم ،
أنا احب بصمت ، لأنني أخاف :
أن تشحب الكلمة المُكررة مئات الأضعاف .

و إذا ما راح كل واحد من أبنائك يقسم
بالحب لك ، و هو يصرخ ، كما المبشّر ،
فسوف تملُّ قِممُك الصخرية
أن تسمع و أن تجيب بعيداً بالصدى .

حين كنت غارقاً في الدموع و الدماء ،
سار أبناؤك إلى الموت ، مع أقل كلام ،
و صارت أغنية الخنجر الأليمة
هي صوت القسم لحب الأبناء .

ثم بعد ، حين خفت المعارك ،
راح أبناؤك ، يا داغستاني ،
صامتين يقسمون بالحب لك
بضربات المطرقة و بالمنجل الرنان .

لقد علّمتني كما الجميع خلال قرون
أن نعمل و أن نعيش بلا ضجيج ، لكن بشجاعة ،
علّمتنا أنَّ الكلمة أهم من الحصان ،
و أن الجبليين لا يسرجون خيولهم من دون حاجة .

مع ذلك ، و قد عدتُ إليك من عواصم
بعيدة ، غريبة ، ثرثارة و كاذبة ،
يصعب عليَ الصمتُ ، و أنا أسمع صوت
جداولك الغنّاءة و جبالك الشامخة .


(2)


أحبك ، يا شعبي الصغير


تُحسنُ لقاء الحزن بصرامة ،
من دون دموع ، بلا حيرة ،
و تجيد أنتَ السعادة
من دون أن تتباهى .

أليست أغانيك هي التي تشبه
طيران النسر البطيء ،
و الرقصات –
مع الفارس ، الذي يطير
حصانه ، و قد نسي اللجام .

لم يبهت طبعك الأبي ،
و العبرة في كلامك تعيش .
أوه ، كم أحبك بقلب جبلي
أنتَ ، يا شعبي الصغير !

في زحمة الجبال ، حيث
من الضباب مجدول قيد غليظ .
قلبك دائماً مفتوح ،
و واسع دوماً كما السهل .

القطارات ترعد عند قدميك ،
و من على كتفك تُـقلع طائرة .
أحبك ، كابن دولة جبارة ،
أنتَ ، يا شعبي الصغير !

***

(3)


إذا كان ألف رجل في العالم


إذا كان ألف رجل في العالم
مستعدين لأن يتقدموا لخطبتك ،
فاعلمي ، أنه بين هؤلاء الألف رجل
أكون أنا – رسول حمزاتوف .

و إذا ما أغُرِم بك منذ زمن بعيد
مائة رجل دماؤهم تجري كالهدير ،
فليس بالغريب أن تكتشفي بينهم
جبلياً اسمه رسول .

و إذا ما أُغرم بك عشرة
رجال حقيقيين ،
دون أن يخفوا نيرانهم ،
فمن بينهم ، و هو يهلل و يجزع ،
سأكون أنا أيضاً – رسول حمزاتوف .

و إذا جُنَّ بك واحد فقط ،
يا مَن لا تهوى الوعود ،
فاعلمي ، أنه جبليٌّ
من قمم الضباب باسم رسول .

و إذا لم يغرم بك أحد
و حزنتِ أكثر من أمسيات الغروب ،
فاعلمي أنه في السفح البازلتي
للجبال قد دُفِن رسول حمزاتوف .









التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مظاهرة في العاصمة الفرنسية باريس تطالب بوقف فوري لإطلاق النا


.. مظاهرات في أكثر من 20 مدينة بريطانية تطالب بوقف الحرب الإسرا




.. الاحتلال الإسرائيلي يقصف المدنيين شرقي وغربي مدينة رفح


.. كيف تناولت وسائل الإعلام الإسرائيلية عرض بايدن لمقترح وقف حر




.. تركيا تدرس سحب قواتها من سوريا