الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


روسيا الوطنية والاورثوذوكسية تحوّل المسار الجيوسياسي للتاريخ العالمي

جورج حداد

2023 / 8 / 29
العولمة وتطورات العالم المعاصر


إعداد: جورج حداد*

في اواخر شهر تشرين الاول 146ق.م، وبعد حصار خانق دام ثلاث سنوات، فإن الجيش الروماني، مدعوما من قبل جزء من الامازيغ تحالف مع روما، تمكن من اقتحام اسوار قرطاجة العظيمة، والشروع في احراقها وتدميرها بالكامل لمدة 17 يوما بلياليها، تم بنتيجتها ابادة 300 الف من اهاليها الـ700 الف كنعاني (فينيقي)، واسر الـ400 الف الباقين وبيعهم بالجملة الى النخاسين اليهود الذين كانوا يرافقون الجيش الروماني، في غزواته، محمَّلين بالاموال والاغلال، لشراء الاسرى بالجملة، وتقييدهم كالبهائم وسوقهم لتحويلهم الى عبيد وارقاء وجوارٍ وخصيان وغلمان يباعون لاحقا للسادة الرومان وحلفائهم واتباعهم من ملوك ونبلاء اوروبا.
وتاريخ تدمير قرطاجة في تشرين الاول ــ تشرين الثاني سنة 146ق.م، يشكل نقطة تحول رئيسي في التاريخ العالمي، لا يزال مستمرا حتى اليوم. وتتميز هذه الحقبة التراجيدية التاريخية الطويلة بالهيمنة الاستعبادية ــ القِنانية (الاقطاعية) ــ الاستعمارية ــ الرأسمالية ــ الامبريالية، للدول الغربية على شعوب الشرق، واستغلالها واذلالها ونهبها وافقارها وتجويعها حتى الموت.
إذ بعد التخلص من عقبة المقاومة القرطاجية الكنعانية (الفينيقية)، تولت روما القديمة صلب السيد المسيح (حسب الرواية المسيحية) بعد ان سلمه لها خونة شعوب الشرق المتمثلون في الطغمة المالية والدينية والسياسية العليا، اليهودية؛ وقد شكل صلب السيد المسيح زلزالا حقيقيا في التاريخ الانساني، اقدمت في اثره روما على الاضطهاد الفظيع وابادة واستعباد عشرات ملايين المسيحيين الشرقيين. وفي تلك الحقبة اكتسحت روما شمال افريقيا، ووادي النيل، والهضبة الاثيوبية، واليمن، والبحر الاحمر، ومضيق هرمز وامتداده الخليجي، واجزاء رئيسية من شبه الجزيرة العربية، و"سوريا الطبيعية" (التي تشمل فلسطين وسوريا ولبنان والاردن وجزءا من العراق حاليا وقبرص)، والساحل الشرقي للبحر الابيض المتوسط، وما بين النهرين (ميزوبوتاميا = العراق)، وآسيا الصغرى، وبلاد الاغريق والمقدون والصرب والبلغار والسلاف في شبه جزيرة البلقان، ومحيط سواحل البحر الاسود، وصولا الى اوكرانيا ورومانيا الحاليتين.
وهناك نقطة بالغة الاهمية في تقرير مصير العالم في كل المرحلة الممتدة من 146ق.م حتى اليوم، وهي ان موجة التوسع الروماني القديم لم تتوقف الا على حدود المنطقة التي صارت فيما بعد تعرف باسم "روسيا".
إذ ان المجموعات البشرية التي كانت موجودة في هذه المنطقة الثلجية، والتي تشكلت منها لاحقا "روسيا" و"الشعب الروسي السلافي"، كانت لا تزال تعيش في آخر مراحل النظام المشاعي (الشيوعي) البدائي القديم، الذي يتناقض وجوديا مع النظام العبودي المطلق والعنصري الذي كانت روما تحمله وتجسده وتنشره، ولاجله حاربت قرطاجة ودمرتها.
وسياسة التباعد والعداء والاحتقار والحقد، الغربية، القديمة والمعاصرة، ضد الشعب الروسي وروسيا، انما تعود في جذورها التاريخية الى ان هذا "الشعب الروسي" هو اول من كسر موجة التوسع والهيمنة والسيادة لروما القديمة، فاتحا الطريق للقبائل الجرمانية والاوروبية الشمالية البدائية للانتصار لاحقا على روما.
وفي الازمنة القديمة، وجدت سياسة العداء "الغربية" لروسيا ترجمتها في شعارات معاداة "الروس المتوحشين!" و"السلاف المتخلفين"، وشعارات العداء البابوي الكاثوليكي "للهرطقات الاورثوذوكسية" بما في ذلك محاربة الراهب السرياني الاورثوذوكسي القديس مار مارون واتباعه من الرهبان والمؤمنين؛ قبل ان يتحول اكليروس الطائفة المارونية الكريمة للانضواء تحت جناح البابوية الرومية، في اعقاب الحملات الصليبية وما خلفته من تأثيرات "بابوية" و"غربية" في الشرق.
اما في الازمنة المعاصرة فقد وجدت سياسة "معاداة روسيا" ترجمتها في شعارات "معاداة الشيوعية"، و"معاداة السوفيات"، وفي التفسيرات الملتوية لشعارات "عدم الانحياز" و"الحياد" و"لا شرقية ولا غربية".
ومنذ ذلك التاريخ الى اليوم يمكن تمييز وجود تاريخين (واكثر) للعالم:
الاول ــ هو التاريخ المتعارف عليه، المعتمد من قبل العالم "الغربي" (غربا وشرقا، شمالا وجنوبا)، و"العالم المتمدن"، و"العالم الحر"، و"الشرعية الدولية"، اي تاريخ دول اوروبا الغربية (ثم ما سمي "اميركا") و"مداهما الحيوي" ومستعمراتهما وتوابعهما في الغرب والشرق، بكل التوجهات والتفاسير والمفاهيم المختلفة لهذا التاريخ، والذي هو في حقيقته وجوهره تاريخ انظمة العبودية والقِنانة (الاقطاع) والرأسمالية، والاستعمار والامبريالية. وتواريخ الشرق الاقصى والصين والهند والمنطقة العربية والامبراطورية العثمانية وافريقيا و"اميركا" قبل "اكتشافها"، حتى حينما كانت في حالة اختلاف او تضاد مع الدول الغربية المهيمنة، كانت متفرعات تابعة او خاضعة للتاريخ العالمي "الغربي".
والعمود الفقري، او الكنه الجوهري، لهذا "التاريخ الحضاري!" هو الهيمنة الاستعبادية ــ الاستعمارية ــ الامبريالية للدول الغربية على جميع شعوب العالم (باستثناء روسيا).
والثاني ــ هو تاريخ مُزامِن ومُرافِد، ولكنه مختلف، مغاير ومعاكس ومشاكس ومضاد، وهو تاريخ "روسيا"، التي ــ منذ بداية تمحورها كـ"شعب" ــ كانت تنتسب الى الفضاء الحضاري والثقافي الاغريقي ــ الهلنيستي ــ المشرقي ــ السلافي، والى المسيحية الشرقية (الاورثوذوكسية، المناوئة لروما).
وليس صدفة ان تكون هذه "الروسيا" هي صانعة الثورة الاشتراكية الروسية العظمى في 1917، وصاحبة تجربة بناء النظام السوفياتي بكل ايجابياتها وسلبياتها، وهي التي يعود لها ــ قبل وبعد تشكل "الشعب والدولة الروسيين" ــ الفضل التاريخي في:
أ ــ كسر موجة التوسع لروما القديمة.
ب ــ تحطيم المملكة اليهودية الخزرية القديمة المتوحشة، التي قامت في القرون الوسطى المبكرة في محيط بحر قزوين ومصب نهر الفولغا، والتي بني "اقتصادها" على السلب والنهب واخذ الاسرى والسبايا من بلغار الفولغا (المسلمين حينذاك) القدماء ومن الروس (السلاف، الوثنيين حينذاك)، وبيعهم الى النخاسين "اليهود العرب" (العبرانيين) الذين بدورهم كانوا يبيعونهم عبيدا وإماء وخصيانا وغلمانا الى الامراء والقادة والنبلاء في الدول العربية الاسلامية الصاعدة، والمتصارعة، من بغداد، الى دمشق، الى القاهرة، والى الاندلس. والى تلك المملكة (اسرائيل الكبرى الاولى) ينتسب ما يسمى "اليهود الاشكنازيم" او "اليهود الغربيين"، الذين انتشروا لالاحقا في كل اوروبا االى جانب اليهود "السفارديم" (العبرانيين الشرقيين) بعد طردهم مع المسلمين من الاندلس.
ج ــ استيعاب واستنزاف واستضمحلال موجة الفتوحات المغولية ــ التتارية، والحؤول دون وصولها الى اوروبا القارية. ولو استطاع المغول دخول اوروبا لما خرجوا منها الى اليوم، ولانضووا تحت لواء البابوية الكاثوليكية، التي كانت على صلة وثيقة بهم، وتحولوا الى مغول ـــ صليبيين جدد.
د ــ صد وكسر ظهر "الحملات الصليبية الشمالية"، التي انطلقت من شمال المانيا وحوض البلطيق والاقليم السكندينافي، وكانت تهدف للوصول الى القدس عبر الاراضي الروسية. ولو قدّر لـ"الحملات الصليبية الشمالية"، ان تصل الى القدس، لم يكن بالامكان الانتصار على "الحملات الصليبية الشرقية" التي سبق ان وصلت الى القدس عبر الاراضي "التركية ــ العربية ــ الاسلامية".
هـ ــ تمزيق وملاشاة الجيش العرمرم لنابوليون، الذي بلغ تعداده اكثر من 650 الف مقاتل (اضخم واقوى جيش في زمنه)، الذي اقتحم روسيا ووصل الى موسكو ذاتها. ولولا الانتصار الروسي وابادة الجيش الفرنسي في 1812 لما امكنت هزيمة نابوليون وسقوطه في معركة واترلو ضد الانكليز في 1814، ولما كان من الممكن ان توجد اوروبا التعددية الحالية، ولوجدت مكانها "مستعمرة فرنسية" ليس الا، ولنشأ تحالف نابوليوني ــ بابوي قام بسحق الانغليكانيين والبروتستانت في انجلترا والمانيا وغيرهما، ونقل مركز البابوية الكاثوليكية من روما الى باريس او ربما الى كورسيكا، مسقط رأس نابوليون.
و ــ واخيرا لا آخرا، فإن روسيا نهضت من تحت الرماد في الحرب العالمية الثانية، وتكبدت اكثر من 29 مليونا من القتلى والموتى جوعاً ومرضاً بدون دواء، من المقاتلين والمدنيين، وعشرات ملايين الجرحى والمصابين والاسرى والمفقودين، كما تحملت تدمير اكثر من 80% من اقتصادها الصناعي والحرفي والزراعي ومؤسساتها الاجتماعية وبُناها التحتية، وعانت الفقر المدقع والحرمان الفظيع والامراض والاوبئة والجوع حتى حافة الموت بالمعنى الحرفي للكلمة، كي تنتصر على الجحافل الالمانية الهتلرية وتنقذ شعوب اوروبا والعالم قاطبة من الوحش النازي. وهذا ما يتناساه اليوم "الاتحاد الاوروبي" الذي يدعم النازيين في اوكرانيا.
ثالثا ــ ومن زاوية نظر معينة تنبغي الاشارة الى تاريخ ثالث، او الاصح القول "لاتاريح" الشعوب الاصلية للقارة التي سماها الغزاة الاوروبيون "اميركا"، وسموا سكانها الاصليين "الهنود الحمر".
فبعد فشل الحملات الصليبية "الشمالية" و"الشرقية"، وثبوت قول العلماء بكروية الارض، خلافا لمعتقدات الكنيسة البابوية الكاثوليكية حتذاك، اندلعت حمى الاستكشافات الاستعمارية، للدوران حول الكرة الارضية والوصول بحرا الى الهند، ومنها الى الاراضي المقدسة من الجانب المعاكس (اي من الخلف) حيث لا وجود للحاجز الروسي العصي على الاختراق، مع العلم ان البابوية ودول اوروبا الغربية لم تكن تنوي ارسال "حملات صليبية" جديدة عبر اوروبا الشرقية والساحل الشرقي للابيض المتوسط، تجنبا لزعزعة العلاقات الايجابية وربما الاصطدام مع الحليف الضمني، اي الغزاة العثمانيين، الذين سبق للبابوية واوروبا الغربية بالذات ان شجعتهم وساعدتهم للاستيلاء على القسطنطينية ومضائق البوسفور والدردنيل، لخنق روسيا ومنعها من الخروج الى البحر الابيض المتوسط وسائر البحار الدافئة، والحؤول دون التواصل بين الروس الاورثوذوكس وبين المسيحيين الشرقيين والعرب عموما.
وحينما وصل المستكشفون الاستعماريون الى القارة "الاميركية"، اعتقدوا انهم وصلوا الى الهند، فأطلقوا على السكان الاصليين لتلك القارة تسمية "الهنود الحمر". وقد نظر الغزاة الى تلك الشعوب نظرة ازدراء واحتقار وعداء، وانها "طفيليات وافدة" "بلا تاريخ"، وليست جزءا من الكلية الانسانية، وتعاملوا معها بطريقتبن عنصريتين:
الطريقة الاولى ــ في الشمال: حيث كانت غالبية الغزاة من شمال اوروبا، وكان النفوذ الاكبر فيهم يعود الى اليهود والبروتستانت المتأثرين باليهودية. ففي هذا القطاع "الاميركي الشمالي" جرى تطبيق النظرية اليهودية "الذهبية"، نظرية "ارض بلا شعب، لشعب بلا ارض"، التي تنطلق في جذورها الدينية و"الاخلاقية" والسياسية من وصية "رب التوراة اليهودية" الذي قال لابراهيم (التوراتي): "لنسلك اعطي هذه الارض!" (وهو ما سمي "ارض الميعاد"). اما سكانها الاصليون، الكنعانيون، فـ"أبسلهم إبسالا!"، اي أبِدْهم تماما، رجالا ونساء، كبارا وصغارا. وانطلاقا من هذه "الوصية المقدسة!" لـ"رب التوراة!" اليهودية، فإن الغزاة الاوائل (الذين يسمونهم "الرواد" في التاريخ "الحضاري!" لـ"اميركا") اطلقوا على انفسهم تسمية "شعب الله المختار"، وعلى "الهنود الحمر" تسمية "كنعانيين". وبناء على هذه "الفذلكة الالهية ــ التوراتية" قام الغزاة الاوروبيون "الشماليون" بالتطهير العرقي الكامل وابادة 112 مليون "هندي احمر" في شمال القارة، كما يقول الباحث في التاريخ، والمحاضر في احدى الجامعات الاميركية، الاستاذ منير العكش، في كتابه "حق ابادة الآخر"، الذي صدر في اميركا باللغة الانكليزية، وترجم ونشر باللغة العربية من قبل "دار رياض نجيب الريس" في بيروت.
وحينما تم، في نهاية الحرب العالمية الثانية، تشييد البناء الشاهق لمقر "هيئة الامم المتحدة"، التي اصدرت في 1946 ما سمي "شرعة حقوق الانسان"، فإن بناة هذا "الهيكل اليهودي" الجديد لم يفطنوا (وهو امر "طبيعي!" تماما) الى ان هذا البناء انما شيد فوق فتافيت او مسحوق عظام قبائل وشعوب مظلومة بأكملها. كما ان مشرّعي "شرعة حقوق الانسان!"، لم يفطنوا كذلك (وهذا امر "طبيعي!" اكثر) الى ان تلك القبائل والشعوب الاصلية ينطبق عليها ايضا مفهوم "الانسان"، وليست كمفهوم "الغوييم" عند اليهود، اي اشباه بشر وليسوا ببشر. وهذا يعني ان "شرعة حقوق الانسان" "الحضارية" و"الاممية" لم تعتبر ان ابادة تلك القبائل والشعوب هي جريمة كبرى ضد الانسانية، بل اعتبرتها، ضمنا او جهارا، عملا "عاديا"، "انسانيا" و"حضاريا" لا يستحق التوقف عنده ويليق بـ"شعب الله المختار".
والطريقة الثانية العنصرية للتعامل مع السكان الاصليين في "اميركا"، كانت في جنوب القارة: حيث ان الكلمة النافذة الاولى في صفوف الغزاة (الآتين من جنوب اوروبا) كانت للكنيسة الكاثوليكية "البابوية" (او "الفاتيكانية" في زمننا الراهن)، وكانت هذه الكنيسة تعاني الامرّين من تضاؤل اعداد الرعايا الكاثوليك بسبب انضمام الروس والاغريق وغالبية الشعوب السلافية في اوروبا الشرقية الى "المسيحية الشرقية" (الاورثوذوكسية)، ثم تحول قسم كبير من الكاثوليك في اوروبا الغربية والشمالية الى البروتستانتية. فكانت ــ اي "البابوية" ــ تطمح الى زيادة اعداد "الرعايا" الكاثوليك التابعين لها. فكانت سيطرة الغزاة الاوروبيين الجنوبيين على "اميركا" الجنوبية فرصة تاريخية للبابوية لزيادة اعداد "الرعايا" الكاثوليك. من هنا كان الايعاز البابوي للغزاة المتوحشين بتطبيق سياسة الكثلكة بالقوة، عن طريق تطبيق قاعدة "الاختيار الحر!" بين "الكثلكة او الموت بالسيف" او "الكثلكة او الموت بالتجويع". وهذا ما يسمى في قاموس "الحضارة" الامبريالية الغربية: "حرية المعتقدات الدينية"، و"حق تقرير المصير للشعوب".
وقد عومل "الهنود الحمر" المكثلكين بالقوة، في اميركا الجنوبية، وكأنهم لاجئين غير شرعيين، واشباه عبيد، وفي احسن الحالات كمواطنين من الدرجة العاشرة وما دون.
ولكن في المحصلة التاريخية فإن اميركا الشمالية، التي نُظفت تماما من سكانها الاصليين، وبنيت فيها "حضارة الرجل الابيض"، تحولت الى المركز او المتروبول الرئيسي للامبريالية العالمية؛ اما "اميركا" الجنوبية، فتحولت الى "مزرعة دواجن بشرية" و"حوش خلفي" للولايات المتحدة الاميركية، الشمالية، تحت الشعار البراق "اميركا للاميركيين!" (وهو ما سمي "مبدأ مونرو" االذي اطلقه الرئيس الاميركي الخامس جيمس مونرو سنة 1823.
وعليه فإن تاريخ الشعوب الاصلية لما سمي "اميركا" يبدأ من "الصفر" اي من لحظة "اكتشاف" القارة في 1492؛ اما ما قبل ذلك، فهو "تاريخ اللاتاريخ" او "تاريخ ما دون الصفر".
XXX
ان الحرب التي بدأت في اوكرانيا ليست حدثا منقطعا بذاته، بل هي حلقة نوعية في السلسلة التاريخية، ويصح وصفها بأنها محطة تحول جذري في التاريخ العالمي. وبهذه الخاصية فهي لها ابعادها الرئيسية، الجيوسياسية، والجيوستراتيجية، والاقتصادية ــ الاجتماعية. ونحاول في هذه المقاربة إلقاء نظرة تحليلية على الابعاد الجيوسياسية لهذه المواجهة الشاملة بين روسيا الوطنية والكتلة الامبريالية الغربية:

في البعد الجيوسياسي
الداخلي لروسيا

في العقدين الاخيرين من القرن الماضي، وبفعل الدور الخياني للبيروقراطية السوفياتية، الستالينية والنيوستالينية، جرى تفكيك المنظومة السوفياتية في اوروبا الشرقية، وتفكيك الاتحاد السوفياتي ذاته. ويقول الرئيس بوتين ان زوال او ضياع الاتحاد السوفياتي كان اكبر مأساة في التاريخ العالمي المعاصر.
ولكنه بالرغم من هذه المأساة التاريخية، فإنه بقي على الساحة الدولية العدو التاريخي الرئيسي للامبريالية "الغربية"، اي روسيا، التي احتفظت بكونها دولة كبرى ذات رقعة جغرافية شاسعة تزيد على 17 مليون كلم مربع، ويعيش فيها شعب كبير من 150 مليون نسمة، يوجد فيهم عشرات ملايين العلماء والخبراء وخريجي الجامعات والعمال المهرة والمزارعين البارعين، وتمتلك صناعة ثقيلة لصنع الآلات، وورشات الانشاءات الميكانيكية لصناعة آلات صنع الآلات، وصناعة استهلاكية، وتمتلك خاصة القاعدة العلمية والمختبرات الخاصة ومختلف المصانع والمعامل لصناعة حربية ضخمة ومتطورة جدا، وكل هذا بالاضافة الى الانظمة الاجتماعية والصحية والتعليمية المتطورة، وشبكة مواصلات وبنية تحتية كبيرة تفي بحاجات البلاد؛ والاهم والاخطر: بقيت روسيا دولة مدججة بجميع انواع الاسلحة البرية والبحرية والجوية والفضائية، النووية والصاروخية، وتمتلك عددا من الرؤوس النووية يزيد على ما تمتلكه اميركا وكل الدول النووية الاخرى، مجتمعة، كما تمتلك عددا كبيرا من السفن الحربية والغواصات النووية، حاملة الصواريخ النووية، التي تطوف وترابط في جميع المسطحات المائية وقيعان جميع بحار ومحيطات العالم؛ كما تمتلك "عائلة صاروخية" كاملة وكبيرة، دقيقة وعالية الدقة، من مختلف الاحجام والابعاد والمهمات تطال كل زاوية في الكرة الارضية، ومستنفرة للاططلاق في كل لحظة على مدار الساعة.
وامام هذا "الوجود الروسي"، "غير المريح" للغرب الامبريالي، فإن مستشار الامن القومي السابق لاميركا، "الكانيبال" Cannibal من اصل بولوني ــ كاثوليكي، سبيغنيو بريجينسكي، طرح "فكرته العبقرية" انه لاجل التمكن من السيطرة على روسيا، واستعمارها ونهب ثرواتها غير المحدودة، ينبغي تمزيقها وتخفيض عدد سكانها الى ما لا يزيد عن 50 مليون نسمة.
وكل السياسة الاميركية والناتوية و"الاتحاد ــ اوروبية"، منذ 1991 حتى الان تنطلق من هذه "الفكرة" او المشروع "الحضاري" لسبيغنيو بريجينسكي.
ولهذه الغاية ــ وتحت شعارات "الدمقراطية"، و"حرية التعبير"، و"الحريات الفردية" في تعاطي المخدرات مثل المشروبات الكحولية، وحرية ممارسة "المثلية الجنسية"، وتشريع زواج المثليين، وتشريع تجارة الاعضاء البشرية، وتجارة الاطفال، وتجارة الخدمات الجنسية، وتجارة الخدم، وتجارة الايدي العاملة، وتجارة الحراس الشخصيين (BODY GARD) والمقاتلين المرتزقة، وغير ذلك من اشكال "الحريات الدمقراطية!" و"السوق الحرة" بمفاهيم "الحضارة! الغربية" ــ شُرع في تشغيل آلة البروباغندا الغربية، وتفريخ وتمويل وتجييش ما يسمى "المنظمات اللاربحية" و"منظمات المجتمع المدني" و"المنظمات غير الحكومية" وجيوش ذباب "السوشال ميديا" ــ لتحريك جميع اشكال التناقضات داخل المجتمع الروسي شديد التنوع، والذي يضم اكثر من 115 قومية واتنية، وجميع الاديان والمذاهب الدينية، والفلسفات والايديولوجيات والحزبيات والتوجهات الفكرية والثقافية والسياسية والمفاهيم الاخلاقية والعادات والتقاليد في العالم.
وقد نجحت الدوائر المخابراتية والسياسية والاعلامية والدينية، الامبريالية الغربية والاسرائيلية والتركية والنفطوخليجية، في تنظيم وتحريك "الثورات الملونة" في دول المنظومة السوفياتية السابقة في اوروبا الشرقية، وبعض الدول السوفياتية السابقة، كدول البلطيق وجورجيا واوكرانيا. الا انها فشلت في تنظيم "ثورة ملونة" داخل روسيا ذاتها.
ولكن لغاية اضعاف وتفتيت الدولة الروسية، جرى تنظيم وتمويل واشعال الحرب الانفصالية الشوفينية ــ "الاسلاموية" في الشيشان، واستقدام الارهابيين "الاسلامويين" العرب (الذين كانوا يسمون "المجاهدين" و"الافغان العرب") للمشاركة في الحرب الانفصالية الشيشانية، وكان على رأسهم الجزار السعودي الملقب "القائد خطاب"؛ وقد قام الارهابيون الشيشان و"العرب"، بقيادة شامل بسايف و"خطاب"، بعدد من العمليات الارهابية الضخمة والفظيعة ضد اهداف مدنية في مختلف المدن الروسية (مستشفى، دار للمسنين، مسرح، مدرسة للتلامذة الصغار، مجمّع سكني، سوق شعبية، مطار، مترو، وما اشبه). وتم في تلك العمليات أخذ الالوف من الرهائن، ووقع فيها المئات من القتلى من المدنيين. ولكن الحرب الانفصالية الشيشانية فشلت فشلا ذريعا، ولقي مصرعهم جميع القادة الانفصاليين والارهابيين (دودايف، مسخادوف، بسايف، "خطاب" وغيرهم). وعلى الاثر عمدت الدوائر الامبريالية الغربية والتركية، الى سحب الوف المقاتلين الارهابيين الشيشانيين والداغستانيين و"الروس" الاخرين، وارسالهم الى تركيا، حيث كان يتم تنظيمهم وتدريبهم وتسليحهم وتوجيههم للقتال في سوريا الى جانب التكفيريين "الدواعش"، تحت الشعار "البسيط"، انما الخطير والمفضوح، وهو شعار "اليوم في سوريا، وغدا في روسيا!". وكان ذلك احد الاسباب الهامة، التي فضحت الاهداف، قريبة وبعيدة المدى، لمخططات الامبريالية الغربية، واسهمت في "إقناع" القيادة الوطنية الروسية بتلبية طلب الحكومة السورية الشرعية لارسال قوات جوية روسية لمساندة الجيش الوطني السوري والشعب السوري في القتال ضد الارهابيين و"الدواعش" = "ملائكة الدمقراطية الاميركية!"، وعدم انتظار مجيئهم الى روسيا..
وطوال المرحلة التي سبقت الحرب الاوكرانية الحالية، جهدت كل المخابرات والدوائر التابعة للكتلة الامبريالية الغربية لاجل اضفاء "الطابع الداخلي" على الطابور الخامس الموالي للامبريالية الغربية في روسيا، وتصوير نشاطه الهدام، السياسي و"الثقافي" والارهابي، الانفصالي والخياني، على انه "صراع داخلي" تخوضه المعارضة الروسية لاجل "الحرية" و"الدمقراطية" و"حرية المعتقدات الدينية" و"حقوق الانسان" و"حق تقرير المصير للشعوب"!!!
الا ان جهابذة المخابرات والدوائر الامبريالية الغربية، ارتكبوا خطأً جيوسياسياً مميتا، وهو انهم وضعوا في سلة واحدة او خندق واحد او مزبلة واحدة جميع الاطراف المتناقضة للطابور الخامس، المرضى بفوبيا معاداة روسيا والشعب الروس: اليهود الصهاينة، و"خصومهم" النازيين القدماء ــ الجدد، والاسلامويين الارهابيين والانفصاليين، و"خصومهم" الكاثوليك البابويين و"وظاوظ" "الدمقراطية الاميركية".
وفيما يلي بعض الامثلة:
أ ــ ان الدبلوماسية الاميركية المرموقة، الاوكرانية اليهودية الاصل، فيكتوريا نولاند، تبجحت علنا ان الادارة الاميركية انفقت ملايين الدولارات لـ"تشجيع" نشر "الدمقراطية" في اوكرانيا وغيرها من الدول "الاشتراكية!" السابقة؛
ب ــ ان اليهودي الصهيوني فولوديمير زيلينسكي هو دمية في يد المافيوز الملياردير اليهودي الاوكراني ايغور كولومييسكي الذي يعيش في اسرائيل، ومن هناك يدير "اللعبة الاوكرانية"؛
ج ــ ان اليهودي زيلينسكي يعتمد اعتمادا كليا على المجموعات النازية كـ"القطاع الايمن" و"فيلق آزوف"؛
د ــ ان الضباط السابقين في الجيش الاسرائيلي الذين ارسلتهم الموساد الى اوكرانيا كـ"مستشارين عسكريين" و"كمحاربين مخضرمين"، يقاتلون جنبا الى جنب النازيين، الذين قتلوا آباءهم واجدادهم في الحرب العالمية الثانية؛
هـ ــ ان المافيوز والملياردير اليهودي الروسي السابق، بوريس بيريزوفسكي، الذي كان يحمل الجنسية الاسرائيلية وتعيش عائلته في اسرائيل، والذي وجد مقتولا في شقته في لندن حيث كان يعيش كلاجئ سياسي، كان احد مشعلي واكبر ممولي الحرب الاسلاموية الانفصالية المعادية لروسيا في الشيشان.
وهذا الخطأ الجيوسياسي للمخابرات والدوائر الامبريالية الغربية فضح تماما جميع "حلفاء واصدقاء الغرب" في روسيا، بوصفهم طابورا خامسا خائنا وعميلا ليس الا.
ولكن القيادة الوطنية الروسية، بزعامة فلاديمير بوتين، ومعها جميع التكتلات والتيارات الوطنية، "الموالية" والمعارضة، والمتمثلة في الاحزاب المؤيدة لبوتين، وانصار الكنيسة الاورثوذوكسية، والمسلمين الروس الوطنيين، وانصار الشيوعيين التقليديين بمختلف اتجاهاتهم، ومن يسمون "القوميين المتطرفين"، انصار الفيلسوف الكسندر دوغين والنائب السابق الراحل فلاديمير جيرينوفسكي، واليهود الروس الشرفاء؛ وهؤلاء جميعا يشكلون الاكثرية الساحقة من الشعب الروسي، ــ نقول ان القيادة الوطنية ومعها جميع الاحزاب والتكتلات والتيارات الوطنية في روسيا، لم تؤخذ بالسياسة التضليلية للامبريالية الغربية بإضفاء "الطابع الداخلي" المزعوم على الصراع السياسي في روسيا، بين السلطة الوطنية والطابور الخامس الموالي للغرب الامبريالي، ونجحت في ان تكشف تماما ان الصراع القائم هو صراع وطني بين روسيا، شعبا ودولة، وبين اعداء روسيا: الامبريالية الغربية واليهودية العالمية واداتهما الاسلاموية الداعشية، وان "المعارضة اللاوطنية" ما هي سوى حثالات من الخونة عملاء الغرب واعداء الوطن والشعب الروسيين.
وفي هذا السياق لا بد من الملاحظة انه بعد بدء "العملية العسكرية المحدودة" للجيش الروسي، التي اطلقت شرارة الحرب العالمية الجديدة في اوكرانيا وعبرها، فإن الابواق والزمر السافلة للطابور الخامس الروسي، بمن فيهم من النازيين القدماء ــ الجدد والصهاينة والمتصهينين و"الدواعش" الروس، اضافوا الى معزوفاتهم الممجوجة حول "الدمقراطية" وغيرها من الاكاذيب والاضاليل، معزوفة جديدة حول معارضة الحرب و"العدوان!!!" الروسي على اوكرانيا.
وحينما وقع "تمرد قوات شركة فاغنر" للمقاتلين المرتزقة، بزعامة يفغيني بريغوجين، سارعوا للكشف عن وجوههم واعلان تضامنهم مع التمرد. ولكنهم لم يفطنوا، او كانوا على ثقة زائدة عن اللزوم بقوة معسكرهم الغربي(!) لدرجة انهم لم يأبهوا لما كتبته الصحف الاميركية ذاتها من ان بريغوجين وكل "فاغنر" ما هم سوى صناعة للمخابرات الروسية، وان التمرد لم يكن سوى مسرحية لصيد الثعابين التي تسبح في المياه العكرة. وهذا ما سهل على المراجع الروسية المختصة كشف اوكار الثعابين واصطيادهم، وسوقهم الى المحاكم والسجون والاشغال الشاقة، ليس بتهمة الجعجعة الفارغة حول "الدمقراطية" المزعومة، بل لكونهم يطعنون في الظهر القوات المسلحة الروسية والرجال والنساء الوطنيين والشرفاء الذين يقدمون ارواحهم دفاعا عن شعبهم الروسي وجميع شعوب العالم، اي بتهمة الخيانة الوطنية والعمالة للاعداء، في زمن الحرب؛ وهي التهمة التي تتلبس تماما الطابور الخامس، الذي خسر معركته قبل ان يبدأها.
XXX
الابعاد الجيوسياسية
الخارجية لروسيا
ان الاسس التي تنبني عليها الجيوسياسة العامة للكتلة الامبريالية الغربية، والتي تقود وتحرك كل الدبلوماسية والإعلام والبروباغندا و"الثقافة" لهذه الكتلة، هي: الديماغوجيا والكذب والخداع والتضليل. واكبر تجسيد ملموس، اساسي ورئيسي ومصيري، لهذه الجيوسياسة الغربية التضليلية، هي كيفية التعامل مع روسيا.
واليوم، فإن كل رجال الدولة وجميع ابواق الكتلة الغربية يزعمون ان سياسة العزل والحصار والعقوبات ضد روسيا انما هي "وليدة البارحة!" كـ"ردة فعل" على "العدوان!" الروسي على اوكرانيا، المستقلة والمسالمة(!).
ولكن الواقع يكذب تماما هذا الزعم. فالكتلة الغربية، ولا سيما بشخص دول الناتو وعلى رأسها اميركا، ودول "الاتحاد الاوروبي"، لم تتدخل منذ البداية ــ كما هو مفترض منطقيا ــ كطرف ثالث يعمل لفض النزاع بين روسيا واوكرانيا ــ بل دخلت في الاشتباك، منذ اللحظة الاولى، بوصفها الطرف الاساسي في الصراع ضد روسيا. بل ان دول الكتلة الغربية هي التي ضغطت على اوكرانيا لعدم متابعة المفاوضات التي بدأت بين روسيا واوكرانيا في مطلع الحرب، لوقف اطلاق النار والاتجاه لفض النزاع سلميا، وشرعت فورا في تقديم المساعدات العسكرية واللوجستية والمالية وغيرها بمئات مليارات الدولارات، لدفع اوكرانيا نحو متابعة وتصعيد الحرب. وظهر جليا للعالم اجمع انه لو كانت اوكرانيا وحدها هي التي تقاتل روسيا، لما صمدت 24 ساعة، وان العدو الرئيسي الذي يقاتل روسيا في الحرب الاوكرانية الحالية، هو حلف الناتو بزعامة اميركا، وان اوكرانيا هي اداة لهذه الحرب ليس إلا.
ولم يكن هذا الموقف للكتلة الامبريالية الغربية وليد ساعته، بل كان تجسيدا للاستعدادات المسبقة للكتلة الغربية لشن الحرب على روسيا، مباشرة او بالوكالة.
وهذا الموقف العدواني والعدائي المسبق للكتلة الغربية ضد روسيا هو استمرار وتجسيد للنهج الجيوسياسي والجيوستراتيجي، الغربي، التاريخي، المتواصل منذ عهد الامبراطورية الرومانية القديمة، التي فشلت في حينه في اقتحام الاراضي الروسية.
وجميع الدول والممالك والجمهوريات الاستعمارية والامبريالية الغربية، وريثة روما القديمة، لم تتخلَّ ولا يوم واحد عن العمود الفقري للجيوبوليتيكا والجيوستراتيجيا "الغربية" المتمثل في نزعة اقتحام وغزو روسيا واستعمارها ونهبها، واستعباد واذلال ومحق شعبها المحب للحرية، المناضل والباسل.
ومن اقرب الامثلة على ذلك انه في نهاية الحرب العالمية الثانية، وقبل ان ينجلي الدخان عن الارض الروسية المحروقة، اعلن ونستون تشرشل في 1946 انه كان ينبغي على الدول "الدمقراطية" الغربية متابعة الحرب ضد الاتحاد السوفياتي. وقد تشكل حلف الناتو بزعامة اميركا في 1949 للتحضير للحرب ضد الاتحاد السوفياتي. وللغاية ذاتها تشكلت في 1957 ما سميت "السوق الاوروبية المشتركة" التي تحولت في 1993 الى "الاتحاد الاوروبي" الذي يجمع في حظيرة حيوانات واحدة الامبرياليات الاوروبية "الدمقراطية" والفاشية السابقة، وتقوده اميركا.
وقد رفضت الكتلة الغربية على الدوام انضمام روسيا الى حلف الناتو والاتحاد الاوروبي، مع ان الجزء الاوروبي من روسيا يشكل اكثر من 39% من كامل مساحة اوروبا. وهذا الرفض لانضمام روسيا الى حلف الناتو والاتحاد الاوروبي يكشف بوضوح ان الكتلة الغربية تدرك تماما ان روسيا هي "شيء آخر" يختلف تماما عن الامبريالية الاميركية والاوروبية، وفي الوقت ذاته يقضح تماما النوايا العدائية التاريخية المتأصلة، والمقاصد العدوانية المبيتة، الدائمة، للكتلة الامبريالية الغربية ضد روسيا شعبا ودولة.
وحسب الاحصاءات والمعطيات التي ينشرها الاعلام الغربي ذاته، يمكن الاستنتاج ان حجم النفقات الهائلة، العسكرية واللوجستية والمالية وغيرها، التي تكبدتها الكتلة الغربية حتى الساعة، في الحرب الاوكرانية الحالية، قد بلغ اكثر بكثير مما تكبدته الدول "الدمقراطية" الغربية ودول المحور الفاشي، مجتمعة، طوال الحرب العالمية الثانية.
ولم تكتفِ الكتلة الامبريالية الغربية بذلك، بل واخذت تشن على روسيا حربا اعلامية فظيعة لا سابق لها في التاريخ، وحرب مقاطعة وحصار وعقوبات خانقة، بهدف عزل روسيا عن العالم واضعافها الى اقصى حد ممكن، تمهيدا لـ"الحل النهائي" للتخلص منها، بشن هجوم عسكري كاسح، او حرب شاملة خاطفة، Blitzkrieg بيلتزكريغ جديدة، ضدها.
وامام تصاعد موجة المعارضة الشعبية في العالم "الغربي" ضد المساعدات التي تقدم لاجل الحرب في اوكرانيا، يقدم لنا المسرح الدولي الان مشهدا "تراجي ــ كوميك" (مأساويا ــ هزليا) بطله الممثل القديم "الرئيس" الاوكراني فولوديمير زيلينسكي. إذ يقوم هذا "الجلعوط" الصهيوني عميل الموساد، بالطواف على عواصم ومنظمات الكتلة الغربية والموالية للغرب، بما في ذلك "جامعة سايكس ــ بيكو" المسماة "جامعة الدول العربية"، للتحريض والتعبئة لمتابعة وتوسيع المشاركة في الحرب ضد روسيا.
ولم يبق نوع من العقوبات لم تفرضه اميركا وكتلتها على روسيا.
ولكن ما هي النتائج التي توصلت اليها هذه السياسة "الغربية" المعادية لروسيا؟
ان اي مراجعة موضوعية لمسارات السياسة الدولية تكشف بوضوح لا لبس فيه، ان هذه السياسة لم تفشل فقط، بل انها ادت الى نتائج عكسية تماما، حيث انها حفزت روسيا اكثر من اي وقت سابق لان تصبح محركا رئيسيا ومركز استقطاب رئيسي لتشكيل محور عالمي جديد يتقدم بشكل حثيث وثابت ليضم غالبية دول وشعوب العالم، المعادية وعلى الاقل متناقضة المصالح مع اميركا وكتلتها الامبريالية الغربية. ويكفي ان نشير الى المعطيات والوقائع التالية:
1 ــ في 1970 كتب هنري كيسينغر، مستشار الامن القومي الاميركي يومذاك، ان اكبر خطر يمكن ان يتهدد اميركا هو احتمال التقارب والتحالف بين روسيا (الاتحاد السوفياتي حينذاك) وبين الصين، وانه ينبغي على اميركا ان تعمل لعدم تحقيق هذا التقارب. ولهذه الغاية قام كيسينغر بزيارة سرية الى بكين، ورتب زيارة نيكسون الشهيرة التي كانت اول زيارة يقوم بها رئيس اميركي الى الصين. وعملا بنصيحة كيسينغر تحولت الشركات الاميركية الى صاحبة اكبر حصة استثمارات راسمالية في الصين، وتحولت اميركا الى اكبر شريك تجاري واكبر مستورد سلع من الصين. وتحولت الصين بدورها الى اكبر مالك لسندات الخزينة (سندات الدين العام) الاميركية اي اكبر دائن لاميركا.
ومع كل ذلك ماذا نرى اليوم؟
ان الصين، التي تتقدم بخطى حثيثة لتصبح في بضع السنوات القادمة اكبر اقتصاد عالمي، والتي يمكن لها ــ في حالة صدام عالمي شامل ــ ان تجند اكثر من مائة مليون مقاتل في 24 ساعة، هذا العملاق الصيني هو اليوم اكبر واوثق حليف لروسيا، اعظم قوة نووية في العالم. والمجتمع الدولي كله يرى القاذفات الستراتيجية الروسية العملاقة، حاملة الصواريخ النووية، تقوم مع القاذفات الصينية بدوريات مشتركة فوق رؤوس الاميركيين وحلفائهم في اليابان وتايوان وكوريا الجنوبية؛ والغواصات النووية الروسية حاملة الصواريخ النووية تتناوب الحراسة من كل الجوانب حول الصين، وتجوب كل البحور والمحيطات حولها.
هذا من الجانب الامني والستراتيجي. واما من الجوانب المالية والتجارية والاقتصادية والسياسية، فإن التبادل والتعاون والتحالف الروسي ــ الصيني يقترب بسرعة من حدود التكامل التام لمصلحة الشعبين العظيمين وجميع شعوب العالم كبيرة وصغيرة. ويضطلع هذا التحالف بدور مبدِّل لجميع قواعد العلاقات الدولية برمتها.
2 ــ يقول هنري كيسينغر في بعض كتاباته "ان "الشرق الاوسط" يعوم فوق بحرين هما: النفط والاسلام!". وهو يذكر انه بعد نشوب الحرب السوفياتية ــ الافغانية، وكانت اميركا طبعا ضد السوفيات، سأله احد القادة السعوديين: من يمكن ان يربح هذه الحرب؟ ــ فكان جواب كيسينغر: سيربحها من تقفون معه انتم (ويقصد العرب والمسلمين).
ولا حاجة الى التذكير ان التدخل السوفياتي في افغانستان سنة 1979 حصل بطلب من السلطة الافغانية ذاتها في ذلك الوقت لمساعدتها في مواجهة حركة طالبان الاسلاموية الارهابية، المدعومة من قبل اميركا والسعودية وزعانفها. ولكن الدوائر الامبريالية الاميركية والغربية عامة، بالتعاون الوثيق مع انظمة الحكم النفطية في الخليج، وبأكلاف ونفقات مالية خيالية، لاجل التعبئة والتدريب والتسليح والتمويل، نجحت في تحويل النزاع في افغانستان الى حرب مفتوحة اسلاموية ــ سوفياتية (ضمنا: روسية). فجُيّشت عشرات الوف المقاتلين الاسلامويين العرب وغيرهم للقتال في افغانستان، وأضفيت "الشرعية الدولية" على منظمة طالبان الارهابية الافغانية وعلى جميع المنظمات الارهابية "الاسلاموية" ("القاعدة" وغيرها) في العالم، وأزيلت الحدود بين المنظمات الارهابية "الاسلاموية" (صنيعة اميركا وحلفائها) وبين المنظمات والتيارات الاسلامية المناضلة ضد الامبريالية والصهيونية، التي انضمت عن غير وعي الى جبهة محاربة السوفيات و"الشيوعية" و"الكفر والالحاد" الى اخر المعزوفة المعروفة.
ولا حاجة الى التذكير ايضا، ومن ثم الاعتراف، ان الجبهة الامبريالية ــ النفطوخليجية ــ الاسلاموية، نجحت ايضا في اجبار الجيش السوفياتي، الذي حطم النازية في الحرب العالمية الثانية، على الخروج عاجزا من افغانستان. وكان ذلك احد اهم العوامل التي اسهمت لاحقا في تقويض المنظومة السوفياتية السابقة في اوروبا الشرقية، وتفكيك الاتحاد السوفياتي السابق ذاته، ومن ثم الشروع في تفكيك وتمزيق روسيا الاتحادية ذاتها، عملا بـ"مشروع" سبيغنيو بريجينسكي، انطلاقا من حرب الشيشان الانفصالية والعمليات الارهابية الاسلاموية ضد الشعب الروسي.
اما اليوم فنرى صورة معاكسة تماما:
فبينما تنبح جميع وسائل الإعلام والصحافة المأجورة في الكتلة الغربية بأعلى وأقبح الاصوات، دفاعا عن احراق وتدنيس المصحف الشريف في السويد والدانمارك، بحجة "الحريات الدمقرطية الغربية" و"حرية التعبير"؛ فإن الرئيس فلاديمير بوتين، الوطني الروسي ــ الاورثوذوكسي، يطل امام جميع وسائل الاعلام العالمية وهو يستقبل المفتي الداغستاني ويتقبل منه نسخة من القرآن الكريم ويرفعها بيديه بكل احترام وتقدير، تعبيرا عن تضامن الدولة الروسية وجيوشها، والشعب الروسي بكل اتنياته واطيافه واديانه ومذاهبه، مع شعوب العالم الاسلامي، وضد اي امتهان للمعتقدات والمشاعر الاسلامية الصادقة والنبيلة والتحررية.
3 ــ وفي هذا السياق ينبغي التوقف مليا عند الظاهرة التالية التي سيكون لها دور اساسي في الجيوسياسة الدولية، وفي تقويم مسار التاريخ العالمي، لصالح دول وشعوب الشرق والعالم، الطامحة الى التحرر من ربقة الامبريالية الغربية واليهودية العالمية.
وهذه الظاهرة هي:
ان قيادتي الدولتين العظميين: روسيا الوطنية ــ الاورثوذوكسية (صاحبة الثورة الاشتراكية الروسية العظمى وتجربة "النظام السوفياتي")، والصين الشعبية (الكونفوشيوسية ــ الشيوعية، الاشتراكية والرأسمالية بطبعة "صينية")، وبالتعاون الوثيق مع القيادة الثورية الشيعية العالمية، تعمل جميعا، بتنسيق وتناغم تامين، لفض النزاعات بين الدول الاسلامية والتقريب فيما بينها، بهدف جيوسياسي دولي مفصلي يقوم على المساعدة في خلق محور دولي اسلامي مستقل، يضم جميع الدول والشعوب الاسلامية، الكبيرة والصغيرة. وان يضطلع هذا المحور بدوره الرئيسي في مسارات السياسة الدولية.
وهذا النهج الروسي ــ الصيني ليس نهجا ظرفيا مرتبطا بالاوضاع الراهنة فقط، بل هو نهج "ثوري" تاريخي اصيل بالنسبة لروسيا والصين. ونذكر هنا انه بعد انتصار الثورة الاشتراكية العظمى في روسيا سنة 1917، كتب زعيم الثورة فلاديمير لينين ملاحظا ان اغلبية الثورات التحررية ضد الاستعمار في العالم هي ثورات الشعوب الاسلامية. وقد صاغ لينين الكثير من الكتابات والنداءات، باسم الثورة الاشتراكية الروسية، الموجهة "الى مسلمي اسيا والشرق". وبمبادرة من "الكومنترن" (الاممية الشيوعية) حينذاك، تمت الدعوة لعقد "مؤتمر شعوب الشرق" في باكو سنة 1920، الذي حضره 1891 مشاركا ينتمون الى 37 قومية. وبهذه الروحية، المنفتحة على الصداقة والتعاون مع الشعوب الاسلامية، اقامت السلطة السوفياتية الناشئة علاقات صداقة ودعم مع امير افغانستان حينذاك، ومع الزعيم الوطني سعد زغلول قائد ثورة 1919 في مصر، ومع الامير عبدالعزيز آل سعود، واقيمت العلاقات الدبلوماسية بين موسكو والرياض في 1924.
ومن ضمن هذا النهج كان ايضا سلوك قيادة الثورة الصينية ثم السلطة الشعبية الصينية تجاه المسلمين والشعوب الاسلامية في الصين والعالم.
ويتأكد الالتزام الاصيل بهذا النهج من قبل القيادتين الروسية والصينية في ما لا يحصى من المؤشرات نذكر منها:
أ ــ التعاون واسع النطاق بين روسيا والصين وبين الجمهورية الاسلامية الايرانية، على جميع الاصعدة المالية والتجارية والاقتصادية والسياسية والعسكرية، وهو ما اصبح موثقا في اتفاقات بالوف مليارات الدولارات ومعاهدات طويلة الامد لعدة عقود من السنين.
ب ــ التقارب الروسي مع تركيا (العضو في حلف الناتو). وحتى حينما اسقطت القوات التركية غدرا طائرة حربية روسية وهي تقوم بمهماتها ضد التكفيريين العملاء فوق الاراضي السورية، وقتلت العصابات التركمانية بخسة ونذالة الطيار الروسي بعد هبوطه بالمظلة، ووصف الرئيس الروسي نلك الحادثة بأنها "طعنة في الظهر"، فإن القيادة الروسية لم تنجر الى الاستفزاز، و"ردّت" على ذلك الغدر التركي بالموافقة على بيع تركيا منظومة الصواريخ المضادة المتطورة S-400، والاستمرار في مد انبوب الغاز المسمى "السيل التركي" لتزويد تركيا، واوروبا عبر تركيا، بالغاز. وقد نجحت القيادة الوطنية الروسية في الجمع بين ايران وتركيا، الى جانب روسيا، في الجهود المبذولة لتسوية الوضع في سوريا، وتحويل تركيا من جزء من المشكلة الى شريك في الحل، على اساس المحافظة على استقلال سوريا ووحدة وسلامة اراضيها، وضمان الامن للاراضي التركية بوجه المنظمات الكردية الانفصالية التي تحولت الى ادوات ومجموعات مرتزقة وعملاء لاميركا.
ج ــ ولعل اهم ما تم انجازه على هذا الصعيد هو ان الصين استفادت من كل نفوذها الاقتصادي والسياسي والدبلوماسي للجمع بين ممثلي الجمهورية الاسلامية الايرانية والمملكة العربية السعودية لاعادة العلاقات المقطوعة بين هذين القطبين الاسلاميين الرئيسيين، والعمل لحل الخلافات بينهما والسعي المشترك لتفعيل العمل لتوحيد الصفوف بين الدول العربية والاسلامية لما فيه مصلحة وخير الجميع. ويمثل هذا التلاقي الايراني ــ السعودي مفصل انقلاب تاريخي على طريق تشكيل محور عربي ــ اسلامي استقلالي عالمي، تدعمه روسيا والصين بكل ما لهما من وزن حضاري وحضور جيوسياسي وقدرات اقتصادية وعسكرية ونفوذ دبلوماسي.
4 ـــ وبعكس كل ما خطط له وكان يتوقعه جهابذة الجيوسياسة الامبريالية الغربية واليهودية العالمية، لعزل روسيا، تمهيدا لضربها وتمزيقها واسقاطها، فإن القيادة الوطنية الروسية ــ وبالتعاون الوثيق مع القيادة الصينية الحكيمة، نجحتا في تأسيس وتثبيت منظمتي "بريكس" و"شنغهاي" للتعاون الدولي، اللتين تعملان من اجل تحرير شعوب ودول العالم العربي والاسلامي، وافريقيا، واميركا الجنوبية، من ربقة التبعية بكل اشكالها للامبريالية الغربية، والتقدم نحو بناء نظام عالمي جديد، يقوم على التآخي والتعاون بين جميع شعوب ودول العالم كعائلة انسانية واحدة تعيش على الكوكب الارضي.
XXX
ذكرنا آنفا انه بتدمير قرطاجة وصلب السيد المسيح تحول التاريخ العالمي باتجاه الهيمنة الامبريالية "الغربية" على العالم (باستثناء روسيا) بسبب وجود المتروبولات الرئيسية للامبريالية العالمية في "الغرب"، اي في اوروبا الغربية والولايات المتحدة الاميركية لاحقا.
واليوم تدرك الامبريالية الاميركية (امبراطورية "روما" الشريرة الجديدة) انه لا يمكنها الاحتفاظ بالهيمنة على النظام الدولي الا بالقضاء على "العقبة الروسية"، وتدمير روسيا كما دمرت في السابق قرطاجة.
وفي المقابل، تدرك روسيا الوطنية ــ الاورثوذوكسية (نقيض "روما" القديمة والجديدة) انه لم يعد بامكانها الاحتفاظ باستقلالها وسيادتها ووجودها كدولة وشعب، وتحرير نفسها من الخطر الامبريالي الغربي، الدائم، الا بتحرير وتحرر شعوب العالم اجمع من وجود النظام الامبريالي العالمي بزعامة اميركا واليهودية العالمية.
ووراء كل الحيثيات والتفاصيل والاحداث السياسية والاقتصادية والعسكرية، المرافقة للحرب في اوكرانيا وعبرها، فإن الخلفية التاريخية الرئيسية لهذه الحرب، التي لن تتوقف عند السقف او الحدود الاوكرانية، هو القرار الجذري، الواقعي، الحكيم، الشجاع والحاسم، للقيادة الوطنية الروسية، لاعادة تقويم مسار التاريخ العالمي، بالقضاء التام والنهائي على الهيمنة الامبريالية "الغربية". وهذا هو الهدف الاساسي والرئيسي للحرب في اوكرانيا، من جانب روسيا الوطنية وحلفائها.
وبالتدريج ستتعدد وتتسع ميادين هذه الحرب التحررية، وما سيرافقها وينتج عنها، مباشرة او غير مباشرة، من حروب اقليمية وانقلابات سياسية وعسكرية وثورات وانتفاضات شعبية، لتشمل جميع اقاليم وبلدان العالم، بما فيها البلدان الامبريالية ذاتها، التي لن ترضى شعوبها المتحضرة ان تبقى مجرد "دواجن بشرية" ومطايا بهائمية للطغمة الرأسمالية الاحتكارية العليا واليهودية العالمية.
لقد انطلقت المواجهة الشاملة بين روسيا الوطنية ــ الاورثوذوكسية والكتلة الامبريالية الغربية، مع الحرب في اوكرانيا وعبرها. وهي لن تتوقف الا في واشنطن وجميع عواصم الدول الامبريالية وحلفائها في العالم.
وروسيا الوطنية المقاتلة تحمل اليوم بيد مطرقة هدم النظام الامبريالي العالمي، وباليد الاخرى شاقول المعماري العامل لبناء النظام العالمي الانساني، التعددي، التحرري والتنموي الجديد.
وبالرغم من كل الصعوبات والآلام فإنه في نهاية المطاف لن يصح الا الصحيح!
وان غدا لناظره قريب!
ـــــــــــــــــــــــــــــــ
*كاتب لبناني مستقل








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الجامعات الأميركية... تظاهرات طلابية دعما لغزة | #غرفة_الأخب


.. الجنوب اللبناني... مخاوف من الانزلاق إلى حرب مفتوحة بين حزب 




.. حرب المسيرات تستعر بين موسكو وكييف | #غرفة_الأخبار


.. جماعة الحوثي تهدد... الولايات المتحدة لن تجد طريقا واحدا آمن




.. نشرة إيجاز بلغة الإشارة - كتائب القسام تنشر فيديو لمحتجزين ي