الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


رواية -الحياة لحظة- الفصل الثاني عشر - شاعر الأيديولوجيا -

سلام إبراهيم
روائي

(Salam Ibrahim)

2023 / 8 / 29
الادب والفن


شاعر الأيديولوجيا


كنت البارحة في طريقي إلى موقف الحافلة القاصدة محطة قطارات كوبنهاجن الرئيسية، وفيما كنت على وشك عبور التقاطع، سمعت أحدهم ينادي باسمي الكامل:
- «إبراهيم» السلامي.. «إبراهيم»!.
صوت أليف كامن في نفسي.. تسمرتُ على حافة الرصيف، والتفتُّ نحو جهة المنادي، فصرخت مثل طفلٍ:
- «جميلة».. «جميلة»!.
لم أرها منذ أيام موسكو..
- هل أنتِ هنا؟!.
قلتُها بذهول.. عانقتني باكية.. شممت من جسدها الملتصق بجسدي البائد عبق تلك الأيام.. مدينة الثورة وشقة موسكو.... عبق انبعث من تفاصيل منسية، سطعت بحضورها المباغت.
لا أدري ما حل بها!.
ولا أريد أن أعرف!.
ولا أريدها أيضا أن تعرف ما صرتُ إليه!.
قضيت الليلة الفائتة مستلقيًا على مصطبة في زاوية من زوايا كرستيانة.. غرقت في النوم مثل ميتٍ، بعد أن رقصت في بار مليء بالدخان والسكارى ومتناولي المخدرات.. يطيب لي بين الحين والحين في الصيف قضاء ليلة كهذه.. أسكر حد لا أتذكر في اليوم التالي ما جرى لي.. كل ما يترسب في ذاكرتي وجوه البشر الغريبة الحميمة المبتسمة المنصتة بود لبعضها البعض أثناء الكلام، رغم أنها قد لا تعرف بعضها البعض إلا في جلسة المساء.. كل ما أتذكره هو أني نهضت من المقعد الخشبي المشترك؛ فالبار لا توجد فيه كراسيّ مستقلة، وخطوت مخترقًا غابة الدخان الكثيفة.. نفذت إلى الليل، فلفحتني نسمة منعشة زادت سكري.. بعدها لا أتذكر أي شيء سوى لحظة أخذ أنفاس عميقة متلاحقة، هوت بي في فراغٍ.. كيف وصلت إلى المصطبة؟!لا أدري!.
سألتني: وين رايح؟
- ما أدري!.
قهقهت بصخب، وقالت:
- أي كنت بموسكو وحدك مو هنا وياك العائلة.. بعدك صعلوك!.
قلت على مضض، متحاشيا الخوض بما آل إليه وضعي:
- صعلوك أصلي من حي العصري!.
ضجت بالضحك من جديد، فوجدتها فرصة كي أخلص نفسي من التذكر والحديث عن العائلة وفوضى وضعي كمتشرد، فأردفت ساخرًا:
- بيت شعر موزون!.
هدأت قليلا وقالت:
- صدكـ «إبراهيم» إذا ما عندك شيء.. تعال وياي لأمسية شعرية عراقية في « النور أله»
قلت مع نفسي:
- لأذهب معها وأرى أبناء جلدتي، الذين لم أرهم منذ أشهر!.
- ومن الشعراء؟
سألتها
- لا أدري.. بس يقولون واحد منهم كان بيشمركه!.
شبَّ فضولي.. عبرنا الشارع إلى موقف الحافلة المتوجهة نحو المكان.. أخبرتني باختصار قصتها.. كيف نجحت بالطيران من مطار موسكو إلى كوبنهاجن بمساعدة رفيق قديم، له صلة قوية بأخيها الذي قتل بالسم في الجبل.. دسه مندس عندما كان يبيت في بيته.. ذلك الرفيق الذي ساعدها في ترتيب السفر بجواز سفر مزور، تحول إلى سكير ومهرب، وتداخل مع المافيات الروسية، ومات هو الآخر غرقا بنهر الفولجا في موسكو في ظروف غامضة.
قلت لها:
- قصتك تشبه الروايات والأفلام!.
- وقصتك بس وينه الكاتب العراقي اللي يكتب مصابنا!.
أردفت:
- «إبراهيم» صدكـ بعدتك تكتب لو بطلتْ!.
- بطلتْ!.
ـ يا خسارة!.
في الحافلة تأملت جلستها المتكورة جواري.. قسماتها التي زادت تصلبا، فبدت أقرب إلى الصخر منها إلى طراوة الجلد البشري.. شردت عيناي عبرها إلى النافذة الزجاجية المهتزة.. خلف رأسها يجري نهر البنايات، وجموع البشر الذاهبين والقادمين في عرض الشارع المكتظ.. كنت أغور فيها.. تحت جلدها.. في الأعماق.. في الأحشاء، وهي تحكي عن حياتها هنا في الدنمارك.. وحدتها.. وحشتها.. كرهها المبطن للرجال، ذلك الكره الأنثوي المطلق الذي يكون كامنا لدى من تزوجت، لكنه لدى العوانس، مثلها، صارخ تبوح به بوضوح.. لكنه مع من لا يعرفها تنفّس عنه بطريقة خبيثة، وذكية تستغل الوضع والحالة.. لم أكن أعرف تلك اللحظة ونحن في الحافلة أنني سوف أستغله هذه الليلة كي أشفي غليلي. كنت أمزح معها طوال الوقت، بينما أغور شاردا في كلامها وكيانها النابض جواري:
- أش لون تدبرين الليل!.
- إذا أكو هذا اللي يسموه الجلق ماكو أي مشكلة!.
- ..
كدت أقع من مقعدي من فرط الضحك وصراحتها العارية.
- بشرفك مو أحسن من واحد ينام جنبك بالسرير مثل الحجارة!.
- والله كلامك ذهب.. الجلق أحسن!.
تشجعت ممعنة في عرض مشكلتها الوجودية مع الرجل، الذي لم تعثر عليه، فقالت ساخرة:
- بعدين يا أخي ماكو مشكلة.. هي شنو مشكلة هو الرجل بس «عير».. إذ كان بس هذا .. تروح وحده لشارع السكس وتشتري الحجم اللي تريده حسب مزاجها!.
كنت أنصت مبتهجًا.. «جميلة» رفيقتي في العذاب.. في الوحدة التي أغطيها بمرحي وسخريتي.. بعد أن أوقعتني فكرة الحياة لحظة.. الحياة فقاعة في قاع اللحظة وشردتني في بلد الأمان دون مأوى.. الوحدة موجعة تسمم الدم والكيان والكلام وكل شيء.. هي مثل حالي إذن تمعن في السخرية والكلام العاري دون حاجز..
كدت أعانقها، لكنني خفت من نزولها من موقع الفلسفة والسخرية إلى الواقع، فتتوهم الحب مثلما توهمت تلك الليلة الفريدة في شقة موسكو.. لكنني سأضطر في الأيام اللاحقة إلى اللجوء إلى شقتها، وسأجد فيها كيانًا صعبًا لا يطاق ولا يُعاش معه البتة، وهي تلقي بي إلى ليل المنفى كلما عارضتها في نقاش.
تمالكت نفسي إلى أن ترجلنا من الحافلة.. ففارت في نفسي الفقاعة شاعرا بالغبطة لجوارها.. للأمسية المنتظرة، وكل ما حولي واثقا من «شاكر ميم» الزنجي العظيم، الذي شعرت به تلك اللحظة يشبهني ويشبه «جميلة» في شدة غربته ووحشته ووحدته، وهو ينام في دكان التصوير في شارع السراي بالديوانية، وحيدًا مع أخيلته.
صعدنا إلى القاعة بسلمٍ طويل أتعبني.. وقفت مرات كي ألقط أنفاسي.. عَلَقتْ بخبث:
- هاي شنو خلصان!.
- لا تعبان!.
رددت من بين أنفاسي اللاهثة.
الأمسية في الطابق الأخير.. أصبحنا وسط فسحة ضيقة تنتهي بباب.. دورت المقبض ودفعتها، فشخصت نحونا عيون الجالسين في الطرف المقابل للقاعة الفسيحة.. وجوه نساء في خريف العمر تزوقن كأنهن صبايا.. وجوه رجال مليئة، يشخصون من عيونٍ ذكية، شعرت بها، وكأن في عيونهم خبرة ذاك الطبيب النفسي الذي لجأت إليه بعد سنة من مكوثي هنا، ولكنه لم يسعفني بشيء. وأنى له بشفائي، وأنا ملتبس وكومة من العقد المعقودة، حتى ضاع خيط الفك.. تمهلنا جوار الباب وهمست لها ساخرًا:
- وين جايبتني؟!.
هدرت بضحكة صاخبة، جعلت الصف المظاهر لوقتنا يلتفت نحونا شاخصا سامعًا جملتها الساخرة:
- أشبيك «إبراهيم».. ما تعرف قدر نفسك؟!. أنت وين وهذولة وين؟!.
قلت مع نفسي:
- إنها تظنني قويًّا.. ولا تدري ماذا فعلت بي الأيام هنا.. صيرتني هشًّا لا أستطيع الاطمئنان لكل صاحٍ.. بل أجد في عينيه سخرية لما تسقط علي!.
هل سبب ذلك فقدي لها ولأطفالي؟!.
أظن ذلك.. لا بل أنا على يقين من أن ذلك كان السبب في فقداني الثقة بوجودي بين البشر الأسوياء.. نعم هنا يكمن رعبي!. فهي كانت صاحية، وكنت سكران، حينما ألقت بي إلى الشارع، قائلة:
- لا تدخل البيت أبدًا!.
كنت في تلك اللحظة أستطيع صفعها، لا بل ضربها حتى الموت.. فهي رقيقة هشة جميلة مسالمة، ولكنها تنمرت عليّ لما أتعبها حالي الجديد.. فوضى وضعي المحتدم منذ التحاقي بها من موسكو. دفعتني.. نعم دفعتني، فتعثرت بالعتبة، وسقطت على الفسحة جوار بئر السلم.. تلك اللحظة قام في نفسي ذلك المارد السافل الشرس الذي قضى طفولته وشبابه في العراك، مدافعًا عن نفسه ومعتديًا في قوانين الشارع الخفية في المحلات الشعبية المكتظة..
أنهضت جسدي مثل حيوانٍ جريح، وحدقت بملامحها التي رقت بعد قسوة وتصلب.. وجدتها تحدق نحوي بألم عطل الشر فيَّ، وذكرني بمناحي المشاعر الخفية، التي تربط وتبرر العيش مع واحد كل العمر.. كدت أنهض من دفعتها لأعانقها وأبكي بكل ما بي من قوة.. أبكي وأعتذر، وأبوح بأسباب وضعي الجديد كله كي؛ أصحو وأخرج من جوف فقاعة «شاكر ميم».. لكنني لبثت هنيهة مستلقيًا معانقًا برودة بلاط فسحة بئر السلم، محدقًا في ملامحها النادمة، رغم كل حسها بتردي حالي الذي أصبح جليا مفضوحا.. لبثتُ أدير القصة كلها برأسي.. كانت تنتظر قيامي وخطوي نحوها؛ لأنها لم تصفق باب الشقة، بل بقيت حائرة وفي قسماتها ندم.
- هل هذا السرد هو تشكيل يبرر حالتي؟!.
لا.. لم تغلق الباب.. لكنني تحاملت بعناء كي أستقيم بجسدي. ظلت ترمقني بعينين، فيهما ذلك الحنان القديم قدم علاقة حبنا.. لكن:
- هل تنفع نظرة حنان قديمة في إصلاح وضع ملتبس كوضعنا؟!.
ذاك مستحيل!. صرت بمواجهتها.. تماسكت رغم انكساري.. سكري.. تعبي.. كانت تنتظر قولًا.. كلمة.. لم أقل شيئًا!.
هززت رأسي أسفا وتوجهت نحو السلم. لم ألتفت. لم أسمع صوت صفق الباب حتى وصولي إلى الطابق الأرضي.
- هل ظلت تتابع قامتي الهشة، تنحدر على السلالم من حافة البئر، أم أنها دخلت وردَّت باب الشقة بهدوء؟!.. أم أن هذا مجرد أخيلة، وقد تكون قد صفعت الباب، وأنا مذهول ضائع في سكري وحيرتي.. سألت نفسي لحظة مواجهتي الشارع.. الأمان والصمت والحرية، لكن ليس لي تلك اللحظة.. صرت طريدًا ضائعًا في أكثر بلدان الدنيا أمانًا.. في الدنمارك.
وجدت نفسي وحيدًا حقًّا أفكر في ملجأ أبيتُ فيه ليلي.. فقدت ثقتي بنفسي.. فقدت الوشيجة بالآخر أيًا يكن...
كنت واثقا ليلتها لو رجعت لها، لكان مسار قصتي غير هذا.. لكنني كنت أشعر أن كياني انتُهك لحظة رميي خارج رحم الشقة وكأنني نفاية.. لو رجعت سأضطر إلى أن أكون مطيعًا مثل أي بغلٍ، كنا نستخدمه أيام حرب الأنصار الثورية، وذاك مستحيل بالنسبة لكياني..
أتذكر كيف صرخت لما وطِئت قدماي فسحة الطابق أسفل شقتنا.. صرخت جوار واجهة النافذة الزجاجية العريضة، التي تطل على الصمت والبنايات ومصابيح الشارع وأشجار الحديقة الوسطية والسماء دانية النجوم.. صرخت بصوت أجوف مثل عواء ذئب جريح وحيد:
- طززززززززززززز فيك .. طزززززززز!.
.. لست واثقا لا من نفسي، ولا من الآخرين، ولا من حقي.. ولا من الدنيا.. فلم الرماد والنكد؟
- كل هذا لا تعرفه «جميلة».. لا تعرف أنني أخشى هذه العيون المحدقة الفاحصة.
نزلت على السلالم حتى قاع البناية.. دفعت الباب.. واجهني ليل اسكندناﭬﻴﺎ المسالم والصمت، إلا من حفيف ورق شجر حديقة البناء الأمامية.. وقفت طويلا.. تنشقت نسمةً باردةً تلو نسمةٍ ولا رواء:
- أين أقضي ليلتي؟!.
- في أي ركنٍ أبيت؟!.
غمرني النسيم.. غمرني فانفجرتُ بنحيبٍ، وكأنني فقدت الدنيا.. وفعلًا فقدت الدنيا كلها.. وجدت نفسي شريدًا.. بلا مأوى.. ضائعًا وسط الهبوب خارج الشقة، السرير، الحضن، وضجيج أطفالي.. في فسحة الحدائق والأمان والصمت..شعرت ببؤسٍ عميق، جعل قصتي مع الفقاعة «وشاكر ميم» خواء لا قيمة لها.
تماسكتُ.. سحبتني من يدي قائلة:
- في الجهة الثانية كرسيان فارغيان.
درنا من أمام منضدة رتبت كي يجلس عندها المقدم والشاعر.. دوى برأسي اللغط:
- من المؤكد أنه يدور حولي!.
هتفت مع نفسي فارتبكتْ خطواتي.. لكن يد «جميلة» القوية منحتني توازنًا جعلني أشملهم بنظرة سريعة، وفعلا وجدت العيون تتبع خطونا، فتشاغلت عنها بالإسراع إلى الكرسي.
جلسنا متجاورين. حملقتُ بالوجوه.. أعرف أغلبها كانت معي في الجبل، ونجتْ مثلما نجوتُ.. قام بعضهم وصافحني والبعض الآخر اكتفى بالتلويح بيده من كرسيه.. كنت أرد مبتسمًا مستعيدًا ثقتي بنفسي، حتى بلغت التوازن المعقول، فقلت لها:
- «جميلة» وين الشاعر!.
نهضتْ من جواري وسألت أحدهم، يبدو من خلال حركته من منظمي الأمسية.. أقبل نحوي صافحني.. لم أكن أعرفه.. قدم نفسه.. كونه كرديًّا يعمل طبيبا نفسيًّا، وقال:
- سأناديه ليسلم عليك!.
وابتعد نحو عمق القاعة.. رأيته يهمس لرجل نحيف يرتدي طقمًا أنيقا.. ربطة عنق على قميص أبيض وسترة سوداء. شَخَصَ نحونا وأقبل باسمًا.. حددت النظر كي أعرف من هو، لما اقترب وسقط ضوء من سقف القاعة على ملامحه السمراء الموشكة على السواد، كدت أنهض من مكاني وأصرخ.. أصرخ مثلما صرختُ، حينما رمتني إلى الشارع والمنفى في ليلة صافية جميلة.. كدت أصرخ.. أصرخ:
- حقييييييييييييي يييييييييييييييير.. تافه!.
وكل ذلك الماضي البعيد تجلى في المسافة المتبقية بيننا.. رأيته يجلس متكئا على الحائط الصخري المغلف بالنايلون في تلك الغرفة المنزوية، تحت سفح بكلي مراني في ثاني يوم التحاقي بصحبتها .. يسمونها غرفة الإعلام.. لم أفطن إلا لاحقًا لطريقته المتكلفة عند الكلام في الثقافة.. حذلقة قد تنطلي على من لم يخبر هذا الوسط لا عليّ.. كان يحكي عن قصائده، لافظًا الكلام بطريقة ممثلٍ بارعٍ، راميا بعينيه زوجتي الجالسة جواري المنبهرة برجال مدينتها الفاضلة الحاملين سلاحا.. كنت أنصت مفتعلا المشاركة.. أنا ابن هذا الوسط المعقد، ترعرعتُ وخضتُ حتى الوحل فيه.. أنصت وهو يضفي على نفسه تلك الهالة الكاذبة نفسها، التي ظلّ يدعيها حتى هنا في الدانمارك.. ولما أنشد قصائده، وجدتها ساذجة وأدركت بأن لا موهبة لديه.. مجرد كلمات مرصوفة، يستطيع السامع أن يتبين العناء الذي تجشمه في تشكيلها.. كان يلفظها بطريقة ينغم فيها المفردة القاموسية الخاوية من دون مشاعر.
لما قرأ ملامحي الحيادية، تحاشاني، وركز على الآخرين المحشورين في الحجرة الضيقة، الملتفين حول منضدة خشبية ترتفع مترًا.. كان الجالس إلى اليمين جواري شاب شديد النحافة، وكأنه خيط عرفت لاحقا أنه محقق، وآخر ذو لحية شقراء انتحر في حملة الأنفال لما حاصره الجنود، صرنا أصدقاء فأخبرني بتركه معهدا للنحت في إيطاليا؛ حيث كان يدرس من أجل الثورة، وثالث أصفر الوجه قصير القامة عرفت أنه يكتب شعرًا عاميًّا.. ولم يكن يعرفني أيٌّ منهم.. كانوا يظنون أنني مجرد حزبي ملتحق مع زوجةٍ جميلةٍ..
لم ألق بالا للأمر، فقد كنا ضيوفا عابرين.. وكنت قد خبرت هذه الأجواء وأدركتُ مشاعر المقاتل المهدد بموت وشيك لما يرى امرأة جميلة أيًا تكن.. غادرنا فجرًا إلى قاعدة أخرى، ولكن التجربة اضطرتني إلى معرفة المزيد عن شخوص تلك الجلسة. ومن خلال زياراتي المتكررة، توطدت علاقتي بهم، وصرت أبيت ليلي في غرفتهم.. أصبح النحات أكثر الثلاثة قربًا لنفسي. صرنا نخوض في أحاديث حميمة وعميقة.. كنت أذهب معه وقت حراسته..
وفي ليلة مقمرة، اصطحبني إلى نوبته كحرس للسجن. فأطللت أول مرة في عمري على حالي لما كنت أُسجنْ. أنا في دور السجان الآن وهؤلاء البشر في قبضتي وتحت رحمتي.. مددت عنقي من خلف ظهر صاحبي، مطلًّا على الكتل البشرية، التي لا يضيء نور فانوس شحيح منها شيئًا، بل يمزجها في العمق المعتم في الجدران. لحظةٌ وهبت من خلف ظهر صاحبي رائحة عطن، هي مزيج من رائحة عرق ورطوبة وعفن يشمها المرء في الأماكن المهجورة، والتي لا ترى النور فالغرفة لا نافذة فيها.. تجسد المشهد بوضوح، وكأنه كان البارحة، لا قبل عشرين عاما، حتى أنني الآن أستطيع وصف المكان بدقة..
النحات الأشقر قصير القامة يطل عليهم، ويقول:
- ماذا تحتاجون؟!.
بلهجة فيها نغم مختلف ذكرني بحارس الأمن، الذي يجلب لنا الوجبة لما كنت مكبلًا، معصوب العينين في الأمن العامة ببغداد.. قبل ذلك المشهد بعدة أعوام، وبالضبط في الشهر السادس من عام1980.. نفس النبرة، قلت مع نفسي:
- هل للمتسلط نبرة واحدة رغم فارق المعنى؟!.
فيهب الجمع الملتحي الكامن من غبار العتمة الملطخة بضوء الفانوس، مسخم الزجاج صارخين:
- سجائر!. سجائر!.
يوزع صاحبي النحات علبته عليهم.. لكن نبرة صوته ضايقتني، فوجدت نفسي أنأى عنه قليلا.. ظننت برفيقي النحات سوءًا.. قلت لنفسي:
- لعله عذب هؤلاء!.
حتى أن مسافة في نفسي قامت بيني وبينه، رغم أنني صارحته في الوقت نفسه، فحلف لي أغلظ الحلف بأنه لم يمس أحدا منهم، ولكن ذلك لم يذهب بظني إلا بعد خمسة أعوام؛ أي عقب موته منتحرًا عام 1988بسنتين.. صرنا لاجئين في إيران. كنت في باحة وزارة الداخلية الإيرانية (كشور)، أحاول حصول تأشيرة خروج؛ كي نستطيع السفر إلى دمشق.. في الباحة الأنيقة الوثيرة المحشودة بالعراقيين، الحالمين بالهرب لأي بقعة في الدنيا عدا إيران. في الباحة الغريبة الساكنة تلك، هب أحدهم نحوي.. طريقة قيامه من المقعد الذي كان يجلس عليه بمواجهتي، جعلتني أضطر للنهوض والعناق.. سمعته يردد، وكأنه يريدني الموافقة على قوله فقط:
- لا تعرفني.. أعرف ذلك.. لكنني عرفتك!. مرة إجيت ويه «أبو أيار الشريف»! بليلة ظلمة، وكنت بس تتفرج أعرفك لا تنكر.. لا .. لا تنكر..
- ..
- كنت بالفوج الأول!.
لم أربط الأمر فبقيت صامتا أحملق فيه، ولكنني سرعان ما توازنت مقلبًا الأمر.. قلت لنفسي:
- أعرف مقاتلي الفوج الأول فردًا.. فردًا.. فلم يبق سوى أن يكون واحدًا من السجناء!
- ...
- بسجن الفوج الأول
وضح الأمر فسألته:
- ليش سجنونك؟!.
فانطلق، وكأنه يعرفني من زمن بعيد:
- ما أدري وداعتك.. كنت جندي بربية قريبة من كارا.. جزعت من الحرب، قلت ألتحق بالأكراد احسن لي، وأهل القرية دلوني على الشيوعيين لما عرفوا أني عربي.. لكنهم شكّوا فيّ لأن ما عندي أحد يزكيني.. سجنوني وشفت الويل الوسخ والقمل والمهانة. أنت شفت بس وين تشوفني بالليل هي الغرفة ظلمة بالنهار!.
تأملت ملامحه.. وجهٌ رَسَمهُ الألم صافيًا.. وجه ينفث من مسامه تعبًا.. وجه حميم كأي وجه عراقي، يجاورك في حافلة سفر بين المدن. شديد السمرة خشن التقاطيع بعينين ذكيتين وذاكرة ساطعة، فأنا لم أعاود الوقوف أمام فسحة غرفة السجن المنعزلة في الفوج الأول غير تلك المرة.. لم يزل ينظر نحوي بحنان وألفه غامضة، ينتظر مني شيئًا ما وسط باحة الانتظار.. هاهو شبح قام بلحمه ودمه من ذلك الماضي وتلك الأمكنة، التي تحولت إلى هباء.. لم أعرف اسمه، لكن ما معنى الأسماء؟ قلت لنفسي وأنا أقف أمامه في باحة «كشور».. ما معنى الأسماء؟ وهذا العراقي الذي شدني في باحة الانتظار إلى ذلك الماضي، وجعلني بمحض صدفة أفكر في مصائر بشر، رافقوا مشواري في تلك الصعاب.
ولما كنت أظن بصديقي النحات سوءًا.. تولدَ من نبرة صوت!. سوء عذبني فأنا لا أستطيع تخيل فنان مبدع يمارس تعذيب الآخرين، مهما تكن درجة إجرامهم.. لذا وجدت بهذا العراقي المعذب الواقف أمامي فرصة؛ كي أعرف حقيقة ما كان يجري في ذلك الموضع والزمن.. رتبتُ الأمر في رأسي فقلت بحرارة:
- أش لون طلعتْ من السجن!.
- مالكو عندي شيء!.
أغمض عينيه ومال برأسه إلى الجانب صارخا:
- يا بويه.. يا بوييييييييييييييييييييييييييييه شفت الويل!.
ولبث قليلا جامدًا، وكأنه تمثال، قبل أن يفتح عينيه ويقول:
- شفت جهنم، معقولة الله لمن أموت يعذبني بالنار!.
أدركت فورًا حجم الرعب الذي لاقاه، وأيقنتُ أنهم كانوا يمارسون التعذيب بطريقة، لا تختلف كثيرا عن ممارسة رجال أمن السلطة.. لا بل ذلك كان أقسى.. فلا توجد أي مساءلة عرفية قانونية شكلية حتى، فالحكم أيديولوجي محض.. فلا أحد يسأل عمن سجن في حرب العصابات، حيث لا مجتمع ولا قيم ولا أهل سوى ما تفرضه طبيعة الحركة والشخوص، دون خلفية اجتماعية ضاغطة.. والرعب أصْلى نفسي، والتعذيب الجسدي الفعلي ما هو إلا ركيزة لرعب الروح.. خبرت هذه الحقيقة بالتجربة وبجسدي.
أمامي الفرصة سانحة كي أصل إلى ما أريد معرفته عن تلك الأيام؛ فقلت له بغتة وبسرعة:
- تعرف «أبو أيار» انتحر لما حصره الجيش بالأنفال!.
تكسرتْ قسماته مثل زجاجٍ، وتلفت حواليه خطفًا نحو حشود العراقيين الجالسين، وعاد إليَّ بعينين غالب أن لا ينهمر دمعهما، لكنه سال على الخدين المتيبسين ساقيتين لامعتين تدفقا حتى حافة الحنك، لتسقطا على قميصه الرث الفاقع الألوان.. تلوَّت قسماته، ثم أجهش ناحبًا فهرع بعض العراقيين المنتظرين نحونا.. ردهم بعنف، مباعدًا ذراعيه إلى الجانبين بحركة سريعة؛ مما جعلهم يؤوبون إلى كراسيهم مستغربين.
باغتتني غبطة فريدة:
- هل أحب هذا العراقي الطيب سجانه النحات المسيحي الأشقر إلى هذا الحد، الذي جعله ينشج ناحبًا في مكان عام؟!.
سحبتهُ من ذراعه نحو الباب.. جلسنا على السلالمِ المؤديةِ إلى البوابةِ الرئيسية.
تخافت النشيج قليلا.. قليلا. مسح دموعه بكمّ قميصه الرث.. استدار بجذعه الأعلى حتى صار بمواجهتي.. لما هدأ تمامًا سألني عما جرى لشاعر هذه الأمسية في كوبنهاجن، المقبل صوبي المكنى « أبو غالب»، وعن محققٍ كان في الفوج الأول قبل ذلك الرفيع، الذي وجدته لما وصلت القاعدة يكنى «أبو عناد».
قلت له:
- سالمين وموجودين!.
هزَّ رأسه وأنشدَ:
الموت ما يأخذ حطب لمْ
يأخذ ورد جوري ويشتمْ!.

عرفت المغزى.. لكنني كنت أطمع بالتفاصيل الصغيرة، فقلت:
- لم أفهم شيئًا!.
رمقني جانبا.. كان وجهه ينضح ألمًا ورغبة في القول أو فعل أي شيء.
مثل مخنوق وجد نافذة:
- اسمع كان صاحبك «أبو أيار» أشرفهم.. كان يسمعنا.. يساعدنه.. ما شال يده على واحد ولا صاح على واحد، بالعكس كنا نحس به بشر مثلنا.. كل مرة يكون هو الحرس يقضي ساعته بالسوالف.. تصدق كنا نحس كأنه واحد منا.. يروي لنا النكت، ونروي له، وكان اللحظة التي يبدل فيها نوبته تشعرنا بالتعاسة. أما «أبو غالب» و«أبو عناد» يابوييييييييييييييييييييييييييييييه.. لو أمسك واحد منهم بيدي.. أقطعه وصله.. وصله..
اضطرم فضولي، فقلت:
- ليش هما مثل «أبي أيار»!.
انتفض حتى أنه قفز من على درجة السلم الأسمنتي.. هبط ثانية وقسماته تبثقُ نارًا:
- لا.. لا... يفرق فرق السماء عن الأرض!.
- ....
كنت أنتظر المزيد
- لا.. «أبو أيار» عنده قلب.. «أبو غالب» و«أبو عناد» بلا قلب ولا مروءة.. فعلوا بنا ما جعلنا نستجدي رحمة.. قبلت يدي «أبي غالب».. كي يكف عن ضربي، وأنا عارٍ معلق بشيء ورأسي يتدلى أسفل جسدي!.
(تخيلتُ نفسي معتقلا في مديرية أمن الديوانية عام 1971 ومعلقًا مثله تمامًا على كرسي خاص، سموه لاحقًا «الطريقة الخاقانية» نسبه لـ « علي الخاقاني» ضابط الأمن من أهالي الشامية. تخيلتني معلقًا أجود بأنفاسي متلظيًا بالنار الشابّة من عقب قدمي، مع كل ضربة من عصى لا أراها.. عشت من جديد تجربة ألم ذلك العمر المبكر، وأنا أنصت لما كان يرويه لي ذلك العراقي، على سلالم كشور في شمال طهران).
فصَّلَ لي طرائق التعذيب الجسدي والنفسي، وقسوة «أبي غالب» المقبل نحوي باسمًا في هذه القاعة الوثيرة.
في اللحظة التي مدَّ فيها ذراعه المفتوحة الكف، سمعت ذلك العراقي البريء، الذي ضاع في إيران يصرخ بصوت ملأ سمعي:
- كافر ما عنده گلب.. كافر راواني الوييييييييييييييييييييييل!.
صافحته مجبرًا.. وكانت «جميلة» لا تعرف كل هذه التفاصيل، التي سوف أحكيها لها حال خروجي من القاعة.. كان يتكلم بطريقه أمام منظم الأمسية و«جميلة»، وكأننا أصدقاء ورفاق درب وأحباء.. وكنت أشعر بالضيق ورغبة كاسحة ألمت بكياني للسخرية منه في ذاك المشهد الخاطف.. قلت له:
- لم أقرأ لك نصًّا منشورًا في الصحافة!.
- أتحاشى النشر!.
لفظها بطريقة استفزتني بالعمق.. رمقته متخيلًا ذراعه النحيفة، وهي ترتفع بالعصا الغليظة، وتهبط على عقب قدمي المعتقل البريء.. قلت له: العمر يمضي.. جاوزت الخمسين متى يظهر شعرك على الملأ.. كنت واثقا من أنه أتعب نفسه لكثرة ما راسل الصحافة، دون أن يفلح في نشر قصيدة، عدا صحيفة حزبه طبعًا.
- بعدين راح يظهر.. بعدين!.
وهزَّ رأسه هزة متعالٍ.
علقت بخبث:
- صحيح أنت من البصرة.. تقصد يعني شعرك راح يصدم القارئ مثل شعر «محمود البريكان»!.
وقع فورا بالكمين فقال:
- بالضبط!.
انفجرتُ بضحكةٍ عاصفةٍ، جعلت «جميلة» تشخص نحوي متسائلة العينين.. غرقتُ من القلب، وكأنني لم أضحك طوال عمري مرة.. غرقتُ منتشيا من الحيرة، التي جعلت من قسمات الشاعر الجلاد الأنيق يحملق نحوي، غير عارفٍ لم أنا أسخر منه إلى ذلك الحد الصارخ.
التفتُّ نحو «جميلة»، وقلت بلهجة ساخرة:
- تعرفين يگول صاحبنا شعره بمستوى «محمود بريكان»!.
رفعتْ رأسها نحوه.. مشتْ بعينيها على طوله من تحت إلى الرأس ومنه إلى القدمين.. صعدت ونزلت.. عيناها تفيضان سخريةً. أشارت بالوسطى والسبابة، محددةً قامته النحيفة الطويلة، قائلة بلهجتها القوية الواثقة:
- أنتَ؟!.
- ..
بهت فاغرًا فاه.. ورمقني مرتبكًا.. كنت أبتسم ساخرا متشفيًا. أكملت بلهجة قاطعة:
- عمي «البريكان» شاعر فيلسوف وين أكو مثله!.
شحب رغم لونه الأسود، ولم يستطع الرد أو قول شيء حتى!.
قلت، وتعليق «جميلة» أخمد النار في قلبي:
- زين أنت ما طبعت ديوان!.
ازداد ارتباكًا، وتلعثم بالكلام:
- عندي أشعار كثيرة!.
أحكمتُ الطوق حوله:
- كتاب.. ديوان.. واحد من يريد يعرفك شاعر.. لازم عندك ديوان مطبوع على الأقل..
ـ ععننعيننن دييي!.
تلعثم وتيه الكلام.. قلت مع نفسي لأجهز عليه:
ـ طباعة الديوان ما تحتاج غير فلوس.. وهنا كلها عندها فلوس.. وبسوريا ينطبع مثل ما طبع غالبية الشعراء والكتاب هنا بالدنمارك وأوربا!.
كانت «جميلة» تنصت من كرسيها، وعدد من الحضور اقترب، وشكّلوا حلقة حول وقفتنا.. كانوا يلزمون الصمت، منصتين للحوار.. قلت مع نفسي:
- هأنا أعلقه من أطرافه على كرسيّ الفلقة!.
تلفتَ وقال بصوت باهتٍ مفضوح:
- لديّ ديوان شعر صدر لما كنت في العراق!.
يكذب طبعا، فهو أخبرني أنه لم يطبع ديوانًا. لم أشأ أن أكون فجًّا فأكذبه، لكنني باغتّه بلهجة ساخرة وبجملة خرجت مني بعفوية كادت تلتصق بقاف العراق:
- يعني لـمّا كنت زغيرون!.
مما جعل «جميلة» تضج بضحكة، زلزلت القاعة، زادها صخبًا ضربها على فخذيها براحتيها المفتوحتين، معيدةً جملتي بإخراج آخر جعل سواده يتحول إلى بياض ميت:
- خرب إبليسك «إبراهيم».. وين لگيتها لـمّا كنت زغيرون!.
أعداني ضحكها، فانخرطت فيه على وقع ترديدها:
- لما كنت زغيرون!.
لم يستطع مبارحة مكانه جواري.. كان أجبن من فعل ذلك.. ظل حتى أكملنا موج ضحكنا العاصف.. قلت كي أنهي المشهد، موجهًا كلامي إلى «جميلة»، التي كانت تنشف عينيها من الدموع:
- زين راح نسمعه بعد دقائق ونقدر!.
نطقت جملتي بسخرية.. ابتلع ريقه بعناء وابتعد نحو منضدة التقديم.
أطنب الطبيب الكردي في تقديمه بعربيةٍ لا تفرقُ بين المؤنثِ والمذكرِ فوصفهُ بالشاعر العظيم.. كان «أبو غالب البصري» مشغول البال بالموقع الذي نجلس فيه أنا و«جميلة» إلى يمينه، يعني في الجهة البعيدة عن باب الخروج.. لم يشخص صوبنا أثناء القراءة، بل ركز على من كان يجلس في طرف القاعة المقابل له. الحضور قليل.. أكثر من ثلاثين بواحد أو نيف.. وكان يطرف نحونا بين بيت وآخر.
الكلام المصفوف نفسه، الذي سمعته في غرفةٍ من حجر وطين قبل أكثر من عشرين عامًا.. المفردات نفسها وطريقة الإلقاء المفتعلة المتساوقة نفسها، مع كلاٍم لا يحسُ بهِ هو أصلًا.. لم انفعل وبدأ يرفع ذراعه عاليًا؛ ليهوى بها على الفراغ الشاخص جوار قامته.. رأيت العصا المنتقاة من غليظ الغاب، تهوي على عقب قدمي ذلك السجين البريء، الجندي العراقي الهارب، الغريب الذي لم أره أبدا، ولم أعرف اسمه بعد ذلك اللقاء.. وكل يذهب إلى ناحية في موقف حافلة بشمال طهران.
كان يرمي بذراعه اليمنى محاولا تجسيد كلماته الميتة أثناء القراءة، فتتجسد قبضته ملتفة تضم جسد الخشب الميت الصلب.. وتهبط على لحم باطن القدمين العاريتين، فيومض بريق الألم في وجه المعلق.. فيتلوى لوعة، تتردد في رنين العصا المرتفعة والهاوية، وكأنها تحاول الغور عبر الجلد إلى الأحشاء. قبضة الشاعر الجالس خلف منضدة رتبت؛ كي تواجه الحضور، تسقط على باطن قدميّ العاريتين.. تسقط.. تشعرني بالعجز والهوان.. تسقط في إيقاع، وكأن أحدهم يغتصب صبية.. تنحت جلد بشرتي.. تجعله يلتهب نارًا، والشاعر منفعلٌ، تحتقن قسماته نشوةً وكأنه يغتصب!. كدت أصرخ:
- يا بوييييييييييييييييييييييييييييييييييييييه!.
مثلما صرخ في وجهي ذاك الجندي الهارب إلى الثوار بباحة «كشور» شمال طهران، الغاطة برائحة أجساد العراقيين الضائعين الحالمين بالسفر إلى المجهول.
- يا بوييييييييييييييييييييييييييييييييييه
تتأرجح على طرف فمي.. تمالكت نفسي بعناء.. لكزت كتف «جميلة»، وأشرت لها بأنني سوف أخرج.
همست:
- أصبر لما يكمل!.
أضرم همسها رغبتي في الصراخ.. كدت أصرخ.. هممت بالصراخ.. أفلتت أنَّةٌ فكبتّها على الفور، وقربت رأسي من أذنها القريبة:
- أطلع أحسن!.
ونهضت في اللحظة التي قلب فيها صفحة من صفحاته.. خطوت في فسحة القاعة، ميممًا صوب الباب المؤدي إلى بئر السلم والمصعد، لوقع حذائي الثقيل إيقاع عطلَّ كلامه.. تلكأ بالقراءة وتوقف.. لابدَّ من المرور جواره كي أبلغ الباب.. تعمدت السير ببطء، ولما صرت جواره التفتُ نحوه محدقا باحتقان.. عبرت الباب، فتوقفت هنيهة وعببت أنفاسًا عميقة، وكأنني لم أكن بقاعة فسيحة.. بل بغرفة سجن الفوج الأول التي كانت بلا نافذةٍ.. عببت أنفاس الفراغ، قبل أن أدخل المصعد وأهبط إلى الطابق الأرضي، فالشارع الساكن المعتم.. عانقني النسيم فعببت أنفاسه.
عببتُ أحلامي وأخيلتي!.
لم أبقَ وحدي طويلا.. لحظات وشبكت أصابعي الواهية أصابع «جميلة»:
- ليش هيجي سويت؟!.
بجملتين مكثفتين.. وصفت حالي لحظة قراءته، فصرختْ:
- أنت أحلى مجنون بالدنيا؟!
وقبل أن أبوح ليلتها بمشاعري المعقدة لها، والتي أدت إلى مغادرتي القاعة والشاعر ينشد قصائده. عانقتها ورحت في نحيب مهضوم، له وقع نحيب ذلك الجندي العراقي في باحة استعلامات «كشور» بشمال طهران.
لم أخبرها بحالي.
ودعتها وبقيت وحيدًا ضائعًا في ليل كوبنهاجن، غريبًا أبحث عن مأوى!.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. وفاة الأمير والشاعر بدر بن عبد المحسن عن عمر ناهز الـ 75 عام


.. الفلسطينيين بيستعملوا المياه خمس مرات ! فيلم حقيقي -إعادة تد




.. تفتح الشباك ترجع 100 سنة لورا?? فيلم قرابين من مشروع رشيد مش


.. 22 فيلم من داخل غزة?? بالفن رشيد مشهراوي وصل الصوت??




.. فيلم كارتون لأطفال غزة معجزة صنعت تحت القصف??