الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


خواطر بعد قراءة نص طارق القيزاني -يايا شذرات من وجع الذاكرة-

بشير الحامدي

2023 / 8 / 30
الادب والفن


خواطر بعد قراءة نص طارق القيزاني "يايا شذرات من وجع الذاكرة" ذلك النص الدسم الذي أهداني إياه صديقي فتحي الرابحي فتحية لطارق وتحية لفتحي اللذان كان وراء كلماتي التالية
يعتقد عديدون وهم على حق أنّ الرواية فنّ ولد وتطور ويتطور في الغرب ويعتقد كثيرون أيضا أن الرواية فنّ أصبح من فنون المدينة كالمسرح والسنيما والرسم والتصوير ويرون أنّه ربما طلّق وإلى الأبد طفولته المرتبطة بالرومنسية وتاه في تعاريج متصلة بحكايا أبطاله الذين بدورهم نسوا طفولتهم مكانا وزمانا وغلبتهم مواقعهم الجديدة على حافة المدينة. يتصورون أنها صارت لهم بينما هم في الحقيقة رابضون على جوانبها في دائرة ما يسمح به القول وإفشاء أسرارهم الصغيرة، التي لا تمثل الشيء الكثير، مقارنة بالأسرار التي تنام وتصحو عليها المدن.
المدن ليست ثرثارة والرواية ثرثارة.
المدن صامتة وشرها عادة يغلب خيرها والرواية مهذارة وخيرها غالب على شرها.
المدن تسرق حياة الناس والرواية تهب الحياة حتى من العدم لمستحقي الحياة.
المدن مدنا عاجية إسمنتية لا حياة فيها والرواية مدينة متخيلة تتدفق داخلها الحياة بكل صنوفها وحتى اسمنتيتها وعاجيتها التي كثيرا ما نعثر عليها فيها فهي مصطنعة مقصودة تطلبها فنون الحكي لا أكثر.
المدن أرصفة باردة حيث شظف العيش والمسغبة في جهة منها والناس فيها هامات نسيت نفسها وسط زحامها القاتل ووقتها المهدور على الرؤوس الفارغة المتعبة الساقطة قبل التهديد بالويل وقطع العنق والرواية مساحة جذلى بالحب والترف واللياقة والتمسك بالحياة شخوصها عابرون ولكنهم يستقرون فينا ويؤثرون فينا فنصنع منهم أشباهنا ولو مؤقتا.
لذلك يبدو لي أن الرواية ظلت عاجزة عن فك طلاسم المدينة وبقيت في حدود ومحاولات تتبع سير الأفراد وقليلا ما نحتت في اتجاه سير الجماعات كجماعات وبرغم هذا العجز والذي أعتقد أنه عجز بنيوي يحولها إلى فن آخر حالما تحاول تجاوزه فتأنف عن ذلك وترضى وتواصل تلكؤها راضية بالنميمة الكبيرة التي تزعجها أكثر مما تسعد بها وهي أنها سيدة كل الفنون.
وما كتبه السيد طارق القيزاني يتنزل في هذا الباب فليس نقيصة اليوم أن نتحول من نعت ما نكتب بالرواية إلى نعته بالنص. فكلمة النص كلمة مفتوحة مرحة أيضا وقابلة لأن تتلون بكل لون إنها مفردة معبرة عما نكتب أكثر بكثر من كلمة الرواية خصوصا لما تصير لفظة رواية على مشغل النقاد الأكاديميين.
في الحقيقة إن الرواية شاخت وتفرعت أجناسا أخرى منها النص السينمائي والنص المسرحي والقصة القصيرة والسيرة وحتى الخاطرة وهي جميعا نصوص.
الرواية بالمفهوم الكلاسيكي بقيت تعيش لأنها أنكرت نسلها تقوقعت على نفسها. لقد عاشت زمنها بالطول والعرض وهرمت لكنها لم تمت. شاخت وأنجبت من صلبها أبناء خيرون وأشرار فيهم من أنكر نسبه وفيهم من بقي محافظا على النسب ولبس من الحلل ما شاء.
السينما اليوم رواية ولكن بوسائل أخرى.
المسرح لولا الكلمة والجملة والنص ما كان مسرحا.
السينما نحت منحى تصوير المكتوب بينما بقي المكتوب عاجزا على أن يجاري التيار ويصور.
النصوص الناجحة اليوم ليس بمنظار عدد قرائها بل بمنظار الصورة والشاعرية وحضور الحركة والفعل فيها هي التي صارت على الركح.
أنت كاتب قبل كل شيء أنت تكتب نصا. الروائي يتصور نفسه أكبر من مجرد كاتب وتلك هي خطيئته. خطيئته أنه يكتب نصا يقول عنه أنه رواية.
المكتوب لا يروى إنه يقرأ لذلك يتصور الروائي أنه يشتغل خارج منطقة الحرف المكتوب هو يتصور أنه يروي بينما هو يكتب وعندما نكتب فنحن لا نروي بل نكتب أحداثا تاريخا نصور بالحرف أشخاصا نلج لعوالمهم ونتخيلها نلج لنفسياتهم ونتتبعها نلج لمكتومهم ونبيحه إننا في الحقيقة لا نروي بقدر ما أننا نكشف نسجل نتفاعل نسطو على شخصياتنا ونطوعها لما نريد.
من صادف من الكتاب شخصية من شخصياته هكذا تمشي في الشارع؟
من صنع أو شارك في حدث هو الذي رواه من ألفه إلى يائه؟
الكتاب لا يكتبون اللحظة لا يكتبون الحدث في لحظته فالحدث في لحظته لا يمكن الإمساك به إنهم في الحقيقة يصورن الحدث يتخيلونه ثم هم يفتعلون الفعل ويوهمون.
الكاتب اليوم يلعب لعبة الساحر قديما.
الكاتب اليوم لا يلعب لعبة العسكري أو لعبة السلطان.
العسكري أو السلطان لو يلعبان لعبة الايهام يموتان.
الكاتب وحده يمكن أن يتوهم وينجو من الموت.
العسكري أو السلطان لا يعيشان بالوهم فلو عاشا بالوهم لماتا.
الكاتب وحده من يعيش بأوهامه ولا يموت.
كتابة النص لعبة مطرقة الوهم التي تطرق وتطرق وتتصور أنها تفعل بينما هي لا تحدث غير الصوت والرنين اللذان ينحلان ويندثران في أتون الزمن.
الزمن لا يعنيه لا العسكري ولا السلطان ولا الكاتب إنه يهزأ منهم جميعا يورطهم في أحبولته هو لا يرحمهم هو ليس ودودا معهم لا يجاريهم وربما لا يحسب لهم حسابا أصلا بينما هم يستمرون في لعبة استحضار الأزمان وكأن لهم سلطان عليها متصورين بذلك أنهم فكوا بعض تعقيدات الحياة تعقيدات اليومي ربما بينما هم لا يمكن لهم ولوج الحاضر الذي يغريهم دائما بالكتابة عنه بينما يشرع هو دائما في التحول إلى ماض تاركا إياهم يتوهمون أنهم يكتبون الحاضر بينما هم لا يكتبون سوى الماضي.
الكاتب مرات يترك كل شيء ويكتب أحاسيسه ذكرياته أشجانه علاقاته بمن يحب وربما بمن يكره في محاولة لاستعادة الماضي ولكن هيهات فهو لن يستطيع استعادة حتى تلك الأحاسيس والذكريات فهي قد ذهبت وهو قد فعلت به الأيام فعلها وتغير ولم تعد أحاسيسه وأشجانه هي نفسها.
هذا دليل على أننا لا نبحر سوى في الماضي... الإبحار في الحاضر أو المستقبل لعبة أخرى لا تطلب منا فعل الكتابة بقدر ما تطلب منا فعل التأثير أو فعل الفعل إن جاز التعبير...
طارق القيزاني نصه يكتظ بكل هذا. نص بريء مؤلم شجي لا يرأف بنا بقدر ما يمزقنا تمزيقا خفيفا لا برء منه. من منا ليس له يايا؟؟؟ من منا ولد في العراء ولم تلده أم؟؟؟ من منا لم يتعلم المشي على الصفيح والكلام والصراخ حتى والخير والشر عن أم؟؟؟ يا لأمهاتنا كم يشبهن الآلهة لا بل هم آلهة حقا.
شحنة الألم والشجن التي جرعنا إياها طارق القيزاني في نصه الذي قرأته بكل شغف أعادني إلى مباركة الحفيانة أعادني لأغاني لم يسمع بها غيري لأصوات لم تدق مسامع أحد أعادني "للحجير" و"الكسرة المخمرة" و"السداية" وللموت اللعين ولصالحة بنت الجيران تتلصص وأتلصص عليها علني أضفر منها حتى بإشارة أو بسمة...
نص طارق القيزاني نص موجع لمن يقرأ لمن يغوص في الأعماق لمن يرى دائما أبعد لمن توغل أكثر. والحقيقة لم يفاجئني السيد طارق حينما أنهى نصه بـ " ... أمست ذاكرتي متعبة وأبحرت في تيه ليس له قرار... السلام على نبضات قلبك ... السلام عليك يوم ارتقيت السلام على يايا "أم النهايات".

29 أوت 2023








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. دياب في ندوة اليوم السابع :دوري في فيلم السرب من أكثر الشخص


.. مليون و600 ألف جنيه يحققها فيلم السرب فى اول يوم عرض




.. أفقد السقا السمع 3 أيام.. أخطر مشهد فى فيلم السرب


.. في ذكرى رحيله.. أهم أعمال الفنان الراحل وائل نور رحمة الله ع




.. كل الزوايا - الفنان يحيى الفخراني يقترح تدريس القانون كمادة