الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


المعضلة المعرفية أكبر من شارع المتنبي

كرم نعمة
كاتب عراقي مقيم في لندن

(Karam Nama)

2023 / 8 / 30
الادب والفن


عندما يوجد ثلاثة أفراد في أسرتك من الأحفاد لا يعرفون الطريق إلى المكتبة الوطنية في بغداد، ماذا يعني هذا؟
يعني أنه عينة بحثية مخيفة لأن ثلاثة أفراد قد يتحولون إلى ثلاثة ملايين من أهالي بغداد، لو عملنا استبيانا عادلا، وهنا يكمن موضع الفجيعة.
إنها ليست هرطقة، وإنما إشارة تحظى بالتقدير، عندما نتحدث عن طريق المستقبل، فلا يكفي الاستعراض التلفزيوني الدائم والمكرر لشارع المتنبي في بغداد لنقول إن الوعي المعرفي للجيل العراقي الجديد بخير.
يكفي عجزهم عن كتابة جملة عربية مقبولة في حساباتهم على مواقع التواصل الاجتماعي، لندرك معضلة التعليم الوجودية وما ينتظر المستقبل العراقي.
اطلعتُ على مجموعة مراسلات لطالبة في السنة الجامعية الثالثة من “أستاذها” في قسم الحاسبات بشأن نصائحه في كتابة البحث المطلوب، فشعرت بصدمة لم يحدث أن تخيلتها في أسوأ افتراض خاطئ عن انهيار التعليم الجامعي في العراق.
كان الأستاذ وهو حاصل على شهادة الدكتوراة بعد عام 2003 يعبّر عن ضحالة لافتة بشكل مريع، ويكتب لطالبته بلهجة دارجة ومفردات شائنة بلا جذور، وجمل تفتقد إلى الأفكار، والنتيجة بطبيعة الحال أن الطالبة ستتعلم من هذه اللغة الضحلة لتكون بالنسبة إليها مثالا لأنها صادرة عن أستاذ حاصل على شهادة الدكتوراة!
إنه لأمر مخيف بمقدار الفوضى والقلق الذي يمكن أن يتراكم بشأن المستقبل لمجرد أن يعجز الأستاذ في أهم جامعات بغداد عن صناعة فكرة سليمة ومقبولة في إيصالها إلى طالبته.
هذا ليس المثال الأكثر فظاعة، لأنني أتوقع أن قراء هذا المقال لديهم ما هو أفظع منه، وقد تكون دراسة البنك الدولي بشأن التلاميذ العراقيين الذين يذهبون إلى المدارس لكنهم لا يتعلمون، وأن تسعين بالمائة من الطلاب العراقيين لا يفهمون ما يقرأون! مفيدة للعودة إليها، لأن هذه الدراسة مرت عابرة على المراكز التعليمية العراقية، وعوملت من قبل السياسيين بأنها أشبه ببيان حزبي يسوّق اليأس ويهدف إلى إحباطهم.
لكن التعليم وصناعة الوعي يدخلان مرحلة جديدة من الضحالة مثل معظم ما يحصل في العراق، بينما ما صدر عن حكومات المنطقة الخضراء مجرد إعلانات هي في الواقع عكس الواقع. آخرها ما ذكره محمد شياع السوداني في اجتماع مجلس الوزراء عندما طالب بعدم الاهتمام والالتفات لمثل هذه الدراسات والتقارير لأنها محبطة وغير مهمة!
بينما النتائج التي توصلت إليها دراسة البنك الدولي، حقيقية بدرجة مفزعة، تجعل من لغويين وعلماء ومفكري العراق يتقلبون في قبورهم متسائلين “إذن لماذا تركنا أعمارنا في متون الكتب للأجيال اللاحقة، هل لتصبح البلاد فاسدة من جميع النواحي”؟
مع ذلك، العراقيون قرروا عدم قبول هذا المستوى من الخداع الحكومي؟ وهناك من يقف بشجاعة ضد الترويج المخزي الصادر من دوائر المنطقة الخضراء وهي تحوّل الغبار إلى مسحوق ذهب وتتحدث عن إنجازات ورقية في دعاية تجارية صار من السهولة فيها، معرفة الحدود الحقيقية التي تفصلها عن الواقع.
في مقابل ذلك هناك ما يبعث على الأمل، عندما دوّن مازن رياض، تاريخه الإبداعي قبل أن يلتفت إليه التاريخ نفسه، وأين؟ في مدينة تعيش تحت الركام!
لنتخيل الأمر معا، ولد مازن بينما البلاد بأسرها تنهار تحت وقع الاحتلال، وسعادة أمه بولادته لا تجد لها صدى وسط الجلجلة، فيما العراق يعيش حيرة وجودية.
كان ذلك في 2003 عام احتلال العراق وسنة ولادة مازن رياض في مدينة الموصل. وبعد ثمانية عشر عاما وبينما كان مازن يدرس في ثانوية المتميزين في الموصل صدرت روايته الأولى “أسود وأبيض”.
لم يختر مازن لونا فاقعا، لكنه أعاد ولادته من جديد ومنح العراقيين أملا بأنه من جيل يرفض السقوط، مثلما يرفض انهيار الوعي والذائقة وتحويل أبناء جيله إلى مجرد قطيع ينقاد لتخلف الخرافة التاريخية، وهو يعيش في أجواء مسمومة سياسيا واجتماعيا منذ عشرين عاما.
فمازن، مثل كل أهل العراق، كان ضحية للزيف والخرافة واللغو، لكنه تعالى بعمره الغض وتأمل مفهومي الخير والشر ليس كفعلين مطلقين، وجعل اللغة بنك أحلامه وليس المراثي الطائفية.
إنه أمر أكثر من رائع، أعزوه لأسرته الكريمة في الموصل مدينة الكرام، عندما نجحت في إنقاذ ابنها من التيه في لجة القطيع.
وهناك أيضا ما يدعو للفخر بالروائية شهد الراوي الفتاة التي صنعت حلمها وعبرت بامتياز عن مدونة عراقية مخلصة لعراقيتها.
ومع أن شهد أصدرت روايتها الثانية مؤخرا بعد الاحتفاء الباهر بروايتها الأولى “ساعة بغداد” إلا أنها أوصلت الرسالة الأهم إلى العالم برمته إنها من جيل يرفض السقوط.
لا ينتهي الاحتفاء بالنص الروائي لشهد الراوي في الأوساط العربية، هناك ترجمة لافتة وتغطية متحمسة لكل ما تكتبه وتقوله في وسائل الإعلام الغربية، فقد اختار موقع محور الأدب العالمي روايتها “ساعة بغداد” ضمن أهم خمسة أعمال شرق أوسطية، لروائيين حصل اثنان منهما على جائزة نوبل، وروائية أخرى حصلت على جائزة البوليتزر. ورواية تنافست على جائزة بوكر العالمية.
ذلك ما يدعو للفخر العراقي بشهد الراوي ومازن رياض، فعندما نصحنا ديفيد آلين، مؤلف كتاب “إنجاز المهام”، بأن نستمر في النظر إلى الأمام أكثر وأكثر، فإن ذلك لا يحول دون النظر لما يحيط بنا، لأن ما يحيط بالعراقيين اليوم مستوى شائن من الابتذال السياسي والمعرفي، لكن الأمل يقترب أيضا.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. وفاة زوجة الفنان أحمد عدوية


.. طارق الشناوي يحسم جدل عن أم كلثوم.. بشهادة عمه مأمون الشناوي




.. إزاي عبد الوهاب قدر يقنع أم كلثوم تغني بالطريقة اللي بتظهر ب


.. طارق الشناوي بيحكي أول أغنية تقولها أم كلثوم كلمات مش غنا ?




.. قصة غريبة عن أغنية أنساك لأم كلثوم.. لحنها محمد فوزي ولا بلي