الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


العدالة في مقياس الخالق ومقاييس المخلوق

محمد رياض اسماعيل
باحث

(Mohammed Reyadh Ismail Sabir)

2023 / 9 / 1
دراسات وابحاث قانونية


يبحث الانسان منذ تواجده على كوكب الأرض عن الامن والأمان، وكافح بشتى الوسائل للقضاء على الحيوانات المفترسة التي تهدد حياته، وامن على نفسه ضد الكوارث الطبيعية كالسيول والاعاصير والبرد والحر باختيارات تخفف من حدة تلك الكوارث الى حد كبير، وحين اقتدر من تأمين النجاة واوجد الحلول الناجعة لكل تلك التهديدات في كل مرحلة زمنية من رحلته على هذا الكوكب، بدأ الانسان بالبحث عن الوسائل التي تمنع الصراع والاقتتال بين البشر، أي قتل الانسان لبني فصيلته وتوفير بيئة مستقرة تسودها العدالة والسعي لإحقاق الحق، وتمهد لوضع أسس الواجبات والحقوق في حدود التجمعات السكانية التي كانت تقطنها البشر على الأرض.. فجاءت التشريعات والقوانين الكفيلة بتوفير غطاء الأمان لتلك التجمعات وفي الوقت نفسه تؤمن تركيز القوة والسلطة بيد بيروقراطية الحاكم الامر بالتشريع والذي يقرر الثوابت الاجتماعية التي تفترض ان تقوم عليها التجمعات وتُضَمَن في نصوص تلك التشريعات والقوانين القائم على مبدأ العقاب والثواب. هذه القوانين مع مرور الزمن جعل الناس جميعهم كذابين. فالكذب يأتي غالبا نتيجة الخوف من العقاب، وبهذا تعمل متوافقا (في الظاهر) مع خوارزمية التصميم الأساسي للبشر التي تستخدم الخوف أداة ووسيلة للحفاظ على النفس بهدف البقاء كأولوية مطلقة. ثم أصبحت القوانين تتغير وتُحدَث في كل مرحلة من مراحل التاريخ البشري وتطوره عبر العصور بحسب متطلبات ذلك العصر. وجاءت الأديان وربطت المعصية بالعقاب لتوسع حدود الكذب الى السماء خلال طقوس التدين الزائف في كل ديانة وبذر فتنة التقسيم بين البشر وزيادة الطين بلة كما يقال في الكناية البغدادية.. ورغم كل القوانين والاديان التي جاءت في العصور تباعا الا ان القتل البشري لا يزال مستمرا ويزيد ضراوة ووحشية في كل عصر، ولازالت فقدان العدالة الاجتماعية مثار جدل وصراع في المجتمعات البشرية عموما، ولا تزال سيادة منطق القوة بكل اشكالها الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والفلسفية والعسكرية وغيرها التي تتطور اشكالها في كل عصر، هي الحاكم والآمر بالتشريعات الفعلية، وتقرر ما يجوز او ما لا يجوز فعله وتبعات معصيتها.
نحن نبحث عن العدالة ونظن بانها تتحقق بإصدار القوانين (الراقية) لتكون مصدرا للالتزام، ومن ثم تعميم تلك القوانين لتشمل كل المجتمعات البشرية على الأرض، وهذه الأخيرة عملية شاقة وغير منتجة، لان المجتمعات تتباين في التزامها بالقوانين بحسب درجة وعيها وتحضرها الثقافي. فما يصلح في فرنسا لا يصلح في السعودية او الدومنيكان على سبيل المثال وليس الحصر. ويستمر الانسان باحثا عن قانون تتجسد فيه العدالة بأبهى صورة ويضمن إيقاف نزيف الصراعات والاقتتال البشري!
فلينظر الانسان الى نفسه، كيف خُلق بهذا الكمال، ويستنبط منه خوارزمية عدالة الخالق البارعة، ثم يقارن بين عدالة الخالق وعدالة الانسان. فعدالة البشر التي وصل اليها الانسان بعد تجارب 3,5 مليون عام من تواجده على هذا الكوكب، تصاغ كقوانين لتنظيم العلاقات الاجتماعية والاممية والسياسية والاقتصادية وتمتد الى كافة نواحي الحياة الأخرى وفق ما يراه الانسان من وقائع ووثائق وادلة مادية بعينه المجردة.. وهذه العدالة لا توفر أرضية صالحة لإحقاق الحق لمجموع البشر، فكم من اناس ظلمتهم القوانين! لان العدالة نسبية تتبع متغيرات الواقع ومخزون الذاكرة التي تتباين بين البشر، فهي عدالة من وجهة نظر جماعة بشرية تختلف بالضرورة عن وجهات جماعات اخرى وتعميمها بالقوة المفرطة تعني سيادة الأقوى وتقرير مصير العدالة خلال مراكز القدرة والقرار، فنرى ديدن القتل والدمار وسفك دماء الأبرياء والاستغلال لازالت سائدة بوحشية في هذا العصر..
ولكن انظر، في الجهة المقابلة، الى العدالة الالهية التي صممك وبرمجك عليها حسب خوارزمية دقيقة تعطي المعنى المجسد للعدالة، فهي لا تعتمد على الوثائق والوقائع والأدلة البصرية وحدها، بل تستمزج معها الشعور المستمد من إحساس القلب من شفقة ورحمة ومحبة ووئام، انه باختصار قرار الوجدان أي يجعل حاكمية العدالة في الشعور الرفيع باللمسات الإنسانية أساسا، والوقائع البصرية ثانويا. الوجدان هو قانون العدالة البشرية ونحن مبرمجين عليها ولا يختلف فيه اثنان على وجه البسيطة. فالطفل في السنة الأولى لوجوده يرفض ويقاوم وينتفض بالبكاء لمشاهد العنف والشدة او الصوت العالي والمرتفعات الهالكة، لا تختلف الأطفال في ردود افعالها اطلاقا. ثم يمزج معه التجارب والمعتقدات والخبرة المستمدة من ذاكرة حياته كلما نضج وتقدم في العمر، والتي بدورها تُستمد من الواقع الاجتماعي الذي ينشأ فيه، وهذه الأخيرة أي محتوى الذاكرة، هي التي تختلف بين البشر. ان هذا المزيج من الشعور والوقائع سيكون حاكما لجميع قراراته. السؤال هنا هل يمكن إرضاء الناس جميعا في ظل قانون المزج هذا بما لا يخلق الانقسام ومن ثم الصراع فالاقتتال؟ لو جردنا من القرار البعد الاجتماعي المستمد من ذاكرة الانسان أي لو ابقينا على الشعور المستمد من القلب وحده تأتي ردود الأفعال عند البشر قاطبة ومطلقا بالإيجاب القابل للتزييف والذي تهضم فيها العدالة. اما إذا اعتمدنا الذاكرة البشرية وحدها ظهر الخلاف والاقتتال حتما، لان ثوابت محتوى الذاكرة تتباين بين المجتمعات البشرية. اما إذا مزجنا الاثنين، أي المشاعر القلبية الإنسانية مع المسائل الموضوعية في محتوى الذاكرة، فتتباين ردود الأفعال وتأتي معايير الموضوعية لتتسلط على عدالة القرارات، ولان الموضوعية امر واسع لا يمكن حصرها وقياسها، وتتباين حولها وجهات النظر بين البشر، فيظهر الانقسام والعنف ويستدام شرائع الغاب. ولكن الوجدان يمزج ما يراه العين وما يكتنزه القلب من الرحمة والشفقة، فانظر الى عظمة وذكاء الخالق.. لا يمكن استدامة العلاقات بلا وجدان فهي صفة الانسان المخلوق. الشرائع التي تغفل الوجدان تكون جائرة وغير منتجة. فالوجدان فيه معايير كمية محددة للقياس وليست الموضوعية منها فحسب، بل تحلل كل قضية وفق اوزان محورية فيها الشعور واللمسات الإنسانية تحمل الوزن الأكبر، وتحلل في الوقت عينه كل محور الى عناصر تعريفية ولكل عنصر قوى فاعلية، في مجموعها يتقرر القرار العادل المطلق.
في مقال اخر نتطرق الى معايير الوجدان حسب التصميم الافتراضي للخلق بحسب وجهة نظر الكاتب..








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. ميقاتي ينفي مزاعم تقديم أوروبا رشوة إلى لبنان لإبقاء اللاجئي


.. طلاب يتظاهرون أمام منزل نعمت شفيق




.. عرس جماعي بين خيام النازحين في خان يونس


.. العربية ويكند | الشباب وتحدي -وظيفة مابعد التخرج-.. وسبل حما




.. الإعلام العبري يتناول مفاوضات تبادل الأسرى وقرار تركيا بقطع