الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


في ذكرى النكبة الليبية - الحلقة الثالثة

محمد حسن البشاري
(Mohamed Beshari)

2023 / 9 / 1
مواضيع وابحاث سياسية


الحلقة الثالثة

كان الوالد قد كلفني بعدة أعمال أقوم بها من بينها شراء المجلات والجرائد ، وإرسال برقيات التعزية التي كنت أقوم بها بكل همة وإفتخار فكان يناديني ويقول لي : "دز برقية تعزية لعيت فلان في جالو" ويعطيني قروش ثمن البرقية فأذهب إلى البريد وآخذ نموذج إرسال البرقية من الموظف المختص وأقوم بتعبئته كالتالي: من/حسن محفوظ ، إلى/فلان ، عظم الله أجركم. وأرجع الى الموظف الذي أقوم بسداد قيمة البرقية إليه و كانت في آخر مرة في حدود 75 قرش أتذكرها لأنني كنت أتابع التسعيرة كلما مررت من أمام البريد فعندما أعطاني الوالد المبلغ كالسابق قلت له لقد زادت وأصبحت 75 قرش فأستغرب لذلك الإرتفاع المفاجئ فيها ، وأستلم القسيمة التي تفيد بإستلام البرقية والقيمة لأراجع بها الرد الذي أقوم بتسليمه للوالد دون معرفة ما فيه.
وفي عام 1971 أنتقلنا من سوق الجريد للسكن في شارع عصمان الجهاني المتفرع من شارع بن عمران الذي أستغليت سطاحه في القاء خطابات عبد الناصر التي كنت أتحصل عليها مجانا في المركز الثقافي المصري فخرج جارنا الشاعر الغنائي المعروف وضابط الشرطة السيد/ محمد مخلوف غاضبا وأسكتني ولم نمكث في هذا البيت طويلا حيث أنتقلنا الى شارع حموش المتفرع منه وهذا الإنتقال له قصة طريفة أود مشاركتها مع القرأ لمعرفة أخلاقيات ذلك الزمن ، فقد كان الوالد سعيدا جدا بالسكن داخل السوق جنب المحل فقد كانت سقيفة البيت التي بها المربوعة عبارة عن مخزن لبضاعة المحل من أقمشة وملبوسات وكانت سفرة الشاهي ماشية جاية عليه كلما حضر زبون مهم أو صديق أو قريب إلى محله الذي كان منتدى تدار فيه الكثير من النقاشات السياسية والاجتماعية والدينية والإجتماعات الهامة الخاصة بالقبيلة أو بغيرها إلى ساعات متأخرة من الليل بعد إقفال كل المحلات المجاورة لنا إلا أن الوالدة كانت متذمرة من السكن لانه غير مبلط وإنما ما نطلق عليه (ستاك) أي أسمنت ومما زاد الامر سوء أن عملية وضعه من الاساس لم تكن جيدة فقد كان هناك الكثير من الحفر فيه وكانت تقول له ببساطة: "أنا نبي حوش نعرف كيف أنسيقه" وبعد لأي رضخ للأمر ووجد صديقه الحاج/ لامين شلوف الذي لديه محل جملة في بداية شارع بوغولة وكان الوالد أحد زبائنه يعرض بيته للإيجار في شارع عصمان الجهاني فأجره منه وبعد حوالي العام مر الحاج / عمر قرقوم الذي لديه محل في سوق الظلام فقال له: "سمعت أنك أتدور في حوش" فرد عليه الوالد بأنه كان يبحث ولكنه أستأجر وسكن فيه فرد عليه:"لأ ما زلت ماحصلت" ورمى له مفتاح بيته في شارع حموش فحاول الوالد رد المفتاح إلا أن الحاج عمر أصر عليه بأن يقوم بزيارة البيت وأنه يريده هو ليسكن فيه وليس غيره وتركه وذهب في حال سبيله فزار الوالد البيت بعد تردد فوجده كبيرا جدا فهو فعليا عبارة عن ثلاثة بيوت لها باب واحد فأعجب به ولما مر عليه مرة أخرى سأله اذا ما كان قد زار البيت ، فأجابه بأنه قد زاره ولكن قد لا يستطيع أن يدفع إيجاره فرد عليه بأنه نفس إيجار البيت الموجود فيه الآن مؤكدا له : "أنا ما نبيش الإيجار أنا نبيك أنت تسكن فيه" وهكذا أنتقلنا إليه. لاحظ أن الوالد من جالو وشلوف وقرقوم من مصراتة.
وفي أغسطس 1972 تابعنا حادث السيارة المأساوي الذي توفي على إثره أمحمد المقريف الذي كانت لديه شعبية واسعة وسط الناس وأدركت شخصيا وعلى الرغم من صغر سني آنذاك بأنه حادث مدبر بعد سماعي للكثير من التحاليل والمقابلات بما فيها تصريح جلود الهزيل في الراديو فتكونت لدي قناعة بأن مقتل كل مسئول ليبي في حادث سيارة أو غيره فحتما يكون مدبرا من القذافي شخصيا ما لم يثبت عكس ذلك.
وسارت الأمور على ما يرام الى يوم 21/02/1973 حيث أسقطت إسرائيل الطائرة الليبية التي أقلعت من طرابلس متجهة الى القاهرة عن طريق بنغازي فوق سيناء فشاركت في مراسم الدفن و كانت المرة الأولى تقريبا التي أدخل فيها الى مقبرة سيدي عبيد وفور الانتهاء منها خرجنا في مسيرة غاضبة نهتف ضد مصر والسادات تحديدا متهمين إياه بالتواطؤ في إسقاطها وتوجهنا الى ضريح عمر المختار ومنه الى شارع عمرو بن العاص حيث كانت هناك أعمال جارية أمام أول محل في الشارع على اليسار وهو المحل الذي أصبح بالة والزياني للبن وكان هناك ثلاث عمال مصريين يعملون في حفر مسار الصرف الصحي لاصلاحه وكانوا في وسط الحفرة فأخذ أحد المتظاهرين بالة كانت على جانبها وأنهال بها على أثنين منهم ففقد الوعى أحدهما وهرب الآخران فتوقفت مستهجنا هذا التصرف ورجعت الى البيت وكلي ألم وتأنيب للضمير على عدم تقديم العون للشخص الذي فقد وعيه وبدأت حملة شعبية شعوأ على المصريين وخاصة الشكابلية منهم (العزاب الذين يقيمون مع بعض) فتمت مهاجمتهم في بيوتهم وضربهم ضربا مبرحا وطردهم منها ولم يهدأ الشباب الا بعد أن خرج القذافي وخطب قائلا:"أنه يجب على قوات حفظ الامن أن تقوم بتسفير المتظاهرين الى الجبهة مع إسرائيل ليأخذوا ثأرهم منها"
وبعد هذه الواقعة بشهرين وتحديدا يوم 15/04/1973 حدثت الواقعة الكبرى التي غيرت وجه ليبيا الى الابد وهو خطاب زوارة الكارثي الذي أعلن فيه القذافي النقاط الخمس وهي:
• تعطيل كافة القوانين المعمول بها الان
• تطهير البلاد من المرضى
• الحرية كل الحرية للشعب ولا حرية لأعداء الشعب
• إعلان الثورة الإدارية
• إعلان الثورة الثقافية
وأذكر بأنني كنت في سنة سادسة إبتدائي في مدرسة فتح الاسلامية في شارع المهدوي وعقب هذا الخطاب كنا نجلس في مقهى بالقرب من المدرسة في الشارع المتفرع من سوق الظلام وهي عادة نقوم بممارستها طوال العام الدراسي لتناول السحلب في الصباح وقبل الدخول الى المدرسة وكنا ننكت على هذا الخطاب بالاتفاق على تصعيد سي رمضان عصمان الفراش بدلا من الاستاذ أنور شنيب وكنا نضحك بصوت عالي والى درجة أن تدمع فيها أعيننا.
ولا أستطيع الا أن أستطرد في الحديث عن هؤلأ الرجال الافاضل فالأستاذ/ أنور شنيب كان طاعنا في السن في ذلك الوقت أنيقا جدا في مظهره ولم أراه يوما بدون البدلة الكاملة وربطة العنق ويجلس دائما في مكتبه المواجه لساحة المدرسة يراقبها من خلال جدار من الزجاج وهو شقيق المرحومة فتحية شنيب التي سميت بها المدرسة التي كانت تدرس بها في منطقة سيدي حسين ، وأذكر هنا طرفة ليدرك بها القارئ كيف كانت عقليته وثقافته ففي أحد الايام نسيت كراسة الواجب لمادة الانشاء في اللغة العربية التي كنت أجيدها فطلب مني أستاذي الفلسطيني أن أستدعي ولي أمري ورغم استغرابي لهذا الطلب الا أنني قمت بإبلاغ الوالد وأفدته بالسبب وكان أول إستدعاء للوالد للمدرسة فلبس الكاط العربي الكامل والجرد وحضر الى المدرسة وأستقبله الاستاذ/ أنور وطلب من سي رمضان أن يستدعيني فخرجت ووجدت الاستاذ/أنور منزويا بين مكتبه والفصل بحيث لا يراه الوالد الجالس في مكتبه وقال لي هامسا :"من اللي قالك كلم الوالد" فذكرت له أسم الاستاذ فأستدعاه وهو الذي كان يعطي الدرس في فصلي في ذلك الوقت تماما وسأله بصوت خفيض عن السبب فذكر له بأنني لم أقم بانجاز الواجب بدعوى أنني نسيت الكراس ، فقال له :"توا هذا سبب تستدعي فيه ولي الامر ، أسمع من يوم وغادي أنا ولي أمر هذا الطالب وتوا تفضل خش وأعتذر من الحاج اللي تعبته على كلام فاضي" ودخل وأعتذر من الوالد الا أن الوالد رد عليه قائلا:"أنا مانيش زعلان من الاستدعاء ، أهو تعرفت عليكم ، ونقوللكم هذا ولدكم واللي تديروه فيه ديروه" وغادر ، أما عن آل عصمان الكرام فسي رمضان كان ابن عم سي السنوسي عصمان الذي كان فراشا لمدرسة سيدي سالم والتي درسنا فيها السنوات من أولى الى ثالثة ابتدائي ثم تم اغلاقها لتفتح من جديد كمقهى قبل أن تهدم مع سوق الظلام في عام 1985 وكانا يشبهان بعضهما في الاخلاق وفي حرصهما علينا وعلى المدرسة وكنا نخشاهما كثيرا ولكن بحب جارف لهما ويختلفان تمام الاختلاف في المظهر فالسنوسي كان بدينا جدا وكان يربي كلابا فوق سطح السوق ويبدو أنه كان مكلفا بمراقبته وكانت كلابا شرسة الى درجة أنها أفزعت المرحوم/ عادل أدبيبة صديقي وزميلي في راسكو الذي كان نشيطا ودائم الحركة فأراد أن يتلصص على السوق من فوق السطاح في فترة الاستراحة فنبحت عليه الكلاب وهرب منها فسقط من السطاح وأنكسرت يده وظلت بالجبيرة مربوطة الى عنقه فترة طويلة من الوقت وأعتقد أنها حدثت قبل النكبة مباشرة أما سي رمضان فكان نحيفا جدا.
والغريب في هذه المدارس مع جيلنا مواليد 1960/1961 أن يتم إقفالها كلما درسنا فيها: فمدرسة سيدي سالم درسنا فيها الى السنة ثالثة ابتدائي ثم أقفلت وتم نقلنا الى مدرسة سيدي بن عيسى لندرس بها سنة رابعة أبتدائي ثم تقفل لننقل الى مدرسة سيدي الشريف لندرس بها سنة خامسة ثم أقفلت لننقل الى مدرسة فتح الاسلامية لندرس بها سادسة أبتدائي ثم تقفل لننقل الى مدرسة التحرير (الامير سابقا) لندرس بها الاعدادية وهي الوحيدة التي أستمرت.
وفي يوم 06/10/1973 تابعنا أخبار الانتصارات العربية على اسرائيل ، وأتذكر جيدا أنني في صباح اليوم التالي شاهدت تجمعا لكبار السن أمام محل بقال قلما يفتح في شارع الجهاني مقابلا لشارع ميلاد بالة يستمعون بشغف الى اذاعة مصرية ، وكان الوالد طوال ايام الحرب يبعثني بمبلغ من المال قائلا لي:"أحضر كل ما تجده من جرائد ومجلات مصرية" فأذهب الى كشك الحداد أمام البريد المزدحم جدا بالزبائن الذين يختطفون الجرائد والمجلات من يده ومن أمامه وهم في غاية السرور ولنصدم بعد نهاية الحرب بموقف القذافي الذي بداء في شتم السادات وبقوله : "أنها مؤامرة وبأنها حرب تحريك وليست تحرير" والغريب أن يستمر عبدالسلام جلود (الذي كنا نسميه حكم التنس في ذلك الوقت) الى هذا التاريخ الذي نحن فيه بالقول في مذكراته بأنها كانت هزيمة أكبر من هزيمة 1967؟
لقد كنا نتجول في شوارع بنغازي في كل مساء وخاصة شارع عمر المختار بعد عصر الخميس حيث يقوم مالكوا السيارات الفارهة بالبوردو وهي جولة تبدأ من سينما بنغازي في نهاية الشارع إلى ميدان البلدية الذي يدورون حوله وهو ما نطلق عليه هذه الصفة (البوردو) كنا حريصين في هذه الجولات أن نلبس أحسن ما عندنا والتي تكون عادة على آخر موضة في أوروبا مع أحدث قصة شعر وتبواي الحذاء حتى يلمع وكنا نتباهى خاصة أمام الفتيات اللاتي يخرجن في هذا التوقيت.
يتبع








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الاتحاد الأوروبي.. مليار يورو لدعم لبنان | #غرفة_الأخبار


.. هل تقف أوروبا أمام حقبة جديدة في العلاقات مع الصين؟




.. يديعوت أحرونوت: إسرائيل ناشدت رئيس الكونغرس وأعضاء بالشيوخ ا


.. آثار قصف الاحتلال على بلدة عيتا الشعب جنوب لبنان




.. الجزائر: لإحياء تقاليدها القديمة.. مدينة البليدة تحتضن معرض