الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


في مفهوم التَجريد

ثائر البياتي

2023 / 9 / 2
الطب , والعلوم



إنَّ كلمة تَجريد في اللغة العربية مصدر من الفعل جرَّد، وتأتي بمعاني مختلفة منها: نَزع، ونقول نَزعَ عنه السلاح، أي جرده من السلاح. وكذلك تأتي بمعنى قَشَّرَ، فنقول قَشَّرَ الشيء من زوائده وتأتي بمعنى خلع، فنقول خلع ثيابه أي عراه. وأصل الكلمة في الإستخدامات المعاصرة تعود الى اللغة اللاتينية وتكتب، (abstrahere ) بمعنى عَزلَ، ومنها جاءت كلمة ( Abstract ) في اللغة الإنكليزية ومعناها عَزلَ أيضاً. في هذا المقال سأعرض أهمية التجريد في العلوم وخاصة في الرياضيات والحياة الواقعية ودوره في فهم المشاكل المعقدة وتأثيره على الفنون المختلفة.
التجريد في العلوم والرياضيات
في بعض الأحيان، يستند "التجريد" على "صفة او علاقة"، فمثلاً، عندما ننظر الى أشكال بألوان مختلفة، ونتجاهل أو نعزل جميع الألوان عدا اللون الأحمر، فنقول الأشكال الحمراء، يكون كلامنا محصوراً في هذه الأشكال. وعندما ننظر الى كائنات مختلفة كقطة وكلب ومزهرية، جالسة على سطح طاولة، يكون كلامنا محصوراً في جلوس هذه الكائنات. وقبل التوسع في المقال، نأخذ مثالاً في التجريد.

إنَّ اللغة خير مثال في التجريد، فكلماتها إعتبارات فكرية، ولكنها تتعلق بواقع مادي أصلاً. كما في كلمة دار، ويفهم منه صفة أساسية مشتركة بين جميع الدور بمختلف تصاميمها واحجامها، وعندما نقول كتاب، يفهم منه فكرة مشتركة بين جميع الكتب بمختلف موادها ولغاتها، فلا وجود مادي ملموس، للدار أو الكتاب على ارض الواقع، فهي اعتبارات مجردة، مكانها في الفكر، كما هي كيانات الرياضيات. والتجريد في الرياضيات هو عملية إستخراج أنماط وخصائص أساسية لمفهوم شيء أو أشياء بإزالة الإعتماد على العالم المادي الذي قد تكون الأشياء مرتبطة به أصلاً، وتعميم تلك الأنماط تعطي تطبيقات أوسع. ولعملية التجريد تاريخ طويل في الرياضيات.
بحسب رأي الفيلسوف البريطاني برتراند رسل إنَّ أول من أدخل مفهوم التجريد في الرياضيات، هو الفيلسوف اليوناني فيثاغورس(600ق.م)، وذلك بتأسيسه مدرسة فلسفية دينية قوامها العدد، الذي أعتبره أساس كل شيء في الوجود، والعدد إعتبار غير مادي، موجود في الفكر. حيث لا وجود مادي ملموس للعدد 2 أو 3 مثلاً في الواقع الحقيقي، لكنهما يشيران الى مجموعة من الأشياء: 2 تمثل مجموعة الأشياء الثنائية بلا تحديد و 3 تمثل مجموعة الأشياء الثلاثية بلا تحديد وهكذا الأعداد الأخرى وهذه المسألة عرفها سكنة وادي الرافدين قبل أكثر من 5000 سنة، وبذلك يكون تاريخ الأعداد المجردة أقدم بكثير من ميلاد فيثاغورس والحضارة اليونانية كما تبين البحوث الآثارية الحديثة.
يتفق المؤرخون أنَّ فيثاغورس كان قد تتلمذ لسنوات طويلة في حضارتي بلاد ما بين النهرين ووادي النيل، وهما حضارتان عريقتان، سبقتا ميلاد فيثاغورس بأكثر من ألفي سنة، واستخدمتا فكرة الأعداد المجردة، بل أعتبرتا أنَّ الأعداد هبة إلهية، لكونها كيانات غير مادية، ولم يتحدد التجريد على فكرة الأعداد فحسب، بل شملت الهندسة.
وتعتبر الهندسة من أقدم فروع الرياضيات التي استخدمتْ التجريد بأعلى صوره عندما صاغ إقليدس (330 ق.م) نظرياته الهندسية وبراهينها بإستخدام المنطق والبديهيات، وهي اعتبارات مجردة، مثلما عناصر الهندسة، وجميعها قيم عليا، موجودة في العالم المثالي، مصدر الجمال، كما إعتقد فلاسفة اليونان قديماً. وهنا يحضرني مطلع قصيدة الشاعرة الأمريكية آيدته ميلي( 1950-1891) وهي تمجد إقليدس، عندما قالتْ: " إقليدس وحده نظر الى الجمال عاريا" بالإشارة الى جمال التجريد وروعة الهندسة التي جاء بها إقليدس. فعناصر الهندسة (كالنقطة والمستقيم والمستوي والمثلث والدائرة وغيرها) كلها إعتبارات فكرية مجردة. ولنأخذ الدائرة مثلاً، فهي كيان فكري، يمثل محل هندسي لحركة نقطة بمسافة ثابتة عن مركز محدد في مستوى معين، وهو مشترك جوهري بين أشكال مادية مختلفة كأجزاء الذرة المتنهاهية في الصغر وقرص القمر والشمس وأكبر النجوم العملاقة وما شابه.
ويعود الفضل للهندسة في تقدم الحضارات البشرية لأكثر من ألفي عام، حيث ساهمتْ في إخراج أجمل تصاميم البناء والعمران وكانت الأساس في بناء وتشييد الأهرامات وكذلك ساعدت في شق الطرق وبناء الجسور وما شابه، ولكن ما حدثت من تطورات هائلة في الهندسة في مطلع القرن التاسع عشر سببتْ انعطافة كبيرة في تاريخ البشرية، كان سببها المزيد من التجريد في إحدى بديهيات الهندسة الإقليدية.
أجري علماء فطاحل تجريد على بديهية التوازي في الهندسة الإقليدية، وبديهية التوازي تقول: "في مستوي معين، هناك مستقيم واحد من نقطة خارجة عن المستقيم، يوازي المستقيم المعين". أما في الهندسة الجديدة، فقد افترض العلماء، بعضهم بمعزل عن البعض الأخر، علماء أفذاذ مثل غاوس الألماني ولوباتشفسكي الروسي وبلياي المجري، نفي بديهية التوازي( جردوا بديهية التوازي من مضمونها)، أي أنَّه: "إذا كان هناك خط مستقيم ونقطة خارجه على سطح مستوٍ، فإن هناك أكثر من مستقيم واحد يمر في هذه النقطة ويكون موازيا للخط المستقيم المعلوم". ولم يتخيل العلماء حين أكتشفوا الهندسة، أنَّ النظرية النسبية لأينشتاين، بعد نحو نصف قرن من إكتشافهم الجديد، ستكون أحدى التطبيقات المبهرة للهندسة الجديدة. ولم تتحدد التطورات في الهندسة بسبب التجريد، بل تعدتْ الى الجبر. وعلى ضوء العمليات الحسابية الأربعة( الجمع والطرح والضرب والقسمة)، تمَّ تعريف علاقات مشابهة للعمليات الحسابية، ومنها نتجتْ نظرية الزمر والحلقات والحقول في االجبر وهي فروع أحدثت تطبيقاتها ثورة في البحوث النظرية في المستوى الذري لعلوم الفيزياء والكيمياء. وتعدتْ تأثيرات التجريد على الرياضيات والعلوم، لتشمل فهم وتحليل المشاكل الواقعية المعقدة وكذلك أثرت في الفنون التشكيلية.
التجريد والمشاكل الواقعية
نعيش في عالم معقد تشارك في خلق ظواهره ومشاكله عوامل كثيرة لا تحصى ولا تعد ولا يمكن فهم تعقيدها الا بإجراء عملية التجريد. وعندما نقول عملية التجريد، نقصد إستخلاص وعزل العناصر الرئيسية التي تساهم في خلق المشكلة أو الظاهرة لغرض دراستها مع إهمال التفاصيل الثانوية. ولغرض إختبار تأثير العناصر الرئيسية في جوهر الظاهرة، يعمد العلماء الى بناء نموذج رياضياتي للظاهرة، يكون فيه تحديد العوامل المهمة، حيث يعتقد العلماء أنها تتحكم في سلوك الظاهرة ومن ثم يحاولون فهمها عن طريق التجارب والإختبارات لغرض إكتشاف نظرية تفسرها علاقة رياضياتية وهذا ما يطلق عليه "النموذج الرياضياتي". ومن أمثال النماذج: معادلات الأنواء الجوية، وهي مجموعة معادلات في الرياضيات، مخرجاتها تعطينا توقعات الطقس التي نسمعها يومياً في الأخبار، وتستند هذه المعادلات على قراءة بيانات في أوقات مختلفة لمتغيرات معينة، كحركة الغيوم ودرجات الحرارة والرطوبة وسرعة الريح واتجاهها والضغط الجوي، ويكون الإعتماد في قراءة المتغيرات على أجهزة رصد توزع في اماكن وارتفاعات مختلفة. وكل ذلك لا يتم لولا عملية التجريد، وبفضله يكون العمل مع متغيرات أساسية. وللتجريد فوائد كثيرة أخرى، إذ نتمكن بفضلها تحويل المشاكل المعقدة الكبيرة الى مشاكل صغيرة يسهل فهمها. وللتوضيح، تخيل أننا رجعنا مئة سنة الى الوراء وطلبنا من أفضل علماء ذلك الوقت، بناء جهاز كومبيوتر كالذي نستخدمه اليوم. هذا الطلب سيكون معقداً بشكل لا يمكن تخيله. إنَّ التفاصيل المطلوبة تفوق ما يستوعبه العقل البشري، بل ومن المستحيل على أي عالم الأتيان بتلك التفاصيل بدفعة واحدة. إنَّ ما يحدث في بناء الأنظمة المعقدة كالكومبيوتر هو تعاملنا معها كمشكلة كبيرة ولكن بفضل درجات التجريد يمكننا تحويلها الى طبقات متعاقبة من مشاكل صغيرة. يتم حل المشكلة الكبيرة بالتدريج عن طريق حل المشاكل الصغيرة في كل طبقة تجريد. وعند التعامل في مستوى معين نتجاهل الطبقات الأخرى وليس المطلوب منا أن نفكر فيها.
إنَّ مفهوم طبقات التجريد وفصل المشاكل الكبيرة الى مشاكل صغيرة هو أحد أهم الوسائل في العلوم والهندسة والذي يسمح لنا بالتطور والتقدم. إنَّ بناء الكومبيوتر الذي تكلمنا عنه، أعتمد على طبقات التجريد التي إستغرقت أكثر من خمسة عقود بتظافر جهود الكثير من الباحثين وباستخدام ما توصلت اليه البشرية من تطورات. ومسألة طبقات التجريد لا تتحدد بالكومبيوتر فقط.
في حياتنا اليومية نتعامل مع طبقات التجريد بشكل مستمر: أنظر الى السيارة التي تقودها والى الغسالة التي تُشَغِّلها والمايكروويف الذي تستخدمه، كلها أجهزة معقدة التركيب، ولكن ما علينا الا أستخدام مفتاح التشغيل لقيادة السيارة أو ضغط زر تشغيل الغسالة أو المايكروويف، ونحن لا نعلم شيئاً عن آلية التشغيل الداخلي للسيارة أو الغسالة او المايكروويف. ولم يقتصر ثورة التجريد ومنذ بداية القرن التاسع عشرعلى الرياضيات والعلوم والتكنولوجيا والحياة العامة، بل تعدى تأثيره على الفنون.
الفن التجريدي
بدأ الفن التجريدي في نهاية القرن التاسع، وبشكل واضح بعد فترة ثورة التجريد التي شهدتها الرياضيات والعلوم الأخرى، وكان الهدف هو التحرر من الواقع، وفيه لا يحاول الفنان تقديم تصوير دقيق للواقع البصري ولكن بدلاً من ذلك يستخدم الأشكال الهندسية والألوان والعلاقات الإيمائية لتحقيق تأثيره. وبهذا المفهوم يتجاوز الفن التجريدي الواقع الذي ركزتْ عليه جميع الفنون البشرية كالفن الكلاسيكي الذي يرتبط مع الواقع كتقليد الطبيعة ورسم مناظرها وإتقان رسم الأشخاص وبيان دقة ملامحهم وكالفن الرومانسي الذي يؤكد على إبراز المشاعر الفردية في لوحاته ويعتبرها مصدراً للتجربة الجمالية. وبذلك كان التعبير في الفن التجريدي عن الجمالية بإستخدام المفاهيم الرياضياتية والأشكال الهندسية النقية، الخالية من شوائب الواقع، وربما اتفق التجريديون بنظرتهم مع أفلاطون عندما قال: ان الجمال السامي موجود ليس في الأشكال الواقعية بل في الهندسة والأشكال المجردة. فلا غرابة أن الكثيرين من رواد الفن التجريدي يميلون الى مفاهيم الرياضيات والأشكال الهندسية.
يعتبر الفنان الروسي ويسلي كاندينسكي من رواد الفن التجريدي الذين استخدموا مفاهيم الرياضيات في رسوماتهم، كالدوائر المتحدة المركز والخطوط المفتوحة النهايات أو المغلقة والمثلثات وأشكال أخرى. فتميزت تجربته بالبحث عن جوهر الكائنات محاولاً استكشاف الوعي واللاوعي في أنقى مستوياته. ولم يكن كاندينسكي الوحيد في تأثره بالرياضيات، فالفنان الهولندي بِيت موندريان قدم لوحات فنية بأفكار جديدة، برسم شبكة من الخطوط السوداء الأفقية والعمودية بأستخدام الألوان الأساسية، وكتب في استنتاجه يقول: إنَّ الزاوية القائمة هي العلاقة الثابتة الوحيدة التي تعطي حركة لتعبير ثابت، وهذا ما جعله أن يستبعد لوحاته من الخطوط المنحنية حتى اصبحتْ مؤلفاته من خطوط أفقية وعمودية. ومن أعظم فناني القرن العشرين في الفن التجريدي هو الفنان الأسباني بابلو بيكاسو، والذي عُرف بفضل أفكاره المتجددة وفنه المبتكر كرسوماته التكعيبية التي إعتمدت الأشكال الهندسية التي تعبر عن الحقيقة الثابتة.
ينظر الفنان التجريدي الى فنه برؤية هندسية، حيث تحولتْ مناظره الى مكعبات ومثلثات ومربعات ودوائر وكرات وظهرت لوحاته كقطع إيقاعية مترابطة ليس لها دلائل بصرية مباشرة، ولكنها تحمل خلاصة تجربة فنية، تسعي البحث عن جوهر الأشياء والتعبير عنها بأشكال موجزة. فالجسم الكروي هو تجريد لعدد كبير من الأشكال الواقعية كالتفاحة وقرص الشمس وكرة اللعب وما الى ذلك. فالشكل الواحد عند الفنان التجريدي يوحي الى معاني متعددة، ويبدو للمشاهد أكثر ثراء، عندما يبعث الفنان الروح في أشكاله بأستخدام الضوء، حتى يغوص المشاهد في عالمه الذي لا يشاركهه فيه أحد. ولتجرد الأشكال من مادياتها يصعب إعطاء تعريف دقيق للفن التجريدي، حتى شبه الفنان كاندنسكي أعماله التصويرية بالأعمال الموسيقية وانغامها عند أستخدامه الألوان الأساسية والأشكال المجردة، وقد تطورت تجاربه الى الحد الذي تكشفت لديه امكانيات الأستغناء عن الواقع، وهذا ما يحدث في الرياضيات غالباً، ومثالنا كان إكتشاف الهندسة اللاإقليدية التي لم يتصور العلماء حينها بإمكانية تطبيقها في الواقع الحقيقي. ولا غرابة أنَّ الكثير من الناس لم يفهموا الفن التجريدي لأنَّه يتطلب من الفنان والمشاهد أن يكونا في قمة شاعريتهما عندما يجردا الواقع المنظور من شوائبه محافظين على جوهر الفكرة التي يذوب في ثناياها الفنان والمشاهد.
ورغم أنَّ تأثير التجريد على مختلف المعارف وشؤون الحياة والفن مهماً، غير أنَّ تأثيره على المنطق هو بدرجة أكبر وأهم، وهذا هو السبب الذي دعاني لكتابة هذا المقال الذي سيكون كمقدمة لمقالي القادم: فن المنطق في عالم بلا منطق. فحاجتنا لإستخدام المنطق في الحياة الواقعية مهمة جداً لكثرة المغالطات والاباطيل المنتشرة في صفحات الأنترنيت في كافة نواحي الحياة السياسية والأقتصادية والدينية وما شاكل. والتجريد عمل أساسي في عزل وتقديم الحجج الدامغة لغرض كشف المغالطات المظللة، ودور التجريد في المنطق جوهري، ليس لكون المنطق بحد ذاته مفهوم تجريدي، بل أنَّ عملية التجريد أساسية لتحليل مشاكل الحياة المعقدة، اذا ما أردنا أن نقدم لها حلولاً منطقية.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - مقال وموضوع في منتهى الدقة
جوزيف شلال ( 2023 / 9 / 2 - 10:03 )
شكرا لكم اخي الغالي العزيز الدكتور ثائر البياتي على هذا الإبداع الرائع، قراته في الحوار المتمدن أيضا، مقال في منتهى الوصف والدقة في المعلومات منها التاريخية والتفرعات الأخرى للموضوع، فعلا استمتعت به وحصلت على معلومات لم أكن اعرفها وهي دلائل تاريخية موثقة وانا اعتبرها دراسة وبحث علمي ممتاز، يبقى في الأرشيف لمن يحتاجه، تحياتي لكم وشكرا،

اخر الافلام

.. يمكن رؤية أحدها من السعودية ومصر.. 4 ظواهر فلكية ينتظرها الع


.. دون ألم الـ-كيماوي-.. طبيبة سورية تبتكر علاجا ضد سرطان الرحم




.. جريمة نزع أعضاء -طفل شبرا- تكشف حقائق مفزعة عن مواقع بالإنتر


.. زيارة مركز لعلاج السرطان.. أول نشاط الملك تشارلز بعد عودته ل




.. دخان المولدات القاتل يلف بيروت.. والسرطان يرتفع 50%