الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


مذكرات سجين سياسي في العراق ( في سجن الاحكام الخاصة)

احمد عبد الستار

2023 / 9 / 3
مواضيع وابحاث سياسية


1
ليلةُ الزحف الكبير
استيقظتُ من النوم على عادتي بين الساعة السابعة والنصف والثامنة صباحاً من أجل الذهاب للعمل، سمعت طرقاً على الباب مُلحاً وغير صاخب، نزلت من سلَّم شقتي الواقعة في زقاق ضيّق خلف مدرسة الجنائن مقابل حديقة الملك غازي لأعرف من الطارق. وجدت "شاكر وَنّاس" بهيئة من الانكسار لم أره أبداً عليها من قبل، سألني بصوت واهن متعب: "شفت (فالح)؟" داهمني توجس: "لا، ما الحكاية؟"، قال: "يبدو أنّه قد ألقي القبض عليه ومعه حيدر عبد الجبار. خرجنا ليلة أمس نوزع المنشورات، نفذنا المهمّة على أتم وجه حسب الخطة إلاّ أنّ "فالح" لم يعد لبيته ولا وجود له في كل بيت محتمل من بيوت أقاربه وبيوتنا نحن رفاقه." تنفس بعمق واستعاد جزءاً من نشاطه وحذرني بإيجاز: "اسمع أحمد إن لم أعد إليك بعد قليل لأطلعكَ على أخباره، عليك ان تجد مأوى." وانطلقَ مسرعاً يبحث عن فالح.
صعدتُ سلّم شقتي وألوان الأفكار تصطخب في رأسي، انتابتني حالة من الوجوم لم تمرّ بي من قبل، ليس مصدرها الخوف بل الصدمة غير المتوقعة، وغير مأمونة العواقب. القبضُ على أحد أعضاء التنظيم سيفضي لا محالة إلى اعتقالنا جميعاً، ومن ثم السجن والموت المحقق: هذه هي إحدى العواقب المحتومة. ولكن لا تأكيد حتى اللحظة عن سبب غياب فالح، هل هو في مكان آمن؟ وبهذه الحالة سننجو جميعاً.
هكذا تراوحت الأفكار في بالي لساعة، وخلالها برزت أمامي أكثر من مرة مشاهد إلقاء القبض عليَّ وتعذيبي وإعدامي، ولكنَّ فكرة أن يكون فالح في مأمن، إذ لم يُحسم خبر غيابه حتى الآن، هي الفكرة التي تشبثت بها لتبقي على حياتي.
كنت ليلة الاستفتاء في الشهر العاشر من عام 1995. و"الاستفتاء" هو، بالمعنى البعثي، إجبار الملايين من أجل البصم والتوقيع على استمرار رئاسة صدام للعراق أو ما أطلق عليه تشريفاً "الزحف الكبير." ليلتها كنت في الشقة لوحدي، وكانت زوجتي "إنعام" في زيارة أسبوعية لأهلها في منطقة الشعلة، وكانت تجهل نشاطي الحزبي تماماً، لم أطلعها على هذا السر تحسباً لاحتمال تعرضها للمساءلة في حالة انكشاف تنظيمنا، لأنّ من الراسخ في سياسات البعث القمعية اعتقال جميع أفراد أهل المعارض السياسي للنظام وتعرضهم للتنكيل.
بعدما تركني شاكر، دلفت إلى المطبخ لأعد لي فطوراً، وأنا مثقل بأفكاري وترقبي. وجدتُ قنينة الغاز فارغة، فقررت حينها استعاره قنينة مملوءةً من بيت أخي "علي"، الذي لا يبعد عن شقتي أكثر من مائتي متر. حملتُ القنينة الفارغة وطلبت من زوجته "ابنة عمي، أم اسامة" قنينة على سبيل الاستعارة، دلّتني على مكان القنينة المملوءة، حملتها وعند خروجي قبل توديعي أردت أن أداعب ابنة أخي "زينب"، وكان عمرها سنة تقريباً، حيث كانت جالسة في حجر أمها إلاّ أن الصغيرة فزعت مني فزعاً شديداً وهربت مني في أرجاء المطبخ وهي تصرخ باكية. بقي هذا المشهد في ذاكرتي سنوات عديدة.
أعددت فطوري، وخرجت إلى عملي في محلّي الواقع مقابل "سِيف الطحين" وأنا مثقل بالهواجس والقلق، جلست أنتظر أن يعود لي "شاكر" بخبر مطمئن عن فالح. خلال انتظاري خطرت لي فكرة أن أبيّن ولو لأحد أخوتي الأمر الذي أعيشه الآن، واحتمال غيابي طويلاً أو هربي الى مكان آمن في حالة ورود خبر اعتقال فالح، وأن يخبروا زوجتي ويحيطوها بالأمر علماً. كانت محالهم قريبةً من محلّي، ولكن شاءت الصدفة أنّهم جميعهم لم يكونوا موجودين. وكررت العودة أكثر من مرة إليهم لكنهم كانوا غير موجودين.
خلال انتظاري رأيت مجموعةً تتألف من ثلاثة أشخاص، كنت أعرف أحدهم وهو "حبيب لفتة" من أهالي الناصرية يسكن في حي السكك، كان يمر عليّ في المحل بين فترة واخرى لشراء بعض الكهربائيات وبعض المجاملة، ولكن تبيّن أنّه ضابط بالمخابرات. ويظهر أنّه كان مكلفاً بمتابعتي ومراقبتي من بين سائر أعضاء تنظيمنا الآخرين لأسباب سوف أذكرها في موضع لاحق.
دخل الثلاثة "سِيف الطحين" والتفتوا إليَّ معاً، وبنظرة من عينه أشار يدلّهم عليّ، زاد قلقي، وأدركت أنّ خطراً ما قريبٌ، ولم تمض دقائق حتى مرت سيارة صالون صغيرة الحجم رصاصية اللون، تحمل أربعة أشخاص، دحجني الجالس في المقدمة بنظرة تشخيصية عميقة وقصيرة ومتوعدة. هرعت آخر مرة لمحال إخوتي لا ألوي على شيء سوى أنهم صاروا لي بمثابة طوق نجاة، ولم أجد أحداً منهم كذلك أبداً. ما كنت أظن أنّهم سيعتقلونني بهذه السرعة ولم أكن أعرف حينها أنّهم قد ألقوا القبض على رفاقي الآخرين، وتصورت أنّهم يجرون عملية استكشاف أو استطلاع على مكاني وعنّي، فكثيراً ما سمعت بالمراقبة التي تجريها الأجهزة الأمنية والاستطلاع قبل المداهمة وإلقاء القبض على المتهمّين. أوقعني هذا الوهم في حساب خاطئ بأنّ هناك متسعاً من الوقت كي نهرب أنا وشاكر عندما يعود إليَّ. عدت أنتظر، وكان أحد أصدقائي الحدّادين (أحمد رشيد البغدادي) يمزح معي وأنا شارد الذهن. في هذه الأثناء أقبل ثلاثة أشخاص نحوي؛ الأصغر سناً توقف عند باب المحل، والاثنان الآخران دخلا وسلّما: "السلام عليكم"، أجبتهم من دون أن أعرف لأول وهلة أنهم مخابرات: "عليكم السلام أهلاً ومرحباً." وقف أحدهم بجانبي وفتح يديه كربّاع ونظر لي نظرةً ثابتةً متحديةً، والثالث وهو مسؤولهم، كما تبيّن لي فيما بعد، طلب مني قائلاً: "هويتك،" أخرجت له هويتي، نظر إليها وبرقت عيناه واتسعت كمن عثر على لقيته الثمينة، وضع الهوية بجيبه وقال لي : "تفضل ويانه،" التفتَ إلى صديقي الحداد وسألَني: من هذا ؟ أجبته: صديقي، إلاّ أنّ أحمد رد عليه بذعر "لا أنا جارُه محلّي قرب محله." أمره ضابط المخابرات "يلله تفضل" وأومأ له برأسه بأن يترك المحل.
بهذه العبارة المقتضبة "تفضل ويانه" انطوت صفحةٌ من حياتي، الحياة التي سلكتُ سبلَها، منذ بدأت أعي العالم من حولي وأتعرف بحواسي تضاريسه الرحبة، منها القابل للتجربة والتعلم كدرس تترسخ على أساسه قيم العيش، مع العائلة والمجتمع والصداقة، التي ندأب على أن تعود علينا بالسعادة والنجاح. البدايات نتعلم منها عادةً دروساً بليغة، غايتها دائماً أن لا نتخلى عن الطموح في حياة منعمة راضية، ترقى على الهنات والهفوات؛ وهذا وجه الحياة الاكثر بساطة وعمومية، المشترك بسخاء بين البشر، وسبل أخرى انطوت على خيارات وقناعات صعبة تبتعد عن المألوف، وهذا خيار يتجه أيضا كثيرٌ من الناس إلى ارتياده عن وعي، في مرحلة من مراحل التقدم مع تجارب الحياة الواسعة، ولكن أن تعود نتائجه بعواقب وخيمة وقد تكون مهلكة أحيانا هذا خيار فردي محض، رغم ما تخلص إليه بعض الاعمال الفردية من انجازات تخدم الجميع.
في هذه الحالة يكرّس الإنسان بإصرار وعن وعي حياته من أجل فكر يؤمن به، رغم إدراكه بهذه الدرجة أو تلك بنتائج ما هو مقدم عليه، إلا أن الصدمة المذهلة عندما تكون النهاية مصدقةً وملموسةً لمس اليد، لأنّ التشبث بالحياة نداءٌ مستقر في منطقة من النفس يصعب تعريفها وتحديدها، ولأنّ الحياة هي الحياة، لأي من كان سواء أكنتُ سياسياً متحزباً للشيوعية وأنشدُ من خلال التنظيم بناء مجتمع تسوده العدالة الانسانية، وأضع نصب عينيَّ بطبيعة الحال نتائج هذا القرار، أو أن أعيش في بحبوبة يجود بها هذا العالم، غير معنيٍّ بما حولي، مهمتي هي أن اعيش ولا أفوت فرصة التمتع بالحياة والابتعاد عن أي تحدٍ.
قبل خروجي معهم حرص مسؤولهم أن أتأكد من إطفاء التيار الكهربائي في المحل نهائياً وإغلاقه جيداً، ولم ينسَ أن يهدّدني: "لا تُقدم على أي محاولة للهرب وإلا أطشر راسك،" وأشار الى مسدسه المخفي تحت قميصه الشفاف. أغلقت الكهرباء وأنزلت باب المحل الملولب. أمسك بطرف يدي ليدلّني إلى الزقاق المحاذي للمحل مركونة فيه سيارة تشبه سيارتهم السابقة ولكن بلون أحمر قان كانت تنتظرنا. دخلت الحوض الخلفي للسيارة بين اثنين منهم، تحركت السيارة وسط دهشة ورهبة جيراني الحدادين، الذين اكتفى بعضهم بالنظر لي بذهول واستفهام مكتوم. اتخذت السيارة الطريق المحاذي للكورنيش، وعند وصولنا قرب جسر النصر طلب منّي أحد الجالسين قربي أن أخفض رأسي ثم وضع يده على رأسي. لا أعرف بعدها اتجاه الطريق الذي سلكناه ولا إلى أي دائرة أمنية اتجهت، سمعت جلبة حرس وباب حديد ضخماً يفتح. نزلت ووجدت نفسي بين العديد من أفراد تدلُّ ملامحهم أنهم قوى أمن، فعرفت فيما بعد أنّني في مركز مخابرات الناصرية، وسمعت همساً صادراً من صوت خشن: "هو هذا؟" ورد عليه مسؤول المفرزة التي قبضت عليّ: "نعم سيدي هو "أحمد عبد الستار،" أمر صاحب الصوت الخشن: "خلّي ينتظر." وغاب فترة من الزمن.
خلال غيابه صرخ بوجهي أحد أفراد المركز وهو شاب يصغرني كثيرا: "تعادون صدام حسين!" أمال برقبته يتفرس بوجهي وعيونه تقدح شرراً، سكت أنا سكوتاً مطبقاً وأعددت نفسي للأسوأ. عاد صاحب الصوت الخشن وحذر: ( لا يضربه أحد." فتشوا بجيوبي وأخذوا كل ما فيه حتى السكائر المفردة، أعصبوا عينيّ، وأوثقوا يديَّ إلى الخلف برباط شديد، واقتادوني إلى مكان ما، أمرني صوت: "اقعد هنا". سمعت جلجلة أصوات خافته في الغرفة كما أني استطعت أن أرى أحذيتهم من تحت عصابة عيني: بعض الأحذية كانت مرقعةً بخيوط ورقع جلدية، تدل على البؤس والرواتب الشحيحة أيام الحصار رغم دورهم الخاص في حفظ أمن النظام ومطاردة المعارضين، وتفانيهم في أداء الواجب. قاطعهم صاحب الصوت الخشن، عرفت فيما بعد أنّه مدير مركز مخابرات الناصرية يدعى (أبو رافع الجبوري)، موجها الكلام لي: "أحمد عبد الستار اسمعني: أنت اسمك الحركي عباس جبار (وهو الاسم الذي اختاره لي فالح) تنتمي للحزب الشيوعي العمّالي العراقي،" وأخذ يتلو لائحة الاتهام الطويلة الموجهة ضدي كوني شخصاً ينتمي لحركة سياسية داخلية معادية للبعث ولشخص صدام. خلال استماعي للائحة الاتهام أدركت أنهم لا يعرفون عن نشاطي السياسي سوى نشاط التسعينيات، وهذا الشيء طمئنني رغم حالتي التي لا أحسد عليها، لأن جميع أصدقائي تقريباً وعدداً كبيراً جدا ممن تربطني بهم علاقة استثنائية كنا نشترك معا في تنظيم الثمانينيات، التنظيم الذي أسّسه (عماد عبد الرزاق عبد سِكر).
أنكرتُ الاتهام لكي أنجو حسبما سمعت عن تجارب عن جرائم جنائية حصلت في المدينة أنكرها مقترفوها وخرجوا من التحقيق أبرياء. ضربني صاحبُ الصوت الخشن بأربعة سياط ألهبت ظهري، ووجه كلامه لي ناصحاً: "هل ترى هذا الملف؟" وضغط على وجهي بمجموعة أوراق كبيرة، "في هذا الملف يوجد كل شيء عنك، حتى أرقام هواتف منازل إخوانك وأخواتك،" وختم: "لا تصير بطل رجاء." إلا إني استمريت على نكراني التهم عسى أن ينفعني هذا الأمر بشيء ما، بعد أن لذتُ بالنكران ساعة تقريباً وتحمّل جمر لسعات الضرب بالأسلاك الكهربائية والخيزرانة، سمعت مديرهم يأمرهم بهمس: "على رجليه،" انقضوا عليّ جميعهم بوحشية الضباع الجبانة بمختلف الهراوات والكيبلات المتاحة، لم يتركوا جزءاً من جسمي المشقلب رأسا على عقب بعد تعليقي من رجليّ ورأسي يَضرب الأرض الكونكريتية الخشنة إلاّ وآثار الضرب الزرق والجروح النازفة الموخزة مرتسمة عليه، خطوطها كلوحةٍ مكتظةِ الألوان، وأكثرها ألماً وعاشت آثارها سنوات على جسدي كانت من اختصاص أحدهم بالضرب بقابلو مرن على المنطقة الرخوة أعلى فخذي، استحال لون هذه المنطقة الى لون نيلي كورق الكاربون تماماً.
نفذوا الأمر الذي صدر لهم من مديرهم، بعد نفاد صبره، بطرقهم البربرية التي يتصف بها منتسبو قوى الأمن البعثية ويمتهنونها حرفةً لهم؛ منهم من اعتمدها متعةً ساديةً يمارسها للتلذذ بإنزال أكبر قدر من الأذى بالآخرين، حتى لو كانوا أحياناً ابرياء وحتى خارج وبعد ساعات الدوام في كل ملتقى يجمهم مع الناس. يستعرضون بتباهٍ وتحد مظاهر انتمائهم للأجهزة الامنية؛ المقرونة بسلطة غير محدودة منحتها لهم الحكومة كي يمعنوا بكل غرور وصلف فرض قهرهم واستبدادهم على الجميع دون أي محاسبة من مصدر ما.
هذه الحالة تُخبر عن نفوس شاذة عن الطباع البشرية السوية، لكنها دارجة بشكل واسع جاءت نتيجة لتدريب وشحذ فطري عند بعضهم ومكتسب بالبديهية المهنية عند البعض الآخر، منهم من اعتمد الإفراط بالقسوة كعمل وظيفي خاص، يمارسه بلا تكلف او ازدواجية كأي حيوان مفترس يمزق فرائسه دون رحمة من أجل إطعام نفسه وصغاره، أو مثل رجال المافيا يبشعون بخصومهم شر بشاعة ويتعاطون الحياة بتلقائية مع عوائلهم ومع الاصدقاء دون أي شعور بتبكيت الضمير، أو مثل الجرّاح المتمرّس الذي يستأصل ويمزق أنسجة جسم الانسان دون أن يشعر بالغثيان. عمل مميز جعل منهم علامة فارقة في عالم الوحشية والاستبداد لا تطاله إلاّ أمثلةٌ محدودة بالتاريخ.
نشاط التعذيب استثير عندهم بعد أن أمرهم مديرهم بإطلاقه ضدي كي أعترف، تجمع ما يقارب ثمانية إلى عشرة من أفراد المركز وبكل ما أوتوا من خبرة، أوقعوا بيّ ألماً فاق تحملي إلى حد أنني فقدت الإحساس بجسدي وأغمي عليّ لفترة، ولا أعرف كيف عدتُ لوعيي، وشعرت بأحدهم سحبني من ياقة قميصي بعد أن خلعوا بنطلوني ليجلسني على الأرض فقد كنت رأساً على عقب.
كلَّمني المدير ليتأكد أني عدت لوعيي كلماتٍ لا أتذكرها، وبدون أن يتوفر لي أي وقت لأستجمع قواي وأن تحيط أعضائي بالألم الذي نزل بي شعرت مرة أخرى بأنهم سحبوني من رجليَّ بالوضع المشقلب وعادوا مجتمعين إلى ضربي بالهراوات والقابلوات وأنفاسهم تتسارع من شدة اللهاث؛ بعضهم يشتمني وبعض يقذعون بأفحش السباب التي لا يقل وقعها على النفس التي لا تعتاد مثل هذه التعابير ألماً عن الألم الجسدي. انهالوا على ساقيَّ وقدميَّ وظهري وكفيَّ المقيدتين، بتركيز ثابت وتناوب آلي لا يعرف إلاّ هدفاً واحداً: ارغامي عَبر المزيد من الألم على الاعتراف، أو الموت تحت التعذيب. وكثيرا ما حصلت حالات مشابهة لحالتي داخل مقرات التحقيق الامنية.
الألم الذي اجتاح جسدي بعد كلِّ نوبة من نوبات التعذيب، عطل كل إحساس عندي خارج حدود أي لسعة أو وخزة تصيبني، تختزل العالم إلى هذا الحد الذي لا يطاق، أصبحت الحياة والعالم بسمائه وأرضه ومائه وخضرته، مدينتي وتفاصيل ما أمضيت شطر طفولتي فيها ومراحل دراستي وعائلتي وزوجتي وذكرياتي مع أصدقائي عبارة عن سديم من رصاص مصهور يسكب على جروحي وأورامي. شعرت بأنّي مجرد كائن حي يجاهد بغرائزه البدائية لتخليص نفسه من براثن الموت والعذاب، أن اقوم بأي شيء حتى لو كنت أتمكن من الموت وأنتقل إلى سَكينته لحظتها لأتخلص من الحريق الذي اشتعل في كل مساماتي، لن أتأخر على الإقدام على مثل هذه الخطوة فوراً كي انقذ نفسي وأرجع من أرض اللاعودة وأنياب سيربيروس المهولة.
قررت بمساعدة ما تبقى لي من وعي أن أعدهم بأنّي سوف أصادق على لائحة الاتهامات وأوقع معترفاً على ما جاء فيها، كي أكسب فسحة من الوقت لأفهم على ماذا يريدون أن أعترف، ليكرروا عليّ أسئلتهم، وهل ورد خلالها شيء عن تنظيمنا في الثمانينيات، وجل التنظيم كانوا اصدقائي وهم مبعث خشيتي. أحسست بأنهم مشغولون من خلال الاستجواب وأحاديثهم المفككة والمنهكة عن ذكر نشاطي السياسي إبّان الثمانينيات مما جعلني مطمئناً على حياة أصدقائي الذين كانوا جميعهم رفاقي في التنظيم، أكثر من اطمئناني على نفسي.
هذه فرصة ومساومة وسطية تخلصني من التعذيب وتحفظ حياة اصدقائي، شعرت بأنّي نجحت في ما يطلق عليه (عملية تقدير الموقف) إلاّ واحد منهم شعرت أنّه غير مكتفٍ، فنعتني قائلاً لي عندما قادني مرة للحمامات: "ها أحمد الثعلب". كانوا غاضبين من الجرأة التي أقدم عليها تنظيمنا بنشر البيانات والمنشورات المعارضة للنظام خصوصا ليلة الاستفتاء، ومن مراقبتي طيلة سنوات واعتبار نشاطنا تحدياً سافراً للسلطة داخل العراق، شغلهم غضبهم وأنساهم ساعتها عن أي شيء سواه. عليه وقعت على الإفادة وانا مثخن بالجراح ولكنّي مطمئن.
بعد التحقيق اقتادوني إلى الموقف وأنا معصوب العينين وفي حالة إعياء شديدة، ورجلاي ويداي متورمة من شدة الضرب حتى إن قدميّ لم تدخلا الحذاء بسبب تضخمهما. أدخلني أحد الحراس إلى الموقف وطلب مني أن أحول وجهي للحائط، فتح العصابة عن عيني وعن يدي وتركني أجلس متربعاً في الممر، وحذرني من التحدث مع الموجودين وإلا ستترتب عليّ عواقب وخيمة. بعدها بوقت لا أعرف كم استغرق، سمعت أنيناً خافتاً يأتي من أحد المحاجر الثلاثة التي يتكون منها الموقف، وحركة بالمحجر الآخر، وعند آخر الليل، عند انحسار حركة أفراد المركز، عرفت فالح مكطوف وحيدر عبد الجبار وأحمد سالم بالمحاجر داخل التوقيف. تنادينا أحدنا على الآخر همساً وعرفنا بعضنا. ألقوا القبض عليهم قبلي وحققوا معهم، فالح كان اكثرنا تعرضاً لعنت التعذيب وهو الذي يئن في المحجر.
نسمع أو نقرأ عبارات أو أمثالاً تتداولها الناس بحياتها اليومية كإرث معروف أو جزء من الثقافة الاجتماعية، لا ندرك محتواها ومغزاها الحقيقي إلا عندما تكون ملموسة لمس اليد، وفق تجربة شخصية عشناها. كثيراً ما واجهتني رغم بساطتها عبارة "السجن مقبرة الأحياء" في أي مكان عشت خلال حياتي ولم ألمس ما تعنيه إلاّ بالتوقيف. السجن، وفي أي مكان كان، هو تعطيل لحياة إنسان وشلّ إرادته. وقعت عليه عقوبة قانونية لأمر يستحق أن يسمى جرماً أم لا. وسواء أكان السجن في أكثر البلدان مدنيةً وعصرية أم في بلد متخلف، فما بالك أن يكون التوقيف في محجر مركز مخابرات الناصرية!
كنت الوحيد من رفاقي قد رُميت بممر الموقف لأن محاجره الثلاثة كانت مشغولةً، تحادثنا لليال عديدة واتفقنا على بعض الإفادات، أعيش بينهم كساعي بريد يوصل الرسائل بواسطة الهمس خشية من ضبطنا نتحادث، نقلت التحيات المتبادلة أول مرة، ومن ثم الأمر الأهم والأخطر تنسيق إفاداتنا وحصرها بما أدلينا به للمحققين ولا نزيد بعدها شيئاً، حتى لا تترتب علينا عواقب لا نعرف ما مداها، وقمنا بسد النقص من حاجة بعضنا للطعام. حيدر لم يثنِ شهيته لا ضيق الموقف ولا ويلات التحقيق أمنحه طعامي الفائض طيلة عشرة ايام التحقيق، جهازي الهضمي تعطل تماماً لم أعد أستطيع تناول الطعام ولا أشتهيه.
انتبه الينا سابع يوم التوقيف الحارس المسؤول عن الموقف، دخل وسألني ليتأكد أين قنينة الماء، لم أستطع لحظتها أن أنكر، لا مجال للنكران أو المخاتلة إذا قام بالتفتيش سيجدها عند حيدر، ومن أوصلها له بهذه الحالة؟. أجبته: "أعطيته لحيدر لأنه يعاني من عطش شديد" فقد أصيب بإسهال حاد بعد تناوله "تمر زاهدي متعفن جزئياً، لاحظت ذلك أنا وامتنعت عن تناوله حسبت بأنه مسموم، إلا أن حيدر لم تسمح له ظلمة الموقف رؤية تلوث الطبق، ينادي بصوت عالي كل مرة يسمعهم وهم يمرون، طالبا منهم إخراجه للتواليت، لم يستجب له حارس الموقف بالبداية إلا بعد حصوله على موافقة المدير، لأن إخراج الموقوف لقضاء حاجته يتم وفق زمن معلوم ومحدد ثلاث مرات يومية فقط، تزامنا مع وقت الوجبات الثلاث، او لأمر استثنائي مثل حالة حيدر، التي تتطلب الذهاب للتواليت أكثر من المعتاد وعناية طبية، سمعت خلال نداءاته المتكررة عليهم، أحدهم يقول بتعاطف لحارس الموقف: "طلعة يابه خطية." وفعلا أخذ يخرجه كل مرة ويسأله عن حاجته للتواليت طواعية وجاءه بعلاج للإسهال. هذا جزء من تناقضات وغرائب أجهزة صدام الأمنية.
استُدعيت في وقت متأخر على غير المألوف إلى لقاء المدير، كمذنب ارتكب تجاوزاً خطيراً، للكلام مع حيدر واعطائه قنينة الماء. صار يقينا عندي أنني ذاهب للمحاسبة والعقوبة المؤكدة. صرخ بوجهي المدير وأنا معصوب العينين: "لماذا تتكلم مع حيدر وماذا تكلمتم .. اكيد اتفقتم على إفادة ما ونقلتَ الأحاديث بينكم مو، نحن محترمينك ومخلينك بالممر لخاطر أهلك اللي ديتوسطون على مودك." أمر الحارس: "خليه بالمحجر وطلع فالح امكانه."
قام الحارس بتبديل أماكننا أنا وفالح، أغلق عليّ باب المحجر المتين وقفله بقفله الحديدي الكبير من الخارج، بقيت لوحدي أنا والجدران الاسمنتية الضيقة بسعة مترين ونصف طولاً وبعرض متر ونصف، وأرضية اسمنتية خشنة يتفتت منها الرمل. بسطت بطانيتي على الأرضية في ظلام شبه كامل إلاّ من ضوء شحيح يتسرب من تحت الباب، شعرت بأني وحيد ومنقطع تماماً عن العالم الكبير الكائن بُعد أمتار عن المحجر. سمعت أصوات السيارات وجلبة الحياة اليومية، لأول مرة خلال وجودي بالتوقيف كما لو أنّ تعطّل حواسي ضاعف من حيوية حاسة السمع فبقيتْ الوحيدة تعيد ارتباطي بالخارج. حاسة النظر انعدم عملها خصوصاً بعد ساعات الظهر حيث تبدأ الشمس بالأفول. ويستحيل ضوء الباب الشحيح أصلاً الى لون خامد لا يعكس حتى بياض فانيلتي. ورائحة عفن المكان المظلم لسعت بالبداية أنفي حتى اعتدت عليها كالاعتياد على مرض مزمن.
أحدق بالجدران المعتمة وتتولد عندي رغبة لمدِّ يدي لتمزيق ستارها لكي يدخل ضوء الشمس، لكن الضوء كان ممنوعا، لا يمكنه الدخول.
أهكذا هي القبور تدفن في جوفها الأموات؟ ظلمةٌ مطلقةٌ وأبدية، من حسن حظهم أنهم لا يشعرون بالظلمة ولا بعفنها، يشعر بها الباقي على قيد الحياة، فرض عليهم أن يحيوها كما يسكن الأموات القبور. لا وجود لأي صلة وصل بالعالم خارج المحجر سوى ما سجل من ذكريات داخل الرأس، أرجع إليها لتخلصني من وطأة الظلام الغارق فيه إلى القاع.
قبل أيام كنت أعيش حياتي الطبيعية المألوفة في شقتي ومحلّي وعائلتي ولقاءاتي مع أصدقائي المثقفين على طاولات البيرة أو على كورنيش الفرات، والآن أنا وسط بحر من الظلمة الجرداء ولا طوق نجاة ينقذني منها، سوى اللحظات التي أعود فيها إلى نفسي لأتأكد هل أنا موجود في هذا المكان حقاً، منقطعٌ تماماً عن كل ارتباط وكل صلة قريبة وحميمية تعودت عليها في حياتي.
حلمت في أول يوم لي بالمحجر بأنّ ذلك كان حلماً ثقيلاً، وليس حقيقة وهممت أن استيقظ لأمارس عاداتي الصباحية قبل انطلاقي للعمل، لكنّي بعد أن فتحت عينيَّ صدمت بالواقع الجديد الذي حل بي، وأيّ واقع؟. الذي سوف يعبر عنه لاحقاً صديقي الكردي أبو هندرين في سجن "أبو غريب": "بس الموت أصعب منه". لا يوجد شيء فيه ما يدل على الحياة على الإطلاق، حتى الخرائب النائية المندرسة والآثارية يمكن أن تتحلى بنوعٍ ما من المقبولية مقارنة مع المحجر.
استمر التحقيق معنا في مركز مخابرات الناصرية لمدة عشرة أيام، يتناوب استدعاؤنا للتحقيق بشكل فردي نحن الأربعة، في كل الاوقات من بداية الدوام الرسمي صباحاً حتى وقت متأخر من الليل. بعد الفراغ من أحدنا يُستدعى آخر كشاهد للتثبت وتأكيد مصداقية أقوالنا على بعضنا كما يظنون. نحن اتفقنا همساً على صيغة اعترافات موحدة خلال ساعات السكون التام بالليل، وأحياناً حتى في النهار خلسة ومجازفة رغم رفع رأس الحارس يراقبنا بين الفينة والأخرى من هوائية الباب العليا يطل علينا كرأس سبّاح يخرج من الماء. كنت أنقل التوصيات والتحذيرات وضبط الاعترافات بشكل موحد حتى لا نقع في تناقض من القول ونفتح أبواباً جديدةً لا تنتهي من السؤال والجواب، قد تُفاقم أحكامنا، وقام بالمهمة بعدي فالح بعد إخراجه للممر بدلاً عني.
يستخدمون بخبرة وبشكل مدروس أساليب الاستدراج بالكلام للإمساك بزلات اللسان وتباين القول تؤدي إلى اكتشاف معلومات جديدة، جاءت بنتيجة ضدي مرة من المرات، وهي المرة الأخيرة بعد أن تعلمنا أساليبهم بسرعة، تدفعنا غريزة حماية الحياة للاحتفاظ بأقل ضرر ممكن أو ما يعرف بعلم النفس "التحكم بالسلوك." ومن اساليب الضغط النفسية الكثيرة، مثل التهديدات باعتقال الأهل أو التهديد بالقتل أو الوعد بإطلاق السراح. سألني المدير مرة يتظاهر بالود كطريقة للتأثير النفسي والقصد منها تنشيط اللاوعي عندي وتربكني: "اذا أطلقنا سراحك هل تستطيع جلب فالح إلينا إننا نبحث عنه،" أجبته بتغاب مصطنع: "يحتاج الامر وقتاً كثيراً كي أعثر عليه،" رد هو بسماجة ظاهر عليها الهزء مني: "نعم نعم ستة اشهر ما رأيك؟" أعرف أيضاً أنه تبجحٌ وصلفٌ وغَلَبة، وما أملك إلا الصبر حتى تتعدى هذه الغمّة الثقيلة. سمعت خلال ليلة تسجيلاً لصوت فالح وهو يتحدث خلال اعترافاته بمستوى مرتفع جداً يخرج من مكبرات الصوت، أسمعوه إياه كي يحدثوا تشويشاً على إدراكه ليبوح بالمزيد. مثل هذه الاساليب وغيرها أكثر بذاءة من الشتائم التي تحز بالنفس والسباب والكلام الفاحش اعتمدوها معنا؛ كانوا قد تعلموها ودرسوها أكاديمياً على يد (الكَي جي بي) الذي سهر ستالين شخصياً على تنشئته، وفي كوبا ويوغسلافيا وألمانيا الشرقية وريثة وكالة مخابرات هتلر (الغستابو).
في اليوم الأخير سمحوا لنا بالاستحمام وغسل ملابسنا، وفي اليوم الحادي عشر أيقظونا والشمس لمّا تشرق بعد. تناولنا الشوربة الصباحية والصمّون كعادة الجيش، وأفراد المفرزة المرافقة لنا واقفون حولنا نتبادل أطراف الحديث العادي معهم، سألهم فالح: "إلى أين نحن ذاهبون،" أجابه أحدهم بدا أنه أكثرهم اهتماماً: "إلى بغداد من أجل النقاش الموسع،" وكان يقصد حاكمية المخابرات من أجل التحقيق "الأوسع"! والأكثر وحشية ومن ثم المحاكمة. بعدها تحدث معي بكل تلقائية عن قيام أخي الأكبر، لم يكن متأكداً من اسمه "حجي ستار أم حجي وهاب" كما قال، قلت: الحاج "وهّاب" أجاب بهزة رأس نعم، عن قيامه بالتوسط عن طريق شخص اسمه حجي حسين البطحاوي، ليطمئن على مصيري.
كان التدخين خلال أيام التحقيق شيئاً مستحيلاً أو نادراً جداً، فخلال عشرة ايام التحقيق مرة واحدة ناولني أحدهم سيكارة لف كان يدخنها وبعدها أرجعها متذكراً: "لا لا إنها ملوثة، سألف لك سيكارة جديدة." عندما انتهينا من الفطور واحتسينا الشاي الساخن أعطونا سكائر وطلبوا منّا الصعود الى سيارة Super Ban متهالكة ومصبوغة بلون التاكسي، رتب مسؤول المفرزة المرافقة لنا جلوسنا داخل السيارة، ممسكاً جواربي الحريرية بنية اللون جاء بها من داخل الموقف عندما تفقده لآخر مرة قبل انطلاقنا الى بغداد، كنت قد تركتها متعمداً. سألنا اكثر من مرة وهو ممسك الجوارب هل نسيتم شيئاً موجهاً السؤال لنا، تجاهلت أنا سؤاله إذ ما فائدة الجوارب ونحن ذاهبون الى بغداد من أجل النقاش الموسع.
















2
في الطريق إلى بغداد

كان الطريق الاعتيادي من الناصرية إلى بغداد يمرّ آنذاك بالكوت، إلاّ أننا سلكنا الطريق الأطول عَبر السماوة والديوانية والحلّة ثم بغداد. وأظن أنّهم اختاروا هذا الطريق غير المألوف تجنباً لأي كمين محتمل.
قبل أن تنطلق السيارة استولى عليّ إحساس بأنهم أخرجونا ليعدموننا في الصباح الباكر في منطقة الإعدامات قرب مدرسة قتال فرقة 11 على طريق مدينة أور الاثرية، وتأكد الإحساس عندي أكثر عندما حملوا أسلحتهم (الكلاشنكوف نصف اخمس) داخل السيارة. تساوى عندي تماماً الإحساس بالحياة والموت، ولم أعد أخشى الموت الخشية الغريزية عند كل كائن حي، بل إنّي لم أبتعد عن الموت سوى دقائق، حتى إن شعوري الآن توقف عند كم من الوقت يستغرق ألم الرصاصات التي سوف تخترق جسدي لترديني قتيلاً، هل هي ثواني أم دقائق ثم ينتهي الألم؟ وقد أعددت نفسي لهذا الأمر نهائياً، خصوصاً ان السيارة اخذت اتجاه الطريق السريع الذي يمر على مدرسة القتال، ولاح لي بين كثير من المشاعر، كيف سيعاني أهلي وزوجتي وأصدقائي. ومرّت بي صورة، من بين جميع الناس أو أكثر من غيرها، صورة أختى الكبرى (أم إحسان) لأنّها كانت أكثر الناس حباً لي. وانطلقت السيارة وأنا على استعداد تام للنزول بإرادتي والوقوف بوجه الرصاص حتى تجاوزت بنا السيارة محطة توليد الطاقة الكهربائية وتجاوزت عندها طريق مدرسة القتال وساحة الإعدامات سيئة الصيت أيام حكم البعث.
فجأة عدت من عالم الموت إلى عالم الحياة عندما ابتعدت السيارة داخل الطريق السريع وأنا أراقب أفراد مفرزة المخابرات المرافقين لنا مشغولين بأحاديث جانبية، ولم ألحظ عليهم تحركات تحضيراً لإعدامنا، وكذلك لم ألحظ أي إحساس مشابه عند رفاقي الباقين ( فالح مكطوف وحيدر عبد الجبار وأحمد سالم ).
فتح أحدهم إذاعة المعارضة وأخذ السباب والشتائم ينهال على صدام، والشخص الوحيد بينهم الذي بدا عليه الضيق جراء ذلك هو الذي جاء للقبض علي، فطلب منهم إغلاق راديو السيارة أو تحويله البث إلى إذاعة أخرى.
خلال الطريق تجاذبنا الأحاديث معهم ونحن مكبّلون بالأصفاد، أعطونا سكائر وسمحوا لنا بالتدخين، طلب الشخص نفسه بفتح زجاج السيارة حتى لا تصير "ثعوالة" حسب تعبيره، ورد الآخر عليه: "خليهم يدخنون لأن لا سكائر اذا وصلوا." في اثناء سيرنا بالطريق السريع لفت نظرهم قطيع ضخم من الجمال وسط الصحراء مبدين إعجابهم وحسدهم، فرواتبهم لا تتعدى (15) ألف دينار حسب ما اعترفوا لنا، وهذا القطيع الذي اثار حسدهم يعد بالمليارات اذا ما سوي مالاً.
بعد خروجنا من الناصرية بساعة ونصف تقريباً دخلنا أطراف مدينة السماوة ولا أذكر بالتحديد أي قصبة أو بلدة توقفنا عندها، نزلوا لتناول الشاي عند أحد الباعة، ناولونا أيضا صينية شاي من دون أن ننزل من السيارة مما جلب انتباه وفضول جمهور الناس المتحلّقين قرب بائع الشاي يتطلعون الينا بفضول ورهبة دون مبالاة مفرزة المخابرات بالناس، جاء سائق السيارة الينا وسألنا بحرص وكرم هل شربتم الشاي أجبناه بامتنان: نعم نعم شربنا شكراً جزيلاً...
بعد انطلاق السيارة مرة أخرى بعد شرب الشاي في السماوة اخذنا نتحدث مع أفراد المفرزة، وهم يتحدثون معنا شتى الاحاديث، منهم مثلاً من قال: أنتم حزب شيوعي عمالي أليس كذلك؟ أنا والدي عامل أيضا ينتظر العمل دائماً في مسطر العمال بالرمادي، قال الجملة الاخيرة بصوت هادئ وهو ينظر للفضاء من زجاج السيارة، وكان هذا الشخص نفسه سألني في أثناء التحقيق بمركز مخابرات الناصرية: "هل أنت من قال أثناء أحد اجتماعاتكم إن حزب البعث حزب ضعيف لكنه قاسي وهو سبب خوف الناس منه وإنه حزب رأسمالي،" أجبته: "نعم رأسمالي وهل عبارة رأسمالي شتيمة،" لأدافع عن نفسي مخففا من مادة الاتهام الموجهة لي لاعتباري حزب البعث حزباً رأسمالياً، سكت ولم يجب إلا إنّ شخصاً آخر منهم تدخل بسرعة طالبا منه أن لا يتحدث معي بمثل هذه الامور: "لأنّ الشيوعيين فيترجية مال حجي" حسب تعبيره.
استدار الشخص الذي جاء للقبض عليّ في محلي، متحدثاً معي كاشفاً عن مآثره في ملاحقة الشيوعيين من كردستان إلى الناصرية وعدّد اسماءً من شيوعيّي الناصرية ممن أعرفهم ولا أعرفهم، وأنّه يعمل على ملف الشيوعيين منذ 11 عاماً، ثم أنهى حديثه بخلاصة تجاربه: "انتم الشيوعيون لا تنتهون من الشيوعية مهما طال الزمن"، أجبته: "لا ادري" لأبعد تصوره عنّي بأنّي شيوعي متمسك بالشيوعية ويزيد تعذيبي والحكم علي. بعد هذا الحديث سألته ألم تكن أنت الشخص الذي جاء مع المفرزة لإلقاء القبض علي، "لا لا أبداً لست أنا" أجابني "وهل تعرفني أنت من قبل" سألني، فأجبته بالإنكار: "لا لا أعرفك ولم أرك من قبل."
شعرنا أنا وفالح بالحاجة للتبول بعد تناولنا الشاي بالسماوة، ونحن الاثنين مكبلان بالأصفاد الحديدية معاً، توقفت السيارة على الجانب الترابي قرب أدغال برية عالية بطول متر تقريباً، قالوا انزلوا واقضوا حاجتكم ونزلنا نحن الأربعة لقضاء الحاجة. أنا وفالح، استدار أحدنا لظهر الأخر، وهو يتبول قال لي فالح سوف أخلع الأصفاد وأهرب،" حذّرته - رغم شعوري بعدم جديته فقد كانت الأصفاد واسعة حيث كانت تسمح لأيدينا بالخروج منها، حتى إن أحد ضباط المفرزة انتبه لذلك وعلق "ما هذه النحافة، لا يوجد بعد اصغر من هذه العقدة،" - حذّرته من الهرب لأنّهم سيطلقون الرصاص علينا ويقتلوننا. صعدنا إلى السيارة مرة أخرى، وفي هذه اللحظات داهمتني الكآبة ونحن نتقدم نحو بغداد، لأنّ المجهول ينتظرنا ولا أدري إلى أين نحن متجهون، إلى أي جهة أو دائرة أمنية في بغداد قريباً من صدام وأقاربه المسؤولين عن الأجهزة الأمنية! مشاهد المدينة بعماراتها وحدائقها وساحاتها وأسواقها مررنا بها جميعاً، ما كان شيء يشغلني منها سوى مصيرنا بعد قليل عندما نصل إلى حاكمية المخابرات (عرفت هذا الاسم فيما بعد), كيف سيكون استقبالنا وكيف سيكون التحقيق الجديد(النقاش الموسَّع)، وهل لنا طاقة أخرى لتحمل المزيد، وبماذا سيحكمون علينا؟ أنا الفرد تحت سطوة الاجهزة القمعية الصدامية.
ولكن هذا المصير الذي أتجه إليه رغماً عنّي من مدينتي الناصرية إلى بغداد لم يكن خارج حساباتي وتوقعاتي، فلطالما كنت على حافته. كان ذلك منذ انضمامي إلى الحزب الشيوعي العراقي.







3
الإيمان بالشيوعية
في الطفولة ومرحلة الصبا، دفعتني أسباب عائلية إلى أن أكون شبه منقطع عن بيئتي الاجتماعية، مكتفياً بالأسرة والمدرسة حتى إني لم أبدع بمهارات ألعاب الطفولة والمراهقة بين أقراني، مما عمق شعوري بالوحدة، وتركتني ألوذ بنفسي وعزلتي. روح الإنسان تواقة أبداً للبحث عن ميدان ما، لكي تجد ما تعبر من خلاله عن مكنوناتها ودواخلها. وكما يقول لنا علم النفس، فإن ذلك من أجل إشباع حاجة من حاجات النفس الانسانية؛ ولأن الإنسان لا يقتصر على إشباع حاجاته البيولوجية، وإنما يتفرد بكونه كائناً اجتماعياً، بحاجات روحية ونفسية. ومن الآفاق التي وجدتها أمامي مفتوحة، رحبة وسهل عليّ دخولها، الوجهة التي لا حدود لسعتها، وتشمل بأمان كل سالكيها؛ عالم الفن والمطالعة.
أول العوالم التي استهوتني في طفولتي، عالم الرسم وألوانه وخطوطه وأشكاله. جذبني إليه كالمغناطيس، مفتوناً بسحر طبيعته المتفردة وغير المحدودة أتابع معارض الرسم بالمدينة. ومرة شهدت معرضاً مشتركاً لرسامين أثنين؛ رعد الناصري ومحمد صبري على قاعة المكتبة المركزية مقابل المحافظة القديمة بداية السبعينيات. كنت غير مصدق أنّ هذه اللوحات المدهشة أنجزها هذا الشخص الذي أتكلم معه الآن. رعد الناصري بعد أن حييته وقلت له أنا أيضا رسام، أنظر لبقايا الألوان بيدي، رحب بيّ مداريا بذرة لرسام محتمل، جاملني قائلاً : آه جميل.. ما أسمك وما ترسم، وبعدها، ممكن أشوف شغلك؟. أجبته: "أحمد، نعم ممكن سوف أجلب لك أحدى لوحاتي وأحب مدرسة بيكاسو سمعت عنها من أخي علي. ولوحاتي عبارة عن بورتريهات لشخصيات أنسخها أغلب الأحيان من مجلات وصحف محلية وبالأخص من مجلة أفاق عربية لعلماء وشعراء عرب، أرسم وجوههم وعمائمهم. وفي إحدى المرات نسيت آذان الحسن أبن الهيثم. نبهني إلى ذلك أخي علي ساخراً ومستغرباً: "أشو هذا بلا إذانات،"، وعلى عجل أكملت آذان الرجل. عدت في اليوم التالي للمعرض طاويا بيدي أحدى (لوحاتي) لأريها لرعد الناصري، ولأنتقدهم على رسمهم لأجساد نساء عاريات، وضح لي محمد صبري قائلاً : ليس المقصود سوى إبراز المقدرة أو البراعة على رسم خطوط الجسد واعتباره موديل، لم أفهم الأمر جيداً حينها لكني اقتنعت بأنه لم يكمن وراء رسم الأجساد العارية أي إباحية.
اشتريت فايلات سمر بلون الورق المقوى، لأتدرب عليه مع ألوان مائية رخيصة. وأقوم بنسخ لوحات بسيطة أو شخصيات على هذه الفايلات لتظهر لوحات حسبما ظننت في حينه. نصحني أكثر من شخص من المعارف لاستعمال الألوان الزيتية والورق الأبيض الصقيل أو الورق الخاص بالرسم وعمل حمالة للوحة عندما (أرسم)، وهذا يحتاج مبالغ مالية اكثر.
بالرغم من سخاء والدي معي بالمصروف اليومي وباقي حاجاتي ومتطلباتي، لكن بحساب خاطئ مني أقدمت أكثر من مرة على سرقة بعض الدنانير من جيبه لإكمال لوازم مرسمي، بعد إن أفرغت غرفة كاملة بالطابق الثاني لإنشاء عالمي وأمارس هوايتي وشغفي بالرسم والألوان والتخطيط وتخريم الخشب.
صعد مرة إلى غرفة المرسم يتحرى ما يشغلني وما طبيعة هذا الاهتمام، لفتت نظره في أول دخوله الغرفة أحدى (لوحاتي) المستنسخة لطفل فلسطيني يصرخ وفي أعلى الفايل كتبتُ إلى أمام، سألني مشيراً بيده بحدة ما هذا؟ أدركت فوراً إنه يظن إني رسمت صورة لأحد الأئمة (وهو المتمسك بأهداب الدين)، طمأنته بأنه طفل فلسطيني يصرخ ضد إسرائيل، تمتم بصوت غير مسموع وجال بنظره بمحتويات الغرفة (المرسم) ونزل إلى غرفته بعد جولته هذه.
استيقظ مرة من قيلولته عصر يوم صيفي قائظ، وأنا أمرح مع أخواني داخل البيت توجه نحوي قائلاً: "أعطني مفاتيح الغرفة وأشار برأسه إلى الأعلى إلى مرسمي، بهتُ أنا من طلبه وأدركت ان خطبا ما هناك. أخذ المفاتيح وأمرني بأن أذهب إلى المحل فوراً. أحرق كل محتويات (المرسم) من لوحات وفايلات وأصباغ وفرش وحمالة اللوحات الخشبية، عقوبة لإقدامي على سرقة المال من أجل شراء مستلزمات الرسم. كان خطأً مخجلاً مني اقترفته في صباي، وكانت عاقبته القضاء على هوايتي وشغفي بهذا الفن الجميل.
عانيتُ مشاعر متضاربة بعد حادثة إحراق (المرسم): تبكيت الضمير لأنني أحسست كأني خنت عائلتي، ووخز وجداني ظل يلازمني مدة طويلة، فصارت حملاً إضافيا لآلامي، وصدمة وأسف لضياع عالم أحببته وجدت فيه شيئاً من نفسي. انطوت صفحة (المرسم) ونشاطي التطبيقي، وبقى في نفسي حب هذا الفن والفنون التشكيلية حية لم تحترق رغم عقود مرتْ.
عدتُ مرة أخرى تجاه ذاتي النادمة والمحبطة، ألتمس وسيلة ما للتعويض عن خيبتي. ومن محاسن الصدف أن يأتي التعويض عاجلاً. عاد أخي علي مساءً من زيارته اليومية لرفاقه في الحزب الشيوعي وأصدقائه قراء الأدب ومنهم فنانين معروفين. هم عادةً ما كانوا يلتقون على شكل حلقات: كل المهتمين بالأدب والفنون في شارع الجمهورية، امتداداً من مقهى التجار حتى مقهى "أبو حنان" قرب صيدلية سميرة، التي تعد ملتقى مهماً لكل شيوعيّ الناصرية للاستراحة، وتزجية الوقت بالنقاشات وتبادل الآراء وقراءة صحيفة طريق الشعب والفكر الجديد، والكتب التي تباع في المكتبات الكثيرة في هذا الشارع، والاتفاق على مواعيد الاجتماعات واللقاءات الحزبية. عاد محتضناً مجموعة كتب، سحب من بينها رواية القربان لغائب طعمة فرمان أول إصدارها عام 1975، ناولني إياها وسألني: "إذا تقدر تقرأ، هاي رواية جميلة لكاتب عراقي شيوعي". كتابٌ بحجم أكبر من كتبي المدرسية، ولا يحتوي على صور أو رسوم إيضاحية، مليئة سطوره بالكلمات من بدايته حتى نهايته، أخذته وقلّبتُ صفحاته الكثيرة، شدني لأن أدخل صفحاته رغم ذهولي. كان ثمة انجذاب ما، لم أدرك جوهره، رغم حداثة عمري حينذاك، شعرت بأن لي علاقة وارتباطاً ما داخل سطوره الممتدة إلى ما لانهاية.
لليالٍ متتالية قرأت من المقدمة وبعض الفصول، دون أن أعي منها شيئاً سوى القليل مما دار حول شخصية (مظلومة) أبنة اللئيم (دبش). لم أـكمل قراءتها لصعوبتها، تركتها متأملا أن أجد ما ينفعني من كتب ومجلات علي، ويكون سهلاً وأستطيع قراءته، وأستمتع بعلاقة ودية مع شخصيات وذوات القصص والروايات مع إنها خيالية.
على الرغم من المشقة في قراءة مثل هذه الرواية، لم أستطع مقاومة الانشداد لعالم الكتب الأنيس، مضيت إلى حكايات المنفلوطي، وروايات نجيب محفوظ وأولها رواية الطريق أعجبتني بمراهقتي تخطيطات مثيرة لشخصية (كريمة) في هذه الرواية. وأقلب بروايات دستوفيسكي الضخمة والكثيرة، ورواية الأم لمكسيم غوركي وغلافها الأحمر، وفتنني منذ صغري بدر شاكر السياب ومجموعته (إنشودة المطر)، لم أعجب ولم أعرف السبب حينها بنزار قباني عندما قلبت صفحات مجموعته (طفولة نهد). إلا بعد مضي عدة سنوات أدركت إنني قارنت مجموعته هذه مع ما يقوله السياب بأنشودة المطر، ولاسيما بعد إن تعرفت على أعماله الشعرية الأخرى عن الحرية والإنسانية والسياسة. المتعة الحقيقة والمؤانسة الرفيقة ألفيتها مع القصص القصيرة للكتاب العراقيين، التي تنشر بدوريات صحافة الحزب الشيوعي، وبالأخص في مجلة (الثقافة الجديدة)، والملحق الأسبوعي الأدبي لصحيفة طريق الشعب. المصادفة التي وطدت العلاقة مع القصاصين العراقيين وألقت بي في أحضان الحزب الشيوعي كانت في ضحى يوم شتوي خلال فصل امتحانات (نصف السنة) في صف الثاني متوسط. كنا قد درجنا وأنا وأخواني وكثير من الطلاب على المذاكرة على الشارع الرئيسي الذاهب إلى بغداد الذي يبدأ من تقاطع فندق أور ماراً بحي الثورة والمنصورية. مكان بعيد عن المجمعات السكنية وهادئ، بين فترة وأخرى تخطف سيارات مسرعة باتجاه بغداد أو النجف أو كربلاء. مرت احداهن حاملة على ظهرها تابوت داكن اللون، لمحت انفلات قطعة كبيرة من القطن من التابوت أثناء سير السيارة السريع المتجه بطبيعة الحال إلى النجف، طارت قليلاً متأثرة بتيار الهواء الذي تخلفه السيارة، ثم نزلت تتدحرج وتستقر بين الأشواك أسفل المنحدر الترابي، لم أكترث كثيراً لشأنها، عدت منشغلاً بكتابي، أستذكر المواد المدرسية استعداداً لامتحان يوم غد.
عادت الحادثة بعد مضي عدة أشهر، بهيئة قصة قصيرة كتبها قاص من مدينة الناصرية منشورة على صفحات مجلة (الفكر الجديد) التي يصدرها الحزب الشيوعي العراقي آنذاك. تبدأ القصة بمرور فتاة ريفية تركب حماراً، وقعت عيناها على قطعة القطن نزلت وأخذتها لتضعها كواقية بين رجلها وبطن الحمار وتكمل طريقها. مكتوبة بأسلوب قصصي شيق. حكاية الفتاة صاحبة الحمار، لم أكن على علم بتفاصيلها، هل حصل حقاً مرورها أثناء غيابي، أم إضافة من نسج خيال القاص. أخبرت علي اخي بأن حادثة طيران القطنة من التابوت حصلت أمامي، وخمنت، احتمال أنّ الكاتب كان يشاركنا المكان نفسه وتابع الأحداث، وسجل الوقائع أو (مَنتَجَها) كما يقال في لغة السينما. تحمستُ للتعرف على الكاتب، ورسمت له في مخيلتي هيئة شيخ ملتح ناسخاً صورة من صور الروائيين الروس. نسف هذا التصور علي عندما بيّن لي بأنه يعرف معظمهم وأن أحد القصاصين المساهمين بهذه المجلة وهذا العدد معروف بين الأوساط الأدبية الشبابية في المدينة، يقع منزلهم بمسافة قريبة نسبياً من منزلنا, أسمه (حميد عبد الكاظم)، ألا تعرفه سألني؟ وأضاف ليؤكد قربه أكثر: أخو (قيس) صديق (عقيل)، دهشتُ، وأحسستُ أني قريباً سأحظى بالتعرف على هذا الإنسان المتميز الذي يصنع القصص.
تربطني بقيس علاقة صداقة واحترام متبادل من سائر أصدقاء أخي عقيل، طيب ودمث للغاية، ويتمتع بوعي وثقافة مميزة مقارنة بالشباب بعمره، وأحاديثه وأفكاره الغنية خلال حضوره بين الأصدقاء تشير إلى كياسة متأصلة عنده.
على الإجمال، تحلى بهذه الصفات جيل كامل من الشيوعيين العراقيين، برزت كظاهرة مميزة غطت عقد السبعينات، ظهروا بهذه الصورة ليعكسوا نموذج مجتمع ينوون إرسائه كعصر جديد.
ألتقي به دائماً في شارعنا الممتد إلى محطة القطار، عندما كانوا يتحلقون كأصدقاء، يجتمعون للحديث عن الدراسة وأحاديثهم الخاصة، أو عندما أصادفه بطريقي للقاء أصدقائي في منطقة الثورة، حيث يقع منزلهم، دون أن اعرف أن أخاه الأكبر (عبد الحميد) قاص وتكتظ مكتبته بأعداد ضخمة من الكتب الأدبية والفكرية.
رسمت أن يكون في لقائي المقبل معه، تهيئة فرصة للسؤال عن (عبد الحميد) والتعرف إليه. سُعدَ لما فطن بأن أسالتي تدور حول موهبة وأدب أخيه ورغبتي بالتعرف إليه، انفتح مع حواراتي بلا ملل، وبادلني النقاش والسؤال عن كيفية معرفتي بأخيه (عبد الحميد) وهل قرأت شيئا من قصصه، أحطته بكامل الحكاية عن الفتاة الريفية وقطعة القطن التي طارت من التابوت، الموجودة كقصة في مجلة الفكر الجديد، وليتوثق بأني مطالع لهذه النصوص والقطع الأدبية أو لنصوص أخرى؛ سألني بنوع من السرور: "زين أحمد أنت جاي تقرا باستمرار، قصص وشعر، وقريت كتب ثانية؟"، أجبته: "نعم قريت." وأخذت أعد الكتب والنصوص التي طالعتها، وكانت بجملتها لا تتعدى أصابع اليد. تبين لاحقا؛ من خلال نقاشه معي، إنه اراد أن يجمع صورة عني تفيد بأني مؤهل لأصبح عضواً في الحزب الشيوعي، والتهيئة لكسبي لصفوفه، لمست ذلك بعد أيام من تعرفي على عبد الحميد. وأنا أنتظر قيس مرة من المرات، خرج عبد الحميد من المنزل بالبجامة والفانيلة، وأتجه إلى أساس منزل قيد الإنشاء لصق منزلهم وجلس فوقه ليدخن، تبادلنا التحيات وبعد حديث قصير قطعه خروج قيس، غمزني بشيء كالنميمة قائلاً: "ها قيس ترا راح ينظمك". أدركت عندها إنني داخل دائرة الاهتمام وسوف تتمخض علاقتي بقيس عن إحالة جديدة بحياتي.
لم يستغرق الأمر كثيراً من الوقت، حتى فاتحني بالدعوة للانضمام للحزب الشيوعي، ذات مساء أثناء وجودي بزيارة معتادة، بعد حديث مكرر عن الحزب وتنظيماته وعن جدارة النظرية الماركسية؛ نهض واقفا قبالتي من كرسيه وتحدث مباشرةً؛ سألني رأيي وموافقتي للانضمام إلى الحزب ونظره إلى ناحية أوراق على منضدة يتكئ عليها، ترددتُ خوفا من بطش السلطة البعثية، وتعسف قوى الأمن المعروفة بمطاردة الشيوعيين آنذاك. لم تكن في نبرته أي صيغة إجبار، بل بالعكس رد عليّ بكل تسامح؛ "على راحتك إذا كنت لا ترغب في الانضمام للحزب وعندك توجس ما"، وشرح موضحاً لي: "حزبنا يعمل بشكل رسمي وهو من الأحزاب الأساسية بالجبهة، والمقرات مفتوحة في كل مناطق العراق، والنشاطات الحزبية والصحف والمجلات تصدر بشكل معتاد، ورفاقنا يعملون ليل نهار من أجل تقوية بناء الحزب"، وأضاف "لا أعتقد هناك سبب للخوف يمنع العمل الحزبي".
كان كلامه هذا تعبيراً عن إصراره وحبه للشيوعية، وليس تعبيراً عما كان يدور في ذهن طالب بالثاني متوسط. رغم ذلك شعرت بشيء من التشجيع، ولم يبق أمامي سوى سؤال لأختم على ترددي؛ سألته:" والقصص التي نسمعها عن اعتقال شيوعيين وتعرضهم للضرب والسجن، والمطاردات الكثيرة والمتابعة وغيرها من كثير من أنواع الاضطهاد، ألم تسمع وتعرف بها". لم ينكر ذلك؛ رد عليّ بثقة غير خالية من أسف: "هذا هو النظام البعثي وهذه هي الحكومة، وهل نكف عن العمل لكي يتفردوا بالحكم ويمعنوا بقهر المجتمع، لا نتردد بكسب الآخرين إلى جانبنا وبالتالي نكون نحن الأقوى ونزيحهم عن السلطة...". جاء بيانه هذا سواء أكان مقنعا لي أم لا، كحجة لأوافق للانضمام للحزب الشيوعي، وادخل بهذا التحول الكبير في حياتي الذي طالما وجدت توقا نازعاً تجاهه في نفسي، بمساعدة صديقي قيس.
اعتقدتُ في البداية أنه سيكون هو مسؤولي الحزبي المباشر، ليكون الأفق الجديد الذي دخلته تواً أكثر ألفة وحرية، صديق قريب وخبرة سابقة أتزود منها حاجتي للمعارف كما أحب. أهداني بعد أيام أول مصدر من مصادر المكتبة الشيوعية الواسعة، كراسين صغيرين، عبارة عن ملخصين للمادية الجدلية والمادية التاريخية، للمؤلفين سبيركين وبودوستنيك وياخوت، صارا بالنسبة لي كالكتاب المقدس، توفرتُ على مطالعتهما والإمعان بدراستهما معظم وقتي، وخصصت دفتراً لتلخيصهما، ولا زالا معي احتفظ بهما في مكتبتي بعد مضي ما يزيد على الأربعة عقود.
أبلغني بضرورة زيارته عصر يوم محدد؛ وأنا أتجه لمنزلهم ماراً خلال صف المنازل بشارعهم، صادف خروج (حسين طعمة) صديق آخر أكن له احتراماً، من منزله وعندما رآني هتف بمرح: "ها حمودي صرت ويانا، جابك قيس،" واستطرد يفصل التبليغ بانضمامي لإحدى الحلقات، وإنه الآن المكلف عن إيصالي لمسؤول هذه الحلقة. شعرت بالغربة من بداية كلامه؛ وأردت أن أتبين حقيقة التحاقي بحلقة رفاقية مع مسؤول لا يمت لي بصلة، طالبته بمهلة لأتبين، أجابني "لا بأس تحقق وعد لي"، وبعد تحققي من قيس أخبرني بأن حسين طعمة هو المكلف بإرشادي وإيصالي إلى حلقتي الحزبية الجديدة. ألتقيت بمسؤول حلقتي، كان شاباً مظهره مألوفاً لي، ولكني لم أتعرف إليه من قبل، يسكن حي الثورة أيضاً، ويدرس في إعدادية الناصرية مقابل متوسطتي سومر. لم أمكث في حلقته طويلاً، فبعد لقاءين أبلغني بأني منقول إلى حلقة أخرى بمنطقة الإسكان مع مسؤول آخر يدعى "صباح طارش".
إنّ شخصيةً مثل "صباح طارش" لا أعرف كيف أشكر وأصفُ الصدفة التي قادتني إليه، بما يتمتع به من ثقافة أصيلة وواسعة، وجبلة تشع على الآخرين وتستحوذ بسموها عليهم. حلقتنا مع صباح مؤلفة من أربع أفراد وللأسف لا أتذكر منهم سوى زميل لي في نفس صفي بالثاني متوسط، أسمه ناصر. يشجعني (صباح) عندما أُبدي توجسا ما من السلطة، بابتسامة مليئة بالثقة وتطمين مقنع. يدعونا في كل اجتماع إلى المطالعة وقراءة الكراسات الماركسية وجريدة طريق الشعب وألزمنا بشرائها يومياً رغم يقينه بكوننا طلبة متوسطة لا نملك سوى مصروفنا اليومي. قدمت له عذراً عن شرائها يومياً، بأن علي أخي يشتريها وأشاركه مطالعتها يومياً، أجابني: "أشتريها أيضاً دعماً للحزب". يكلفني في كل اجتماع بكتابة محضر الاجتماع حتى حفظته إلى اليوم، أكتبُ: اجتمعتْ حلقة الثائر بتاريخ...وناقشت جدول أعمالها التالي: الوضع السياسي، الوضع التنظيمي، والوضع المالي، والموضوع الثقافي. والأخير كان شغفي واهتمامي الأثير. ألخص ما أظنه مهماً وأحفظه كما أحفظ الشعر، مقولاتِ ومفاهيم الجدل من الكراريس التي أهداني إياها قيس من الصحف والمجلات، وأتلوها على الرفاق في الاجتماع في الوقت المخصص للموضوع الثقافي. أُعجبَ صباح بتلخيصاتي، ونصحني بالاستمرار والتوسع بالقراءة والتلخيص. أقترح علينا خلال أحد الاجتماعات الاتفاق على الخروج في نزهة في واحدة من مناطق المدينة الجميلة، واتفقنا إلى المتنزه للابتعاد عن روتين اللقاءات والاجتماعات الحزبية، وتوطيد العلاقات الشخصية خارج حدود الغرف المغلقة.
بعد التغيير الذي حصل في إيران واستيلاء الخميني على السلطة، عام 1979 وانعكاساتها بالعراق، التي أدت بالنهاية إلى بروز صدام لمواجهتها والإعلان عن دكتاتوريته المطلقة بحكم العراق، وقيامه من بداية حكمه بتصفية حزب الدعوة والجماعات الموالية لإيران، ويمتد طيشه وفرض استبداه على كل حركة سياسية أخرى، ليحضر نشاط الحزب الشيوعي وتصفية أعضاءه الممانعين. بحملات واسعة من الإعدامات والملاحقات والتغييب بالسجون والمعتقلات الخاصة.
مُهد لحظر نشاط الحزب بمقال بجريدة الراصد يختتمه صاحب المقال ب"على حزب البعث أن لا يسكت" المقصود عن تجاوزات كان يراها البعثيون، تضر بمصلحة البلد. وحسب ما أُشيع حينها عدم موافقة الحزب الشيوعي على حملات الإعدامات التي تطال حزب الدعوة وغيرهم من الجماعات الدينية.
أبلغني صباح في أحدى المساءات الشتوية في آخر لقاء معه، بعدم المرور إلى البيت أو حتى مجرد السؤال عنه في حالة غيابه، واعتبار الاجتماعات الحزبية مؤجلة "حتى أبلغك شخصيا"، فهمت التبليغ وما يكمن خلفه من نذر خطير.
تواصلت حملة البعث على حظر وتصفية نشاط الحزب الشيوعي، في جميع أرجاء البلد في الدوائر والمؤسسات والمدارس، وغلق المقرات والصحف ومطاردة أعضائه من قياديين وقاعدة، واعتقالهم وإعدامهم، ومنهم من هرب إلى كردستان أو إلى الخارج، ومن بقى وقع على التخلي عن التنظيم، مثلي عندما استدعاني مدير متوسطة سومر (الأستاذ لطيف عبد السادة)، تساهل معي لوجود علاقة نسب بين عائلتينا، وكتم سري عن السلطات الأمنية كما أخبرني، بدون أن يطالني تحقيق أو استدعاء أمني ما. غاب الكثير من أعضاء الحزب الشيوعي، هاجر الذين شان عليهم الرضوخ لقرار البعث، أو تعرضوا للاعتقال. ولم أعد أرَ أحداً ممن كنت أعرفهم، فرغت كل الأماكن منهم، ومن اللقاءات الأثيرة والجميلة.
اشتعلت الحرب العراقية الايرانية وتم تجنيد الشعب بأكمله بعد كم الأفواه وتكبيل الأيادي، ليتفرد صدام بطغيانه وحيداً بالسلطة. وسادت مشاعر الرعب، وانكماش الذوات داخل أنفسها. مجتمع مقهور من قوة سالبة لإرادته تشل بشكل محتوم حياة أفراده وتحطم معنوياتهم، وتضيف بعداً مأساوياً آخر للمعاناة الشخصية العائلية وتجعل منها جحيمين يستحيل المفر منهما.
أعادتني ظروف العراق السياسية تلك الى داخل ذاتي مرة أخرى، لعلّي التمس منفذاً أعزي فيه خيبتي من نعيم مفقود. توجهت إلى قراءة الأدب، أحببت الشعر وجربت نظمه، وشغفت بالرواية والقصة شغفاً خفف عني كثيراً من مشاعر العزلة، ولاسيما تعرفي على أصدقاء من صفوة المثقفين والقراء في المدينة تعلمت منهم وأفادوني من تجاربهم على الدخول إلى عالم الآداب العالمية والمحلية. وانسابت أمامي العشرة الثرية بالوعي الناضج والعلاقات الصادقة، ولطافة التمرد وصخبه. المكتبة المركزية، ومكتبات الأصدقاء العامرة بصنوف الكتب، مكتبات المدينة، وبغداد، وشارع المتنبي، زخرت بما لا عد له من الآداب والفكر، تمد ما تحتاج إليه للتبصر وللروح.
عشت سنوات جياشة بالود والتحصيل، وحملت الكثير من الأمل بالمستقبل رغم سيف صدام المصلت على رقابنا. تأثرت قليلا بأفكار الوجودية الملائمة لتمرد وعبثية الشباب، لكني لم أُعجب بها؛ شعرت إنها تدعو للسوداوية بالعكس تماما من الماركسية التي تدعو وتعمل للأمل.
عام 1984 سرّني صديقي (حاكم محمد عداي) بنيّته ليعّرفني إلى صديق جديد "رائع ومثقف ثقافة ماركسية متميزة"، سألته : من هو؟ قال: (عماد عبد الرزاق)، حضر في ذاكرتي إني أعرف هذا الاسم من السابق. ذهبنا إليه مصطحبين (قنينة عرق) مع بعض (المزة) إلى منزلهم في شارع بغداد قريب من المتنزه. هو عماد نفسه الذي أعرفه منذ كان عضو اللجنة الاتحادية في ( الاتحاد الوطني لطلبة العراق) في متوسطة سومر، مع آخرين أذكر منهم الأخوين سلام خزعل وهشام. رحب بنا ودعانا للدخول إلى البيت، لفت انتباهي لحيته المطلقة الشبيهة تماماً بلحية كاسترو، وصبغ غرفته باللون الأحمر القاتم ورموز الجبهة الشعبية حرف جيم يتجه بسهم نحو فلسطين مقابل بندقية كلاشنكوف على الحائط، وأكداس من الكتب وغالبيتها ماركسية وأدبية ومسرحية. مع وجود بعض الصور المستنسخة، للينين وستالين وكاسترو مطروحة على الأرض. أمضيت الجلسة كلها مستغربا وحذراً، رغم إننا أتينا على القنينة كلها، والخمر بطبيعته ملين للنفوس، إلا من مشاركتهم بأحاديث بسيطة وتكرار عماد (شلونك أحمد) بين فترة وأخرى ليكسر حاجز توتري.
أنا أعرف أنّ عماد بعثي وعضو متحمس في اللجنة الاتحادية في المتوسطة، والهيئة الجديدة التي بدا عليها أثارت استغرابي واقتضت استفهامي؛ ما هذا التحول؟ قررت أن أبوح لحاكم بحقيقة ما أعرفه عن عماد، ومن جملة ما ذكرت له أثناء حديثنا باليوم التالي قولي" وهسه هو يمكن يلزم جيش شعبي وي الرفاق". تركني حاكم أتابع حديثي بكل ما أعرفه عن عماد، رد عليّ بهدوء : كل الذي ذكرته صحيح، ومعروف سابقاً عنه، لكنه تحّولَ تَحولاً جذرياً بعد انضمامه إلى (الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين) بقيادة جورج حبش، في مكتبهم ببغداد لسنوات عديدة، ولأسباب أمنية عاد إلى الناصرية، وهو الآن هارب من الخدمة العسكرية ويقيم طول الوقت بالبيت لا يبارحه، بعد فشله في إكمال دراسته الاعدادية. وقبل فترة حاول الارتحال إلى الهور, ابتعاداً عن السلطة والمخاوف الأمنية، ولم ينجح للوصول الى هناك، وحسب رأيي (يواصل حاكم) هو أكثر من أعرفهم ثقافة ماركسية.
وللتخفيف من وحدة عماد في منزله، أخذنا نزوره مرة أو اكثر بالأسبوع، لخلق جو ممتع من الدعابة واستعراض مطالعاتنا، ونقاشات ساخنة حول دقائق أدبية وفكرية. تعرضت لموقف أحرجني كثيرا، في زيارة بعد حديثي مع حاكم، وكنت جالساً قرب عماد نظر لي نظرة جادة وقال لي: "سمعت بأنك تقول عني بأني كنت بعثياً والآن ممكن أن أكون ألزم جيش شعبي مع الرفاق، هذا الامر لم يغيظني، نعم هذه كانت حقيقتي الحقيرة، وأشكرك لأنك لم تجاملني، بل وأحترمك." لم يتطرق لكيفية تصحيح ماضيه والتغير الثوري وتبنيه الفكر الماركسي، ترك المهمة هذه للأصدقاء يوضحون ما عليه هو الآن. للدفاع عن موقفي المحرج، أخذت أبرر تبريرات بعيدة ومرتبكة ألا إنه سكت مقدراً إحراجي ولم يزعل مني. أكثر الأصدقاء زيارة لعماد (جواد حسن الازرقي) معروف بين الجميع جواد الازرقي، نذهب إليه كل يوم من أيام إجازته الأسبوعية، مع قنينة عرق عصرية أبيض، وكثير من المزة، وكثير من الضحك، لم يسلم من سخريته شيء، حتى نحن أصدقائه. اتفقنا أنا وجواد وحاكم على زيارة لعماد في أحدى المرات، يسبقنا جواد أولا وبعد انتهاء دوامي في الإعدادية نلتحق بهم أنا وحاكم. ذهبت لدائرة حاكم (العدد اليدوية)، فصادف أنه كان مشغولاً واعتذر عن المجيء، وقبل مغادرتي أخبرني بأنه تشاجر مع أبيه ليلة أمس، بسبب السكر الشديد، وعلى أثرها كتب قصيدة عن أبيه يقول فيها: "في الواحة سجن مستدير/ في الواحة حيوان حقير...،" مضيت وحدي وأبلغتهم باعتذار حاكم ومشاجرته مع والده وقصيدته، قفز جواد إلى الهاتف الارضي ليتكلم مع حاكم قائلاً له: الحيوان الحقير أبوك؟ يعني أنت أبن الحيوان؟
تحدثنا كثيراً بغياب حاكم، دارت الأحاديث في معظمها حول نقد منهج وتجربة الحزب الشيوعي السابقة، وائتلافه مع البعث في الجبهة الوطنية والنهاية المأساوية لعقود من التضحيات والنضال. وتطرقنا إلى شخصيات بارزة بالتنظيم ضحوا بحياتهم من أجل مبادئهم وذكرنا من بينهم صباح طارش وقصة صموده ومقتله على أيدي الأمن خلال اختبائه في أحد أحياء المدينة، لاحظا أسفي وحزني عليه بعدما أوردت عنه حكايات كثيرة تدل على معرفه قريبة به سألني جواد هل تعرفه؟ أجبته نعم كان مسؤولي الحزبي.
استأذنتهما لأتمدد قليلا على الكنبة لإرهاق اصابني من المدرسة وعرق العصرية، وأثناء نصف إغفاءه، سمعتهما يهمسان بينهما بشيء من الارتياح: "يقول كان صباح طارش مسؤولي!!".
استمرت زياراتنا لعماد بشكل متواصل ليلاً أو نهاراً، نلتقي بعقد جلسات لا يغيب عنها الخمر ولا النقاشات الصاخبة والنكت والنوادر الظريفة، الجلسة مع عماد تميل إلى غلبة الحديث بالسياسة على الأدب وباقي الاهتمامات الأخرى، في غرفته بالطابق الثاني المطلية بدهان أحمر قانٍ وصور لينين وستالين وعلامة الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين مستنسخة على جدرانها، ومئات الكتب من مختلف الأنواع الأدبية والسياسية والفكرية متوزعة بلا ترتيب بين الأرجاء؛ المكان وطبيعة الأحاديث والجلسات تمنح أكثر من إشارة الى وجود شيء غير صخب الجلسات المعتادة، هاجس ما في داخلي أمرني بأن أنتظر.
حاكم محمد عداي على بساطة روحه وصفاء قلبه، يجعل من أعقد الأمور بمماحكاته وظرافة أسلوبه مع الأصدقاء والآخرين سهلة ومباشرة. عند لقائنا اليومي اقترح عليَ بأن نتمشى قليلاً، إنطلاقا من منزلهم قرب جامع (ست لندا) بشارع عشرين، حول الكورنيش والكازينوهات المتوزعة هناك. قبل وصولنا ونحن نخترق شارع النيل، فاتحني بطريقة غاية بالبداهة والمباشرة عن وجود حزب سياسي معارض للنظام، حزب حسب ما وصفه بأنه نوع من أنواع اليسار الجديد غير الأحزاب اليسارية والشيوعية الكلاسيكية الموالية للسوفييت ..الخ بقيادة عماد. وأدعوك للانضمام إليه..، هكذا بكل تلقائية كشف لي عن وجود تنظيم حزبي يساري شيوعي معارض ودعاني للالتحاق به، ولأننا أصدقاء لا يوجد ما يستوجب إخفاءه وتوريته بيننا، وهي مضمون اقتراحه علي أن نتمشّى قليلاً.
باغتتني دعوته لي الانضمام إلى التنظيم الجديد في لحظة لم أكن مستعداً لتحمل وقعها عليّ بسبب المكاشفة الصريحة، ووزن الموضوع الثقيل. تغيرت فجأة بعض الموازين عندي وتحفظت بالبداية لأحيط بجوانب الموضوع وأشحذ همتي كما يقال لاستوعب ما قاله وأجيبه؛ رغم الشكوك التي ساورتني من قبل عن وجود شيء من هذا القبيل يكاد يصرح به عماد في كل جلسة نعقدها سوية في غرفته المصبوغة بالأحمر القاتم.
لم يدم الوقت طويلا؛ بعد سلسلة من الاستفسارات والنقاشات حول التنظيم أعربتُ عن موافقتي واستعدادي للعمل والانخراط فيه، وكأن التنظيم هذا جاء منقذاً من الهلاك، ينقذ الشيوعية التي أحلم بتحقيقها، والتي تحطمت على يد البعث بحظره نشاط الحزب الشيوعي وملاحقة أعضائه بالإعدام والاعتقالات والمطاردات، ومن نقدنا للحزب الشيوعي وخصوصاً في ما عرف بتجربة الجبهة مع جلادي البعث وما أسفرت عنه هذه التجربة من كارثة ألمت بالحزب والشيوعية بالعراق.
أخذنا نعقد الاجتماعات الدورية للخلية التأسيسية كل أسبوع في منزل عماد، المؤلفة من عماد، وحاكم، وصلاح حسن، وهشام خزعل، وشاكر ونّاس، وأنا. وكانت الموضوعات التي حرص عماد على مناقشتها معنا وتبيانها لنا، هي جوهر هذا التنظيم وتوجهه الأيديولوجي واختلافه عن توجه وآفاق الشيوعية التي لقبناها بالتقليدية، تلك الشيوعية التي تُحتضر في الاتحاد السوفيتي بسبب ابتعادها عن الشيوعية التي ناضل من أجلها مؤسسوها الأوائل ماركس وإنجلز ولينين. وهذا هو الجديد الذي كنت اتصوره واعتقده بهذا التنظيم.
بيّن لنا عماد منذ البداية بأنّ حزبنا يهدف إلى تنظيم كل القوى الشعبية بمختلف الطبقات والفئات والشرائح الاجتماعية بحركة واحدة مناوئة للنظام البعثي الحاكم، من أجل إسقاطه عن طريق القوة المسلحة والعنف الثوري. ومن المطالب الأساسية الموضوعة كمقدمة للنضال هي قضية فلسطين وتحريرها عبر (الحرب الشعبية طويلة الأجل) لإنهاك (الكيان الصهيوني) والتغلب عليه. الحزب الذي ينشد عماد تأسيسه، عبارة عن نسخة من الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين التي كان هو أحد أعضائها. تحت اسم (الحزب الشعبي الثوري العراقي) وهناك حزب رديف في الأردن بنفس الاسم والمحتوى السياسي لحزبنا الذي ضنّنا إننا وضعنا لبناته في العراق، وهو عبارة حركة قومية عربية من أولويات أهدافها تحرير فلسطين من الاحتلال الاسرائيلي، وذات أفق اشتراكي عربي، ولم تكن شيوعية أممية ولا كان من اهتماماتها نضال الطبقة العاملة ضد الرأسمالية.
لم ندرك ذلك بالبداية؛ بحكم قلة خبرتنا ومحدودية اطلاعاتنا. وحماستنا والشغف لدراسة النظرية الماركسية التي ننهل منها بفصل (المواضيع الثقافية) بالاجتماعات الاسبوعية، قد غطت على (اجتهاد) بجعل الماركسية بإطار قومي، اعتماداً على الماوية والستالينية. وهذه الجزئية قد أغنتنا وأحياناً كثيرة نقف عند حدود ما يثار بالمواضيع الثقافية من تفصيلات شيقة لمكونات الماركسية (الفلسفة المادية الجدلية والمادية التاريخية، والاقتصاد السياسي، والاشتراكية العلمية، وغيرها كثير من المواضيع الادبية والعلمية)، حتى بتنا أشبه بحلقة نقاشية لتداول كل سطر من سطور ما كتبه المؤسسون.
وكما هو مألوف في العمل الحزبي، وخصوصا في حالة النشاط السري، كان هناك توجه لكسب أعضاء جدد للحزب، على أن يتم اختيارهم بدقة، توخياً للحذر، وتجنب الوقوع بما لا تحمد عقباه. وكشرط أساسي لتوسع الحزب ونمو فعاليته، اعتمدنا هذه الطريقة. بانتقاء من كان على استعداد للعمل الحزبي من الأصدقاء، واصبحت خلايانا عبارة عن "لمّة" من الأصدقاء الحزبيين تسود بينهم الألفة والثقة. ولكن حاكم أساء الكسب الحزبي، لانعدام احتراسه وأخذه بنظر الاعتبار ظرف العراق الأمني المشدد، لنقاء سريرته وطيبته المفرطة، مع جميع الناس حتى ولو كان يحتمل من أحدهم صدور شر أو إساءة ما، أو كان غير مؤهل، بطبيعته، ومن حيث محدودية معارفه وثقافته.
فاتح حاكم أشخاصاً كثيرين، منهم من استجاب وحسنت استجابته للتنظيم، ومنهم من رفض والتزم الصمت، ومنهم من جاءت مفاتحته وبالاً علينا وعلى التنظيم. وجريا على عادات حياته البسيطة ودون تحسب لاختلاف العلاقات بين الحياة العامة والخاصة قصد بسهولة أشخاصاً ما كان ينبغي حتى ليكونوا مجرد أصدقاء عاديين بصفاتهم السوقية ومحدودية مداركهم. من بين هؤلاء كان هناك اثنان: أحدهما كان جاراً له، والآخر صديقاً. عندما فاتحهما حاكم بشأن التنظيم كانت إجابتهما على طريقة شطّار الأسواق الشعبية وقطع غيار السيارات، عندما يلجؤون إلى اقتراف أسوء الصفاقات لكي لا يخسروا في تجارتهم. هدداه واشتبكا معه، وهددا عماد أيضا، أرسل الأخير بطلبنا للاجتماع للتداول في الأمر. وبعد أن عرض تفاصيل ما حدث، أنتهى عماد إلى القول وهو يضرب بكفه المفتوحة على الطاولة "لقد انكشفنا". هجما على منزل عماد عند غيابه، وسرقا كتباً ووثائق سرية تختص بالتنظيم، حملها أخو أحدهما إلى قيادة فرع ذي قار لحزب البعث، وأبلغَ عن حاكم وعماد وعن وجود حزب شيوعي. وكان دافعه إلى التبليغ الخشية على أخيه وصديقه من هذا التنظيم الجديد، وتعبيراً عن حسن نيته ووطنيته.
نصح أحد البعثيين المقربين عماد بالعودة للجيش وتسليم نفسه نادماً، حتى يتسنى بعد ذلك التصرف وفق القانون للتخفيف من عقوبة الهروب من الجيش، وابعاد فكرة الهروب من الجيش للتفرغ إلى تنظيم معادي للنظام الحاكم. عاد عماد إلى وحدته التي تركها في مدرسة قتال فرقة 11 في الناصرية، وأودع في التوقيف حتى موعد محاسبته. عاد صلاح حسن من زيارة عماد بالتوقيف منفعلا ومضطرباً، ووعدنا بذكر التفاصيل لاحقاً. لكنه روى لي على عجل، ما ذكره له عماد عن طلب مدير مركز التدريب للقائه والتعرف إليه، وتطرقْ هذا العقيد إلى قضيته الأمنية وعثور الاستخبارات على وثائق وكتب ممنوعة في منزله... وتعليقه من ثم على الحادث " أنا هذا الموضوع لا علاقة لي به إنه عمل الاستخبارات" فهمنا جميعنا بعد ما ذكر صلاح هذا اللقاء بين عماد وآمر المركز، إننا انكشفنا وإننا في خطر. أختفى صلاح بعد هذا اللقاء مدة شهر أو أكثر، مستقراً في منزل أحد أصدقائه وزملائه في الكلية، الواقع في قضاء سوق الشيوخ، تحسباً من المداهمة والاعتقال فيما إذا اعترف حاكم وعماد تحت التعذيب والضغط.
التقيت بأبي عماد، عبد الرزاق عبد سكر، وذكر لي تفاصيل مداهمة الاستخبارات لمنزلهم والقيام بالتفتيش ومصادرة كتب ووثائق وأوراق خاصة بعماد، ولم يفت عماد القيام بحملة لإتلاف الأدلة والوثائق الحزبية وغيرها من القرائن التي تديننا. أخذوا كل الكتب الماركسية، باستثناء المسرحيات وكتب الأدب التي تركوها بعد إشارة "أبو عماد" لهم إنها كتبه وليست كتب عماد ورد الضابط عليه :" نعم عمو احنا نفرق بين كتبك وكتب عماد".
لم أعرف متى ألقي القبض على حاكم ولا كيف ولا من أي جهة. مدة طويلة بقينا أنا وشاكر ونّاس ومحمد عبد الرضا ونصار هاشم يأكلنا القلق، والخوف من الاعتقال في أي لحظة؛ ولا ندري هل وردت اسماؤنا في التحقيق، وهل هناك خطة أو عمل معين لاعتقالنا؟ خلال هذه الفترة وقعت تحت ضغط نفسي شديد وأخذت ألجأ إلى معاقرة الخمر. ومن سوء الحظ انتهت فترة تأجيل وجبتنا نحن خريجي السادس الإعدادي الذي لم يكن لنا نصيب في القبول المركزي للعام الدراسي 1983_1984، فساقونا إلى الخدمة العسكرية، إلا أني تخلفت عن هذه الدعوة خوفا من أن أقع فريسة سهلة للاستخبارات العسكرية وأنا في المعسكر. تخلفت عن دعوة الالتحاق مدة شهر و16 يوما. في أثناء حملة مداهمات لجمع مقاتلين للجيش الشعبي ألقي القبض عليّ ولم أملك حينها أية أوراق ثبوتية تثبت سلامة موقفي من الخدمة العسكرية. أدخلوني إلى مسؤول الفرقة الحزبية كوني لا أملك أي أوراق ثبوتية وربما أكون هارباً من الجيش أو متخلفاً عن الخدمة العسكرية، وبعد بعض الاستفسارات والاسئلة فهم المسؤول إني متخلف عن الخدمة العسكرية، طلب بأن أبقى في مكتبه لينظر بقضيتي، لم أفهم ساعتها هذا التساهل، تأخر الوقت حتى الساعة العاشرة مساءً وأنا في مكتبه وقبالتي يجلس متوعداً الدكتور صادق الجراح، الذي اغتيل على يد المعارضة المقيمة في الأهوار بعد سنة تقريبا من هذا اليوم. دخل علينا صديق والدي (جبر القره غولي) منهكاً كمن كان يركض، أدركت بأنه جاء لينقذني من ورطتني، فهذا الرجل ذو اعتبار في الأوساط الحكومية والرسمية. أسرع إلى مسؤول الفرقة الحزبية ماداً يده ليصافحه وقام الأخير واقفاً من خلف منضدته يحييه تحية صديق. أشار القره غولي اليّ قائلاً له: "عندي واضعاً يده الأخرى على صدره،" أجابه المسؤول: "نعم أعرفه حق المعرفة إنه أبن الحاج عبد الستار الكهربائي وحتى إنه يتيم، أمه متوفية؛ ولو كان هناك من أرشده لما تخلَّف عن الالتحاق بالجيش، ارجو أن اطمأن منك أخ جبر بأنه سيلتحق بالجيش منذ يوم غد، وسوف أعمل له وثيقة عدم تعرض من أجل تجاوز نقاط التفتيش"، أكد له القره غولي بكل ثقة سيكون ذلك غداً، وعندما هممنا بالخروج من مكتب المسؤول الحزبي أمسكني من يدي دكتور صادق ليمنعني من الخروج، وكأنه لم يسمع الحديث والعفو عني، حتى انّ القره غولي استدار إلى المسؤول مستنجداً، أشار مسؤول الفرقة الحزبية للدكتور صادق إشارة من رأسه بأن يترك يدي قائلاً له: "لا دكتور مكفول." وصلت أنباء اعتقالي لوالدي في محله بشارع الجمهورية، ومن حسن الحظ إن جبر القره غولي لم يبعد محله عن محل والدي سوى أمتار، لم يتخلف الأخير عن نجدتي وطلب والدي الذي تربطه معه علاقات ودية مدة عقود طويلة.
ذهبنا في اليوم التالي الذي يصادف 16/9/ 1985 إلى مركز تدريب مشاة البصرة الواقع على طريق أور الأثرية، بصحبة أخوتي: الحاج وهاب وعلي، تحدثنا مع الاستعلامات الخارجية في الباب الرئيس، وأشاروا لي بالذهاب الى مكاتب مسقوفة بالجينكو وهو ما يسمى بقلم الوحدة. أخذوا دفتر الخدمة وشرعوا بفتح سجل لي ونسبوني إلى الفصيل السابع في السرية الرابعة وآمرها الرائد كوكب من أهالي مدينة الناصرية.
بعد نزولي من وحدتي في اليوم التالي وبعد حلاقة شعري نمرة صفر واسمرار وجهي من التدريب تحت الشمس، وفي أثناء وقوفي في باب محلنا لالتقط أنفاسي من مشقة التدريب ومفتقداً حريتي، جاءت سيارة لاند كروز بيضاء جديدة يقودها المسؤول الحزبي الذي عفا عني ماداً راسه نحوي وسألني: هااا التحقت بالجيش؟ وقبل أن أجيبه خرج القره غولي مسرعاً من محله مؤكداً التحاقي بالجيش وأن الأمور كما يجب شاكراً الرجل بامتنان ودعاه إلى الدخول إلى محله إلا أن المسؤول شكره مغادراً، وهو مطمأن بأني الآن مواطن صالح بعد ما لاحظ اسمرار بشرتي وحلاقة شعري.
خضعتُ لفترة تدريب لمدة ثلاث أشهر في مركز تدريب مشاة البصرة، وبعدها نُقلت إلى مدرسة قتال فرقة 11 الملاصقة لمركز التدريب على سلاح (البي كي سي). وهي الوحدة الموقوف في سجنها عماد عبد الرزاق. وقد ضاع ولم يعد هناك أي خبر عنه، وصلتنا أخبار بعد فترة تفيد بأن حاكم قد مات بالتوقيف تحت وطأة التعذيب ولم يعترف علينا، وبعكسه لكنا قد اعتقلنا وأصبحنا في خبر كان.
في أثناء فترة وجودي بالتدريب، قامت إيران بالهجوم على الفاو واحتلاله في شهر شباط عام 1986، وحصلت معركة شرسة أدت إلى خسائر جسيمة في صفوف القوات العراقية. نُقل فصيلنا إلى سرية مقر فرقة مشاة 25 قيادة قوات حذيفة أبن اليمان، في ناحية العزير جنوب مدينة العمارة. كانت هذه الوحدة تشكيلاً جديداً وبحاجة إلى حِرفيّين متخصصين بمختلف المهن والحرف الضرورية لتشغيل متطلباتها الكثيرة. سألنا أمر سرية المقر الرائد (مازن) الفلسطيني الأصل من وراء سياج منزل كان يشغله عما نجيد من حِرف ومهن، أجبته بأني كهربائي، وأردف ليتحقق: "كهربائي سيارات لو تأسيسات، اجبته تأسيسات" أمر بعدها رئيس عرفاء الوحدة نائب ضابط (عبد العباس عبد الخضر) أن يأخذني إلى مفرزة الكهربائيين لامتحاني. وبعد اختباري من أحد الكهربائيين في المفرزة، أسرع ليخبر الرائد بأني كهربائي يُعتمد عليه، كي أستلم المهمة مكانه ويعود هو إلى وحدته.
الآن أنا عسكري، أشعر بالأمان في مكاني هذا مقارنة بالوحدات القتالية والتشكيلات الأخرى، إلا من القصف المدفعي البعيد. أن تعيش في حرب يعني أنك مستعد للموت في كل لحظة، لا سيما في حرب ما كانت لتبدو أن لها نهاية. كان ذلك الهاجس الوحيد المسيطر على كل من اشترك بالحرب تحت أي صفة كانت. أعيش برتابة وسكينة في مفرزة الكهربائيين، عملنا مقتصر على إدامة مولدات الكهرباء الضخمة وتصليح العطلات الطارئة، وإنجاز ما يطلبه منّا ضباط الأركان من تأسيسات وترميمات في ملاجئهم المحصنة، ولأنّنا في واجب مستمر طيلة 24 ساعة باليوم، يعّوض هذا عن شمولنا بالتدريب الصباحي والواجبات الليلية وباقي المهام الأخرى، مما يوفر وقتاً فائضاً، استغليت معظمه بالقراءة ومتابعة الأخبار العالمية من الراديو، جئت بكتب أدبية وفكرية وعكفت على مطالعتها. ولكن ذلك لم يمنع نوبات القلق أن تنتابني وتغزو استقراري.
أحصل على إجازتي الدورية مدة سبعة أيام بعد كل 28 يوم، فاهرع للقاء من يتواجد من الأصدقاء أيام اجازتي، لأمضي معهم أعذب الأوقات وأجملها، نتداول شأن قضيتنا وكثير من الشؤون الأخرى السياسية والثقافية. تعددت الإجازات وطالت فترة وجودنا بالجيش وانتظمت لقاءاتنا وسادها بعض الهدوء.
وأعود الى السؤال الذي يحوم في خاطري باستمرار؛ أين عماد وحاكم الآن، وماذا حل بهما؟












4
في الحاكمية
دخلت بنا السيارة إلى مبنى الحاكمية، نزلنا في الاستعلامات، حيث أُمرنا بخلع ملابسنا واستبدالها ببجامة، وتسليم كل ما عندنا إلى الأمانات وبعدها استعاضوا عن أسمائنا بأرقام وكان رقمي 1035. سمعت الضابط المسؤول عن الأمانات يتحدث مع مسؤول مفرزتنا عنّا وعن قضيتنا. وعند استبدال ملابسي ببجامة سألني ضابط الأمانات عن نشاطي فأنكرت، وعن درجتي الحزبية فأنكرت كذلك، ورد عليّ هازئاً: "انت شنو يعني.. حزبيش هذا حزبك؟" عصبوا عيوننا بأشبه بنظارات جلدية واقتادونا إلى المحاجر، مصبوغة بلون أحمر قاتم كلون الدم غير المؤكسج، إلى محجر يحمل رقم 19 دخلته وكان فيه أربعة نزلاء جميعهم يكبرونني بالسن وقضاياهم غير سياسية.
وهذا المحجر يتوسط الطابق مقابل السلَّم وقرب نقطة الخفارة، نستطيع أن نسمع بوضوح أحاديث الحرّاس والهاتف وعندما يؤكد الحرس على طلب المحقق أرقام المطلوبين للتحقيق. كنت دائماً أتمدد قرب الباب لأستمع إلى الجلبة في الخارج، سمعت تأكيد الحارس قائلاً: "1035"، هذا التأكيد يعني أنّني سوف أنزل إلى التحقيق (النقاش الموسَّع)، داخل الحاكمية. كان التحقيق أخف وطأةً بكثير مما تعرضنا له في الناصرية، لأن ملفنا من الناحية المبدئية ناجز ولا يحتاج سوى التأكيد على ما ورد بالتحقيق في الناصرية، إلاّ أن ذلك لا يعني أننا سوف نسلم من غضب المحققين على التحدي الذي اقترفناه ضد نظامهم وضد صدامهم.
استدعوني للتحقيق عدة مرات وأعادوا عليَ نفس الأسئلة التي استجوبونا خلالها في مركز مخابرات الناصرية، إلاّ من بعض التأكيدات واختلاف في طرق الاستجواب بعضها كان غاية بالقسوة وبعضها مجرد كلام جاف، في مرة من نوبات التحقيق أيدت لهم بأنّي من أخفى مطبعة الحزب بالناصرية في محلّي، وعندما تحدثت عن ذلك للموقوفين معي في المحجر لم يقبلوا منّي هذا الأمر، وأكد عليَّ أحدهم وكان اكثرهم اهتماماً المعروف بحسن الوهابي يعيش في بغداد وقصة حياته لا تخلو من مفارقات وآلام، واوصاني: عند نزولك مرة أخرى للتحقيق أنكر ذلك وإلاّ سوف يتضاعف الحكم عليك وربما تُعدم بسبب ذلك. وفعلاً غيرت إجابتي في المرة التالية من التحقيق، وأنكرت وادّعيت أنّي لا أعرف أي شيء عن المطبعة، وبعد لحظة صمت لم أسمع سوى صوت هف صدمَ يدي بقوة، فَطرَ على إثرها ظفر سبابتي إلى نصفين، مما أدى إلى تورم يديّ الاثنتين واحتاج إصبعي إلى أكثر من شهر للشفاء وظهور إظفر جديد. قال لي المحقق المسؤول بعد هذه الضربة،" ها علّموك"!
من الواضح أن المحققين يدركون أن الموقوفين يفيد أحدهم الآخر، وكيف يتعلم أحدهم من الآخرين أين يكمن الخطر في الاعترافات وكيفية التخلص بأسهل الطرق أو أشقها من الصعوبات والنتائج التي من المحتمل أن تكون مؤديةً للإعدام. وبعد سلسلة من الشقاء من التحقيق شبه اليومي أدركت آخرها بأنّ التحقيق وصل إلى نهايته عندما سألني عن اسمي الرباعي واللقب واسم أمي الثلاثي، إلا أني لم أكن أعرف جدّ امي ذكرت له اسمها واسم أبيها "زكية سنيف" قلت له ، نادى بأعلى صوته باتجاه الغرفة المقابلة: "سيدي هذا ما يعرف اسم جده"، جاء على ما ظهر مسؤول أعلى رتبة منه سمعت وقع خطواته تقترب مني بتثاقل، وقال بصوت أجش: "شيوعي هتر طبعاً ما يعرف اسم جده."
انتهى التحقيق نهاية شهر نوفمبر ووقعت (صادقت) على أقوالي عند قاضي التحقيق داخل الحاكمية. بداية استدعائي عنده أجلسوني على كرسي، سألني: "هل أنت شيوعي،" أجبته: "نعم،" واذا بضربة شديدة من جسم صلب بحجم مسجل الكاسيت على صدري، وقعت على إثرها أنا والكرسي إلى الخلف، فهمت بعدما أفقت من هذه اللكمة القاضية وبعدما شرحت للموقوفين في المحجر، أنّه ما كان يفترض بي أن أجيب بهذا الجواب لأنّه اعتبره تحدياً سافراً.
أنا عندما أجبت بنعم إني شيوعي، خرج هذا الجواب عفوياً من صميمي، نسيت لحظتها أنّي داخل أسوء جهاز قمعي بالعالم. جلس قاضي التحقيق وهو يلهث، ولا أدري إن كان ذلك من شدة الغيظ أم من الإنهاك؟ فسألني بصوت بدا أنه متقدم بالسن ولكن بنبرة أهدأ قليلاً: يبدو أنك تعلمت الشيوعية من والدك أو أعمامك، أجبته بأن والدي متوفى، "وأعمامك؟" أجبته "متوفون،" رد عليَ: "كلهم،" أكدت له: هما اثنان فقط. وبعد صمت قليل قال لي: "يلله وقع هنا وروح، شيوعي صاير، همّه أهلها عافوها."
وقعت على إفادتي وأعادني الحرس وأنا معصوب العينين إلى محجري رقم 19. أدت الضربة إلى تورم صدري، ومازال الأثر، بعد أكثر من عقدين من الزمان، متليفاً على ضلعي.
بعد التوقيع عند قاضي التحقيق، طرق الباب علينا بقوة مسؤول الموقف، ويلقبه الموقوفون "أكشن" بسبب كثرة ترديده كلمة أكشن، وعندما يحين وقت مناوبته ويدخل الموقف نتعرف عليه من صيحاته "أكشن أكشن،" وهو منتسب لجهاز المخابرات يدعى ( وعد) من مدينة كركوك. طرق الباب علينا وفتحه وأمرنا بأن نحمل بطانياتنا وأغراضنا الأخرى لننتقل إلى الطابق الأعلى حيث الغرف الصفر أوسع قليلاً، ولونها الأصفر الرملي أقل كآبة من الغرف باللون الاحمر القاتم.


5
حسن
دخلنا الغرفة جميعنا نحن الموقوفين في غرفة 19، وكان ثلاثة منا من الموصل بدعاوى مختلفة، وقاسم شعن من مدينة الثورة آنذاك كان عمره 59 سنة، بدعوى بيع جوازه، وحسن السَّلفي الملقب بحسن الوهابي. وقصة حياة هذا الاخير لا تخلو من مفارقة وحزن.
يحدثني حسن (لا أتذكر اسم والده) دائماً عندما توثقت علاقتنا أثناء أشهر التوقيف الطويلة، رغم اختلافنا العقائدي، ولإحساس منه بأنّي أنصف مشاعره ولا أعيبه، حدثني عن أمرٍ كان يحزنه كثيراً ويملؤه أسى طوال سنوات وسنوات امضاها من عمره. كان يشعر دائماً بأنّ أمّه لا تحمل له مشاعر الأمومة، كانت دائماً جافية معه، حتى إنّها توصمه أحيانا بأنّه مأبون. عند هذا الأمر علق وهو مغموم قائلاً: اعتدت منها سماع أنواع السباب والشتم ووصمة المأبون، إلاّ إنّها في مرة من المرات أقسمت (بالله العظيم) بأنّي مأبون. عندها فهمتُ أنّها جادة بالأمر، وعلى الأرجح كان هو سبب جفائها عني، فاستنكرت كلامها، وطلبت منها أن توضح لي لماذا تصمني بهذا الامر الشائن، وأنا براء منه ولم أمارسه أبداً. أجابتني بعد إلحاحي عليها بأنّها كانت تجزع عليَّ من أمسياتي التي أمضيها خارج المنزل عندما كنت مراهقاً وكنت شديد الوسامة، فهو كان من اصول كردية ولد بالموصل ويسكن بغداد قبل ان يتدين ويتوجه للسلفية والوهابية. أخبرته أمّه بأنّها كانت دائماً تخشى عليه عصيانه واصراره على قضاء الليل خارج المنزل مع أصحابه المراهقين، فقررت مرة أن تستشير صديقة لها، وهذه نصحتها بالذهاب لفتّاح فال ليستطلع أسرار غياب حسن المراهق في الأماسي مع أقرانه، وبعد ان اتصل بشياطينه وملائكته غير الصالحين، كشفوا له سرّ حسن بأنّه يمارس الفاحشة، وكان جواب فتّاح الفال الدجال لأمّ حسن قاطعاّ: إنّ ابنك مأبون، وغيابه ليلاً إنما لممارسة الفاحشة مع أصحابه. وثقت الأم بكلامه دون جدل. "ومن هذه اللحظة التي كشف سرك يا حسن عرفت وتأكدت بكل امانة انك مأبون،" شرحت له امه أسباب خيبتها منه.
وتابع يحدثني عن أوجاعه والتمييز الذي كان يُمارس ضده في المنزل. يتذكر كيف أنّ أمه حرضت ضده أخاه الأصغر سناً منه بعشر سنوات، بسبب خلاف عائلي، وكان الفتى مفتول العضلات قوياً، فنزل من الطابق العلوي حانقاً وأوسع حسن لكماتٍ أمام زوجة الاخير، فترك هذا الحادث ايضا أثرًا مؤلمًا محزنًا في نفسه.
كان حسن متحدثاً بارعاً يمتلك موهبةً فطريةً بسرد الأحداث والقصص، التي مرت عليه خلال سنيّ عمره القصير، يجعل المستمع اليه مصغياً دونما أي ملل، وحتى الأحداث البسيطة، مثل الحادث الذي رواه لي عندما كان عسكرياً. ففي أحد أيام نزوله من وحدته في الموصل، خرج هو ووجبة من المجازين إلى الشارع في منطقة ريفية، بعد مشوار من المشي اقتربت منهم شاحنة حمل صغيرة ( بيك آب) لتنقلهم لأقرب مكان تتوفر فيه السيارات. كان صاحب الشاحنة مزارعاً كردياً يحمل في حوض السيارة غِلَّته للسوق وقناني الحليب الألمنيوم الكبيرة، وعند وصولهم لتقاطع طرق، نزلوا من السيارة وشكروه على التوصيلة، وبعدما استدار بمنعطف التقاطع سقطت قنينة من قناني الحليب من باب الشاحنة غير المحكم، وأخذ حسن وباقي الجنود أصحابه ينادون عليه وهرول أحدهم خلفه إلاّ أن المزارع لم ينتبه اليهم وبقيت القنية ملقية على الجانب الترابي، ورأوا أن يضعوها على مرتفع من الارض على احتمال ان يلمحها عن عودته ولا يتهمهم بسرقتها.
كان يسرد لي يومياً مثل هذه القصص العابرة، ويروي لي عن اعتقاله وتوقيفه في (أمن الموصل). في مرة وعند بدايات تديّنه وتوجهه نحو السلفية والوهابية، كان يقود سيارته متوجهاً إلى بغداد، أوقفته سيطرة أمنية خارج المدينة، سأله الضابط المسؤول بالسيطرة: "أنتَ ملتحي؟ هل أنتَ كوردي أم عربي؟" أجابه حسن "لا فرق بين عربي وأعجمي إلاّ بالتقوى." استفز الجوابُ ضابطَ الأمن، فهمّ باعتقاله بحجة شكه في أوراقه الثبوتية وعدم تصديق أوراق السيارة. اقتيد حسن إلى مركز أمن الموصل وبعد التحقيق معه واحتجازه لعدة أيام بلا جدوى، قرروا إطلاق سراحه. استُدعي إلى الاستعلامات في يوم إطلاق سراحه. يقول: جلست على الأرض مقابل منضدة ضابط الاستعلامات وهو يعد أوراقي للخروج من التوقيف ويتحدث معي ويسألني أسئلة تقليدية، وكانت صورة لصدام خلفه يمتطي حصاناً، بعد فترة سمعت صوتاً يأتي عَبر الباب يتكلم مع ضابط الاستعلامات دون أن يعلم بوجودي ساخراً من صورة صدام: "هاي شلون تصير: حصان صاعد حصان." وإذا بضابط الاستعلامات يقفز من خلف المنضدة وبخطوات واسعة يخرج من الاستعلامات، ثم سمعت همساً لمدة غير قصيرة، بعدها افترقا وعاد الضابط لي وتكلم معي بنبرة لا تخلو من ود: إن قضيتك سهلة وانشاء الله انت طلع، يا أخي المؤمن مبتلى.
من الغرفة، غرفتنا، بلون رمال الصحراء استُدعي حسن للمحكمة، نُودي على رقمه (222)، فز مصعوقاً عند سماعه رقمه، فتح عينيه بسعة مذعوراً يتأمل في وجوهنا طلباً لفرصة ما تساعده على تكذيب ما سمع او تأجيل ما، يبقيه حتى ولو بين جدران الموقف الاربعة وبؤس الحياة، إلى أمدٍ يمتد به حتى النجاة التي يتأملها منتظراً، كأن يكون إصدار عفو أو مرحمة كما كان يكرر ذلك دائماً تشبثاً بالحياة. اخذوه من بيننا واغلقوا باب ( قاصات المشرق) بعده. وعبارة "قاصات المشرق" هو الوصف الذي كان يكرره دائما عن باب الغرفة نقلاً عن عربستاني كان موقوفاً معه قبل وصولي بتهمة تجاوز الحدود. كان العربستاني يقف أمام الباب ويمثل "إعلاناً" عن هذه القاصات، كان يظهر على شاشة تلفزيون الشباب التابع لعدي. ويبدو أن البث التلفزيوني كان يصل إلى عربستان.
أصابنا التوتر والقلق تعاطفاً معه، مصدره خوفه هو من هذه اللحظة إلى حد ظهر على أحاديثه ونبرة صوته وحتى على شكل جلسته، يلم أطرافه ويتكئ على جانبه معظم الوقت مثل وضع الجنين داخل رحم أمه. وضعُ جلسته هذه كان يذكرني دائما بما كنّا نعانيه أيام الحرب العراقية الايرانية عند اشتداد القصف المدفعي من الجانب الإيراني على وحدتنا في ناحية العزير الخالية من السكان، نلوذ تحت سلالم المنازل الكونكريتية متكورين وجامعين أطرافنا بقوة، مع كل صوت يزأر من السماء نازلا على المدينة برعب صراخُ الموت الممسك بمعصم اليد، ولم تنقذنا منه إلاّ الصدفة وحدها، تنقلع الأبواب والشبابيك وينهمر الزجاج علينا ونحن قابعون تحت السلم، ننتظر الفراغ من هذه الزخة. وفي إحدى نوبات القصف هذه سخر أحد العسكريين في حظيرتنا (حظيرة الكهربائيين)، وكان يساريا واعياً من مدينة العمارة، فقال متهكماً كعادته من عصف الهواء وارتطام الشبابيك اثناء موجة قصف متواصلة: "رحم الله الشاعر علي ابن الجهم وبيته المشهور عيون المها بين الرصافة والجسر جلبن الهوى من حيث أدري ولا أدري."
خلال انشغالنا بتناول وجبة الغداء سمعنا أصوات حركة بباب غرفتنا، فُتح الباب وأدخلوا علينا حسن عائداً من المحكمة. عاد مذهولاً مبهور الأنفاس، ساد الوجوم للحظة ثم سألناه كلنا بقلق: "ها خير ما الحكم؟" تنفس بعمق وأجاب: "انشاء الله خير،" وأردف: "الخير في ما يختاره الله". سألته أنا بغير ارتياح مستفسراً: "شنو يعني خير ما الحكم الذي صدر بحقك،" أجاب: "الإعدام."
غص "قاسم شعن" بلقمته، ونكسنا جميعنا برؤوسنا عند سماعنا جوابه، نريد منح أنفسنا لحظة ما لنستوعب الصدمة التي نزلت علينا كالصاعقة، فماذا عسانا أن نجيبه، هل نتمنى له الصحة والسلامة والشفاء العاجل كما يقال للمرضى، وهل هناك كلمات ما في اللغة أو في الأعراف تلطّف هذا الموت المقرر؟ هنالك الكثير من جمل وعبارات المجاملة لكل المناسبات تزخر بها اللغة، ولكن، من المؤكد لا يوجد شيء نرد به على مثل هذه الحالة. الحكم بالموت على أحدنا، يعني بأنّ الشخص المحكوم الذي يعيش الآن معنا يأكل ويشرب ويصلّي ويتحدث عن شجونه وذكرياته ولهفته للحرية، وللعودة للعائلة، ويشاطرنا آلامنا وهمونا وحسراتنا، يجلس قربنا، وكل وجوده في الحياة مسألة وقت حتى يقرروا أخذه إلى قاطع الإعدام وتطوى صفحة حياته إلى الأبد. والمحكومون بالإعدام لسوء الحظ يُعجل دائما بترحيلهم والتخلص من مسؤوليتهم.
كان حسن ينتمي إلى جماعة (أحمد الجلبي). وكان هناك ضابط برتبة نقيب، مسؤول الارتباط بين حلقتهم والقيادة في كردستان، يدعوهم للاجتماع وتبليغهم التوجيهات والتعليمات الحزبية، وبين فترة وأخرى يجمعهم في سيارته البرازيلي، ويتوجه بهم إلى مكان متفق عليه. وفي آخر مرة ضايقه مسدسه المثبت على حزامه العسكري فأمّنه عند حسن حتى يستريح بجلسته عندما يقود السيارة. نزلوا إلى مكان الاجتماع وكان هذه المرة فخاً أعدته لهم المخابرات، وألقي القبض عليهم جميعاً ومعهم حسن وبحوزته المسدس، وعندما قدموا للمحكمة برئاسة لواء الأمن (عجيل العجيلي)، الذي سوف يترأس جلسة محاكمتنا أيضاً، أصدر عليه الحكم بالإعدام وفق مادة تنظيمات مسلحة لأنّه وجد بحوزته مسدس، وعليه يعتبر عملاً عسكرياً ضد الدولة، ووفق هذه الحالة يحكم على مرتكبها بالإعدام. اعترض حسن موضحاً للحاكم بأنّ المسدس لا يعود له بل يعود للضابط المسؤول واخذه منه مؤقتا كي لا يضايقه عند القيادة، وحتى الضابط المحكوم عليه بالإعدام أيضاً تدخل إسعافاً لحسن وأكد للعجيلي هذا الأمر بأنّ المسدس يعود إليه، إلاّ أن الأخير أصر قائلاً: " لا هذا هو، انت دخلت الاجتماع تحمل مسدس سواء كان مالتك او مو مالتك"، يعني ذلك عملاً عدائيا ضد الدولة يستحق الإعدام.
ظل حسن معنا بالتوقيف لمدة أسبوع تقريباً، يتعبد ويقرأ أحد اجزاء القرآن كان بحوزته. وأوصى شخصاً أُطلق سراحه (كان كردياً يسكن في بغداد) الذهاب لأهله في الغزالية، ليوصيهم بالطريقة الأصولية لإنزاله في القبر، عند استلام جثته، وبعض الأحكام الدينية التي تتعلق بالموتى، ورعاية ابنته الوحيدة. وكان هذا الشخص يصغي إليه بدون تأثر لأنّه كان يهمّ بالخروج فقد نودي على رقمه من أجل المغادرة.
أنا مستلق على جنبي في هذه الليلة وكنت الوحيد بالزنزانة لم يطمئن بيّ النوم، أحسست بحركة مفاجئة قربي التفتُ ووجدت حسن جاثياً على ركبتيه متنرفزاً على غير عادته، سألته : شبيك حسن؟ أجابني بضيق: "يا جماعة أريد أن أبكي،" أيدتُ رغبته بالبكاء "ولم لا تبكي" قلت له، "ما النقيصة في ذلك." إني أدرك تماماً أنّ البكاء سيزيح ثقلاً جاثماً على صدره ويخفف عنه قليلا، وحتى قبل أن أنهي كلامي معه دلف إلى الجزء المخصص للمرافقات الصحية بالزنزانة وأجهش ببكاء لم أرَ مثيلاً له من قبل، بكى بكاء الثكلى على فقدان وحيدها، ينتحب بأنين خافت متواصل، وفجيعته هي روحه التي سوف تزهق قريباً، وليس على احد سواها.
في اليوم الأخير لحسن انشغل بعيداً عنّا، لاحظته وأنا متمدد على بطانيتي ورأسي عند الباب واجماً طوال اليوم يسرح ببصره على الجدران ثم يفتح عينيه على اتساعهما، يحدق باتجاه مجهول غير مرئي، كأنّ عينيه تتمتعان بقدرة اختراق المكان، ليتطلع إلى الاهوال التي تنتظره. سمعت أصواتاً بعيدةً تقترب، سمعتهم عندما اقتربوا ينادون على رقمه (222)، أصابني وجوم وفزع، سكتَ أول وهلة لكنّه سمع رقمه على ما يبدو عندما اقتربوا أكثر، سألني بخوف ليتأكد: "رقمي؟" أجبته دون أن أتكلم بهزة من رأسي بأن نعم، قفز يعتمد على ركبتيه ينقل نظراته بين وجوهنا، ليتني ما فعلت وليت هناك لحظتها شيءٌ ما يمكن أن يعفيني من هذا الجواب، فقد كان آخر حوار بيننا، جاءه الأمر حازماً: "تعجل، اجمع أمورك وتعال معنا،" قبل ان يخرج نهائيا معهم ناولني كيس (تايت) كان قد جمعه وهو الشيء الوحيد الذي يملكه: "هاك" هي الكلمة الأخيرة التي كانت بمثابة وداع أو بمثابة عزاء، أعصبوا عينيه واقتادوه من الحاكمية إلى قاطع الإعدام في سجن "أبو غريب."
















6
ذاكرةٌ مثخنةٌ بإعدامات
هيّج رحيلُ حسن الوهّابي الكثير من الأحزان في داخلي، أحزان ومواقف مؤلمة كنت قد عشتها وكنت شاهداً عليها لحالات شبيهة بحالة حسن. في زمن كان إنزال عقوبة الإعدام وتنفيذها الفوري بدون محاكمة أغلب الأحيان، ولأتفه الأسباب بالعراق، هو القانون السائد خلال الحرب العراقية الايرانية. كان الحكم بالإعدام على الجنود الهاربين من الخدمة العسكرية، منتشراً الى حد أن أوكلَ صدام مهمةَ إصدار مثل هذا الحكم وتنفيذه إلى لجان الاستخبارات والفرق الحزبية والأجهزة الأمنية الأخرى بحق المدانين دون رفعها إليه وتصديقها باعتباره رئيس الجمهورية، أعلى سلطة مخولة ومن مهامها وحدها المصادقة النهائية على مثل هذه الأحكام. وبالأخص للجان التي تقف بعد الخطوط الخلفية للوحدات المشتبكة بالقتال (سمّاها الجنود "لجان الاعدام")، تحاسب وتعدم المنسحب من ساحات القتال بمجرد ضبطه متراجعاً أو شمّ بندقيته اذا كانت خالية من رائحة البارود دليلاً على أنه متخاذل لم يطلق الرصاص منها.
اعدمت هذه الوحدات الخاصة الكثير من المراتب والضبّاط المنسحبين بقرارات ارتجالية وانفعالية بدون محاكمة أو تدقيق النظر في ظروف الانسحاب. لعبتْ الفرق الحزبية دوراً متميزاً في مطاردة الهاربين من الخدمة العسكرية، وتلفيق المحاكمات الصورية وارتكاب مجازر وحشية بحقهم.
استمرار الحرب العراقية الايرانية لسنوات مديدة زاد من حالة التذمر والسخط بين الناس والعسكريين، فكان ذلك هو التعبير السائد عن المعاناة التي يتعرضون لها يومياً. فالعوائل والأهالي يعيشون بقلق دائم على حياة أبنائهم وهم في حومة المعارك والقصف اليومي على خطوط القتال، وشعور الجنود بالخطر من الموت أو العوق في جبهات القتال والاستياء من العيش في المعسكرات والخنادق والسواتر. كل ذلك دفع ببعضهم إلى الهرب من حياة الجيش والقتال المملة رغم التبعات الخطيرة. كان ذلك هو الحل الانسب للعودة إلى الحياة، فهرب الكثيرون وعاشوا أحراراً ولكن غير مستقرين، قلقين من المتابعة ومطاردات الرفاق والانضباط العسكري. شن الحزب الذي لا يروق له هذا الأمر والقوى الأمنية الاخرى وبمساعدة الوكلاء في الأحياء السكنية والأسواق عام 1986 حملة كبيرة لتتبع الهاربين من الخدمة العسكرية، وإلقاء القبض عليهم والقيام بمجزرة من الاعدامات التي حرص صدام على تكرارها بين فترة وأخرى، لكي يرهب الناس، ويمعن في إهانتهم بتغريم ذوي المعدومين ثمن إطلاقات الرصاص التي أزهقت أرواح أبنائهم. توزعت ساحات الإعدام في عدة مناطق في عموم مدينة الناصرية كانت تحت إشراف رفاق البعث وفرق تنفيذ مشتركة منهم ومن الاستخبارات العسكرية، منها ميدان الرمي التابع لمركز تدريب مشاة البصرة الكائن على الطريق الصحراوي لمدينة أور الاثرية.
كنتُ حينها في دورة تدريبية على سلاح ( بي كَي سي) في مدرسة قتال فرقة (11) إلى الجنوب من هذا المركز، حين حصلت واحدة من المجازر بالهاربين. فنسمع في أثناء التدريب دوي إطلاقات رصاص يصدر من مكان بعيد نعرفه، محدد على أنه "الدريئة"، أي الحيز المخصص للرمي بعد إنجاز الجنود المتدربين لدورتهم على الأسلحة. أعدم في هذه الحملة ما يقارب 200 من الهاربين. أعرف أحد هؤلاء المغدورين فتى يبلغ من العمر 19 سنة شكله أقرب إلى الطفل منه إلى الشاب، كان وسيماً ببشرة بيضاء وعيون زرق يدعى باسم، كثيرا ما صادفته يلعب بالزقاق في طفولته مع أولاد أقاربي.
لم ينسحب فريق الإعدام من الساحة ولم يقم أحد بتسليم جثث المعدومين حتى إلى الوحدات الطبية، ظل الموقف ساكنا لعدة ساعات، ما كنا نعرف سبب الصمت هذا أول الامر بالرغم من التوتر الشديد والخوف الذي خيم على جميع الموجودين بالمعسكرات القريبة. دخلت سيارة (لاند كروز) مسرعة إلى جهة منطقة "الدريئة" مكان ارتكاب المجزرة، تحمل وسطها فتاة شابة جاءوا بها من قضاء قلعة صالح من مدينة العمارة، هذه الشابة هي أخت أحد المحكومين بالإعدام؛ كان هذا الفتى تشبثاً منه بالحياة بلحظاتها الاخيرة وهم يقتادونه إلى "الدريئة" مع وجبة من المحكومين، أنكر اسمه قائلاً لهم حسب رواية القريبين منه: "هذا مو اسمي" عسى أن ينفعه نكرانه اسمه بإعادته للسجن أو حصول أمر ما يبقيه على قيد الحياة. وهو وسط اللجة وتلاطم موجات الموت عليه من ناحية، ورفاق الحزب والاستخبارات وقوى أمنية وعسكرية متعددة كلها حاضرة بكامل الاستعداد لهذا الحفل، ومنهمكة بتأدية عملها وواجبها المهني والوطني، مستنفرة قواها لتقتص من هذا الفتى الذي انكر اسمه. المعلومات الموثقة عنه لدى الفرقة الحزبية بمنطقته تؤكد أنّه يتيم الأبوين ولا معارف لديه سوى أخت له متزوجة في قلعة صالح، وإلى هذا العنوان أسرعت سيارة الاستخبارات لجلبها من ذلك المكان حتى تكون شاهدةً عليه وتقر بأنّه اخوها أو ليس أخاها.
سألها المسؤول الحزبي عنه: "هل هذا أخوكِ؟" تطلعت إلى اخيها ومن المؤكد مرت عليها سلسلة حياته عندما كان يلهو معها بالمنزل طفلاً صغيراً، وعندما احتضنته وحملته مرات ومرات، يقف هذه الساعة أمامها، لتكون شاهدةً وتشهد على لحظاته الأخيرة في الحياة. ويعني ذلك البت النهائي ببطلان الادعاء بنكران اسمه، وتشهد على قتله بعد دقائق من مغادرتها المكان، وقف أمامها وهو يعرف أنها اختُه جاءت لتؤكد وتصادق على قتله، يرتجي منها بطلب مكتوم وروحه حائرة زائغة: كيف لكِ أن تبقيني بالحياة وانتِ أختي، عيناه ثبتت بعينيها يرى فيها عمره وطفولته وحنانها عليه، بكت هي من هول المشهد الذي يحيط بأخيها وترَّجتهم وقبَّلت أياديهم وطلبت منهم الرحمة بأخيها. أمرها الرفيق الحزبي المسؤول بإعراض شديد مغادرة المكان فوراً، واقتادوها من يديها بالقوة وأخرجوها من المكان، رجعت تسير لوحدها وهي تفرك بيديها إلى الباب الرئيسي لمركز تدريب مشاة البصرة، وقبل أن تصل، دوت إطلاقات الرصاص منطلقةً من المكان.
والحادث الآخر من السجن المركزي لقيادة فرقتنا (فرقة 25 قيادة قوات حذيفة بن اليمان) التي تمتد جنوب مدينة العمارة، ومركزها في قاطع ناحية العزير بعد أن فرغت الناحية من سكانها بسبب القصف الإيراني اليومي عليها. كنت الكهربائيَّ المسؤولَ عن تشغيل مشروع ماء العزير وصيانته وإدامة مولدات الكهرباء لإرواء وحدات الفرقة المتقدمة في السواتر الأمامية والخلفيات. انتشر خبر عن قرب تنفيذ حكم الإعدام بثلاثة هاربين من الخدمة العسكرية مودعين حالياً في هذا السجن، اقتصاصا منهم على تكرارهم عملية الهروب بعد أن نالوا عفواً خاصاً من وزير الدفاع (عدنان خير الله طلفاح) عن هروبهم السابق. أُعلن في جميع وحدات الفرقة إنذار يوم تنفيذ الحكم بهم، وقف الانضباط العسكري التابع للفرقة، يمنع دخول الأشخاص إلى منطقة الخلفيات الكائنة مقابل ناحية قلعة صالح، المنطقة التي سوف تكون ميدان الرمي لتنفيذ حكم بالإعدام بهؤلاء المحكومين.
في هذا اليوم صادف نفاد الوقود الخاص بمولدات الكهرباء، ومديرية التموين والنقل المسؤولة عن امدادنا بالوقود تقع في الخلفيات، بعيدة شيئاً ما عن ميدان الرمي. ومن واجبي الذي لا يقبل التأجيل تأمين الوقود (الكاز) لكي يستمر ضخ الماء لكامل الفرقة، وقَّعتُ تخويلاً من آمر السرية الى وحدة الوقود و خصص لي سيارة (إيفا) وبراميل الكاز، ذهبت مع سائق الإيفا لموقع الوقود، إلا أن الانضباط منعونا من الدخول إلى الخلفيات، لوجود انذار يقضي بعدم دخول أي كان إلى المنطقة.
من بين الكثير من الناس المنتظرين كانت أمَّ أحد الذين سينفذ فيهم حكم الاعدام بعد قليل واخته، أبلغهما المسؤول الحزبي بمنطقتهم بموعد التنفيذ ومكانه، مثلما روت الأم لأحد المجتمعين بمكان الانتظار. مرت ثلاث سيارات (لاند كروز) بلون عسكري وبزجاج مظلَّل تحمل على ما يبدو من مظهرها مسؤولين برتب عالية ولا بد أيضاً فريق تنفيذ الإعدامات، بعدها بفترة وجيزة مرت سيارة إسعاف تلحقهم مسرعة، نظرت إليها العجوز دون اكتراث وبشرود، دون أن تدري بأنّ هذه السيارة سوف تعود بعد ساعات بجثة ابنها وقد مزقه الرصاص.
روى لي بعد أيام قليلة من هذه الفاجعة أحدُ السجناء المسؤول عن مجموعته، وكانت دائرة السجن تخرجهم، مطمئنة لقرب الإفراج عنهم، ليساعدونا في أشغال المشروع الكثيرة، روى لنا تفاصيل أيام المحكومين الأخيرة بعد عودتهم من المحكمة. يقول ظل هؤلاء الثلاثة مدة أربعة ايام بانتظار يوم التنفيذ داخل السجن المركزي محجوزين بزنزانة انفرادية تجمعهم، لم يتناول أحد منهم أي طعام طيلة أيام الانتظار، كانوا يدخنون السجائر واستعاروا مسجل كاسيت يستعمون من خلاله الى آيات قرآنية، ويوصون خيرا بذويهم، ولم ينم أحدٌ منهم إلاّ لماماً، بعد ان يعتريه الارهاق وينهار من النعاس. أُبلغوا في آخر مساء لهم، بأنّ التنفيذ غداً صباحاً. قبل أن يخرجوهم في صباح اليوم التالي أهدى أحدهم آخر علبة سجائر بقيت عنده للسجين راوي هذه الأحداث، بأن يوزعها (بثواب روحه). وزع الأخير العلبةَ كلَّها إلاّ ثلاث سجائر احتفظ بها كذكرى، وتابع رواية الفاجعة سجينٌ آخر كان شاهداً في ساحة الاعدام، يقول: جمعونا نحن السجناء المختارين مع جمع من جنود ورُتب من وحدات مختلفة، كشهود ولبثِّ الرعب فينا لكي ننقله للآخرين، نشاهد كيف نزل من السيارات (اللاند كروز) عدد من الضباط وفريق الاعدام المؤلف من ثلاثة جنود من استخبارات الفيلق السادس الذي تتبعه له فرقتنا، يرأسهم ضابط برتبة ملازم ثان سنه أكبر بكثير مما يتناسب مع هذه الرتبة، نحيف جداً وأحدب، وهو معروف كونه كان نائب ضابط وبعثياً من الطراز الصدامي، ارتقى لهذه الرتبة بما كان يعرف (بالتكريم) من قيادة الحزب والثورة. شدوا وثاق المحكومين الثلاث وأعصبوا أعينهم وتلى عليهم الملازم قرار الحكم ثم أمر بالتهيؤ واطلاق الرصاص عليهم، أُفرغ في صدر كلٍ منهم مخزن كامل من رصاص بندقية الكلاشينكوف، ولينجز الملازم المهمة الأخيرة بإطلاق رصاصة الرحمة على الرأس، وبدل ذلك أطلق مخزناً كاملاً على رأس كل من المعدومين الثلاث، واشار لي السجين بجمع قبضة يده مشبها الفتحة التي تركتها رصاصات الرحمة الثلاثين في رؤوسهم.









7
راغب فخري ومحمد سابولا
كان التذمّر شائعاً حتى بين جلاّدي النظام نفسه، وهناك شخصيات قريبة من النظام ومن الأجهزة الأمنية العليا، انتقدوا وتذمروا من صدام وعوقبوا بالموت، مثل اللواء الحقوقي راغب فخري مدير الدائرة القانونية في وزارة الدفاع. التقيت به عندما انتقلنا إلى قاعة 52 في نفس الطابق، عرّفني عليه مدرسُ اللغة العربية المسيحي "أبو أزهر" من مدينة القوش التابعة للموصل، لا اذكر الآن تهمته. ولكنّي أتذكر حكايته عن تسعة أزواج شباب من مدينة الموصل، سافروا إلى بغداد من أجل الاحتفال بأفراح أعراسهم. ومن المناطق التي زاروها خلال ايامهم الجذلى متنزه الزوراء فاراد احدهم ان يسبح في البحيرة ولم ينتبه لتحذير مكتوب بأنّ المنطقة عبارة عن رواسب غرينية غير صالحة للسباحة، غطس العريس بالوحل الكثيف وأرادت عروسته إنقاذه ولم تفلح، وغرقت معه، واراد آخر الامساك بهما ولم يفلح أيضاً لعدم التمكن من الثبات على الوحل وفي حالة من الذعر والارتباك غرقوا جميعهم الأزواج التسعة وهم يحاولون انقاذ بعضهم إلاّ ناجية واحدة من المجموعة، روت فيما بعد هذه المأساة.
قدمه لي قائلاً: لواء راغب فخري المستشار السابق لوزير الدفاع عدنان خير الله طلفاح. تفاجأت للوهلة الاولى، فقد كان رجلاً مسناً نحيفاً أشيب الشعر قصيراً، فمه خال من الأسنان كلياً، تبرز عظام ترقوته أعلى صدره. لم توح لي هيئته في البدء أنّه كان يشغل منصباً كهذا. وقدَّمني له: أحمد من مدينة الناصرية وتهمتي كما قال الانتماء لتنظيمات شيوعية. أشاح راغب فخري بوجهه قليلاً عني، وبعد لحظة صمت رحب بيّ بتكلف: أهلاً وسهلاً. انتبه لي، وكأنه تذكر شيئاً وسألني: "أنت على تنظيمات الحزب الشيوعي، كم عددكم وأي جهة أمنية ألقت القبض عليكم، تنظيمكم واسع هل كان داخل العراق أم بالخارج، وكثير من الاسئلة طرحها عليّ بخبرة متمرس". أجبته إجابات شحيحة، كما أجبت المحقق بإفادتي ولم ازد شيئاً، لتوجسي من اسئلته المستطلعة. كان الحذر والخوف كامنين في النفوس من كل إشارة تمّت بصلة إلى قضايا الموقوفين، حتى ولو كان حديثاً عابراً. وهذا شعور عام عند جميع الموقوفين، توخياً للحذر.
حدثني مرة عن علاقته الطيبة مع عدنان خير الله طلفاح وزير الدفاع إبان الحرب العراقية الايرانية ومودة واحترام الأخير له بشكل استثنائي عن باقي مسؤولي الأقسام والشُعب بالوزارة، ويذكر بامتنان مناداته له بلقب "باشا"، والرجوع إليه في المسائل القانونية الدقيقة، والاعتماد الدائم على خبرته خلال الحرب جعله مرتبطاً بالعمل حتى بعد ساعات الدوام الرسمي، مما أضناه وكدَّر مزاجه. لاحظ الوزير ذلك واستدعاه مستفسراً عما يعاني منه، لم يجب راغب فخري صراحةً عمّا يعاني، اقترح عليه الوزير كي يخفف عن نفسه السفر لبيروت بإجازة لمدة 10 أيام على نفقة الوزارة، وسافر للتمتع بهذه الهبة وترك خلفه الحرب ومشاكل الجيش القانونية وخنادق القتال.
لم أكن أعرف أنّ راغب فخري يكره الشيوعية كرهاً مؤصلاً، وعدوٌّ رسمي على مستوى العراق للشيوعيين، قررت أن اسأله ذات يوم عما سيكون مستوى الحكم عليّ على ضوء إفادتي كونه قد شغل مرات كثيرة منصب قاض في المحاكم العسكرية وغيرها من الوظائف الحقوقية المهمة. كرر بعض الاسئلة عليّ ليستوضح كم هو مقدار جرمي الذي اقترفته وما يناسبه من عقوبة، أعدت عليه ما أفدت به المحقق، وخلال سردي لقصة جريمتي، صفق بيده معلناً: "إعدام، أنت تنحكم إعدام،" وأضاف كمن لديه خبرة بكشف الاسرار الضمنية: "اذا ما طلعت عضو لجنة مركزية انا كلشي ما أفتهم،" وتابع: "عرفت من خلال أحاديثك وأحاديث الموقوفين عنك أنك صاحب شأن بالتنظيم." صدمني تجرده والتغير الحاد الذي انتاب مزاجه فجأة، تركته ونهضت إلى زاوية أخرى من القاعة كي اعيد تنظيم ما انتاب ذهني من وشوشة إثر جوابه. لم أستطع أن أجد مبرراً لعدائيته المباشرة معي أول وهلة، رغم إنّ كل الموقوفين يمرون بظروف صعبة وممكن وفق ذلك أن نلقي على عاتق الحالة النفسية ما يبدر منهم من ردود أفعال حادة ومنفعلة، إلاّ إنّي شعرت أن مصدر غضبه شيء آخر. أخذت بالابتعاد عنه وعن كل مجلس يحضره، وهو كذلك أخذ لا يعير وجودي أي اهتمام بعد حديثه الأخير معي وكأنه تخلص من عبء وليس من مجرد شخص أجرى حديثاً معه.
توقيفه ودخوله للحاكمية هذه المرة هي المرة الثانية، الأولى لا أعرف بأي تاريخ، اعتقل وحوكم بالإعدام بسبب ما عرف بمادة التهجم، كان قد أطلق نكتةً في اثناء جلسة شرب تُصوِّر صدام تصويراً كاريكاتورياً وتسخر منه، أُعفي عنه بمرسوم رئاسي تقديراً لخدماته السابقة التي أسداها للدولة، مع إقامة جبرية لمدة محدودة، واعتقاله الثاني والأخير كان أيضاً لنفس السبب (التهجم) إلا ان هذه المرة شتيمة وليس نكتةً على صدام، حكم عليه أيضاً بالإعدام وظل ينتظر نقله إلى "أبو غريب" لتنفيذ الحكم. أيقن هذه المرة بأنّه معدوم لا محالة، اكد ذلك في اعترافات كثيرة مع موقوفين وخصوصاً خلال حديثه المطول مع صديقي القاص الكردي جلال جرمكا، الذي دون بعد ذلك بسنوات، ما دار بينهما من حديث على صفحته بالأنترنت، ذاكراً إحساس فخري بنهايته ليس بسبب تقدمه بالسن، بل إن الاعدام عقاب استحقه نتيجة لما مارس من إجرام طوال سنوات مديدة خلال خدمته بالقضاء في الدولة العراقية، وأسوء حادثة يتذكرها وظلت تؤنب ضميره طول حياته ما رواه لجرمكا:
["هالمرة ماكو خلاص يعدمني صدام حسين يعدمني ..
فد يوم سألته گلتلة:
- عمّي ليش هالإصرار على قرار اعدامك.. يجوز الريس يعفو عنك بعده القرار بالرئاسة ليش ما تتفاءل؟؟.
رد على و هو يباوع بعيوني وگال:
_ شوف وليدي أني أستحق الإعدام.. قبل سنة هم شتمت صدام.. سجنوني ومن سمع الريس عفى عني فوراً.
وهالمرة هم عدتها ولكن اللي مايخافون من الله أمسجلين صوتي.. ولكن من أگولك أنعدم مو بسبب شتمت صدام حسين!!!.
- لعد شنهو السبب؟؟ ليش؟؟.
گال : اسمعني زين هذه القصة ما حاچيها لبني بشر وصار عقود تاكل وتشرب وياية وأشعر بذنب چبير وآني متأكد الباري ينتقم مني بسبب عملي هذا..
في زمن حكم الزعيم عبدالكريم قاسم (سنة 1959) كنت (المشاور القانوني) بالفرقة الثانية بكركوك وكنت برتبة ملازم أول قانوني. وكان أكو عقيد ركن معتقل بالفرقة.. وكان عليه حكم رمي بالرصاص ولكن كنا ننتظر الأوامر.. وكان بإمكاني تنفيذ الأمر أو الانتظار ..كان أكو كلام بأنه ممكن يصدر قرار عفو بحقه!.
فد يوم وصلت برقية من وزارة الدفاع بأطلاق سراح هذاك العقيد.. ولكن الشيطان لعب براسي وقررت أنفذ بحقه الإعدام!!.. شسويت؟؟ ضميت البرقية وشكلنا فرقة أعدام ونفذنا بحقه الحكم فورا..
راد صاح يا معودين متأكد راح تجي برقية بالعفو عني ولكنني رفضت كل توسلاته وعدمناه!!.
طبعا بعدين صار سين وجيم وتشكيل لجنة تحقيقية بس أني كنت حاسب حسابي طلعت منها مثل الشعرة من العجين ..!!!
بس وراها والى اليوم ضميري يؤنبني وكل هالسنوات أشوفه بالحلم ويعاتبني بشدة. أعيش بكوابيس كل ليلة..
لذلك متأكد بأنه هالمرة لازم أنعدم بسبب ما فعلته مع هذاك العقيد الركن الشاب الوسيم صاحب زوجة و طفلين!!...استاهل الإعدام الف مرة أني مرتكب جريمة كبيرة بحق انسان بريء!!.]
نُقل إلى قاطع الإعدام في سجن "أبو غريب" بعد أيام قليلة من إصدار الحكم عليه، سمعنا بعد أشهر بأنّه قد مات في الزنزانة وقد هده المرض والكبر وحيداً، وقد ذكر أحد الأشخاص العائدين ممن ألغيت عنهم عقوبة الاعدام، بأنه تعرف على جثته وهو مسجى على أرض الزنزانة تحيط به الجرذان وقد قضمت أصابع أطرافه الأربعة.
قاعة 52 واسعة بطول عشرين متراً وعرض خمسة أمتار تقريباً، ضمّت الكثير من الموقوفين: لصوص مختصون بسرقة السيارات من منطقة الكمالية، وكان حينها قد شُددت أحكام سرقة السيارات إلى الاعدام لمنع انتشار هذه الظاهرة التي كانت قد أخذت بالانتشار بسبب ما خلفه الحصار الاقتصادي من بؤس دفع كثيرين للسرقة والاحتيال، الأمر الذي انتهى ببعضهم إلى الدخول إلى إحدى السفارات وسرقة سيارة السفير وهو موجود، وسرّاق آثار، وسرقة الاثار شُددت أحكامها كذلك وأنيطت مسؤولية متابعتها بجهاز المخابرات لنفس السبب، وشبكة تجسس لصالح الكويت يتزعمها شخص يدعى (علي العتابي)، أُعدموا جميعهم، وكان غالبيتهم من الناصرية وبعض منهم من سفوان الحدودية مع الكويت.
وكان هناك أيضاً الهندي المسلم صاحب مصانع الصابون والعطور في مدينة بومباي "محمد سابولا" (وتعني بالهندي محمد الصابونجي). كانت متاجره متوزعة بين الفلبين وإندونيسيا ودول الخليج، جاء به حظه العاثر ليفتتح متجراً في بغداد، في تسعينيات القرن الماضي، وكان قد تبرع هو وزوج رئيسة وزراء الباكستان بناظير بوتو التي اغتيلت عام 2007 آصف علي زرداري، بطائرة أدوية لمساعدة العراقيين خلال الحصار، لكن ذلك لم يشفع عند نظام صدام. تم تلفيق تهمة تجسس لمحمد الهندي وأودع في حاكمية المخابرات. وفي مرة من مرات التحقيق سُئل محمد (وهو سؤال يطرح على كل متهم بالحاكمية وانا منهم، كان يدل على مقدار الخوف الذي كان يعانيه البعثيون من نتيجة العقوبات وماذا سيترتب على نظامهم من أمريكا ماسكة خناقهم بأيديها) سُئل ماذا تعرف عن العقوبات المفروضة على العراق متى سترفع؟ كيف ترى برأيك وبحكم علاقاتك الدولية النتيجة واسباب بقائها كل هذه السنين؟ أجاب محمد بسذاجة غريبة: بأن امريكا لا توافق على رفع الحصار عن العراق، حتى ينفذ كل قرارات مجلس الأمن وإلا سيُضرب صدام حسين (بالقندرة). كان جوابه الاخير كفيلاً بالحكم عليه بالإعدام وفق أحكام البعث لأنَّ ذلك تجديف بالذات الصدامية، وقد بُرئ من تهمة التجسس لعدم ثبوت الأدلة عليه، وحُكم عليه بالإعدام لإهانته شخص الرئيس، وبعد التداول بين الحكام خُفض حكم الإعدام إلى السجن المؤبد، حسبما ابلغوه اكراماً لتبرعه هو وزوج رئيسة الوزراء الباكستانية، بشحنة جوية من الأدوية للعراقيين.
كان محمد مسلماً متديناً يجوّد القرآن يومياً بصوت عذب وخشوع المستجير، كان كثير الترديد لعبارة "يا إلهي" سواءً خلال أحاديثه العادية معنا بلغة عربية ركيكة أو اذا ما اختلى مع نفسه، والأمر مفهوم فالرجل قد وقعت عليه مصيبة ثقيلة لا يعرف متى الخلاص منها وكيف، إضافة إلى أنه كان يعاني داخل التوقيف من سلوك بعض المستهترين من لصوص السيارات، الذين يفتعلون أحياناً شجاراً معه ويتعمّدون ضربه، ولا يرد المسكين بل يكتفي بالابتعاد ومسك نظارته الطبية بيديه كي لا تقع وتتهشم، وهذا الأمر مصدر تندر لهم.
لمست طيبة قلب محمد سابولا ونقائه من كل حقد ضد الآخرين عند عودتي من المحكمة ودخولي القاعة، كان جالساً على الأرض، وعندما تطلع إليّ تكور على نفسه وبعينين مفتوحتين ينظر اليّ بترقب وتوجس خائفاً من الحكم عليّ بالإعدام لأنّي الوحيد بينهم السجين السياسي المعارض لصدام. وحسب المتعارف عليه، فإن الإعدام هو مصير كل سياسي معارض. ورغم إن كل الموجودين كانوا يترقبون النتيجة ويتطلعون اليّ بقلق وكلهم متضامنون معي، إلاّ أني أحسست بأنّ محمد سابولا كان أكثر الموجودين هلعاً، ابتسمت وأشرت للجميع بأصابع يدييّ العشرة. يبدو أنّهم لم يفهموا ما قلت، فظل الجميع واجمين مترقبين للحظة، كررت بتوضيح اكثر: حكموا عليّ بعشر سنوات فقط. عندها قفز محمد فرحاً وضمني وشد على يديّ باحتفال، هلّل الجميع مسرورين بنتيجة الحكم، وهنؤوني لسلامتي من حكم الإعدام، بعد أن عاشوا ساعات جزعة بانتظار النتيجة.
استُدعي محمد مرة من قبل الدائرة، وغاب طويلاً، قلقنا عليه كثيراً، وبعد ساعات عاد بَشراً مبتسماً، وأخبرنا بأنّ عائلته بالهند طلبت من الحكومة الهندية تقصي أخباره، ومعرفة أسباب غيابه هذه المدة التي استغرقت سنوات، وعن طريق وزارة الخارجية الهندية، وبالتفاهم مع نظيرتها العراقية، سُمح للسفير الهندي الالتقاء به والاطمئنان عليه، ورُتب لقاءٌ دوري معه داخل حاكمية المخابرات، على شرط التحدث بالإنجليزية وعدم التحدث باللغة الهندية، لعدم وجود مترجم للغة الهندية على الأرجح. ونسى مرة وتحدث مع السفير بالهندية، واذا بمسؤول الموقف الذي كان مسؤولاً أيضاً عن لقائه مع السفير يزعق به ناهراً إياه بعدم التحدث باللغة الهندية، وصاح عليه أمام السفير: "ألم اقل لك أن لا تتحدث بالهندي، وكأن الامر شكوى من أين نأتي بالمترجم يترجم ما قلته من عبارات وكانت قليلة."
تحسن وضع محمد داخل الموقف نفسياً وصحياً مع انتظام اللقاء مع السفير، ومع تزويده بالمواد الغذائية مثل تمر (الزاهدي) التي يعمل منه "مدوكة" كما يقول وليس "مدكوكة" لصعوبة لفظها، والفواكه والتين الجاف وغيرها كثير، وبجامات وملابس داخلية ومناشف ونظارات طبية جديدة، وفوق كل ذلك بعض الاكلات الهندية هدايا من أهله والحديث عنهم والسلام والتحية منهم واليهم.
كان سخياً بما تجود عليه اللقاءات مع السفير من أغذية، يقوم بتوزيع أكثرها على الموقوفين وخصوصاً عندما توافقت إحدى اللقاءات في شهر رمضان، وفي هذا الشهر وزعت الدائرة علينا مرتين عند الفطور "مدكوكة زاهدي" على غير العادة، خلفت حالة من الصخب بين الموقوفين، فإن الغذاء الذي يقدموه الينا كان غير شهي رغم وفرته، كانوا يوزعون علينا صمون بلا عد، وشوربة عند الصباح مع كوب شاي، وتمن احمر اغلب الاحيان عند الغداء وكنت اعرف يوم توزيع التمن عندما اسمع صوت ضرب المس (الجفجير) بالقزان لتخليصه مما علق به من تمّن بباب كل محجر من محاجر التوقيف، وأسمع الصوت يقترب حتى يصل لقاعتنا. كان أحد أصدقائي من الموقوفين وكان يكبرني بعشر سنوات يكنّى (أبو سفيان) يسألني باستغراب: احمد كيف تعرف اليوم تمن؟ اجيبه دائما ببديهية، اسمع صوت المس عندما يضرب بالقزان لأن توزيع المرق لا يحتاج مثل هذه الضربة لتصفيته فهو سائل، وعندما يكون توزيع الغداء علينا تمن حقا، يرد عليّ ضاحكا: "والله آذانك آذان فرس." وان كان غير تمن يكون الغداء أحد أنواع المرق مثل الجزر أو السلق أو البطاطا والفاصوليا، والعشاء يكون في أغلب الاحيان مثلما وزع علينا بوجبة الغداء.
حرماننا من الحلويات (وأي طعم حلو المذاق) جعل الحاجة إليها حاجة عضويةً ملحةً كثيراً، الأمر الذي جعل الموقوفين يطلبون من محمد سابولا التمر أو التين المجفف وغيرها من الأشياء حلوة المذاق من السفير عند الزيارات الدورية، وكان محمد لا يبخل بهذا الطلب بل يقوم مع أحد الموقوفين البغداديين، بتنظيف تمر الزاهدي وإضافة إليه مطيبات أخرى وعمل "مدوكة" يوزعها علينا، وكان البغدادي يبتسم وهو مشغول بعجن التمر على هذا اللفظ العامّي الناقص. ومن ضغط الحاجة للحلويات، حلمت مرة بأخي علي في أثناء مواجهة في سجن "ابو غريب"، وما كنت اعرف بعد سجن "ابو غريب" إلاّ بالحلم هذه المرة، قدم لي صمونة دائرية من النوع المخصص لساندويج الهمبرغر مملوءة مربى أصفر اللون.
وحاجتنا للحلويات التي عشنا معها سكنت في نفوسنا كما سكنت حاجتنا للكثير من الاشياء في عالم الحرية المفتقدة، أصبح مثلها مثل السيكارة بالنسبة للمدخنين أمثالي، محرومين منها ونشتاق إليها اشتياقاً عضوياً، ولا سبيل قطعاً لتدخين أي دخان، إلاّ ما صنعه سراق السيارات من تجفيف لأوراق الشاي المتبقي في قعر كؤوس البلاستك المخصصة للشاي، ولفها بأوراق دفتر وعمل منها سيكارة شاي مجفف وليس سيكارة من التبغ، ولا أعرف من أين جاءوا بالورق وعلبة الكبريت (الشخاطة)، حتى انتهت العلبة وانتهت معها طريقة التدخين هذه.
ولكن المفاجأة الكبرى حصلت صباح عيد الفطر، ساعة سمعت صخباً عنيفاً عند الشباك الصغير بالباب الرئيس، رأيت الموقوفين ينادون على مسؤول الموقف "أنا أنا سيدي" وهو يسلم كل واحد منهم سيكارة سومر (سن طويل كما كانت تسمى)، ويرتجي الهدوء منهم قائلاً لهم: "على كيفكم بابا." وقفت خلف الجمع الهائج واشرت للمسؤول بإشارة تعني سيكارة رمى لي واحدة، والتفت اليَّ رجل ستيني لا يدخن كان متمددا على الارض يراقب الهرج وبإشارة أيضاً مني فهم بأن يأخذ سيكارة ويحولها لي، أشار برأسه موافقاً وأخذ واحدة وناولني إياها. اصبح عندي سيكارتان دخنت احداهما فوراً والأخرى بقيت عندي حتى اليوم التالي دخنتها بعد الفطور بالحمامات.
أحد الموقوفين وهو كردي من السليمانية يدعى درسيم، متهم بتهريب السيارات المسروقة إلى كردستان، ضُبط آخر مرة من قبل ضابط أمن سيطرة على مفترق آخر طريق يؤدي الى السليمانية، كانت السيارة المسروقة كما باقي السيارات المسروقة تم تغيير رقمها وأوراق ملكيتها، إلاّ أنهم نسوا رفع ركائز بندقية من على الإطار الخارجي لأعلى السيارة مما أثار الشك في نفس الضابط وبالتالي حجزها واعتقله. والسيارة هذه ظهر فيما بعد أنها تابعة لمديرية أمن بغداد. أودعَ درسيم في الحاكمية وحُقق معه وبُث اعترافُه على التلفزيون، وحُكم عليه بالإعدام ونُفذ به وأُرسلت جثته إلى أهله بالسليمانية. حدثني درسيم وأنا استمتع بتدخين سيكارتي الوحيدة الباقية: "أنت مثلي، فأنا أحب التدخين بعد الفطور بالحمّام."








8
الخروج إلى المحكمة
استمر وجودي في قاعة ( 52) ما يقارب سبعة شهور كموقوف أمارس الحياة المعتادة داخل حدود الموقف: تناول الفطور عند الصباح، يتكون عادة من شوربة العدس، وقدح بلاستك شاي غير ساخن أغلب الاحيان، وكمية سخية من الصمّون العسكري وهذه الميزة في الحاكمية فقط على العكس تماماً من موقف الأمن أو الاستخبارات، بحيث يموت الموقوف هنا من الجوع أحياناً. وبعد الفطور التمشي، بعد لمّ الافرشة. خلال الروتين الصباحي اليومي سمعنا جلبة فتح باب القاعة، ساد صمت وتوتر بيننا كلنا الموجودين بالقاعة، نتطلع تجاه الباب ما الجديد يا ترى، دخل علينا أحد المنتسبين وسأل مَنْ منكم ( 1035)؟ أجبته نعم أنا، طرفتْ عينه وأومأ لي قائلا: "يلله تعال معي" وهو يدور بعصابة العين الجلدية بيده مثل مسبحة، خطوت بسرعة نحو باب الحمّامات ولبست نعالاً بلاستيكياً رصاصي اللون، ووقفت بباب القاعة منتظراً، أنزل العصابة على عيني وقادني من يدي عبر الممرات والسلالم والمصعد الكهربائي إلى حيث لا أدري. جمّعونا في أحد الممرات ومن خلال الهمس بينهم سمعت تأكيد أحدهم: كلهم جاهزين، ورقم (1034)؟ وهو رقم (أحمد سالم) عندها عرفت إنه وقت المحاكمة.
جمعونا نحن أصحاب (دعواتنا) مثلما يشاع هذا التعبير على أصحاب القضية والملف الواحد: أنا، وفالح مكطوف، وسعيد كاظم، وأحمد سالم، وعلي طالب، وحيدر عبد الجبار، وأزهر عدنان، في سيارة بوكس مغلقة تماماً بلا نوافذ، ومعنا موقوف آخر أحوازي الجنسية، وحارسان مسلحان ببنادق (كلاشنكوف) جلسا عند الباب. انطلقت بنا السيارة من مرآب الحاكمية إلى شوارع بغداد الرحيبة، حيث زحمة السير وأصوات منبهات السيارات وجلبة السَّير والمارة، تسير بنا السيارة وتتوقف عند التقاطعات، وحيّينا بعضنا همساً واشاراتٍ مستترة، ورغم شعورنا بالمصير المجهول الذي يخبئه حكم المحكمة، إلاّ أنّنا كنّا على شيء من الانشراح سببه تجمّعنا معاً كرفاق وأصدقاء، وخلاصنا من كآبة الموقف وضيق مكانه، وتوق أنفسنا إلى الانتقال إلى أي مكان جديد، وليس غير "أبو غريب" مكاناً آخر سيكون المستقر الأخير نمضي فيه سنوات محكوميتنا فيما إذا نجونا من حبل المشنقة.
لفت الأحوازي نظري، كان محمرَّ العينين وشاردَ الذهن، وحتى الحارسان كانا يرمقانه بنظرات غير النظرات التي يوجهانها لنا تخلف شعوراً بأنّ قضيته صعبة.
سارت السيارة دون أن تتوقف في استدارة أو تقاطع مدة نصف ساعة أو أكثر بقليل، ثم أبطأت ودخلت في طريق كثير المطبات وعند توقفها سمعنا حديث مأمورنا مع حرّاس سيطرة (محكمة أمن الدولة) وهي الوجهة الأخيرة لرحلتنا يعرض تخويل الدخول إلى داخل بناية المحكمة. نزلنا بصحبة الحرس المسلحين والنقيب المأمور وسائق السيارة إلى غرفة صغيرة مهملة خالية من أي أثاث سوى صخرة كونكريتية، تقبع بإحدى الزوايا وسبب وجودها غريب وغير مفهوم، وكثرة الكتابات بلا أي فراغ على كل جدرانها وعلى بابها الحديدي السميك، بعبارات التحسر والتظلم واليأس، والأمل بالحرية، ورسوم قيود وطيور وقلوب. وأكثر الكتابات كانت إشارات إلى الأم ومعظمها بلغة ركيكة وبسيطة، لكنها تحمل عاطفة تواقة للحب الأمومي الخالص وقايةً من تواري الحياة خلف القضبان أو في قاطع الإعدام. كانت معظم الكتابات محفورةً حفراً على الجدار الأبيض الجبسي، أو بخطوط داكنة تشير إلى أنها خطوط أقلام.
الجدران مهما اتسعت ومهما خُطَ عليها لا تكفي ولا تحيط بجنان قلب الأم، نظل عاجزين عن وصف عاطفتها وأي تشبيه قاصر عن إيجاد وجه شبه ما حتى ولو جزئياً لهذا الفيض اللامحدود لجذوة لا تنطفئ أبداً من الحب المطلق وغير المشروط، تجاه أبنائها. يشعر الأبناء بذلك جيداً خصوصاً عند تعرضهم لأزمة ما كالابتعاد أو المرض أو العسكرية ومهالكها، والملاحظ أكثر حاجتهم وهم داخل السجن أو التوقيف لعاطفة أمهاتهم لطمأنت نفوسهم وكتوازن بين الأخطار المحدقة التي ربما تؤدي بحياتهم، وبين القلب الذي يهفو بكل صدق للحنو على حياتهم.
الجدران، والأجساد أيضاً، ما خلت منها مساحة للوشم، على السواعد والصدور والبطون، والرقاب والأرجل وأكف الأيدي والأرجل، تحملوا غرز الإبر على أجسادهم لينظموا عليها كماً وافراً من العبارات والصور وأشهرها: "أعز الناس أمّي"، "لا تبكي يا أمي "، "المعذب فلان"، "الأقارب عقارب." وعبارات مسجوعة بسيطة من مأثورهم الخالي من المعنى غالب الاحيان، يُفهم منها إشارة إلى حب الأم، أو إلى القوة أو الوفاء أو الغدر والأخير هو الأكثر بين الوشوم، وحروف مفردة إنجليزية لاسم الحبيبة أو لعلاقة ما، وصور صقور وحمام وعقارب وأفاعي وحورية البحر أو عيون دامعة وآلات حادة وزهور وسيارات، وكثير مما لا يعد من شواهد الوشوم التي تطرز أجساد الموقوفين والسجناء وعادةً من الدعاوى الجنائية الذين التقيت بهم في الموقف او في استقبال "أبو غريب."
هناك بديهية لمسناها في حياتنا وأمست حقيقة لا جدل حولها أنّ حنان الأم وحبها غير المحدود لأبنائها يجعلها لا تقوى على رد طلب لهم ولا تقسو عليهم حتى وإن ارتكبوا أخطاء، هذا هو سلوك الأمهات في غالب الأحيان، بما يسمى في تقاليدنا (الدلال)، تغض الطرف عن تجاوزاتهم وارتكابهم للأخطاء والتستر عليهم حماية من غضب آبائهم، جعل البعض منهم يشتط بعيدا أو يشذ حتى، ويرتكب الإساءات لأنّه أمِن العقاب الأبوي.
حدثني مرة أخي ميثم في واحدة من زياراتي لي في السجن عن رجل كان ينتظر في طابور الانتظار تحت لعنة الحر والازدحام مع عائلته لزيارة ابنهم المحكوم بقطع اليد، العقوبة التي شاعت في التسعينيات للسارقين؛ كان هذا الرجل يؤنّب زوجته بضجر وبصوت مسموع، ويلقي عليها اللوم لأنها كانت تمنعه من محاسبة ابنه، حتى أمعن بالتمرد وسلك طريق اللصوصية وألقي القبض عليه في واحدة من سطواته وحُكم عليه بقطع اليد: "كلها منج، لا تحجي وياه ولا تحاجيه إلى أن خليته يومية ساطيله على بيت".
بدت غرفة الانتظار هذه حارة بهواء حزيران الثقيل، وإنارة باهتة إلاّ من شمعة نيون في أعلى الجدار المرتفع بشكل قياسي، تبادلنا التحيات والعناق والاطمئنان على صحة بعضنا، وشاغلنا رغم إجبار أنفسنا على التحدي، كان هاجس الحكم. ما كنا نخمن طبيعة ومقدار الحكم علينا، نحن الآن تحت رحمة جلاّدين يصدرون الأحكام على هواهم وتقلبات مزاجهم، وليس استناداً إلى قانون أو مقياس موضوعي. وهذا الأمر معروف لدى العراقيين وخصوصاً لمن تجرأ وعارض النظام الحاكم، فإن الحكم او العقوبة ستكون عادةً ارتجالية وغاية بالقسوة والبدائية، حسبَ ما يتفق وبلبلة اذهان القضاة.
القلق بطبيعة الحال هو السائد، إلاّ أننا عوضنا ذلك بإدراك منّا أو لا، بأحاديث مكتظة بشتى المشتركات التي تربطنا والاطمئنان على الأحوال الشخصية والنفسية هو الغالب. وتطرقنا في هذا الوقت الصعب، حتى الى النكات والفكاهات للتخفيف عن حدة القلق والتوتر ونحن بانتظار استدعائنا للمثول أمام القضاة والدخول داخل قفص الاتهام. حضرَتْ في بالي نكتة ظريفة سمعتها من موقوف معي كان قريباً من عدي ابن صدام، وقصتها عن (واوي) سُئلَ يوماً: هل تحب الدجاج؟ فبكى (الواوي)... وجواب (الواوي) بالبكاء مفهوم؛ من فرط حبّه للدجاج سيكون الجواب بمجرد نعم لا يكفي، فكان البكاء جوابه. انفجرَ الجميع بضحك مدوٍ حتى سالت الدموع من بعضنا، غبنا لدقائق على إثرها مع الضحك وهو أشبه ما يكون بالضحك العصبي كرد فعل نفسي للتخفيف من حدة توتر الموقف الذي لا نحسد عليه، لكنها كانت لحظة قد استقرت للأبد في أرواحنا وذاكرتنا نستعيد ظرافتها في كل لقاء يجمعنا أكان داخل "أبو غريب" بعد المحكمة أو عندما خرجنا من السجن وحتى بعد سقوط نظام صدام والى اليوم نستذكر هذه النكتة التي كانت عبارة عن لحظة عبثية تفصلنا بين الحياة والموت، وهو سر بقائها بذاكرتنا بهيئة لا تشيخ.
تحركت الأقفال والمزاليج بحركة عنيفة للباب من الخارج، وعرفنا في الحال إن ساعة المحاكمة قد حانت. خرجنا مع النقيب المأمور والحارسَين على شكل صف واحد يتبع أحدنا الآخر، أدخلونا قفص الاتهام، وهو سياج من الخشب المصقول مربع الشكل ويرتفع عن الأرض قليلاً وأغلقوا بابه وانسحبوا خارج قاعة المحكمة التي هي عبارة عن غرفة مستطيلة الشكل طولها 6 أو 7 امتار وعرض 4 أمتار تقريباً، لا يشير أي محتوى داخلها على أنها قاعة محكمة؛ سوى وجود ثلاثة قضاة ينتظروننا جالسين على منصتهم برئاسة لواء الأمن عجيل العجيلي، الذي يبدو من هيئته أنه تجاوز الستين عاماً، بدين قليلاً وقصير يخفي شيبه بصبغ أسود فاحم بطريقة واضحة على سحنته السمراء، أحاطنا بنظرة عميقة وعاجلة والتفت بعدها ليهتم بملفنا. كان يجلس إلى يساره قاضي أكبر منه سناً، ثبّت وسط أنفه نظارة طبية سميكة يتكئ على ساعديه على المنضدة أمامه، لم يبدُ عليه الاهتمام كباقي القضاة، عمله في المحكمة الاستماع للتهم بشكل مدرب وبلا ملل، وإلى يمين المنصة يجلس منتصباً قاضي خمسيني رشيق ببشرة فاتحه وعينين خضراوين، متحفز وأكثر يقظة من الجميع، ومحامي الدفاع يجلس تحت الشباك الوحيد أنارت الشمس ستائره بلون أخضر فسفوري، يمسك بيده قلماً ويقلّب أوراقاً أمامه مطبوعة بآلة طابعة لا يتعدى عددها خمس أو ست اوراق، يتظاهر على مدى جلسة المحاكمة بالانشغال بأمر غامض، الواضح أنّه يعي بأن وجوده كان شكلياً؛ فأيّ محامي مسموح له ان يدافع عن معارض سياسي داخل محكمة أمن الدولة العراقية؟!
قرأ المدّعي العام إفاداتنا بإشارة من العجيلي بصوت صاخب والآخرون يصغون إليه بتركيز. حتى أكمل كل الملفات، انتبه إلينا العجيلي وصاح بعصبية: "وينه الجيف مالكم وينه"، يقصد المتهم الابرز بالقضية، وهي العادة المدرجة بالتعامل مع ملفات المعارضين السياسيين. بدأت المحاكمة والنظر بالقضايا أمامهم بأول من ألقي القبض عليه (فالح مكطوف). ودون أن يهتموا بأي دفاع عن نفسه أو توضيح نقطة ملتبسة، انتقلوا إلى ملف حيدر عبد الجبار واستمعوا من جديد إلى ملفه مفرداً، وهكذا انتقلوا إلى ملفاتنا واحداً بعد الآخر، أحمد سالم ثم أنا وسعيد كاظم وعلي طالب، وأزهر عدنان.
في أثناء الاستماع والمداولة أراد سعيد كاظم شرح ملاحظة في ملفه، التفت إلى محامي الدفاع مستعينا به، عدَّل الأخير جلسته وأخذ ينظر إلى الأوراق أمامه دون أن يعير أي اهتمام يفترض أن يوليه لسعيد.
وبعد إكمال القراءة الصورية للملفات، نادى العجيلي بإخراجنا من المحكمة، لبى النداء على عجل شخص ممتلئ الجسم وسيم وأنيق لا يتعدى الثلاثين عاماً، وبلهجة بغدادية، طلب منا بلطف أن ننتظر خارج قاعة المحكمة، أشار الينا بالجلوس في ممر ضيق ووجوهنا تجاه الحائط، تركنا وعاد إلى سيجارته التي ركنها بزاوية السياج الحديدي.
لا أعرف بالتحديد الوقت الذي استغرقناه، ونحن مطرقون إلى الأرض نجلس القرفصاء، ننتظر الحكم علينا. لم يكن وقتاً طويلاً، يمتد من أجل النقاش والتشاور بشأن قرار التجريم وإصدار حكم يناسبه، الأحكام والقرارات الخاصة حول مثل هذه القضايا كلها جاهزة، لا تحتاج لأي نوع من أنواع الانتظار والإبطاء. لكن انتظارنا كان ترقباً وتكهناً، بماذا ستأتي الدقائق القادمة من مصير. المصير كان مجهولاً حقاً والتوقع كان يتجه باتجاه الأسوأ بحكم خبرتنا مع النظام البعثي الوحشي. نترقب اللحظات كما يقول المثل العربي " وكأنّ على رؤوسنا الطير،" حشرنا أرواحنا داخل أجسادنا، كما تحشر الأشياء في كيس، انشغل كل واحد منّا بنفسه دون أن يشعر أحدنا بوجود رفيقه الآخر قربه، على ما كنّا عليه قبل قليل في غرفة الانتظار نتحدث ونضحك. شاغلنا الأمل بالسلامة ونحن ننتظر بين يدي جلاد لا يعرف الرحمة، اللحظات والدقائق التي تمر طالت علينا ومخاض اللحظة؛ سيبلغنا عن النتيجة الحياة او الموت.
عاد إلينا (المساعد) مسرعاً وطلب منا العودة لقاعة المحكمة للاستماع إلى الأحكام التي ستصدر بحقنا. دخلنا قفص الاتهام، وقفنا صفّين إلاّ أحمد سالم كان جالساً على الارض بسبب إصابة بقدميه. تلا العجيلي علينا الأحكام وبدئها بالعبارة الروتينية: حكمت محكمة أمن الدولة على المجرم (..) بالحبس الشديد (..) ومصادرة أمواله المنقولة وغير المنقولة، واعتبارها جريمة عادية مخلة بالشرف. الأحكام بدأت بالمؤبد على فالح وازهر، ثم انا، ورغم الوضع الذي لا نحسد عليه، صدمني وصفي بالمجرم، عندما تلا الحكم عليً قائلا: حكمت محكمة امن الدولة على المجرم أحمد عبد الستار بالحبس الشديد مدة عشر سنوات ..الخ. وسعيد كاظم عشر سنوات أيضاً، وحيدر عبد الجبار وعلي طالب ست سنوات، باستثناء احمد سالم أُفرج عنه لعدم كفاية الادلة. نبا عنّا الموت كما ينبو السيف عن الضّريبة.
وقف المأمور والحارسان وسائق السيارة منتظرين نتيجة الأحكام، سألوا كلَّ واحد منّا عن حكمه. وبعد أن تبين أنّه لا أحد منا محكوم بالإعدام، تنفسوا الصعداء وهنأونا قائلين: الحمد لله على السلامة. قلقهم كان مصدره الحكم بالإعدام على المتهم العربستاني. في طريق العودة لموقف الحاكمية تداخلت في نفسي عدة مشاعر وأفكار: سلمنا من المقصلة ولم يعد الموت هاجسنا اليومي كما كان قبل ساعات وأيام. عادت الينا الراحة وابتعد هذا المنغص الثقيل هذا من جهة، ومن جهة أخرى وجود شخص قربك محكوم عليه بالموت ولم يبق من حياته سوى أيام أو أشهر ويرحل تاركاً الحياة للأبد، ازدادت عيناه احمراراً ودمعتْ دون بكاء، ساكت تماماً لا يسمع الكلام من حوله ولا الموجه له رغم تحديقه في وجه من يتكلم معه. وبين التقاطع الحاد في سلوك منتسبي المؤسسات الامنية المحير أحياناً تجد الصفة الطاغية عليهم، القسوة والفظاظة الى حدود وحشية، وترى أفراداً منهم يعيشون داخل هذه المؤسسات بوداعة الانسان السوي كأي انسان آخر سليم.
في أثناء الحديث مع الموقوفين بعد إعادتنا الى الحاكمية، تشوق صديقي (سمير) أن يطّلع على الحال الذي انتابنا خلال ساعة انتظارنا حتى صدور الحكم، سألني بتعاطف صادق:" ما كان شعوركم وقتها أحمد"؟ أجبته: يا سمير تذكرت قصة قرأتها مرة من التراث العربي تحكي عن شخص مطلوب ثأراً عن قتل، يفرش بضاعته في إحدى أسواق بغداد زمن العباسيين، واثناء انشغاله بترتيب أصنافها لحظَ دون أن يرفع بصره مرور أخي القتيل يتقلد سيفاً يفحص البضائع، وغادر الأخير السوق دون أن يتعرف على قاتل أخيه صاحب (البسطة). أعرب المطلوب بعدها بوقت قصير لأحد اصدقائه واصفاً لحظة الرعب التي عاشها قائلاً: كأني سرتُ إلى الصين أمشي حافياً على أنياب الافاعي." مبالغة استظرفها ورد معجباً بالقصة "الله أكبر".
9
إلى "أبو غريب"
بعد أيام قليلة من إصدار الحكم علينا، سمعت جلبةً ولغط أصوات متداخلة في ممر طابق الموقف، ينادون بالأرقام، ومنها رقمي (1035)، أدركتُ حينها أنّنا محالون الى سجن (أبو غريب) لقضاء مدة حكمنا هناك. جَمَعَنا (وعد) المعروف بلقب (أكشن) في الممر وعيوننا معصوبة بالنظارة الجلدية ووجوهنا تجاه الحائط بهيئة القرفصاء المؤلمة، وعند اكتمال عدد المحكومين المرحَّلين إلى "ابو غريب،" قادونا نحو شاحنات كانت بانتظارنا مع حراسة مشددة مؤلفة من حرّاس مسلَّحين وضباط يحملون كتب الاحكام المدونة فيها اسماؤنا.
لم يبق منّا غير فالح مكطوف، الذي أعادوه إلى الحاكمية ليكون شاهداً على أحد الموقوفين في غرفته في قضية شتم صدام، تأخر بعدنا لأسبوعين، استطاع أن ينكر ما سمعه وينجو الموقوف من هلاك محقق. جمعونا نحن أصحاب القضية ذاتها في شاحنة واحدة مع بعض محكومين آخرين بقضايا مختلفة، أحدهم كان مصاباً بسكري من النوع الشديد، أَخّروا انطلاقنا بعض الوقت ريثما جاء الطبيب إليه بحقنة أنسولين وسلّمها اليه، يبدو أنيقا ومن تصرفه يبدو متعلماً وذا جاهٍ، والعربستاني المحكوم بالإعدام معنا في نفس الشاحنة بدشداشته رصاصية اللون وسترته الغامقة، وعينيه المحمرتين وذهوله أمام حتمية مصيره الذي لا يستطيع له تغيير، شروده الذهني أشبه ما يكون ببداية ظهور ما يُعرف في علم النفس بظاهرة أو "متلازمة طابور الإعدام"؛ الذي يفقد فيه المحكوم أي أمل بالحياة ويقع فريسة لأزمات نفسية شديدة، وحتى الحراس كانوا يتحدثون معنا بطريقة عادية وعندما تحين منهم التفاتة اليه يغضّون أبصارهم عنه واجمين، يدركون إنه رجل ميت لعظم قضيته المحكوم على اساسها، ووجوده في الحياة مسألة وقت.
بالرغم من أنّنا تخلصنا من الحاكمية ووجودنا في موقفها الخانق الذي استمر 10 اشهر، وفرحتنا بلقاء أهلنا وأحبتنا وأصدقائنا عند الزيارة المرجوة أو ما يدعوها السجناء (المُواجَهَة)، وحيز الحرية والراحة النسبية في "ابو غريب" قياسا الى التوقيف، انتابني وأنا في الشاحنة مع رفاقي وباقي المحكومين شعور بالحزن ما انفك يراودني بشكل دوري على مدى عقود حياتي، سببه في طبيعة الحال العربستاني المحكوم بالإعدام، وهو الذي أطلق هذا الحزن الكامن في نفسي، الممزوج بالألم؛ هذا الشعور يظهر في مناسبات أكون فيها سعيداً أو في بعض المواقف المفرحة، لم يكن بصفة دائمة، لكنّه يعاود الظهور دون أن أشعر ودون انقطاع، لا أستطيع أن اعده حالةً مرضيةً أشبه بالوسواس القهري عند بعض المرضى، بل يمكن القول إنه ندم على ما أعتبرها جريمةً اقترفتها وأنا بعمر 8 سنوات بحق قطتين رضيعتين، قتلتهما بسادية مفرطة بعد تعذيب وقسوة لا أستطيع تخيلها الآن، ولا حتى تبرير هذه الفعلة المريعة.
قطتان ولدتهما أمّهما الداكنة اللون بفسحة متروكة بين سياج منزلنا وسياج جارنا، تقع خلف زاوية تنّور الخبز الذي تعده يومياً لنا زوجة جدي (خال والدي بجاي بديوي) الحاجة الحنونة (نزيلة علاوي) تسكن معنا في المنزل وحتى وفاتها كانت بمثابة والدتنا، كلفتني أن اطرد هذه القطة لأنها تلوث المكان بصعودها ونزولها الى مخبئها داخل الفسحة ولم نكن نعرف بأنها ترعى قططها المولودة تواً هناك، أخذت درجاً خشبياً وصعدت السياج، عندما شاهدتني القطة الأم فتحت عينيها ونظرت إليَّ نظرة وحشية متحدية، استطعت طردها بتلويحات متكررة من ذراعي، وبجهد مكلف نزلت داخل الفسحة الضيقة وأخذت القطتين الصغيرتين المبرقعتين بالأبيض والسمائي الفاتح لانتقم منهما. قطعت سلكاً كهربائياً خاصاً بالتأسيسات كان موجوداً في الورشة المنزلية لوالدي رصاصي اللون بطول مترين تقريباً طويته لأجعل منه سوطاً ثقيلاً، ذهبت بإحداهما الى ساحة كرة قدم قريبة؛ يفصلها عن حيّنا طريق المحطة ذهاباً وإياباً، رميت ضحيتي قرب أحد الاهداف بحماية (سامي شوكت) ابن الموظف المسيحي بدائرة السكك، أصبح فيما بعد مدرسا درست على يديه مادة الرياضيات في اعدادية الجمهورية في بداية الثمانينيات، وسطتها بالسوط الثقيل وجسدها الصغير الذي لا يتعدى قبضة اليد يتلوى من فظاعة الألم، رغم انهماك (سامي) بمتابعة اللعبة استدار لحظة نحوي وسألنا باستهجان وتقزز (هاي ليش هيج)، لم أبالِ بسؤاله حتى أخرجت أمعائها من بطنها من شدة الضرب وماتت من الألم. والاخرى اخترت أن اقتلها بطريقة مختلفة عن طريقة أختها، حملتها على كف يدي المفتوحة وهي تنظر إلي بعينين زرقاوين واسعتين، بأمان ووداعة، دون أن تدرك بأن دقائق قليلة تفصلها عن الموت، قمَّطتُ أطرافها الأربعة بخرقة ولففت القماط بأحد أقطاب السلك المنزوع، وحرصت بأن أجعلها لا تقاوِم، وألقيت بها داخل الجدول، غطست فوراً كحجر يغطس بالماء إلاّ من فقاعات الهواء تخرج من رئتيها وعدتُ أدراجي الى البيت. بعد أيام معدودة من يوم قتل القطتين، عدت من مدرستي قتيبة الابتدائية في حي السكك، توقفت عند الجدول في مكان رميي للقطة، وجدتها طافية بالجرف، منفوخة ومكسوة بالطين، ظلت لأيام في نفس المكان عالقة بين نباتات الجدول حتى جرفها التيار واختفت إلى الابد، وإلى الأبد يظل طيفها يلاحقني، ويقفز فجأة بدون إرادة منّي الى ذاكرتي شريط الحادثة هذا يوجع روحي.
في أول سفرةٍ للخارج بعد خروجي من السجن، سيطرت عليّ هذه الحادثة على طول الطريق البرّي للأردن، انطلاقا من الناصرية إلى بغداد، المكان الذي تجمعنا فيه نحن اعضاء اتحاد المجالس والنقابات العمالية عند إيفادنا مع الاتحادات العمالية في العراق إلى مركز تضامن العمّال العالمي في الشرق الأوسط الواقع مكتبه في العاصمة (عمان)، عكّرت عليّ متعة السفر مع رفاقي وأنس الصحبة وصخبها، جعلتني لا أبرح نظرات العينين الزرقاوين البريئتين.
أتاح لي طول الطريق الذي استغرق نهاراً كاملاً أن أتذكر حادثةً مشابهة جاءت في رواية الدون الهادئ للروائي السوفيتي ميخائيل شولوخوف، تحدث في أحد فصولها عن ضابط صف بالجيش الروسي يهوى قتل الأسرى بسيفه، وحتى الخيل تلجب مبتعدة عندما يمر قربها، يستغل أي فرصة تبدر من الأسير لينقض عليه بسيفه، لاحظه غريغوري بطل الرواية يتربص بأسير نمساوي مراهق ووسيم للغاية صاحب عينين زرقاوين واسعتين، أراد الضابط المسؤول نقل هذا الفتى إلى المكان الرئيسي لإيداع الأسرى، تطوع العريف السادي لأخذه، قاده بين أشجار غابة قريبة، وبعد فترة وجيزة عاد وسيفه ملطخ بالدم، صاح به غريغوري أين الاسير؟، أجابه السادي بدون أي عناء: "قتلته، حاول الهرب".
عينا الأسير النمساوي ذكرتاني بعينيّ القطة التي أغرقتها، كلاهما بريئين وقع عليهما جرم لا مبرر له سوى خلل نفسي من الجاني، ما حصل للأسير النمساوي سرد من خيال روائي، ولكل خيال صور واقعية مطابقة حصلت وتحصل في الحياة باستمرار، هناك مرضى نفسيون (يحبون) القتل وتعذيب الآخرين بدون شعور بالذنب، نتيجة لذكريات وأحداث سيئة حصلت لهم في مرحلة ما من مراحل حياتهم، أو نتيجة لمعاناة شخصية تراكمت زمناً طويلاً، والضعفاء أو الحيوانات ميدان لإفراغ شحنات العُقد النفسية السالبة لديهم.
وربما أجد تفسيراً لجريمتي؛ عندما كنت طفلاً في المراحل الأولى لسني دراستي الابتدائية، هذه السنوات من أمرّ سنوات حياتي، وأشدها وطأة عليّ، كطفل كنت أشعر بالغربة داخل العائلة لغياب والدتي المتوفاة منذ ولادتي، شعوري بالحسد تجاه أقراني من الأصدقاء وتلاميذ المدرسة زملائي لا يفارقني مع دخولي لأي منزل من منازلهم عند المطالعة أو في أوقات التسلية، وأرى بعينيّ مقدار اهتمام أمهاتهم ورعايتهن لهم، وأنا أفتقد لأي نوع من حنان الأم ورعايتها، سوى رعاية جدتي لأبي لي وحنوها المفرط. ورغم ذلك كلّه لم اشعر بأي تعويض عن أمي، ويقيني بغيابها الأبدي، يلهب نفسي بحرقة لا أعرف وأنا طفل كيف أشغله. ربما كان هذا هو السبب الذي جعلني أنتقم من كائن استطعت إفراغ كبتي عليه، وتعذيبه وكأنني انتقم من مجهول سبب لي جرحاً غائراً لا يندمل.
بعد تسليم حقنة الانسولين للمصاب بالسكري، أحكموا باب الشاحنة الخلفي علينا، وصعد أحد الضباط في المقدمة المعزولة بشبكة حديدية عن الحوض الخلفي مُرحِّباً بنا بأسلوب مجامل وببعض اللطافة، وانطلقنا إلى "أبو غريب." خلال المسافة من الحاكمية إلى سجن "ابو غريب،" ساد جو من المرح بعد التخلص من التوتر وضغوطات الموقف، رغم إني لم أكن سعيداً مع وجود الأسى في نفسي يكدر مزاجي، مبعثه العربستاني الذاهب لقاطع الاعدام وإطلاق ذكرى ضحاياي من القطط الصغيرة.
قدم لنا الحرّاس علبةَ سجائر تقاسمناها بيننا والتهمنا العلبة التهاماَ بعد أشهر من انقطاعنا عن التدخين، وحتى العربستاني نال حصة منها ودخن عدة سجائر، سارت بنا الشاحنة مسافة طويلة، مجتازة طرقاً ومناطق عديدة من بغداد، مع الصخب والاحتفال بهذا التغير الأخير في مسلسل قضيتنا، لم يسمح لنا تصميم الشاحنة المغلق إلا من نافذة صغيرة تتصل مع الحوض الامامي، أن نتطلع الى معالم بغداد وأبنيتها وشوارعها وضواحيها الجميلة، سارت مغلقة حتى وصلنا باب "ابو غريب" الرئيس وترجل الضابط المسؤول ليتحدث مع أفراد نقطة السيطرة ويخبرهم بأننا محكومون لإيداعنا في سجن "ابو غريب،" سمحوا له بالدخول وتوقفنا مدة طويلة عند قسم الاستقبال. وخلال هذه المدة دارت أحاديث كثيرة مع الحراس والمسؤول، أجاب عن سبب تأخرنا قائلا:" التأخير سببه الازدحام من ورا دعاويكم وطلايبكم،" وعلق على كلامي "بأننا نحتاج إلى كم سنة حتى نرى الباب الخارجي هذا مجددا" قال :" لا لا ..انشاالله يجي عفو قريبا واطلعون".
إنّ تخصيص السجون لمحكومين في قضايا جنائية من سجون بغداد والمحافظات بأعداد كبيرة يومها بلغ 94 سجيناً، فضلاً عنا نحن الثمانية المحالين من الحاكمية، أخّر ترتيبات تسليمنا لهذا القاطع. وفي أثناء انتظارنا رأى المسؤول أن ننزل من الشاحنة لنستريح قليلاً حتى يتم استلام وجبة السجناء الآخرين، ونشاهد طريقة استقبال السجناء الجدد أصحاب القضايا الجنائية /سرقة/ اغتصاب/ قتل/ لواط/ سمسرة/ ...إلخ؛ بالصفع الفني يمارسه مفوض الأمن المسؤول على القاطع، مفتول العضلات، رباع، محترف لهذا النوع من الصفع، لا ينتهي من صفع السجين حتى يوقعه أرضاً ويدوّي صوت اللطمة بالأرجاء.
جاء على الأربعة وتسعين سجيناً جميعهم ومعهم رجل متقدم بالسن ونحن السياسيين. هذا استقبال أولي؛ عند تسلم الملفات قبل دخول القسم وتوزيع السجناء على الاقسام حسب المادة القانونية ومدة الحكم. أُفرد ملف واحد فقط وظل منتظرا لفترة وجيزة أحدَ المنتسبين، فظهر هذا أنيقاً لا يتعدى الثلاثين عاماً، همس وأشار إلى العربستناني، نظر إليه المنتسب الجديد نظرة حيادية لا تخلو من أسف، تقدم اليه وسأله عن اسمه وأغلق الملف، نهض العربستاني وهو يعض بأسنانه على زاوية فمه ومحدقاً بعينين واسعتين بوجه السجان، تبادلا بعض الكلمات وسار معه بين ممرات السجن واستدار إلى أحد الممرات واختفى إلى الابد.
أمرنا جميعنا باللحاق به، متتابعين بخط مستقيم خلفه، وهو مطرق الى الأرض ويتأبط جميع الملفات وكتب التحويل، سار مسرعاً مروراً بقاطع الإعدام الكئيب حتى مكتبه البسيط، وضع أكوام الملفات على منضدة صغيرة، وجه سؤالاً إلينا نحن السياسيين بأن نساعده في تنظيم كتابة الملفات وجدولتها ونقلها إلى سجلات المكتب. أدارَ رأسه نحوي ودون أن يتكلم، تطوعت للمساعدة وأخذت سجلاً وقلماً ومجموعةً كبيرةً من الملفات وأشار لي كيفية إدخال المعلومات الموجودة في الملفات إلى حقول السجل، وشرعت بالنقل.
استمر المفوض ينتهز أي زلة او نقص بمعلومة ما تصدر من السجناء الأربعة والتسعين ليمارس صفعاته المميزة القوية والرنانة كطبل، كان أغلبهم بلا تعليم، لا يعرفون كيف يجيبون عن الأسئلة الدقيقة الخاصة بالمواد القانونية؛ يسأل السجين مثلاً ما هي مادتك القانونية يجيب معظمهم "بتهمة كذا" ينهض منفعلاً ويصفع السجين محذراً إياه: "لا تقل تهمة انت مجرم وانحكمت على جريمتك"، أو منهم من يتحذلق أو يخجل من جريمته، كسؤاله لاحد مرتكبي اللواط "انت لواط" رد السجين " نعم سيدي لواط وي بنية،" أجابه ساخراً ومتوعداً: "خوش عليك بنية ..تعال." نهض إليه وألهب ظهره وعجزه بسلك من القابلو ثقيل وصفعات متكررة أوقعه أرضاً ثلاث مرات. الأخير سائق سيارة أجرة برازيلي من سكنة بغداد، ومن خلال تصرفاته وأحاديثه يفهم المرء أنّه متورط فعلاً بمثل هذا الممارسة، يدون في السجل كل الملاحظات عن السجين ويأمرهم بخلع ملابسهم ليرى هل هناك وشم على أجسادهم، ليضعه كعلامة فارقة في سجلهم، وإن أنكر السجين وجود وشم قبل خلع ملابسه يعاقبه بالضرب عقاباً مضاعفاً وعنيفاً، سأل سجيناً شاباً من مدن الفرات الأوسط ورطه عمُّه في قضية تزوير عن عمله "هل لديك وشم." أنكر الشاب ذلك، نظر إليه نظرة حادة وطلب منه خلع قميصه رأى وشماً لغراب على ذراعه اليسرى، قاده إلى شباك محجر قريب وأمره بالصعود للأعلى والصياح كالغراب (قاق ..قاق) وهو جالس في أعلى الشباك، أنهكه الصياح وسكت دقيقة جاء إليه مسرعاً بالقابلو وساطَه على ظهره، عاد السجين وهو يتلوى من الألم إلى الصياح (قاق قاق) تجنباً للسعات القابلو الجارحة، وبعد فترة سكت ودمعه يجري وعيناه تحدقان بذعر بالمفوض، خرج عمُّه المسن من إحدى غرف الانتظار وتوسل مستعطفاً إياه أن يتركه، تمتم بصوت واطئ "خلي ينزل".
سأل كل السجناء عن الوشم إلا نحن السياسيين لم يسألنا وهو يدون الملاحظات في سجله. أحد السجناء الذين يشغلون غرفة الانتظار معنا كان أنيقاً ووسيماً وحليق اللحية والشارب يناهز الأربعين عاماً وكان ممدداً على فراش نظيف سألني: "انتم سياسيين" أجبته "نعم، وهل أنت سياسي أيضاً،" أجابني بإنكار: "لا عمي الله يبعدنا". فيما بعد تبين إنه ضابط تكريتي محكوم على قضية لواط لمدة 20 سنة. استبعد أن يُسجن على قضية سياسية ولم يستبعد قضيته المخزية!
إحالتنا وافقت يوم خميس وتلته الجمعة والسبت عطلة بمناسبة 17 تموز مما قلص عدد موظفي الدولة بأدنى حد في كل المؤسسات والدوائر الحكومية، الأمر الذي جعل هذا المفوض لوحده مع منتسبَين اثنين في قسم آخر، يستعين بنا لمساعدته بالكتابة. لثلاثة ايام متتالية مكثنا في الاستقبال بلا قصعة أو مال نشتري ما يسد الرمق، أو دخان، نأكل في اليوم أقل من نصف وجبة، من الطعام الموجود عند بعض السجناء القادمين من مخافر الشرطة أو مواقف غير أمنية، كمياته محدودة على قدر شخص أو شخصين بقدر ما تستوعبه سلالهم الصغيرة. شبكة الماء ملغاة من أساسها في حرّ شهر تموز اللاهب. يجلب لنا الماء أحد المنتسبين من قسم مجاور بعد رجاء والتماسات عدد من السجناء، في كل مرة بكمية لا تكفي عُشر عدد السجناء، ويعود مسرعاً ببدلته المرقطة (ونعاله اللاستيك) إلى قسمه. تعرفت إلى أحد السجناء من مدينة سوق الشيوخ، في غرفة مجاورة يتمتع بإثرة ورزانة، وحسب ما يدعي بأنه محكوم على مادة مشاجرة، سألني عن قضيتنا ومدة الأحكام أجبته "سياسيين" حدق بوجهي برهة وقال "معارضة"، استدار الى يطغه وجاء لي بقطعة رغيف خبز مع تمر وبعض السجائر من كيس كان يخفيه تحت يطغه، أخذتها الى رفاقي في الغرفة تناولنا الخبزة والتمر، ودخنّا السجائر.
مع بداية الدوام صباح يوم الأحد انتهت نوبة "مفوضنا" وبدأ ترتيبات تسليم القسم للمناوبين الجدد، السجل الرئيس وتعداد السجناء، وهو يبدي ملاحظات إليهم هنا وهناك. ارتدى ملابس النزول وخرج مسرعاً. ضج القسم بحركة المنتسبين وتعالت أصواتهم، وجاء مفوضون آخرون لتدقيق السجلات، وتنظيم إرسال السجناء حسب القسم الخاص بالمادة القانونية ومدة الحكم، وعند مراجعة الملفات وتطابق المعلومات استعانوا بنا في البداية حسب ما أخبرهم بمساعدتنا له بكتابة المعلومات وتدوينها في السجل، حتى كمل عددهم وشرعوا بتنظيم الإحالات كلاً الى قسمه واستغنوا عنّا.
دفع الفضول أحد المفوضين ليعرف لأيّ حزب ننتمي فسأل حيدر عبد الجبار: "أنتم شنو بيا حزب،" أجابه حيدر: "بالحزب الشيوعي العمالي،" فرد على حيدر: "والله ما ادري شكول عليكم هو شنو الفرق بين السنة والشيعة." هذا مفوض أمن لم يسمع بالشيوعية ولا يعرف عن الاحزاب الشيوعية ولا دولها وثوراتها ووالخ، هذا مثال لمستوى رجال الدولة الذين كان يعتمد عليهم نظام صدام، مغسولي الأدمغة وبؤس ثقافي وتعليمي، أشبه بالأدوات الصماء يختصر وجودهم وعملهم في تنفيذ الواجبات القذرة والوحشية.
نادى علينا منتسب شاب أسمر البشرة، يرتدي ملابس زيتوني خاصة بمنتسبي الأمن، أن نتهيأ لنتبعه إلى قسم الأحكام الخاصة، سار بنا مع حراس آخرين، يتأبط ملفاتنا. مشينا مسافة بين 10 دقائق إلى ربع ساعة على ممرات "ابو غريب" الكونكريتية، حتى وصلنا الى قسمنا الذي سوف نمضي فيه مدة حكمنا.







10
في "الخاصّة"

دخلنا قسم الأحكام الخاصة يوم الخامس عشر من تموز (عام 1996)، وكنّا على شيء من الراحة والرضا؛ لأن هذا المكان أكثر طلاقة من الموقف وإن كان هو بالحصيلة حبساً، ورغم ما ينبئنا به وجداننا بأننا ربما سوف تُثلم سنوات من أعمارنا بين جدرانه. في الموقف تنحطُّ حياة الإنسان وتُمسخ تماماً إلى درجة تمنى البعض من الموقوفين التعجيل بحكمهم، حتى وإن كان إعداماً للتخلص من الحياة الممحلة هذا. يعتبر الموقف حبساً مؤقتاً وأحيانا يدعى حبساً احتياطياً، لحين اكتمال ثبوت الأدلة على المتهم، لكنه داخل الأجهزة الأمنية العراقية يستحيل أشدَّ هولاً من الجحيم.
بعد استلام ضابط القسم ملفاتنا من العريف الموفد إلى قسم الاستقبال، تمعن فيها بدون اكتراث، صففها وتركها على طاولته. وأوعز بإرسالنا إلى المركز الصحي التابع للقسم، لإجراء الفحوصات اللازمة، للتأكد من سلامتنا من الأمراض المعدية أو من مشكلة صحية ما. وهو إجراء روتيني لا يسفر عن أي فائدة في ظل نقص الخدمات الهائل في المراكز الصحية تحت الحصار، وفي مؤسسة تتعمد الدولة إهمالها. تابعَ جولتنا من خروجنا من قسم الاستقبال وحتى إدخالنا إلى ساحة قسم الأحكام الخاصة نفس عريف الأمن، وعند دخولنا الساحة استدار عائداً إلى الإدارة دون أي كلمة توديعية.
لأول مرة منذ عام، انفردنا لوحدنا بدون مُرافق يقود خطواتنا. دخلنا ساحة (الخاصّة)، وهو التعبير الذي يُعرف بين السجناء اختصاراً لقسم "الأحكام الخاصة" أنا، وسعيد كاظم، وحيدر عبد الجبار، وازهر عدنان، وعلي طالب، وتخلف عنّا فالح مكطوف اربعة عشر يوماً لاقتضاء وجوده في الحاكمية شاهداً على قضية خلاف بين موقوفين. كنّا بنفس الملابس ساعة إلقاء القبض علينا قبل عام تقريباً، بدون أي أمتعة أو مال.
توجهنا نحو زاوية تظللها سدرة في الركن الفاصل بين الساحة الداخلية للقسم والطبابة. كان الوقت قبل الظهر بساعة تقريباً، والساحة شبه فارغة، إلا من عدد من النزلاء مشغولين بتحضير طعام الغداء عند صف قناني الغاز المرصوف بلصق الحائط، ومجموعتين متباعدتين بملابس كوردية وشوارب كثة؛ مشغولين بحياكة أحذية كتانية، ونزيل يجلس وسط كومة ملابس وطست معدني كبير أمامه مملوء بمسحوق الغسيل، وملابس يفركها بيديه قرب باب الحمامات الخارجي.
خبرُ قدومنا للخاصة سبقنا بعدد من الأيام، وكان عدد من اصدقائنا ممن كانوا معنا في الموقف يتوقعون وصولنا في أي لحظة. بعدَ أن علموا عن طريق الآخرين بوجودنا في الساحة، أقبلوا علينا مرحبين وسيماء الانشراح بادية عليهم لسلامتنا. أولهم كان صديقي القاص الكوردي جلال جرمكا، وصلاح جياد السجين مع اثنين من إخوته ووالده، ونبيل البغدادي. تعانقنا جميعاً بمودة من وحي التحرر من شدة أحاطتنا وألمَّتْ بنا فترة زمنية غير قليلة. وخضنا في حديث كان له دوي ساعتها، بين العناق والترحيب الصادق، والمرح الذي يعقب الشدائد. أبدوا جميعهم حسن الاستقبال واستعداهم للضيافة، منتظرين تسجيلنا عند مراقب القسم.
حضر بعد دقائق مراقب القسم عامر مدحت ومساعده أبو هبة؛ لاستقبالنا أصولياً وتوزيعنا على الغرف، رحبا بنا وسألانا أسئلة تقليدية عن مادة الحكم ومدته ومن أي محافظات، رد عليّ عامر مدحت محققاً "أها أنت من الناصرية؟" وقال قبل أن يختم كلامه معنا "أنتم شيوعيون؟" أجبناه نعم، ثم أردف "تفضلوا معي". أضافني لغرفة رقم 19 في الطابق الثاني، مصادفةً تكرر نفس رقم الغرفة عند دخولي الحاكمية قبل عام تقريباً. ووزع باقي مجموعتنا على الغرف الأخرى كلاً بمفرده في غرفة.
رحب بي أعضاء الغرفة وكانوا أيزيديين، حاجي قاسم وشيخ حسن، وثلاثة كربلائيين، وثلاثة بَصْريين، والنجفي الراحل الدكتور قاسم فرحان، الذي كان أيضاً معي في الموقف في الحاكمية، أحاطني باهتمام وترحيب استثنائيين، والموصلي رياض جار الله مقدم بالجيش العراقي، وأحمد طعمة من مدينة الكوت.
الاستقبال... هو هذا اللطف الذي يبديه السجناء تجاه القادم الجديد كعرف سائد في هذا السجن وغيره من الأقسام، لتوفير حاجاته وضرورياته حتى يحين موعد لقائه بذويه عند زيارتهم له، وتأمينهم حاجاته ويعتمد بعدئذ على نفسه. ورغم حسن الضيافة التي قابلنا بها أصدقاؤنا وأعضاء الغرف، والحفاوة والترحيب من العديد من السجناء وعبارات التهنئة على السلامة؛ لمسنا تجاهنا حينذاك فتوراً من سجناء كثيرين، إسلاميين وغير إسلاميين. أدركنا ذلك بعد فترة سبب انكفائهم عنّا، لكوننا شيوعيين يُنظر إلينا كملحدين، وعليه واجب التحفظ بأي شكل من أشكال العلاقة معنا، أو على الأقل عدم تحيتنا أو مخالطتنا في الوقت الحاضر، قبل توفر فرصة إقامة حد الردة علينا، كما قال لي فيما بعد أحد أصدقائي الإسلاميين مازحاً.
دعانا إلى وجبة عشاء السجين الشهير حمود خليفة الدليمي، المكنّى "أبو شكر"، وكان قد أمضى 19 سنة في السجن يوم دخولنا "الخاصّة"، مخفض من الاعدام بعد تلفيق حسب ما روى لنا قضية تجسس عليه لصالح سوريا. بعد مضايقات شديدة تعرض لها من أمن المنطقة منتصف السبعينيات، لنشاطه في الحزب الشيوعي العراقي اضطر للتوجه إلى سوريا للتخلص من المتابعات والمتاعب الكثيرة. استقر هناك عدداً من السنين. وفي عام 1978 وجهت له الحكومة العراقية عفواً خاصاً باسمه موقع من قبل "طه ياسين رمضان"، فعاد إلى العراق. وكان هذا العفو بمثابة مكيدة للإيقاع به، وسجنه والحكم عليه بالإعدام ومن ثم تخفيضه من الإعدام لعدم ثبوت دليل عليه بالقيام بأعمال عدائية ضد العراق، وتركه في "أبو غريب" بعد عشرين عاما ليطلق بعدها سراحه. استقبلنا بحفاوة واهتمام أكثر من أي سجين آخر في "الخاصّة."
تناولنا العشاء معه ومع بعض السجناء: أحدهم كان ضابطاً من الموصل غاب عني اسمه للأسف، نحيف وأسمر، وطيب للغاية، قدم لنا شفرات حلاقة وحجز لنا في الحمام العمومي داخل القسم. في أثناء انشغالنا بالحلاقة تحدث الضابط الموصلي عن السجن والسجناء وذكر بأن "أبو شكر" صار له تسعة عشر عاماً في هذا القسم." ذُعرت أنا من الرقم، إذ لم ألتقِ وأتعرف على شخص أمضى 19 عاماً سجيناً طيلة حياتي. وإذا به يتجسد الآن أمامي بلحمه ودمه. سألته غير مصدق: "تسعة عشر ماذا؟" ضحك حمود خليفة دون أن يجيب، أجابني الضابط الموصلي" نعم 19 سنة في "أبو غريب".
حدثنا عن السجن وعن فترته التي أمضاها والأحداث التي عاصرها منذ نهاية حكم أحمد حسن البكر، والحرب العراقية الإيرانية والانتفاضة عام 1991 واشتعالها داخل القسم أيضا وقمع الأمن لها بحضور سبعاوي أخي صدام وإعدام أحد المتورطين بأحداث تمرد رمياً بالرصاص أمام جميع السجناء. ما عاناه وآلم نفسه كما يذكر عدم شموله بأي عفو صدر من الحكومة، يقول وحسرة ارتسمت على وجهه: "يطلق سراح الجميع أمام أنظاري وأبقى مع غير المشمولين مثلي، ننتظر وجبة جديدة تأتي للسجن، نبني معهم علاقات حميمية وود، ثم يأتي عفو ويغادرون ونبقى نحن" هكذا كان الأمر طيلة عشرين عاماً. حتى داخل السجن الذي هو عبارة عن عسر متواصل هناك معاناة متفاوتة، وأسبابها مختلفة. أشد المعاناة وطأة على نفس السجناء غير المشمولين بأيّ عفو هم هؤلاء الذين خفضت أحكامهم من الإعدام، أو التجسس بدرجاته، سواء أكان متورطاً شخصياً بموضوع تجسس وفق المادة 159 أو المادة 158 أو تستّر أو عدم تبليغ على تجسس وفق المادة 164، وهؤلاء جميعهم لا يُعدون جواسيس وفق ما سمعنا من دعاويهم، إنما هي في الحقيقة لا تتعدى كونها متعلقات لا تحمل خطراً أمنياً يُذكر؛ مثل محاولة هروب إلى سوريا زمن الحرب مع إيران، ومنهم كثير، مثل سلام من مدينة بعقوبة حكم عليه بالتجسس وظل في السجن 17 عاماً حتى 2002 عام تبيّيض السجن. كان قد استدرجه أحد وكلاء الأمن عارضاً عليه طريقة للهروب إلى سوريا عندما كان طالباً في الاعدادية، فرح سلام بالتخلص من أوضاع العراق زمن الحرب مع إيران ووافقه الرأي، سجل ذلك بمسجل أسمعوه إياه خلال التحقيق، واتهموه بالتجسس للنظام السوري وأودع السجن كجاسوس، لا تشمله "مكرمات القائد."
وهناك كوردي تعرفت اليه ايام التوقيف يُدعى "أبو هندرين،" لخص لي قضيته قائلا: أقرضت نسيبي، أخ زوجتي، مالاً أيام الحصار وتأخر بالدفع. وبعد أن طالبته بالمال، فكر نسيبي بالتخلص منّي ومن الدَّين، فاتصل بي يوماً اتصالاً هاتفياً عارضاً عليّ فكرة الهرب إلى بريطانيا والنجاة من العراق والحكومة. رحبت بالفكرة وسعدت لها، ولكن تبيّن أنّ هذه المكالمة مسجلة، وألقي القبض عليّ بتهمة التجسس لبريطانيا. وهنا أنا ذا مسجون بوصفي "جاسوساً."
ومن ثبت عليه التجسّس الفعلي، فإنه يُعدم بعد التحقيق فوراً. نظام البعث يعتمد معايير غريبة لاتهام الآخرين بالتجسس، مثل قصة الشاب الكوردي فرهاد الذي كان يعمل في المقاولات الإنشائية، وحصل ذات مرة على عقد عمل مع السفارة التركية في بغداد. في إحدى المرات طلب السفير التركي من فرهاد أن يأتيه بنسخة من جريدة الثورة، الجريدة الرسمية. فكانت تلك تهمته بتقديم وثائق مهمة لبلد أجنبي. أمضى معي فرهاد ثلاثة شهور في التوقيف، كان خلالها يرتجف من الخوف على مصيره. حُكم عليه بالإعدام، ونُفذ فيه الإعدام وأرسلت جثته إلى أهله في السليمانية.
معاناةُ هؤلاء جميعاً كانت ألماً متواصلاً لا يُطاق، حطمت في نفوسهم كل أمل بالحرية والتفاؤل. كان عيشهم أزمة نفسيةً وتوتراً دائمين. وكثيراً ما يثور أحدهم لأتفه الأسباب حتى بوجوه أصدقائهم. كانوا انطوائيين وعصبيين، تظهر على سيماهم وحركاتهم وأحاديثهم ما يعتمل في دواخلهم من سخط على الحياة، وعلى الآخرين. التركماني يشار من مدينة كركوك مسجون مؤبد بتهمة تجسس لتركيا. وكان يظن أنّه من المشمولين بالعفو الذي صدر عام (1995) وقد جهز نفسه كالمشمولين الباقين، إلاّ أنّه استثني. وقد ترك ذلك في نفسه صدمة والماً نفسيين شديدين الى حد التوتر وشبه الاضطراب. كان يمضي كل وقته شاداً على اصابع يديه ونظرات عينيه تدور ليل نهار كنظرات الابكم.
ويضاف إلى معاناة السجن لسنوات طويلة مريرة؛ عوز أهالي المسجونين وفقرهم وتأخر زياراتهم، ما أدى إلى تعرضهم للشُح في زمنهم الشحيح الذي يعيشونه، بسبب ضيق ما باليد، ووقوعهم بين أمرين لا هناء قطعاً بينهما. وأغلب القدماء من المساجين كانت أوضاعهم المعيشية كذلك.
سرد علينا حمود خليفة ونحن نتهيأ لاستقبال يوم المواجهة شريطاً مما عاشه من قصص وحكايات مؤثرة خلال التسعة عشر عاماً، الشجن الذي بثه علينا، سرّب نوعاً من القبول في نفسي؛ بأنّي الآن سجين حقاً كغيري من السجناء أو كما يُقال "من نظر لبلوى أخيه هانت عليه بلواه".
بتُّ ليلتي أتهيأ لمقابلة الأهل والنوم لا يطاوعني. جفناي ثقيلان، ولا أستطيع الوصول لإغفاءة تعيد لجسدي الراحة من التوتر والقلق... ودون وعي منّي غفوت أخيراً في قاع بعيد. مع أول شعاع للشمس، تسربت لي جلبة السجناء. فتحت عينيّ ووجدت الجميع في حركة دائبة، وبملابس زاهية. صاح عليّ أحمد طعمة " أحمد يلله استيقظ .. اهلك الآن يجوز بالباب منتظرين الدخول." نداؤه هذا حرك الدم في عروقي، نهضت غير متكاسل رغم قلة نومي. اغتسلت وتناولت الفطور والشاي الساخن، وغيرت ملابسي. جميع اعضاء الغرفة مشغولين كلٌّ بنفسه: منهم من يجمع القدور والأواني في سلال ليعيدها لأهله، ويرتبون الأسرَّة الأرضية ويجددون شراشفها، وقد غسلوا الغرفة قبل يوم، وأعادوا تنظيمها وترتيبها. نزلت من الطابق الأول مع سعيد كاظم وعلي طالب وأحمد طعمة، وحيدر عبد الجبار، ننتظر مع باقي السجناء التعداد الصباحي ومن ثم فتح الأبواب أمام الزائرين للدخول. بعد التعداد، فرشَ السجناءُ على عجل أرضية الساحة الداخلية، وممر القسم بالبطانيات والافرشة والمتاكئ كلٌّ حسب مساحته المحددة. وجهزوا ترامس الشاي، والماء البارد، للضيوف الزائرين. والتزاما بالتقسيم المعتمد الذي يشبه القانون، حق اللقاء بالزائرين داخل الغرف، حصرياً لأصحاب الأسرَّة الأرضية وهم عادةً من القدماء.
فُتح الباب الرئيسي للساحة الداخلية أمام الزوار، وكنّا محتشدين على جهتي الساحة، تاركين ممراً تفصله قناني الغاز والفلينات والصناديق كسياج لمرور الزائرين. دخلت بعض النسوة والأطفال في البداية يحملون السلال وأكياس الأمتعة والأفرشة متوجهين إلى ذويهم، فانطلق العناق الحار والتحيات العذبة، والحنونة، الصادرة من الأمهات والجدّات والأخوات والبنات، وتقبيل واحتضان الأطفال. الكثير من العوائل تعرفُ طريقَها أما إلى الغرف داخل السجن، أو إلى الأفرشة الأرضية في المساحة المحددة لكل سجين. وكثير من عوائل السجناء تتبادل التحيات بينهم، ومع السجناء الآخرين بألفة وحميمية تسبغ على جو المواجهة سعادةً لا تضاهيها إلاّ سعادة الحرية وأُنس المنازل.
انشغل الجميع من سجناء وزائرين بهذا الملتقى المتجدد كل أسبوعين، وهو كعيد يتجدد، ويجدد الحياة للسجناء وذويهم بالانشراح والمحبة. سعادة السجين باللقاء لا توصف كونه الفسحة الوحيدة التي تشعره بوجوده من خلال اهتمام الآخرين به، وتكبدهم عناء السفر ومشقة التفتيش وإرهاق حَمل الأمتعة وحاجاته... كل ذلك، ليمضوا معه قدراً محدوداً من الوقت كواحة زمنية من عمر العائلة في صحراء سنين السجن الطويلة.
أخذتْ العوائل تدخل تباعاً، وضج السجن بفسيفساء من الألوان وأشكال من الأزياء المختلفة تعود حسب الثقافات والتقاليد، القومية والدينية، والعصرية منها، وأنواع الطعام وألوانه المختلفة باختلاف جهات البلاد ومناطقه. كان العراق المتعدد حاضراً هنا.
في أثناء ذلك، نادى عليّ صديقي جلال جرمكا، "أحمد...أحمد" التفتُ اليه وجدته واقفاً مع زوجته وسط حلقات العوائل المشغولة بتناول الفطور. قدمني إلى زوجته "أمّ آلان" كصديق له. "هذا أحمد... سبق وإن حدثتكِ عنه"، رحبت بيّ بحفاوة، وهنأتني على سلامتي، بعبارات ودودة، ومتعاطفة. قال لي "سجل رقم هاتفك حتى تتصل ’أمّ آلان‘ بأهلك وتخبرهم عن وجودك في "أبو غريب." استعَرتُ من أحد الزائرين قلماً وورقة التقطتها من الأرض على عجل، سجلت عدة أرقام لأخواني وأخواتي وسلمتها اليهما.
عند توسط الشمس كبد السماء، وارتفاع درجات الحرار، غاب الظل، وغدت المظلات التي جهزها السجناء من الشراشف وأكياس الرز المفتوحة لا تطاق. نادت مكبرات الصوت بصوت "ابو رازق" المدوي معلنة نهاية الزيارة، ومؤذنةً للنساء والأطفال بمغادرة السجن أولاً، ثم يُطلب من النزلاء الدخول للقسم، من أجل عدّهم داخل الممر، وبعد التحقق من عددهم يُسمح للرجال الزائرين بالمغادرة.
أُغلق القسم بعد إكمال التعداد ومغادرة الرجال. انشغل السجناء كالعادة بحفظ المؤن الغذائية الجافة، والمطبوخة في الثلاجات والمجمدات الخاصة أو الإيجار، وتغيير ملابسهم والازدحام على الحمّامات للاغتسال وقضاء الحاجة وتنظيف الغرف من مخلفات الزيارة. والمميز في ما بعد يوم الزيارة أن تسود حالةٌ من الوجوم والكآبة فتلف جميع السجناء، الى درجة التنافر والتوتر الظاهر والحزن، وشعور بالتعاسة ممض، بالخصوص لمن يصعب على أهلهم زيارتهم؛ لأسباب مختلفة إما لفقرهم وعوزهم، أو بعد المسافة، ومنهم منقطع بلا عائلة. تستمر حالة الوجوم ليوم أو يومين، وبعدها يعود السجين ليغرق في روتين السجن وعالمه الخاص. أما نحن السجناء الجدد الذين لم نلتق لحد الآن بأهلنا ومعارفنا، يكون نصيبنا الانتظار حتى موعد الزيارة القادمة، والانشغال بالتعارف بباقي السجناء؛ والاستماع إلى نصائحهم وخبرتهم، ومنهم الصادق والحريص ومنهم التافه والثرثار.
عند أول دخولنا لقسم الاحكام الخاصة، دعاني شخص خمسيني طويل القامة وممتلئ الجسم وأصلع الرأس إلى غرفتهم، للترحيب بنا وتقديم واجب الضيافة المعتادة حسب أصول السجن، لم يبدُ الرجل غريباً عنّي...، وبعد ترحيبه بي وطرحه لبعض الاسئلة عن ماهية الدعوة ومدة الحكم وهل أحمل شهادة دراسية ما، أجبته بالتفصيل عن أسئلته، قلت له بأنّي لم أكمل دراستي الجامعية في كلية التربية قسم اللغة العربية. وخلال كلامي معه تذكرت أين التقيته قلت له: "أنا شايفك من زمان" ضحك وسأل مستغرباً: "وين شايفني؟" أجبته في مقهى البرازيلي في شارع الرشيد أعوام الثمانينيات، كنتَ جالساً لوحدك على طاولة تتصفح كتاباً وكان يبدو عليك أنك تنتظر أحداً ما، كنتَ تقرأ قليلاً ثم تتوقف وتمسح على رأسك، ترتدي حينذاك قميصاً بنصف أكمام ابيض وبنطلون رصاصي اللون. ابتسم ورد عليّ: "صحيح كنت دائماً ما أذهب لهذه المقهى وألتقي بأصدقائي، نعم دائم الوجود هناك أنا." ورد مرة أخرى عليّ بسؤال أنت من الناصرية أم من بغداد؟ أجبته "من الناصرية لكني كثير السفر إلى بغداد لشغفي بهذه المدينة الجميلة، وكل ما تشتمله من مظاهر عمرانية وثقافية". عرفني بنفسه بإيجاز بأنه: الدكتور "ضرغام عبد الله الدباغ،" شقيق الكاتبة والإعلامية ابتسام عبد الله، وعن حكمه بالإعدام وتوسط أخته وزوجها الإعلامي أمير الحلو عند صدام وتخفيض حكمه إلى المؤبد؛ وعدد السنوات التي أمضاها في التوقيف وقاطع الإعدام و"الخاصّة." بعد حديثه هذا ساد صمت في الغرفة، تنهد وقال "سنلتقي قريبا ونتحدث عن حزبكم، أنا لم أسمع به من قبل، ونتحدث بالتفصيل عن مشتركات كثيرة". أثّر فيَّ ذكره لقصته، وفهمتُ من كلامه بأنه ذو توجه يساري، مما أسعدني بالتعرف في البداية إلى شخص عابر ومتجاوز للتصنيفات، التي تحصر الإنسان وتعّرفه على أساس هويات غير إنسانية.
بعد هذا الحديث مع دكتور ضرغام دخلَ الغرفة السجين "سيد عدنان"، وهو مفوض شرطة مرور من أهالي مدينة الحلة مسجون لانتمائه لحزب المؤتمر بقيادة أحمد الجلبي. رحب بي كثيراً وجلس قبالتي يسألني والحاضرون يجيبونه عن بعض الأسئلة نيابةً عني، ثم أردف ينصحني بما يجب عليّ القيام به داخل السجن وأن أتحفظ وأترك ورائي حسب ما قال؛ كل نشاط واهتمام سياسي. وأن أعد نفسي إعداداً خاصاً لكي أعتاد على وجودي بالسجن، واحتمال أن أمضي كل السنوات العشر في هذا القسم قبل أن يصدر عفو ما ويطلق سراحي. وتوجيهات اخرى حدثني بها بطريقة ناصحة ومؤثرة، عن كيفية التعامل الخاص مع مجتمع السجن باختلافه عن أي مجتمع آخر، من ناحية الحساسية للوضع النفسي للسجناء وخصوصاً ممّن مضى على وجودهم سنوات كثيرة، وتباين الثقافات والأديان والطوائف والقوميات. وهمس لي، عن خطورة الوضع الأمني لوجود وكلاء يتجسسون ويسجلون ما يدور في السجن وينقلونه الى أمن دائرة السجن، وقال واثقاً "ستتعرف عليهم."
عدت إلى غرفتي، وجميع أعضائها منهكون ومشغولون بما جاء إليهم من مؤن غذائية جافة ومطبوخة، ومنهم من استلقى على سريره بعد تغيير ملابسه خائراً، ولقاء وأحاديث الأهل والأصدقاء تضج في رأسه، ووداعهم ما ترك في نفسه من حسرة وغم.
عانيت في الأيام التي سبقت موعد الزيارة أو (المواجهة) من الاضطراب والقلق؛ فانتظاري لهذا اليوم لكي أرسل إلى أهلي مع عوائل النزلاء، خبر وجودي في "ابو غريب"، جعلني غير مستقر نفسياً، مع شعوري بالضيق والإحراج من تلقي الدعوات إلى الوجبات من أشخاص لا تربطني بهم أي صلة. وشعورنا نحن أصحاب القضية ذاتها كشيوعيين من نفور طيف من السجناء الإسلاميين كوننا متهمين بالإلحاد، وكانوا هم النسبة الأكبر من بين سجناء "الخاصّة". سبب ذلك شعور بالعزلة مضاف للضيق والقلق.
عليّ أن أنتظر أسبوعين لحين موعد الزيارة القادم، بلا فراش يخصني، ولا طعام ولا مال لشراء الضروريات من البسطات داخل القسم ولا ملابس جديدة. هذا الحال غير مريح ويبعث على التوتر. وبالرغم من كل ذلك عليّ أن أتحمل مجبراً مرور الأسبوعين، ولا وسيلة أخرى يمكن أن تتاح غير الانتظار، لتنهي الأزمة التي لم تكن في الحسبان.







11
يوم المواجهة
صباح هذا اليوم استيقظتُ بحيوية تتميز عن كل يوم آخر، دافعها إحساس يغلب عليه اليقين بلقاء أهلي وأصدقائي، بعد إرسالي رسالة إليهم بيد "أمّ آلان" زوجة صديقي "جلال جرمكا" وحتماً ستكون قد وصلت إليهم وعزموا على المجيء إلى "أبو غريب"، والآن ينتظرون بباب القسم السماح لهم بالدخول. وأنا على حال من شد الأعصاب أمام أمر منتظر حصوله.
فُتح الباب الرئيس أمام الزائرين ودخلت أعداد منهم، والتأم الشمل بالترحيب والعناق والتقبيل، هجمت الأمهات على أبنائهن تعلو صدورهن حشرجة عاطفة الأمومة وغلبة الدمع على كل شعور آخر، تعانق الجميع الآباء والإخوان والأخوات والزوجات وابنائهن، والأصدقاء والمعارف وهم محملون بالمؤن على اختلاف أنواعها، وتحلقوا حول سجينهم على الأفرشة والبطانيات.
بدأت أعداد الزائرين تتوافد، وازداد عدد العوائل وأطفالهم في الساحة، كنا ننتظر أهلنا في منتصف الساحة. تقربت أكثر نحو الباب الرئيسي المفتوح على مصراعيه مع جمع المنتظرين. أترقب وصولهم خلال هذه اللحظات على شيء من الجزع، ظهرتْ "أمّ مروة" زوجة أخي جعفر من بين حشد النساء الزائرات في الممر قبل خطوة من الباب الرئيس، وأنا أندفع باتجاهها أحسست لحظتها بانبعاث جديد أعادني إلى أهلي. وكانت هي أول الداخلين للساحة منهم.
ناديت عليها: "أمّ مروة"، اتجهت نحوي وحدقت بوجهي للحظة، وانفجرت باكية ووقفت غير قادرة حتى أن تحيّيني، ربتُّ وقبلتُ رأسها وسلَّمت عليها لتهدأ وتطمأن "كيف حالكِ ام مروة، ها أنذا الآن موجود، ومشتاق إليكم" وكررت " كيف حالكِ أم مروة" وبين نشيجها أجابتني: "شلونك أنت أحمد ترا تأذينا حيل عليك" ونحن نتكلم توافد بقية أهلي، وحصل احتفال كبير من العناق وبكاء زوجتي وأختها "امّ عما"ر التي بكتْ بكاءً مخلصاً وأخواتي كذلك أجهشن إلى حد النحيب، وترقرق الدموع في عيون أخواني، ثم سمعت خلفي صرخة ملأت الجو تنادي ..أحمد.. من أختي "أم إحسان،" التي رحلت بعد ذلك بسنين، تأخرت قليلاً بالدخول مع باقي أفراد عائلتي، هذه الصرخة ظلت باقية حتى في ذاكرة السجناء بعد سنوات. (ظل يتذكر بعض الاصدقاء لحظتها المدوية في أرجاء ساحة السجن. في إحدى جلساتنا داخل الغرفة سألني عنها صديقي "عماد الكظماوي" شلونها أختك خطية...إشارة الى أمّ إحسان) أمسكت وجهي بيديها وضمتني إليها وقبلتني وهي تشهق بالبكاء، وطلبت مني أن اجلس قبالتها. ارتجفتُ، واضطربتُ كثيراً لدرجة إني لم أعد قادراً على الاهتمام بأحد من أهلي سواها، وحتى هم تفاعلوا مع هذا الموقف بمن فيهم زوجتي، فأطرقوا جميعاً. بعد فترة قصيرة من الزمن وبعد أن هدأتْ قليلاً، تمكنتُ من الالتفات إلى باقي أفراد عائلتي الذين أحاطوني بدائرة كاملة من حولي، أرد على أسألتهم الملحفة لتهدأ وتستقر نفوسهم، وأعيد احتضانهم مجدداً وأنا متهللٌ سعيد وهم أيضاً سعداء ولكن بشفقة ما كانت مكتومةً.
لقد جاء جميع أهلي أخواتي وإخواني وعوائلهم، وزوجتي ووالدها وأختها. وأبلغوني رسالة من أصدقائي إنهم اختاروا أن يتركوا الزيارة الأولى لأهلي، لأهمية هذا اللقاء العائلي كما يروون، ويكون دورهم في الزيارة القادمة، جواباً عن سؤالي عنهم، لأبدد خشيتي من تعرضهم لمسؤولية أمنية ما بحكم علاقتهم معي، ولافتقادي لهم.
في هذا اللقاء العائلي الحميم والخاص، ومركزه أنا لم يحصل مثيله معي طيلة سنوات حياتي الماضية إلاّ في يوم زفافي. كان لقاءً مفرطاً بالسعادة والمرح، شعرت بنفسي أتكلم، أُجيب وأسأل وأمرح مع الجميع، بطريقة أقرب للهذيان ومبعث ذلك لا أدري أكان استثماراً للوقت، أم نشوة الثمالة لسعادتي بوجودهم حولي.
جاءوا محملين بأضعاف ما أحتاجه وما طلبته برسالتي إليهم مع "أمّ آلان" إليهم، الفراش والأغطية والملابس بأنواعها والأحذية والمستلزمات اليومية الأخرى، بعضها لم أطلبه ولا أحتاجه، وقدور الطعام المطبوخ المختلفة والجاف والأخضر، وعُدة الطبخ والصحون ...الخ، والمال والسكائر نوع viceroy، دخاني المفضل... كل فرد منهم كان يشعر بالواجب تجاهي هو وعائلته ولإدراكهم لسوء الأوضاع داخل السجون، جهزوا جميعاً ما يعتقدون حاجتي إليه.
جرى الوقت دون أن أشعر بانصرافه، أو أشعر بالملل أو التعب، الساعة الأخيرة بعد تناول الفطور والارتياح تكرست للفكاهة والتعليقات الظريفة ومعظمها موجه لي، "أم إحسان" اكتشفت في وجهي عدداً كبيراً من الشامات أكثر من السابق وتعلق: "ما أدري لأن صاير أبيض من قبل،" وأختي الأخرى إسراء أُعجبت بتسريحة شعري، فقد كان قصيراً بعد حلاقته بالتوقيف قبل وصولنا "أبو غريب،" وبالكاد قدرت أن أسحب ما نبت بالمشط إلى جبهتي، ومنهم من لاحظ زيادة في وزني، وفعلاً بسبب عدم الحركة داخل التوقيف زاد وزني قليلاً وبشرتي أبيضّت.
في غضون هذه الجلسة وهذا الاجتماع العائلي أعلنت مكبرة الصوت بعد الثانية عشرة ظهراً بصوت "أبو رازق" نهاية المواجهة؛ فخرجت النساء والأطفال، ودخل النزلاء إلى القسم من أجل التعداد، ولم يُسمح للرجال بالمغادرة حتى يتم التعداد. ودّعتهم جميعاً النساء ولا يوجد أطفال مع أول مواجهة، ثم ودعت الرجال من عائلتي، وضِعتُ أنا وأحمالي بين زحام السجناء الداخلين إلى القسم.
لقائي بزوجتي وأهلي أسعدني غاية السعادة وأعاد العالم اليّ وحياتي؛ بعد أن توارت مدة ما يقارب العام مع شقاء ما مر عليّ. ولكن للظرف الخاص المحيط بهذا اللقاء، لم يتسنَ وقت مخصص لي مع زوجتي، ولطالما احتجت هذه اللحظات معها، شوقا واعتذاراً، وقد تركتها وحيدة دون وداع ودون علم بنشاطي السياسي المعارض. شعرتُ إنها غير راضية عني من دون الحاضرين لهذين السببين، حتى عندما ودعتها بنهاية المواجهة كان استياؤها بادياً عليها، رغم اطمئنانها على وجودي.














12
إنعام
عادت زوجتي إنعام للشقة من زيارتها الاسبوعية لبيت أهلها، تُمارس أعمالها المنزلية الروتينية كربّة بيت. أنجزت كل شؤون المنزل وأعدت وجبة الغداء، بانتظار عودتي من المحل. جاء عبد الستار ابن اخي الأكبر الحاج وهاب إليها ظهراً ليخبرها بما حصل، بدأ مترددا، سألها: "أين عمي أحمد؟" ولم تعرف هي ما أضمرَ بسؤاله، أجابته بتلقائية: "بالمحل غير وعلى جيّه وقت الغدا هسه." قاطعها قائلاً: "لا عمي أخذوه..."
جمدتْ لحظة ثم سألته لتعرف: "من هم، من أخذه؟" شرح لها عبد الستار موضحاً: لا أدري عمة، الكلام يدور عن جهة أمنية أخذت عمي. والبحث والاتصالات جارية لمعرفة المزيد، جئت لأخبرك ويرجو منكِ أبي وأعمامي التزام الصمت والتكتم حتى تتبين الأمور لاحتمال وجود آخرين معه لم يلق عليهم القبض بعد.
كانت صدمةً مفجعةً حقاً بالنسبة إلى زوجة شابة في بداية العشرينيات من عمرها وفي سنوات زواجها الأولى. عاشت فترة مترعة بالحب والتفاهم والتطلع إلى اكتمال الحياة الزوجية، من إنجاب الأولاد الى غنى شروط الحياة المادية التي تبعث على الرضا للحياة العائلية، ولاسيما إنها كانت غير متوقعة بالمرة. صورة المستقبل المشرقة الماثلة أمامها التي كانت تملأها طاقةً من الوجد، والحلم الساكن في خيالها لمنزل الزوجة السعيدة، لا تدري وهي غير متأكدة هل تحطم الآن، هل أنا الذي حطمته؟ وذلك ما كان يقض مضجعي وضميري وأنا أتقلب داخل المحاجر والسجون، رغم كل المعاناة، لأنّي خذلتها.
عادت إلى أهلها جزعةً ومحتارةً، لأنها لم تكن تعرف شيئاً عن نشاطي السياسي المعارض ولم تكن تعرف بأنّ زوجها ينتمي لتنظيم سياسي سري، ويواظب بدأب على الاجتماعات الدورية وكتابة النشرات والبيانات وتلخيص المواضيع الثقافية وتوزيعها على الخلايا والمساهمات المالية؛ أي القيام بكل ما يمت بصلة للتنظيم الحزبي ولسنوات طويلة. حرصتُ على أن لا أطلعها على أسراري هذه خشيةً عليها في حالة تعرضي للاعتقال كما حصل، لأنها ستكون هي أيضاً تحت طائلة العقاب لتسترها عليّ، وهو الأمر الذي حرصتُ على تحاشيه.
استيقظتْ والدتها من قيلولتها مستغربةً من عودتها للبيت بهذه السرعة وبهيئة لا تدعو إلى الاطمئنان. سألتها بتوجس: ما القصة هل حصل شجار مع زوجك، ما سبب عودتكِ بهذه السرعة؟ أجابتها: لا، أحمد لم يعد للبيت والاخبار تفيد من اهله بأنهم أخذوه، عن قضية امنية خطيرة. لم تصدق العجوز الخبر، لأنها لم تتوقع إقدامي على أمر بهذه الخطورة ولبساطتها استبعدت حصول مثل هذا الأمر، ناقشت مع ابنتها جملة احتمالات لغيابي وحتى إنها ادرجت اسباباً بعيدة، قائلة: أخاف سافر للخارج أو.. ذريعة لكي ينفصل عنكِ مثلا. لكنّ إنعام التي سيطر عليها الاضطراب والقلق لم تكترث للكلام الذي يلقى حولها.
استيقظ كذلك أبوها سيد باقر وأخوها الاكبر هادي ورغم صدمتهما حاولا التخفيف عنها بشتى الوسائل التي يمتلكونها من رصيدهما الاجتماعي لمدها بالصبر "حتى تتبين الامور،" ويظهر سبب غيابي الحقيقي. أكد هادي لها: لابد من أن إخوته لن يدخروا جهدا للبحث عنه وهذا جانب مطمئن، لديهم الكثير من المعارف يساعدونهم للوصول اليه، وأبوها بحكمته وعاطفته تجاهها ذكّرها بأنّ الله كريم وستشهد الساعات أو الايام المقبلة أخباراً سارة، ولا داعي للحزن.
أخواتها الأربعة كنّ غير موجودات بالمنزل، كنَّ منخرطات بالعمل في مصانع الملابس الأهلية إلاّ واحدة منهن كانت موظفةً بمعمل النسيج الحكومي، بسبب الحصار الاقتصادي فرض على أغلب العوائل تأمين مصادر اضافية للمعيشة المكلفة وارتفاع أسعار جميع السلع الأساسية والخدمات، مما استوجب من أفراد العائلة بذل المزيد من الطاقة والوقت لتوفير المال اللازم لسد حاجات الحياة الباهظة.
اكتمل الشمل مساءً إلاّ من حيدر أخيها الثاني البعيد في وحدته العسكرية، اجتمعوا للإحاطة واستيعاب الصدمة التي صعقت بهم، نوقشت الحادثة من جميع الزوايا وسبل التوجه والتقصي أو التوسط لإنقاذي كما يحسبون، المشاركة مع أهلي أو قصد المعارف من أصحاب النفوذ أو لأصدقائي المقربين.
بعد يومين توجهت أخواتي إلى أهل زوجتي لتفقدها وطمأنتها بأنّ البحث والسؤال عني جارٍ وموافاتها بكل جديد، أدخلت هذه الزيارة بعض الهدوء إلى جنانها، شعرت بالتضامن الأسري واستقرت على أن غيابي سيطول وإن كان محفوفاً بالمخاطر.
وزيارة صديقي المقرب علي حاكم صالح، بعد اسبوع لبيت أهل زوجتي كان لها اثر كبير عليها وعلى اهلها كما روت لي فيما بعد. نصحهم بعقلانية للركون إلى الهدوء وجدية قضيتي باعتبارها عصيةً على الحل بالوسائل التقليدية، كالتوسط وتأثيرات المعارف. وكما ردَ على رغبة ابيها بالتحرك والسؤال: بأن تتركوا الامر لأخوته فهم أصحاب نفوذ ومال وفي مقدورهم عمل الكثير.
بالرغم مما هو معروف عن النظام البعثي من استبداد ونشر الخوف بين الناس، إلاّ أن إرادة المقاومة لم تنكسر نهائياً ودائماً كانت تجد سبلاً وطرقاً متنوعة لكسب النتائج وإن جاءت بمعظم الأحوال هامشية، ورغم ذلك لم ينجح فرض الاستسلام والخيبة على الجماهير. المقاومة تتحرك داخل بناء اجتماعي لم يستطع البعث مهما امتلك من شدة، إحكام قبضته عليه. الاحساس بالظلم المفرط والعقوبات المبالغ فيها جعل التعاطف الاجتماعي على مصير الضحايا يأتي بمثابة رد فعل طبيعي، يصدر أحياناً حتى من أعضاء من البعث أو من قوى الأمن.
في أثناء حديث لشقيقة زوجتي (امّ عمار) مع أحد ثقاتها في ورشة الخياطة التي تعمل فيها اقترح عليها التوسط عند صديقي طبيب الأنف والأذن والحنجرة (الدكتور محمود دخيل الاسدي)، يُعرف عنه سعة علاقاته الاجتماعية بين أطياف المجتمع وطبقاته، وبحكم ارتباطات عمله في المستشفى وعيادته الخاصة. وبناء على هذا المقترح قررت عائلة زوجتي أن تقصد الدكتور الأسدي في منزله وشرح قضية اعتقالي له وملابساتها. فقد كان يجهل إني موقوف وبحاجة إلى مساعدة، ولاسيما هو صديقي تربطني به علاقة طيبة ومن المؤكد سيبذل قصارى جهده واستغلال معارفه بالسلطة، للتأكد من سلامتي ووجودي.
تأثر الدكتور محمود بجد عند تلقيه خبر اعتقالي وأبدى استعداده التام للسعي بين علاقاته الرسمية للوقوف على حالة غيابي، وفعلاً بذل الرجل جهداً مضنياً للوصول إلى نتيجة ما. والنتيجة مفروغ منها؛ لا يمكن التساهل مع قضية تمس (أمن الدولة) ومن يعارض النظام، معارضة سياسية منظمة. عاد إليهم وردد كلاماً متداولاً يختتم كل قضية مشابهة لقضيتي: "زين وماكو خطر على حياته وانشا الله يطلع قريبا." هذه العبارة أكثر العبارات شيوعاً تُسمع كجواب عن الاستفسار عن حال المغيبين عند الأجهزة الأمنية البعثية.
بعد مرور عدة أشهر على غيابي لم تثمر أي جهود ومساعي. ورد تبليغ من الفرقة الحزبية القريبة من أهل زوجتي، بوجوب حضورها من أجل (استفسار) معين، والغرض معلوم هو التحقيق معها بشأني. ذهب معها أبوها وأخوها الأكبر هادي، تحدث معها على ما يبدو رجل أمن لأنه كان بملابس مدنية وليس مثل الباقين بالفرقة يلبسون الزيتوني، سألها عدة أسئلة محددة، دارت حول التأكد منها هل كانت تعرف بنشاطي السياسي، أنكرت ذلك وهي محقة، وأعربت عن جهلها التام بممارستي لأي نشاط أو عمل حزبي، سألها أخيراً: "يعني انتِ ما كنتِ تعرفين بارتباطاته هذه قبل ما تتزوجيه، ما سألتي عنه؟" أجابته "نعم سألت عنه وفقط ذكروا لي أنه يشرب،" ضج الحاضرون بالضحك وهو معهم، وبعدها سمح للجميع بالمغادرة.








13
مجتمع "الخاصّة"
شملتنا السعادة أنا وأبناء "دعوتي" بوصول جميع أهلنا ولقائنا بهم، ابتهجت نفوسنا وارتاحت إلى حد الترنم. قررنا في اجتماع مصغر بيننا تقسيم مجموعتنا إلى قسمين، أزهر عدنان وعلي طالب وحيدر عبد الجبار في واحدة، والثانية فالح مكطوف وسعيد كاظم وأنا، في ما يسمى بالسجن عادةً "سفر داش"، ويُعتقد أنّ أصل هذا المصطلح أو التعبير تركي يعني "رفيق المائدة،" وكان إجراؤنا هذا لدواع أمنية كما رأى أزهر حتى لا نلفتَ انتباه وشكوك أمن الدائرة ووكلائهم من السجناء، وللتخفيف من المهام والواجبات إذا ما زاد العدد في المائدة الواحدة.
تبادلنا فيما بيننا أنواع الطعام المطبوخ الذي افتقدناه فترة طويلة، ودَعَونا سجناء آخرين إلى موائدنا، جرياً على عادة مجتمع السجن والطريقة المألوفة بين كثير من السجناء، كرد على حفاوة الضيافة التي قُدمتْ لنا سابقاً، أو كواجب تجاه ممن لا يستطيع ذووهم زيارتهم.
شرعنا بعد إتمام متطلباتنا للانسجام مع حياة السجن، قسمنا نحن الثلاثة الواجبات فيما بيننا، إعداد الوجبات الثلاث وغسل الأواني، وحفظ الطعام المطبوخ الذي جاء جاهزاً مع عوائلنا والمواد الأخرى الضروري حفظها مثل معجون الطماطم أو الخضروات، في ثلاجات بعض السجناء ممن يملكون ثلاجة بعد إن سمحت لهم دائرة السجن بإدخالها للسجن، أو في المجمدات مقابل أجرة تُدفع لصاحبها 250 دينار عن كل كيس طعام أو خبز، وهذا عمل شائع يقوم به سجين يملك مجمدة ويعدها لهذا العمل. كان سعيد أكثرنا خبرة بالطبخ، وأنا كذلك عندي خبرة بالطبخ منذ أيام العسكرية، وبناءً على تقسيم الواجبات بيننا، صار من نصيبي تحضير وجبة العشاء، كان سهلاً تسخينه وتجهيزه، وحتى إذا ما نفد الطعام الجاهز فكرتُ بوجبة سهلة أيضاً أعدها وكانت الباذنجان والطماطة شياً على نار قنينة الغاز. أخذتُ بتحضير هذه الطبخة كل مساء لمدة أسبوع أو أكثر أضع الكمية على اللهب وأبتعد عن القنينة إلى الظل، قناني غاز الطبخ مسموح وضعها في الجانب الملاصق للقسم فقط، ويكون هذا الجانب بعد الظهر مشمساً، أتحمل عناء إزالة القشور المتفحمة من الباذنجان وتبخر نصف حجمه، وتلطخ أصابعي، لأنّي لا أتحمّل قليه أو عمل طبخة أخرى تحت أشعة الشمس، لويس عجزاً أو هرباً من الواجب. أخيراً ثارت ثائرة سعيد من هذا العشاء الممل، وخاطبني محتجاً: "طلعت أرواحنا من عشاك هذا ..شنو ماكو غير البيذنجان الشوي"، شرحت له السبب وتفهم الأمر واقترح علي التعاون على وجبة العشاء. كنت أنا محتاجاً فعلاً وسيلة أو فرصة ما تساعدني لإعداد عشاء غير هذ، فمختلف المواد الغذائية موجودة وبكميات كافية لطبخات متنوعة أحسست ذلك من نظرات السجناء الآخرين المتفهمة وغير الناقدة.
أعلن فالح مكطوف "أني لا أجيد الطبخ،" واتخذ على عاتقه غسل الصحون بعد الوجبات، وعدة الغسل المؤلفة من وعاء صغير وإسفنجة ومساحيق احتفظ بها عنده، يسلم لي الصحون والقدور والملاعق والسكين بعد غسلها. بعد عدة أيام شممت رائحة عفن في الصحون رغم نظافتها ولمعانها، شكوت الأمر لفالح فلعله يشطفها بماء آسن؛ رد قائلاً "ليس ماءً آسناً ..أستخدم ماء الصنابير وبموقع غسل صحون وأواني كل القسم." يمتاز ماء سجن "ابو غريب" بالنقاء والعذوبة والبرودة. ازدادت بتوالي الأيام الرائحة إلى حد يوجب المعالجة، توجهت لغرفة فالح ضحى أحد الأيام وجدته ممداً على السرير العلوي ويطالع كتاباً، دعوته إلى تحليل وتركيب عملية غسل الصحون لنرى أين يكمن الخلل، شحذ انتباهه استعداداً لهذه المفارقة في إدخال مفاهيم (تقنية) فلسفية على مسائل بسيطة، سألتُ أنا "ما هي المكونات التي يتألف منه غسل الصحون؟ وشرعتُ أعدد المكونات، الصحون والمساحيق والماء، وعُدَّة الغسل من اسفنجة ووعاء لحفظها، لنجرب أيَّ جزء يسبب العفن، قال لي فالح لا أدري أين يكمن سبب العفن، وفجأة خمّنت السببَ ووجدته في عدة الغسل، فبسبب عدم خبرته لم يقم بغسل وتجفيف الاسفنجة ولا الوعاء من بقايا الطعام والزيت والمساحيق بشكل كاف، شممتها ووجدتها متعفنة، بعد ذلك تجازونا المشكلة على الفور، بتركيب جديد للعملية بعد تحليلها.
حياتنا بعد "المواجهة" تغيرت إلى حد كبير، أصبحنا نملك زمام كل أمورنا المعيشية، مستقلين ونعتمد على أنفسنا في تدبير كل شؤوننا الحياتية، وأكسبتنا راحة وسَكينة نفسية رغم أننا مساجين؛ ولكننا مضطرون لمتابعة حياتنا بيسر. أمامنا الآن أسبوعان جديدان لموعد المواجهة الثانية، التي تحمل بشارات وأفراحاً جديدة نحن بحاجة إليها. الأصدقاء وعدد من الأهل ممن تخلف عن المواجهة الأولى، ونواقص تلزمنا أوصينا عليها، ننتظر بأمل إلى لحظاتها المرتقبة.
يوم المواجهة، يوم يختلف عن كل مناسبة أخرى من المناسبات السعيدة أو الاحتفالية وحتى الأعياد في الحياة الاجتماعية بصورة عامة. المناسبات تقام بين أناس طليقين يتمتعون بالحرية، يحتفلون بإرادتهم، واختيار أوقاتهم. تضيف إليهم المناسبات تجدداً وبهجة، وعند انتهائها يعودون إلى ممارسة حريتهم. أما المواجهة بالنسبة إلينا كسجناء، هي مناسبة تتجدد بشكل دوري وكما يُعرّف العرب الفرحان "أن يجد في القلب خفة"، الخفة هذه نجدها في فسحة محدودة زمنياً، وبعد انقضائها نعود خلف القضبان. الجديد الذي أنتظره في المواجهة اليوم، مجيء أصدقائي وبعض أفراد من عائلتي.
في الموعد الآخر: أنا في الساحة الداخلية للقسم مع مجموع السجناء ننتظر الزائرين، بدأت تدخل النسوة والأطفال كالعادة وبعدها دخل أخي علي وعانقني وعيناه تترقرقان بالدمع، وأخبرني بوصول أصدقائي، ودخل أخي جعفر وأصدقاؤه علاء عطية وأبو سعدون، وأنا مشغول باستقبالهم، لمحت (صلاح حسن ساجت) صديقي يدخل ساحة القسم ويتطلع يساراً إلى تجمعات الزائرين والسجناء المشغولين مع بعضهم، توجهت إليه وناديته، التفتَ اليّ وأسرع نحوي وعانقني وشدَ بساعديه على ظهري بشدة، ونحن نتعانق وصل أصدقائي الباقون، علي حاكم، أمير دوشي، أحمد هاشم، جبار ونّاس، أحمد ثامر، وصرنا على شكل حوطة. احتفلنا بالعناق والمشاعر الصادقة والدافئة، أصدقائي هم ذاتي الموزعة بينهم، اجتمعت الآن مرة واحدة، وبلحظة زمنية برهنت لي أني أعيد إنتاج ذاتي، من جديد وأن أبقى هو أنا، كما كنت، بما إن هؤلاء الأشخاص أصدقائي. تحلقنا بحلقة واسعة منهم ومن أخواني وأصدقائهم اللطيفين الذين تجشموا عناء السفر من الناصرية ومشقة الانتظار والطابور من أجل زيارتي، محملين أيضا بأمتعة كواجب يشعرون به تجاه إخوتي وتجاهي.
ضج المكان بالأحاديث والظرافة، والجميع يتناوب عليّ بعبارات الارتياح لسلامتي، والتمني بصدور عفو قريب، لتنتهي أزمتي مع السجن. لم تغب أبداً النوادر والضحك حتى بصوتٍ عالٍ من الأصدقاء، وكأننا على أحدى طاولات البيرة في كازينوهات الناصرية، وكان ذلك جانباً من حياتنا التي كنا نعيشها بشكل يومي، بين التعلم من بعضنا البعض، والبحث المتواصل فيما يدعم الاهتمامات العامة او الاختصاصات، وكأننا مدرسة من مدارس العهود القديمة، متفرغة ليل نهار من أجل تعاطي العلم والمعرفة، تتخللها استراحات التندر والطرائف وأحيانا حتى على بعضنا.
لاحظت السَّكينة باديةً على وجوه وحركات أصدقائي، بعد أن التقينا وجهاً لوجه وأصبحت سلامتي يقيناً بالنسبة لهم. استفسرتُ منهم عن أحوالهم وأمورهم المعيشية والعائلية، وأنا على يقين إن عوائلهم لا تقل عنهم قلقاً عليّ، حملوهم التحيات والتمنيات الصادقة لي بالسلامة، مثلما أخبروني وأبلغوني. سألت عن الأماكن التي كنا نرتادها ونمضي أوقاتنا فيها، وهم سألوني بإلحاح وشغف لمعرفة الشخصيات والقضايا في قسم السياسيين، لفت نظر صلاح وعلي حاكم دكتور ضرغام، يتمشى مع أحد النزلاء وسط الساحة بقامته الضخمة المميزة ويومها لم يزره أحد. "هذا الرجل شنو قضيته،" سألني صلاح، أجبته: "هذا أخو ابتسام عبد الله الإعلامية والأديبة العراقية المعروفة،" وفصّلت له ما عرفته عنه: بأنه عضو قيادة قومية بنسخة حزب البعث السوري، دكتوراه علوم سياسية من جامعة كارل ماركس في ألمانيا الشرقية، وقد قرأت له كتيب تحليل عن حرب فوكلاند... تبادلا النظرات بينهما وعلق صلاح "بني آدم بعد شيصير.." وأكمل علي "حتى يخلص من صدام". حدثتهم عن بعض التفاصيل في القسم وعن شخصياته وعن القدماء، والدعاوى الجديدة التي استحدثتْ مع حال الحصار، مثل القبض على أحد مهربي الويسكي من مدينة كربلاء إلى الحدود السعودية وإيداعه السجن ثلاث سنوات، كان المهرِّب من ريف كربلاء لبقاً ولطيفاً، حدثني مرة عن طريقة عمله، قيامه بشراء الويسكي من بغداد وتحميله على ظهور الحمير والانطلاق بالحمولة ليلاً حتى الحدود السعودية، وبيعها هناك، بأسعار مضافة؛ ومستغرباً من السعوديين الريفيين يعجبون بالحمار العراقي (يسميه زنيهر) بمثل إعجابهم بالويسكي، ويعرضون عليه ثلاثة أو أربعة أضعاف سعره، يبيع بضاعته ووسائط النقل ويعود مشياً على الأقدام بأموال كثيرة حتى تم القبض عليه وسجنه بدعوة التعامل مع دولة معادية.
وأنا أنقل حديثي واهتمامي بين الأصدقاء وإخوتي وأصدقائهم، انقضى الوقت سريعاً، وأعلنت مكبرة الصوت بصوت "أبو رازق" كالمعتاد انتهاء وقت الزيارة وطُلب إلى النزلاء بالدخول داخل القسم، العبارة الأخيرة التي لم يسمعها جيداً صلاح أو لم يتعرف إليها من قبل قال لي "يطلبون دخول السجناء" قلت له وأنا شارد الذهن مصححاً " النزلاء".
ودعتهم ابتداءً بأبي سعدون وعلاء عطية وأصدقائي عانقتهم وإخوتي، وأخذت سلال وأكياس الأمتعة وقدور الطعام المطبوخ، التي يحرص الجميع على إحضارها معهم كواجب اجتماعي، وكتعاطف مع حاجة السجين للحاجات الاسرية المألوفة. ودلفت مع مجموع النزلاء داخل القسم.
بعد أن التقيت بأهلي وأقاربي ومعارفي وزوجتي وأصدقائي، واستكان الحال عاطفياً ونفسياً إلى حدٍ ما، تهيأتْ لمتطلبات المعيشة في السجن وأساسياتها. وليس أمامي إلاّ الاعتياد، فانخرطت في التفاصيل اليومية، من ترتيب السرير، وغسل الملابس، والاستحمام والحلاقة، والتعاون في تحضير الوجبات بيننا، وكل الجزئيات اللازمة لاستمرار الحياة في هذا العالم الجديد. والتواصل مع باقي السجناء والتعرف إليهم وعلى دعاويهم، وظروف عوائلهم ومستوياتهم الثقافية والتعليمية، باستثناء الإسلاميين السُّنّة والشيعة، الذين يجافونني بطبيعتهم غير الودية، ولا ينفتحون إلا على نظرائهم.
مع مرور الأشهر والأيام، تتابعت وجبات السجناء في "الخاصّة." ينتهي إلينا أحياناً وجود فكرة يتداولها عدد من السجناء لتقسيم السجناء إلى قسمين؛ قسم يخص من بقي أمامهم في السجن أكثر من عشر سنوات، والثاني لمن هم أقل من ذلك. اتهم معظمهم المراقبَ عامر مدحت باجتراح مع بعض النافذين؛ لإراحة مزاجهم من الازدحام وتكدس السجناء في الغرف.
نُقلنا أنا وسعيد كاظم وحيدر عبد الجبار وعلي طالب مع باقي السجناء الذين ينطبق عليهم التقسيم الجديد المأخوذ من طريقة (الثقيلة والخفيفة الجنائية) إلى بناية القسم الثاني الفارغة. عينتْ الدائرة مراقباً ومساعداً يديران شؤون القسم، ومن أولى مهامهما التساهل في توزيع السجناء على الغرف حسب الرغبة واختيار الشركاء، مما عاد على السجناء بالارتياح والتعاون الاجتماعي. قلة عدد المنقولين للقسم الجديد أضاف ميزة أخرى تساهم في خلق أجواء الراحة والاستقرار، لأن أهمية المكان في السجن عامل حاسم في حياة السجين النفسية والبدنية.
اختار القدماء وكبار السن وعدد من المرضى والمعاقين بعضهم لبعض، وللغرف، في الطابق الارضي. واتفقنا نحن (أبناء دعوتنا) أن نختار غرفة تجمعنا معاً، وبالتفاهم مع المراقب، اختار لنا غرفة (رقم 12) في الطابق العلوي مع سجين آخر، هو "أياد أبو أحمد"، كابتن بحري بغدادي من أهالي الاعظمية متزوج من سيدة بَصْرية وقد انتقل للسكن مع زوجته في البصرة. أما التهمة التي سُجن بسببها فهي أقرب للهزل منها الى الجد.
روى لنا "أبو أحمد": في أحد الأيام حضرت عائلتي وعائلة أخي دعوة وجهها لنا أحد أقاربنا في مناسبة عائلية، وأنا كنت غير موجود "طالع بحر"، حسب تعبيره المهني. وكان أحد الحاضرين من الأقارب مشاكساً دخل في مشادة كلامية مع أخيه هدده بالنهاية قائلاً: "سوف ترون بعد فترة راح أصير رئيس جمهورية وكيف ألقنكم درساً." ويستطرد الكابتن "أياد أبو أحمد"، نقلاً عن زوجته التي كانت حاضرة في المجلس، أنّ جميع الحاضرين اعتبروا هذا الوعيد هذياناً من شخص غير منضبط على الدوام. بعد مرور عدة أشهر جاءت مفرزة أمنية لمنزل الكابتن "أياد" واقتادوه هو وأخاه إلى التوقيف، وتم التحقيق معهما حول تصريح قريبهما المشاكس، وهل لهم علم بتورطه مع جماعة سياسية معارضة في كردستان، تعمل بالتنسيق مع أمريكا لإسقاط النظام في العراق؟
أدين الرجلان بتهمة التستر على جريمة سياسية، وحُكم عليهما بالسجن المؤبد، رغم محاولات زوجة كابتن أياد بإنقاذ زوجها من هذه التهمة، وإقرارها أمام المحقق بأنّه لم يكن حاضراً ساعة هذا التصريح؛ فكان رد المحقق: "لابد إنه قد سمع منكِ ولم يبلِّغ السلطة."
في أول يوم لدخولهما "سجن الخاصّة" وصل شقيق الكابتن أياد، منهك القوى ومتأثراً تأثراً شديداً من مبلغ الأسى لفقدانه حريته ومكانته الاجتماعية. أصيب بانخفاض السكري إلى درجة فقدان الوعي، انشغل طبيب الدائرة مع الأطباء السجناء في القسم، لإنقاذه. أدخلوا ماءً محلًى عن طريق أنفه بواسطة أنبوب طبي، استيقظ لدقائق وبعدها أغمي عليه مجدداً. ويظهر إن الرجل كان يرفض الحياة في الاعتقال فمات في الليلة التالية.
مع كابتن أياد أصبحنا خمسة أعضاء نتقاسم الغرفة، استطعنا ترتيب الغرفة بهمة، كنسنا أرضيتها ومسحنا الغبار، المتراكم على الجدران والشبابيك وغسلنا أرضيتها بالماء ومساحيق الغسيل. عثرنا داخل الغرف الأخرى على الكثير من الأسرّة المتروكة من السجناء الذين أُطلق سراحهم في العفو السابق، كان بعضها بحالة سليمة ومعظمها يحتاج إلى تصليح. زودت الدائرة القسم بماكنة لِحام وتطوع بعض السجناء ممن كانوا يمتهنون الحدادة بإصلاح الأسرَّة المتضررة. قبل التعداد المسائي رتبنا (أمورنا)، كما يقال، وهيأنا الغرفة للسكن والاستقرار، فرشنا أفرشتنا على الأسرّة، وتجهيزاتنا الباقية جمعناها في علب كارتون تحت الأسرّة، واظم الى مجموعتنا كابتن أياد.
الغرف الأرضية حسب التوزيع والاختيار الطوعي امتلأت بعدد أكثر من السجناء من الغرف في الطابق العلوي، معظمهم من القدماء كبار السن ومن المرضى والعجزة، مع وجود الألفة والتفاهم بينهم. غرفُنا في الطابق العلوي أكثر راحة وأهدأ من الغرف الأرضية لقلة عدد أعضائها وبُعدها عن صخب الطابق الأرضي المزدحم واكتظاظ الساحة الجانبية. أمضينا عدة أيام وأسابيع على نسق سلس، في تنظيم وإدارة شؤوننا الحياتية، ولقائنا مع ذوينا وأصدقائنا أيام المواجهات داخل الغرفة، الأمر الذي وفر علينا الكثير من إحراجات الساحة، وفسحة من الخصوصية.
ذاع بين السجناء خبر انقضاء مدة عقوبة "أبو أبراهيم" في المحجر ثلاثة أشهر. ولهذا قصة نفّرتني من السجن كثيراً. ففي مشاجرة بأدوات غريبة بين طرفين عن قضية مِثلية، قام المكنّى "أبو أبراهيم" بغلي كيلو من الدهن ورميه بوجه "سيد أحمد الحلو"، لأنّ الأخير قد أفسد العلاقة بين "أبي ابراهيم" وخليله ويدعى أحمد أيضاً، فتورم وجه سيد أحمد وصار مثل بطيخة، وظل يعاني الألم المبرح شهراً كاملاً. المثير في القضية هي أن تكون بين إسلاميين.
تداولت الأخبار احتمال نقل "أبو إبراهيم" إلى قسمنا الجديد، رغم أن مدة حكمه لم تطابق القرار الذي حصل بموجبه التقسيم حسب مدة الحكم. فهو قد خُفِّض من الإعدام ولم يمضِ على وجوده في "الخاصّة" سوى عامين. كانت دعوته "تجاوز الحدود" مع إيران، وهذه دولة عدوة، فاشتُبه به متعاوناً مع أجهزتها الأمنية. ألقي القبض عليه عند عودته متسللاً الحدود باتجاه مدينته (الكوت). واستفاد من زيارة اللجنة الدولية للصليب الأحمر إلى سجن "ابو غريب" والالتقاء به في قاطع الاعدام، والاستفسار منه عن قضيته. فخُفِّض حكمُه بعد هذه الزيارة إلى المؤبد وترحيله إلى قسم الأحكام الخاصة.
السجناء النافذون في القسم الأول اعتبروا "أبو أبراهيم" مصدر قلق ومثيراً للمشاكل، وعليه لم يعد مرغوباً فيه بينهم. جاء مساعد قسمنا الضخم بطول مترين تقريباً يسير في ممر الطابق العلوي متمهلاً طاوياً دفتره بيده، حيّانا أنا وسعيد في باب الغرفة وطلب منّا أن نتفهم طلبه، قائلا " نُقل أبو أبراهيم إلى قسمنا كما تعرفون، هو مُبعَد من القسم الأول، ولقد مررت على كل الغرف لأضيفه إليهم، ولم يوافق عليه أحد، بعد نقاش وتشاور رأينا أنه ليس غيركم، كونكم مثقفين ومتسامحين وسمحين، من يؤثر فيه، فأرجو أن توافقوا على طلبنا." الطلب كان محرجاً حقاً، الرجل كان سيء السمعة ومثيراً للمشاكل، لكننا وافقنا على كل حال بعد التشاور بيننا، وتم الاتفاق نزولاً عند طلب أصدقائنا المراقبين، ومن ثم فإن سلوكه لا يعنينا، كل انسان وشأنه.
جاء أبو أبراهيم حاملاً فراشه وكيس لوازمه الأخرى، يرتدي دشداشة متسخةً وشعره أشعث مقصوص على شكل حفر، رحبنا به بعبارات الترحيب المتداولة بالسجن، رد هو أيضا رداً جميلاً، لا يخلو من امتنان، لعلمه برفض الغرف الأخرى استقباله. وأوجبنا عليه حسب التقليد السائد أن يكون شريكنا في المائدة وتقديم ما يحتاج حتى زيارة أهله إليه. قَبِل حفاوتنا برحابة، ولمسنا جهداً منه ليكون واحداً منّا.
داخل شخصية "أبو ابراهيم" يسكن شخص معذب وغامض ومشرد رغم حالة أهله المعيشية الميسورة، لجأ منذ صباه إلى أعمال الفتوة والمغامرة تدفعه قوته البدنية المفرطة وقلة وعيه. روى لي قصصاً عن مغامراته وطيشه تنتهي دائماً بارتكاب عمل إجرامي قاس وسادي؛ مثل قيامه بضرب سائق شاحنة من الرمادي كان قد تحرش بأحد فتيانه: "انتظرته متخفياً حتى أكمل عشاءه الكباب في أحد المطاعم الخارجية، وعند خروجه متجهاً إلى شاحنته ضربته بساطور على عجزه كنت قد هيأته خصيصا للثأر منه." وصف بتلذذ مقدار الدم الذي سال منه ووقوفه مشلولاً غير قادر على الحركة، ومن ثم هروبه إلى مخبئه مع فتاه. بعد أن سألته عن تعليمه تبين أنّه ترك المدرسة من بدايات المتوسطة. وكان والده مصدر إلهامه في السلوك العنيف، والمشجع له على ذلك: فأدمى شخصاً في حيّه، ووصل به الأمر أن مزق وجه أخيه نفسه بزجاجة بيبسي. بعد تكرار مثل هذه الحوادث ساء صيته مما جعله يلوذ بفكرة ترك الكوت والهرب إلى إيران.
وبقدر غموض شخصيته وعدائيته، كان "أبو ابراهيم" يتمتع بروح هزلية بالمعنى المسرحي للكلمة. أجوبته غير المتوقعة، وتعليقاته العبثية، وحرصه على أن يكون له نصيب في أية نادرة تحصل في الغرفة، أو جعله من الحدث العادي مزحة أو أحياناً مشهداً فكاهياً.
كان "حيدر عبد الجبار،" قد اطلع من كرّاس وقع بين يديه على تفاصيل التنويم المغناطيسي وأسراره. وأخذ يتحدث عن ذلك كثيراً، فسأله "أبو ابراهيم" عما إذا كان يستطيع تنويمه مغناطيسياً. فأجاب حيدر بالإيجاب. استلقى "أبو ابراهيم" على سريره واستسلم لإيحاءات حيدر التنويمية. لم تمر غير لحظات حتى استغرق "أبو ابراهيم" في نوم عميق، وظل لدقائق ساكناً وهاجعاً كلياً. أراد حيدر إيقاظه بعد استجابته لتأثير الايحاء، همس في إذنه، ثم صفق بجانب وجهه، ولكن "أبو ابراهيم" لم يستجب. ثم ضربه على وجهه بصفعات خفيفة وأمره بصوت عال: "أبو ابراهيم أنا آمرك استيقظ." تحولت الدعوات بصوت أعلى وصفعات (راشديات) قوية على خده، تدخل سعيد مانعاً حيدر بالكف عن صفعه، طالباً منه تركه قليلاً حتى يستيقظ تلقائياً، لم يحدث شيء سوى ارتعاش خفيف في وجه "أبو ابراهيم." استدعيتُ "الكابتن أياد" ليحل لنا هذه الأزمة، التعداد المسائي أقترب موعده، وقد يؤدي بنا ذلك إلى حدوث مشكلة مع "الدائرة." أدرك كابتن أياد على الفور "مسرحية أبو أبراهيم،" لم يستطع تمالك نفسه وظل يحبس ضحكته بشهيق مكتوم، راجياً من حيدر الكف عن صفعه. ومن حسن حظنا جميعاً أن خرج حيدر من الغرفة تلبيةً لنداء استلام "الصمون." بعد خروجه من الغرفة مباشرةً نهض "أبو أبراهيم" وسأل ضاحكاً: "ها راح، يا جماعة ذبحني بالراشديات". عاد حيدر بعد قليل مرتبكاً مع كيس ملئ بالصمون يتأمل بقلق "أبو أبراهيم" واضعا رأسه بين كفيه يتألم من الصداع. انطوت الخدعة لفترة على حيدر وبعد أن كشفنا حقيقة الدعابة، هدرت من حيدر قهقهة عالية، واعتبرها أقوى دعابة مرت في حياته.









14
المِهن والحِرف في "أبو غريب".
وضعُ السجين في السجن يفرض عليه أن يعتمد على نفسه في تأدية كل مهامه الحياتية، وحتى يُفرض عليه اكتساب مهارات جديدة ما كانت مألوفةً لديه من قبل، لكي تستقر حياته في الحجز؛ كضرورة إتقان الطبخ وغسل الملابس والأواني وأعمال كثيرة مهمة. مع أول أسبوع شرعتُ بتأدية ضرورياتي الشخصية؛ غسل ملابسي ونشرها على حبال وأسلاك تُربط حول الساحة مؤقتاً، كانت الدائرة تعتبرها أدوات مساعدة على الهرب وتقوم بمنعها، ولكنّها تغض الطرف في أحيان كثيرة.
لفت نظري أكثر من مرة وجود السجين "عقيل طويريج" يجلس على مقعد خشبي صغير ( تختة) متكئاً على جدار المجمع الصغير للصحيات الخارجية، محاطاً بأكوام من قطع الملابس من جانبيه. ويفرك داخل طست كبير معدني أمامه. استفسرت من أحد السجناء القدماء، عن سبب وجود هذا العدد الكبير من الملابس مع هذا السجين يومياً، أوضح لي بأنّه يغسل ملابس السجناء الآخرين مقابل أجر؛ والملاحظ عليه اهتمامه الاستثنائي بالنظافة ومراعاة الطلبات والتوصيات بطريقة الغسل بشكل دقيق. وبعد أن تجف على الحبل، يقوم بتوصليها إلى أصحابها سواءً أكان موجوداً في مكانه أم لا وعادةً يعيدها قبل التعداد المسائي. أُجرتُه زهيدة جداً 250 دينار عن كل قطعة ملابس، وكان يتسامح بتأجيل الدفع أحياناً كثيرة حتى موعد المواجهة التي تتأخر لأسابيع أو أشهر لبعض السجناء. استسهلت طريقة هذه الخدمة وقررت أن أغسل ملابسي عنده، توفيراً للجهد والوقت، حيّيته صباح أحد الايام وسألته "ممكن أغسل ملابسي يمك؟" هز رأسه بالإيجاب وقال " نعم.. ممكن جيبها ملابسك" وقبل أن أستدير لإحضارها إليه سألني "ملابسك الداخلية بيها جنابة؟" سؤاله هذا فاجأني، وأثار شفقتي بنفس الوقت. لم ألقِ بالاً لهذه الملاحظة في البداية ولم يدر في خلدي ماذا يعني وجود جنابة على ملابس الآخرين الداخلية بالنسبة لغاسل الملابس، وقيامه بتنظيف مثل هذه القذارة مضطراً، حتى سألني وأثار انتباهي وتعاطفي معه: شخص مثل "عقيل طويريج" مؤدب ومستقيم وملتزم دينياً دون ادعاءات واستعراض، مثل استعراضات الكثير من المتدينين الأدعياء، كيف اضطره وضعه في السجن وعوز عائلته في سنوات الحصار، أن يقوم بهذا العمل من أجل تأمين كفاف معيشته!
ومهنة أخرى من ضمن المهن التي استُحدثتْ: غسل الصحون وأدوات الطبخ والطعام. بعد الانتهاء من كل وجبة يتجمع السجناء على أحواض الماء الموجود أحدها داخل القسم أو في الساحة الخارجية، لغسل صحونهم والصينيات والقدور والملاعق والسكاكين في جلبة يتخللها عادةً الكثير من الصخب والمزاح؛ الذي يثيره الإحساس بالشبع، يتداخل مع قرقعة الصحون والقدور. تعهد أحد السجناء بمهمة غسل صحون الآخرين، بعد الاتفاق معهم على أجر أسبوعي مقطوع وليس على أساس القطعة مثل غسل الملابس. كان أجراً زهيداً أيضا مقابل خدماته في غسل الصحون وتوصيلها لأماكنها المخصصة في الغرف تحت الأَسرَّة أو على الصناديق في الساحة. السجين محمد قصيرٌ ونحيفٌ وشديدُ السمرة، يتيمٌ ووحيد أمه، يسكن في إحدى مناطق بغداد الفقيرة. نشيط ودؤوب بحكم متطلبات عمله، يبدأ من الصبح بعد الفطور وحتى بعد وجبة العشاء مساءً. لَقَّبه أحدُ السجناء البَصْريّين (محمد رطوبة) لظهوره مبتل الملابس دائماً، فشاع لقبه هذا بين جميع سجناء الخاصة وعُرف به حتى عند أمّه عندما تُعرِّفُ عن نفسها مازحةً في زيارتها له: "آنَه أم محمد رطوبة" باحثة عنه عند دخولها من باب السجن، "وين هو ابني".
ألقى الحصار الاقتصادي ألقى بآثاره الوخيمة على المجتمع العراقي، أجاع وأفقر الملايين وتركهم بين مطرقة النظام البعثي، وسندان العقوبات الدولية. وتعاظم الفقر والبؤس بين الأوساط الفقيرة أصلاً، ومتوسطي الحال، إلى مديات مفزعة، وانعكس بصورة جلية على السجناء من الطبقات الفقيرة، عاشوا في ضيق وعوز مضنٍ داخل السجن. كمية الطعام الذي يعده مطبخ القسم لا يكاد يكفي عُشر الموجودين. بعد التعداد الصباحي يُوزع الصمون حسب تعداد الغرف، والظهر يدخل القسم قزان من الرز أغلب الأحيان بدون مرق، يتجمع حوله عشرات السجناء يتقاسمون كميته بينهم. ابتكر أحدهم طريقة للاستفادة من الزيت المترسب في قاع القزان مع بقايا الرز المحترق (الحكاكة) برفع قاعدته إلى الأعلى، ليسمح للزيت المسال التجمع في الأسفل. وفي المساء نصف قزان من الشوربة أو بقايا التشريب.
توزع الدائرة أحياناً، ما يصل من مساعدات غذائية دولية للسجن، ودائماً عبارة عن علبة واحدة من السمك السالمون لكل سجين. يستغني السجناء ممن يتمتعون بزيارة ذويهم بشكل منتظم، عن جميع وجبات مطبخ السجن والصمون وحتى عن علبة السالمون؛ لصالح السجناء المعوزين، إلا في حالات استثنائية يطالب بعض الشحيحين بنصيبهم من الصمون أو المساعدات، رغم وجود ما يكفيهم من مؤن.
السجناء المعوزون كثيرون، وكمية الطعام التي يقدمها المطبخ لا تكفيهم، لكن التآزر ومساعدة المعوزين حالة منتشرة سواءً بالطعام، أو الملابس وخصوصاً في فصل الشتاء، أو الإعانات النقدية. غالباً ما تقوم مجموعة من السجناء لضمّ أحد المعوزين لمائدتهم، يكون كامل العضوية بجميع الواجبات ما عدا غياب نصيبه في دعم المائدة المشتركة. وهناك طريقة اخترعتها الحاجة؛ اتفاق طرفين على الاشتراك فيما يعرف ب"السفرداشية"، يتعهد الطرف الأول بتوفير كل متطلبات الطعام ووسائل طبخه، والآخر يقتصر على تقديم جهوده بالطبخ وتسخين الوجبة إذا كانت مجمدة وغسل الأواني إحياءً للمعادلة القديمة (العمل مقابل الغذاء). والحالة الأخيرة هي الأكثر انتشاراً، ولاسيما بعد ازدحام السجن بعد عام 1999 وإطالة أمد الحصار وآثاره الخانقة على المجتمع والأسر العراقية.
ومن المهن الشائعة في السجن صناعة الأحذية القطنية، المعروفة في كردستان ب"الكيوة أو الكلاش." والظريف في زوج الأحذية هذا تماثل فَردَتَيه، فتُلبسان في كلا القدمين دون فارق. يُجلب خيط القطن أو النايلون الأبيض والقاعدة البلاستيكية (الطركة) مع الزائرين. أغلب ممتهني هذه الصناعة من الأكراد والإيزيديين المحكومين بالمؤبّد على قضايا التجسس، اعتمدوها ليكتفوا ذاتياً ويخففوا الأعباء عن عوائلهم الفقيرة.
تدرب الكثير من الكورد وغير الكورد، على أسرار هذه المهنة على أيدي أصحابها الممارسين، اكتسبوا مهاراتها واتخذوا منها عملاً؛ يعود عليهم بفوائد مالية. والبعض الآخر تعلمها لكي يملأ وقته بعمل ما يشغله ويستمتع بما تنتجه يداه. أشهر المشتغلين بإنتاج هذه البضاعة شقيقان إيزيدان (عرب إبراهيم وشقيقه الأصغر شمو)، ينتجان كميات تجارية تُصدَّر إلى أسواق مناطقهم في سنجار وإلى السليمانية، كمشروع استثماري ومصدر معيشة لهما في السجن ولعوائلهما. ورغم تقدمهما بالعمر، كانا مواظبين على العمل بشكل متواصل حسب تقسيم العمل بينهما؛ ينجز الأخ الاكبر (عرب) تركيب القاعدة (الطركة) وتأطيرها بالخيوط القطنية كأساس لعمل (شمو) التالي بحياكة الجزء العلوي للحذاء. عملهما متقن ومميز بأناقته، عن سائر ممتهني هذه الحرفة. وكان يُلاحظ على (شمو) الإرهاق الدائم، فعليه تقع مسؤولية الجزء الأصعب من العمل الذي يستغرق وقتا أطول وجهداً أكثر، فضلاً عن إعداد الطعام وغسل الأواني. لا يتبرم ولا يعترض طاعةً لأخيه الأكبر. كما اتخذت مجموعات أخرى يشكل معظمهم أبناء دعوة واحدة، هذه المهنة عملا استثماريا كذلك؛ وتباين إنتاج أنواع الأحذية، مجموعة تنتج مداسات جلدية كالتي ينتعلها رجل الدين والمتدينون، ومجموعة تعمل على إنتاج شحاطات من خيوط قطنية أو جلدية تجهز حسب الطلب.
ومهنة أخرى ذات صلة بحياكة الاحذية، يتقنها الكورد والإيزيديون ببراعة وجمالية ما يُعرف بعمل النمنمة والتطريز. تعلمها أيضا سجناء آخرون وبرعوا في عملها، وأخذ الجميع يجدّ بالإنتاج لطلبات مختلفة للملابس، وأغطية علب المناديل الورقية، ولوحات، وآيات قرآنية، ومقاعد ومقود السيارات وأغطيتها الداخلية. في إحدى زيارات مدير السجن العقيد حسن للقسم، لفت انتباهه هذا الفن من مجموعة أفراد عاكفين في الساحة لإتمام آية قرآنية مطلوبة منهم. أشاد وأُعجب بعملهم كمدير سجن يشجع على "صقل المواهب واكتساب الخبرات العملية" لتأهيل السجناء اجتماعياً!!!
وخلال حديثه مع عدد من السجناء تجمعوا حول حرفيين يعملون بأحد قطع النمنمة عبّر العقيد حسن عن "روعة" هذه الأعمال الفنية وموهبة مبدعيها، فاقترح الدكتور ضرغام عبد الله الدباغ على العقيد حسن عمل آية الكرسي من النمنم وإرسالها هدية إلى "السيد الرئيس صدام حسين بمناسبة يوم مولده" حسب قول دكتور ضرغام. رحب العقيد ومجموع السجناء والحرفيين المتحلقين حوله بهذه الفكرة؛ ومن يا ترى كان ليرفض أو يناقش هذه الفكرة؟ تألفت لجنة من الحرفيين والمراقبين وبعض السجناء لدراسة هذا الاقتراح وسبل تنفيذه. خلصت اللجنة بعد أيام من المداولات إلى الحاجة إلى مبلغ قدره مليون ومائتين وخمسين ألف دينار" لتغطية تكاليف الإنجاز. يتوزع هذا المبلغ الكبير على عدد السجناء واستثني منهم المعوزين، على شكل أقساط اسبوعية، تُدفع الى اللجنة المكلفة بمتابعة هذا العمل. تَفرغَ عدد من الحرفيين لعدد من الأسابيع حتى أُنجزت "الهدية" وتبين بعد إنجارها أنها تنقصها البسملة. العجالة والارتباك سبب هذا النقص الأساسي؛ مما عاد على الحرفيين بالشعور بالكدر والخشية من المحاسبة. ورغم نقص "آية الكرسي" للبسملة قبلتها الدائرة وعمل العقيد حسن بكل الأصوليات لحملها وإيصالها للقصر الجمهوري، كهدية من سجناء قسم الأحكام الخاصة "للرئيس بمناسبة يوم مولده."
وصلتنا الأنباء بأنّ الهدية استلمتها لجنة خاصة في القصر الجمهوري، وستعرض مع الهدايا المقدمة لصدام بهذه المناسبة. انشددنا إلى التلفزيون الموجود في ممر القسم، مجتمعين في يوم الميلاد لنرى صدام وهو يتطلع لهديتنا، وكيف سيرق قلبُه ويأمر بإصدار عفو شامل عنّا امتناناً لهذه الهدية. كنت مع الحاضرين ساعة بدأ النشرة الإخبارية في الثامنة مساءً، التي تُستهل عادةً بنشاطات وأخبار صدام، ولا سيّما ضجيج يوم الميلاد. بعد الاحتفالية الصاخبة، مضى صدام يختال ببدلته البيضاء إلى قاعة يستعرض فيها الهدايا المقدمة له من زعماء وأثرياء عرب، ومواطنين عراقيين، يديم النظر فيها بتأمل محايد. ظهرت هديتنا على مبعدة منه بثلاث أو أربع هدايا تقف على حاملة لوحات مصفوفة مع الهدايا الأخرى؛ وعند وصوله إليها تقرب قليلاً وتمعن بقصاصة الإهداء، ثم أشاح عنها وابتعد دون أن يقدر الجهد المبذول في عملها أو يلاحظ نقص عبارة "بسم الله الرحمن الرحيم،" والآمال التي بنى عليها كثير من السجناء، لعلها تثير عطفه بهذه المناسبة ويأمر بإصدار عفواً. كانت تلك نتيجة حتمية لمن يعرف صدام، ويفهم ماهية نظامه البغيض، وأن لا يُتوقع منه ردة فعل بهذه المباشرة والتلقائية بسذاجة. بعد أسابيع على مضي المناسبة، غدت حديث كل السجناء يتداولون هذه الإشارة الفاشلة بين ناقم وساخر ويائس.
كان هناك الخياط "سيدو" الأيزيدي، وماكنته الصناعية القديمة قدم وجوده في السجن وصبره على حكمه المؤبد بتهمة قضية تجسس لسوريا. كان "سيدو" مصاباً باضطراب نفسي يُعرف بالسجن بمتلازمة الفزع، يثب ليلاً من فراشه صارخاً بأعلى صوته فيستيقظ الجميع فزعين. عدد من السجناء مصابون بهذه المتلازمة، كانعكاس لرعب ساعة إلقاء القبض وأهوال التحقيق، تستحيل إلى ذكريات تنتاب السجين بنوبات من الهلع. يعمل سيدو على ماكنته (بمهارة متواضعة) في خياطة الألبسة البسيطة وتعديلها، والسلال وتصليح الممزقة وترقيع المتهرئة وعمل السَّحّاب. ومع ازدياد أعداد السجناء أدخل الخياطون ماكناتهم ومنهم أصحاب مهارة وخبرة ممتازة، افتتحوا ورش خياطة لخياطة مختلف الطلبات لداخل السجن وخارجه.
ومع الخياطة والخياطين يستوجب وجود المكوى، وهذه الضرورة التكميلية وحاجة الآخرين لها ما كانت لتغيب عن ذهن من أمضى في السجن سنوات كثيرة محكوماً بمادة تجسس ويتعذر شموله بأي عفو، أضف إلى ذلك إنها كانت مهنته أصلاً؛ ذلك هو "رمضان،" (الملقب دكتور رمضان)، يشتغل على منضدة سطحها مغلف بالألمنيوم، تغطيها ثلاث طبقات من البطانيات القديمة، تقع في الجانب الخلفي لباب سلَّم الطابق العلوي قرب ماكينة سيدو، مع مَرش ماء. يكوي مختلف أنواع الملابس والشراشف بخبرة واضحة. هادئ دائماً ومكتئب، قليل المجاملة ولا يتحدث إلا مع القلة من السجناء القدماء. ويعرض عن مجاملة الإسلاميين الشيعة إعراضا شديداً وينزعج منهم حاله حال غالبية السجناء، بسبب إجماعهم على تصرفات مستفزة للآخرين؛ وفي صدارتها التنجس من كل شخص خارج دائرتهم، والذعر الاستعراضي من كل قطرة ماء قد تصيبهم حتى من ماء رشاش المكوى، يقومون بشطف ملابسهم إذا علموا إن رمضان أو غيره من أصحاب المكاوي رشها بماء من أجل ترطيبها. حدثني مرة باشمئزاز عن أحد مقلِّدي الصدر، عندما شاهد الأخير رمضان يرش الماء على قميصه عند كويه، أخذه إلى الصنبور في الساحة وقام بشطفه، معلنا بين جماعته تعرض قميصه إلى حادث رش بالماء. فرضوا على أصحاب المكاوي الآخرين بعد استحداث مكاوي جديدة عدم استخدام الماء، استجاب إلى رغبتهم أحد أصحاب المكاوي وأخذ يكوي ملابسهم دون استخدام الماء.
وللماء والفوبيا منه، من الإسلاميين الشيعة، نصيب آخر. في المقاهي التي افتتحتْ في سجن "الخاصّة"، امتنعوا عن تناول الشاي وغيره من المشروبات من غير يدِ أشخاص مقربين منهم، وفي حالة اضطرار أحدهم لشرب الشاي من مقهى عام، يقوم بشطف "الاستكان" بماء الصنبور الجاري ويسمِّي عليه، ويطلب من صاحب المقهى صب الشاي بعملية استعراضية هدفها استفزاز الحاضرين، وبعد مغادرته ينهال عليه الحاضرون بالنقد والاستخفاف والهجاء.
أثاث ومكونات المقاهي غاية في البساطة، تتألف من منضدة صغيرة يوضع عليها موقد، وقنينة غاز، و"استكانات" الشاي وأقداح الحليب، ومقاعد بسيطة لا يتعدى عددها أربعة مقاعد في العادة أو أقل، وعند ازدحام المقهى يأتي السجناء بمقاعدهم الخاصة ويتحلقون حول المقهى، لتبادل الأحاديث وتدخين النارجيلة والسجائر. ومكانها دائماً ثابت في زوايا الساحات، وممرات القسم. تضج بعد الوجبات بالرواد عادةً، وتبدأ المجاملات وسخاء الدفع، أو إضافة حساب شاي الضيف أو الصديق على حساب المضيف إن كان الدفع غير نقدي. وتُتخذ في أحيان كثيرة بمثابة خيمة يتجمع حولها على أساس إثني أو ديني أو رياضي. وإلى جوار المقهى، يتخذ مصلِّحو القداحات مكان عملهم، وهذه المهنة ازدهرت وحذق محترفوها بفن تصليحها وإدامتها، بعد أن ارتفعت أسعار أي بضاعة في العراق خلال سنوات الحصار، حتى القداحات الصينية زهيدة الثمن، غدت غالية ولا تُرمى بعد نفادها أو عطلها، حيث أصبح لها سوقها الخاص.
فطنتْ دائرة القسم إلى الفائدة المالية التي سوف تجنيها من تأجير قاعة فارغة، كمقهى بعد اتساع أعداد المقاهي في الخاصة وازدحام روادها. وبدعم من المراقب المتنفذ والثري، عامر مدحت ضَمنها وأجَّرها بالباطن على السجين الكوردي قادر، فجهزها هذا بكامل مستلزمات المقهى ومنضدة بليارد وطاولة منضدة وحتى فيديو؛ لعرض مختلف الافلام. يوصي على كاسيتات الفيديو عن طريق منتسبي الدائرة، أو أقاربه عند الزيارة الاسبوعية. هذه الأفلام سواءً أكانت عربية أو أجنبية عادةً ما تكون غير مقطعة وغير خاضعة لمقص الرقيب للمَشاهد الصادمة أو الجنسية. وكلما تضمنت هذه الأفلام مشاهد إباحية أكثر، زاد زبائن المقهى. فيزدحم المقهى بالزبائن الساعين إلى المَشاهد الجنسية وحماستهم وتعليقاتهم النارية. وأكثر من مرة حصلت فوضى وشجار بينهم، مما استدعى في النهاية تدخل أمن الدائرة فأُغلق المقهى، وتصفية حسابه ومحتوياته وتحويله إلى ساحة القسم. الفائدة الوحيدة التي جناها مؤجر المقهى بقاء عمل البليارد وازدهار عمله، أكثر بكثير مما تجنيه لعبة المنضدة، التي فكر بالاستغناء عنها رغم عائدية عمل الأخيرة الجيد مالياً.
خطر لي أن اشتري المنضدة، لأسباب كثيرة أولها وأهمها المالي. استعنت ب"حمدي" شاب من أهالي الناصرية ليتكفل بالعمل عليها بتنظيم المباريات وجمع المال النقدي أو الأسبوعي وترميمها، مقابل أجرة أسبوعية يتقرر مقدارها حسب ما توفره من مال بدلاً من الأجر المقطوع. اخترت طريقة الدفع هذه معه لأنه كان محتاجاً وأهله معوزين وغير قادرين على زيارته، وسيوفر له أجراً أعلى ولا سيما بعد أن أصبحت منضدتنا اللعبة المفضلة في الخاصة، من القسمين، وازدحم عليها اللاعبون. يبدأ التسجيل على الدور مباشرةً بعد انتهاء التعداد الصباحي ويبقى المتبارون يتبادلون اللعب دون انقطاع حتى لحظة الإعلان عن التعداد المسائي، ودخلوا في منافسات محتدمة وصاخبة، يُسمع ضجيجها في كافة ارجاء الخاصة. حمدي شاب بسيط وغير متعلم، تنقصه المهارة في التعامل مع زبائنه اليوميين. ويتشدد معهم أحياناً كثيرة ولا يبدي مرونة في مواقف تحتاج اللين مع بعض السجناء بتصرفاتهم غير الحصيفة. فاشتكى لي منه كثير من السجناء ومنهم أصدقاء لي، من تصرفاته التي تستفزهم، وغير العادلة. قمت بالنهاية ببيعها بضعف مبلغ شرائها وانتهيتُ من مشاكلها التي بدأت تلاحقني.
المهن والحرف على اختلاف أنواعها ازدهرت كثيراً وأصبحت "الخاصّة" مثل سوق شعبي؛ بعد ارتفاع عدد السجناء ودخول حرفيين كثيرين، بعد عام 1999، سنة اغتيال محمد صادق الصدر، واعتقال وحكم المئات من مقلّديه وأتباعه، وأغلبهم من مدينة الثورة (الصدر لاحقاً) ومدن الوسط والجنوب. اكتظ على أثر ذلك السجن واستحدثت أقسام وقاعات جديدة لاستيعاب الأعداد المتزايدة من الصدريين وغيرهم.
ملأت البسطيات ممرات الأقسام والقاعات وخرج بعضها إلى الساحات الخارجية، بضاعتها بسيطة ومحدودة، مقتصرة على ما يحتاجه السجين من ضروريات، من السكائر وبعض الحلوى والملابس الداخلية والشحاطات والمناشف والأجبان والمواد التي تدخل في الطبخ اليومي من الزيوت والرز والشاي والسكر والمعجون...الخ، التعامل النقدي نسبته تقريبا عُشر نسبة الاستدانة، حتى موعد المواجهة. تسجل أكثرية البسطيات الديون على الورق المقوى لرزم علب السجائر (التكة)، يمر أصحابها على المدانين بعد التعداد المسائي يوم المواجهة لجمع ديونهم. تجهيز البسطيات يتم من خلال مصادر متنوعة، تجهيز إجباري من الحانوت المملوك لمراقب القسم الاول عامر مدحت تفرضه الدائرة على أصحاب البسطيات، لفائدة مالكه المعروف بثرائه الفاحش ودفعه المنتظم الأموال والهدايا لمدير الخاصة وباقي الضباط. مصدر هذا الثراء أخته المتزوجة في السعودية تحول له الأموال من هناك؛ يستغلها مصدر قوة له واستثمار مشاريع تدر عليه ارباحاً مالية تساعد في التخفيف عن سجنه المؤبد بقضية تجسس لصالح السعودية.
وعن طريق المواجهة تأتي البضاعة المطلوبة مع الزائرين الأهل والأصدقاء، وعن طريق تكليف الحراس بشراء متعلقات الحياكة وصناعة الأحذية والخياطة وتطريز القطيفة من أسواق بغداد وقضاء "أبو غريب." ودلاّلات يدخلن مع المواجهة للتجارة مع أصحاب البسطيات، صاحبات خبرة في حاجات السجن والتصريف التجاري.
حرص بعض السجناء الحرفيين وأصحاب المهن الصناعية والصيانة والخدمات على ممارسة اختصاصاتهم داخل السجن للتعويض، وتعزيز أوضاعهم المعيشية، وممارسة كفاءاتهم وهواياتهم، وكسراً للعطالة غير المألوفة لأغلبهم. قام عدد من الخبازين بتقديم طلبات إلى الدائرة للموافقة لإدخال التنانير المعدنية التي تعمل بواسطة الغاز مع كامل الأدوات والتجهيزات المتعلقة بالمخابز والطحين. وفُتح عدد من المخابز في الساحات، أخذنا نتناول الخبز (الحار) مع الوجبات وأخذ الخبازون وطواقمهم يمارسون مهنهم بنشاط وفائدة مالية. عندما نكون بين المخابز نشعر وكأننا في حارة شعبية مليئة بسكانها، يتصاعد بين زواياها رائحة السمك المشوي والخبز الطازج.
وغزت الأجهزة الكهربائية "الخاصّة"، وكان أغلبها من الثلاجات والمجمدات والمراوح والمبردات والتلفزيونات، سمحت الدائرة بدخولها بعد تقديم طلب مع مبلغ معين لتسهيل عملية الدخول الرسمية. مع تزايد الأعداد عاماً بعد عام واكتظاظ الغرف بعشرات السجناء، أصبحت الغرف لا تطاق صيفاً لولا المبردات، تأتي من المحافظات مع الزائرين؛ أو البعث بطلبها عن طريق المنتسبين من "أبو غريب" أو بغداد. يتعهد أحد السجناء الميسورين بدفع المبلغ نقداً ثم يُقسَّط على أعضاء الغرفة، ويكون الدفع أسبوعياً أو شهرياً، والمعوز معفو. ولخزن كميات الأطعمة والخبز الكبيرة القادمة مع الأهل، لابد من الثلاجات والمجمدات لحفظها. قُدمت مئات الطلبات لذلك، ووافقت الدائرة على كل طلب. بعض الثلاجات خاصة لسجين واحد لحفظ أطعمته وللماء المبرد، وكثير من أصحاب الثلاجات يساعدون الآخرين بحفظ أطعمتهم ومؤنهم في ثلاجاتهم مجاناً؛ إلاّ أن هناك من كان يستلم أجراً. الحاجة إلى الثلاجة حاجة ضرورية بضرورة وجودها في المنزل.
بعد دخولي الخاصة وكثرة المؤن والأطعمة بمختلف أنواعها التي تأتي مع أهلنا نحن "أبناء دعوتنا،" لا نستطيع استهلاكها ولا نستطيع حفظها لعدم وجود ثلاجة لدينا أخذ يفسد ويتعفن جزء منها؛ أمام أنظارنا وأسفنا، فهذه الوجبات خاصة معدة من أخواتنا وزوجاتنا وأهلنا، كأكلات خاصة، عُملت بجهد وإنفاق استثنائيين. نصحنا كثير من القدماء بضرورة الثلاجة، تشاورنا حول طريقة وكيفية (استيرادها) لداخل "الخاصّة"، وخلص رأي أحد أصدقائنا الايزيديين بالتعاون مع طباخ القسم خلف عسكر صاحب أوسع نفوذ بالخاصة ومسموع الرأي من السجناء ومن جميع أفراد الدائرة على اختلاف رتبهم. وكانت الخطة بالاتفاق مع إخوتي أيضاً أن المجيء بثلاجة إلى (عكد النصارى) سوق الجملة للكهربائيات، عند محل أخي جعفر. ويحمّلها منتسبون اتفق معهم خلف عسكر إلى الباب الخلفي لمطبخ القسم، ومنها إلى القسم. وتم وصول الثلاجة واستلامها بسهولة ودون تعقيد.
حصلت على الثلاجة في وقت كان السجن غير مزدحم وكان هناك تشدد من الدائرة على دخول الكهربائيات في ذلك الوقت، فلقد حسم نفوذ خلف عسكر وسلطته الموقف لصالحنا. سأله رائد إسماعيل مدير أمن الخاصّة عن صحة خبر دخول ثلاجة عن طريقه، فاستل خلف عسكر مبلغ (10،000) دينار وسلمها له مع وجبة غداء دسمة. وأجابه "نعم لصديقي أحمد خوش ولد وسجين جديد...وهذا المال منه هدية لك" نهض رائد اسماعيل يغتسل وقال بعد وضعه المبلغ في جيبه: "ما تدخّل دبابة يخوي".
مع نهاية المسلسل الدرامي لثلاجتي (العشتار 11 قدم)، هناك قصة ظريفة رافقتها. كان محمد ابن أخي جعفر طفلاً صغيراً دون سن المدرسة. ألح بالسؤال على والديه عن سبب سجني؛ وخصوصاً أيام استعدادهم لزيارتي، تحفظوا لدواع أمنية من ذكر السبب الحقيقي أمام طفل لا يعي شيئاً، وافتعلواً سبباً آخر وهو أني قمت بسرقة ثلاجة وسجنتني الشرطة. عند زيارة عائلة أخي جعفر سألني محمد أكثر من مرة "عمو وين الثلاجة" أشرت له بيدي: "هناك عمو"، وكرر عليّ مرة أخرى نفس السؤال. استغربت من إلحاحه لماذا هذا السؤال الفريد؟ أشار لي جعفر بأن آخذه لأريه الثلاجة، وقف يتأملها ثم طوى يده على رأسه وقال" هااااا هي هاي" أجبته نعم وأنا لازلت مستغرباً. ولتبديد حيرتي واستغرابي همس لي جعفر شارحاً لي القصة بالكامل، فصرت لصّ ثلاجات بنظر محمد الصغير.
استوجب العدد الكبير للثلاجات والمجمدات وجود مصلح لأعطالها المتكررة، ولا سيما أنها كانت جميعها مستعملة وتحتاج إلى إدامة وتصليح. افتتح محترفون ورشاتٍ مع عُددها وأجهزتها، باستثناء مقياس ملأ الغاز ولا يُعرف السبب من وراء هذا النقص. يملؤون الغاز من القناني بطريقة التخمين أو ما يُعرف بحدس المهنة، الطريقة هذه جاءت بنتيجة كارثية على أحد المصلّحين بانفجار أحد المحركات، فكُسرت ساقُه. حصل هذا أمام أنظاري وأنا في الساحة أعد وجبة الغداء. هو من ربط لي مفرغةً بدل المروحة لتبريد محرك ثلاجتي، ومجمدتي السيمنس ذات التصميم المميز بطولها المترين وعرض أقل من متر. يشاركني في ملكيتها أحد الاصدقاء الكورد.
وكانت هذه المجمدة سريراً لأحدهم لليلة واحدة فقط. في صباح يوم الجمعة، كانوا يوقظوننا أبكر من سائر أيام الأسبوع، أشار لي عدد من السجناء، وأنا أستعد للخروج للتعداد، إلى وجود شخص يغطُّ في نوم عميق على المجمدة. يلف نفسه ببطانية ويتوسّد أخرى وسلة مصنوعة من كيس الرز البلاستك بين قدميه. استيقظَ بتثاقل على جلبة السجناء الخارجين للتعداد. نزلت إليه وحيّيته أنا وشريكي، رد التحية واعتذر قائلاً: "جابونا أمس بالليل أنا وأبناء دعوتي، وماكو مكان ونمت على هاي المجمدة". عرّفني بنفسه قائلاً "دكتور محمود،" وأنا أيضا صافحته معرِّفاً بنفسي "أحمد عبد الستار". طبيب من سكنة بغداد اعتقل مع مجموعته وأودع السجن عام 2000، هو الدكتور محمود المشهداني الذي ترأس بعد سقوط النظام البعثي مجلس النواب العراقي مدة أربع سنوات.
برعَ مهنيٌّ آخر بتصليح أجهزة التلفزيون، شاب بغدادي متعلم وحاذق بمهنته. جميع الأجهزة كانت شخصية، باستثناء التلفزيون العام الموضوع في الممر، والذي دفع ثمنه السجناء في الأقسام. في كل غرفة في "الخاصّة" يوجد تلفزيون وأحياناً أكثر من واحد. أدخلتُ تلفزيوناً صغيراً بحجم 14 بوصة ناشيونال ياباني الصنع، جلبه لي إخوتي. أصلح هذا الشاب عطل التزامن الرأسي (تقلب الصورة) في تلفزيوني خلال دقائق، بعد أن عانيت منه مدة طويلة. وكان السبب حسب تشخيصه اشتغاله الدائم دون انقطاع. فرجّحت صحة تشخيصه، لأنني كنت قد أجّرته إلى إحدى الغرف مقابل (4000) دينار أسبوعياً، كانوا يقومون بتشغيله ساعات طويلة. الهدف من تأجيره لتجنب إزعاجات بعض الأشخاص المتسلطين في غرفتي، منهم ضباط من الرتب المتقدمة في الجيش رأوا أن يضعوه في الزاوية القريبة من وسادتي، قرب الجدار، ويرفعون صوته خصوصاً عند عرض الأفلام العربية أو الأخبار. اقترحتُ عليهم وضعه في وسط الغرفة، رفضوا ذلك لأنه سوف يزعجهم. فقررت إبعاده تخلصاً من الضوضاء التي تؤرقني، ولأني لم أكن من متابعي الأفلام العربية وبعض البرامج المملة.
السباكة محتكرة حصراً لأحد السجناء القدماء (فواز) الذي أنهى عشرين عاماً بمقتضى حكم محكمة الثورة، متَهماً بالتجسس لسوريا. تسمح له الدائرة وحده باستخدام العدّة المحفوظة في مخازنها لاحتوائها على منشار حديدي، وكان مسؤولو السجن على يقين بأنه لن يجازف باستعمال العدة والمنشار للهرب من السجن. يقوم بتصليح واستبدال ما عطل من أجزاء شبكة الماء الواسعة في قلعة الخاصة، وأكثر من مرة خرج مع موظفي الدائرة للأسواق لشراء ما ينقص من مواد تأسيس وقطع غيار. ولشبكة الكهرباء سجين قديم آخر، تركماني من أهالي كركوك من المحكومين بالمؤبد بدعوى تجسس لصالح تركيا. يجهل الكثير من مبادئ الكهرباء العلمية، وغير متقن لعمله، يقوم في كثير من الأحيان بأعمال تتسبب بإعطاب أجهزة وأحياناً إصابتها بعطل فوري. عدد من أصحاب الثلاجات اشتكى لي بعد معرفتهم بأني كهربائي تذبذباً في أدائها، بين انقطاع وضعف يبقى أحياناً متواصلاً ينذر بعطل المحرك. لاحظت فور وصولي لإحدى الثلاجات وجود سلك المصدر الرئيس، قد أوصله مع السلك الخاص بمأخذها على شكل سنارة الصيد مع بعضهما؛ دون شدهما شداً محكماً ودون لفهما بعازل؛ كما يُعمل بالتوصيل بين أطراف الأسلاك كمبدأ عام، وعزلهما بشريط لاصق، لكي لا تتسبب بارتخاء يؤدي إلى حصول مقاومة وعزل بينهما. أصلحت الخلل وتعلم جميع أصحاب الثلاجات المرتخية أسلاكها بإصلاحها، وضجوا بانتقاده ولومه على هذا الإهمال غير الآمن.
ومن السجناء الجدد الذين دخلوا الخاصة بعد عام 1997 شابٌ بَصْري، إسلامي طيب وخلوق، اشتغل في أعمال الكهرباء، وكان قليل الخبرة. حذرته أكثر من مرة من خطر تعرض المجموعة الرئيسية إلى تسرب من ماء أنابيب الحمّامات المرتفعة قرب السقف. كان الماء يقطر من توصيلاتها، فتراكم على سطح صندوق القواطع ذات الأحمال العالية. لم يأخذ تحذيري على محمل الجد، مما تسبب في اشتعال حريق في هذه المجموعة بعد أن ملأها الماء ودخان أبيض كثيف، كاد أن يخنقنا ونحن نيام في الثالثة بعد منتصف ليلة من ليالي شهر نوفمبر. أعلنت الدائرة الطوارئ وهبوا جميعا لنجدتنا، أخرجونا إلى الممر وقدم المساعدة كل من يملك خبرة في إخماد الحريق وتبديد الدخان. وأجروا تعداداً علينا وأعادونا للقسم بعد انجلاء الخطر، وتحولت الحادثة رغم خطورتها إلى موجات من الضحك والتندر، على الحال المرتبك لكثير من السجناء الفارين من الدخان ودوي تماس الخطوط المشتعلة.
بعد هذا الحادث تشددت الدائرة في اعتماد معايير السلامة، عند العمل والاستخدامات الكهربائية. شنوا حملات واسعة لمصادرة السخانات الكهربائية ( الهيترات) المصنوع يدوياً من كل الغرف. وبدأوا يشرفون مباشرة على كل عمل كهربائي داخل الأقسام، ومن ضمنها ماكنة اللحام التي يعمل عليها سجين يمتهن الحدادة، ساعده عدد من السجناء الحدادين، بعد تضاعف أعداد السجناء، وحاجتهم للأسرّة. جاء أهلهم بأسرَّة حديدية واشترى آخرون أسرَّةً من سوق "أبو غريب" بواسطة المنتسبين. يعمل الحداد على نصبها ويلحمها على السرير الأرضي، مع وضع درجات للصعود، ويسمى هذا السرير الطابق الثاني. احتاج السجناء مع تضاعف أعدادهم إلى طابق ثالث، وسرير رابع مائل في نهاية الغرفة بين زوايا طوابق الاسرّة. واستُحدثت أيضا فكرةُ السرير الفضائي الذي يُنصب ويُلحم في فضاء ممر الطابق الثاني للقسم؛ الذي امتلأ كلياً بهذا النوع من الأسرّة.
من المفروغ منه أنّ الطب لم يكن حرفة من الحرف اليدوية، وإن اشترك باللفظ مع عبارة مهنة إلاّ أنه يحتاج إلى درس علمي وتدريب مطول، لكي يكتسب من يمارس الطب هذه الصفة، خلاف المهن الاخرى التي لا تحتاج إلى دراسة وتطبيق لسنوات كثيرة. يكتسب المرء تعلم المهن اليدوية بالمران وسبل المتابعة لمجموعة معارف بسيطة مقارنة مع مهنة الطب المكثفة للغاية. دخلنا قسم الأحكام الخاصة في شهر تموز عام 1996، وجدنا أنّ من يدير الطبابة في القسم معاون طبي كما قيل لنا، تركماني من أهالي مدينة كركوك، محكوم بقضية تجسس لصالح تركيا. شكوت له آلاماً في القولون، أعطاني مجموعة حبوب كعلاج مهدئ. تناولت منها واحدة حسب ما وصفها لي بعد كل وجبة، بعد عشرين دقيقة من تناولي الحبة، تسارعت نبضات قلبي بشدة، وأصابني دوار وغَمش بصري ترنحت وجلست على السرير، استمر معي هذا الاضطراب مدة دقيقة أو أقل، بعدها استعاد جسدي توازنه. استدعاه بعض أعضاء الغرفة الذين انتابهم القلق عليّ؛ حضر ووقف برهة ينظر إليّ، تفحص الحبوب وقلبها بين يده ورد قائلاً: "إي هاي الحبوب" أخذها وقفل راجعا إلى غرفته. القدماء في غرفتي أو ممن تربطني معهم صداقة في القسم، كادوا أن يجمعوا في كلامهم عنه، بأنه غير مؤهل لمهنة معاون طبيب، ولا يملك خبرة في مجال الصحة. وأحد القدماء من أهالي كركوك تندر عليه قائلا: "لا معاون طبي ولا دارس معهد ولا ولا.." كان يعمل سائق تنكر ينقل الماء إلى المراكز الصحية في قرى كركوك". لاحظت بوضوح ابتعاد القدماء وباقي السجناء عن مراجعته واستشارته، إلا إن الدائرة وضباطها كانوا يستفيدون من الأدوية والعلاجات التي يسربها لهم من كميات الأدوية المخصصة للقسم، ويعتمدون عليه في حملات التفتيش النادرة الوقوع للتعرف على الحبوب المخدرة. ومن هذه الحملات دخلوا غرفتنا، فتشوا حقيبتي، وجدوا فيها مجموعة علاجات أحتاج إليها بشكل دائم؛ منها حبوب (الأليرمين) المسكنة لحساسية الجيوب الأنفية، سأله ملازم هيثم التكريتي الفظ والسادي عنها، هل هي هذه الحبوب مخدرة أجابه "نعم تعتبر مخدرة".
توسط صديقي خلف عسكر طباخ القسم، عنده وعند وباقي الضباط وشرح له "إنه يعاني من حساسية الجيوب الأنفية ولم تكن مخدرة"، صُودرت الحبوب وألقاها أبو هبة مراقب قسمنا في مجرى ماء الحمام. لولا هذه الوساطة والتوضيح لتعرضت إلى عقوبة الحجر الانفرادي شهراً كاملاً.





15
إعادة المحاكمات
قسمنا الجديد (القسم الثاني) أقل عدداً وضوضاءً من القسم الأول المزدحم بالقدماء، مما سمح لنا انبساطه النسبي بالحركة المريحة، والمشي في أرجائه وفي الممر الأرضي حيث يوجد التلفزيون قرب المدخل الرئيسي. الممر الأرضي يكتظ عادةً بعد التعداد المسائي بالمصلّين ومتابعي التلفزيون ومستعملي الثلاجات لإعداد مائدة العشاء، والمشغولين بالنقاشات والأحاديث الجانبية. زعق تلفزيون بغداد بصراخ لم نعهده من قبل حتى إبان الحرب العراقية الإيرانية، كان ذلك بياناً عن محاولة اغتيال (عدي صدام). كان خطابه سيلاً هادراً من الغضب والغل، ما من جملة من جمله إلاّ وتنذر بالوعيد والثأر من كل شخص سمعه في العراق. ذُهلنا وصُدمنا. فمن يتوقع حصول مثل هذا الحادث الخطير ضد شخص من عائلة صدام؟ اعترى الرعب معظم الموجودين، وبالأخص من أهالي الناصرية لمّا تناهى إلى علمنا بأنّ منفذي المحاولة مجموعة من الناصرية. ظل الجمود مدة غير قصيرة سائداً بين السجناء، ولا أحد يتجرأ بالحديث عن الحادثة توخياً الحذر من بعض السجناء المتعاونين أمنياً مع الدائرة، ومن الغضب الذي انتاب عدداً آخر من الموالين للنظام.
تحول الخبر بعد ساعات الهمس والخواطر المكتومة إلى نقاشات وتحليلات، وتشفي وتندر علني بين الجميع ماعدا أفراد مستثنين من مثل هذه الأحاديث. تندر صديقي خلف عسكر طباخ القسم بعبارة أضحكتني حينها، قائلا "يعفي عنهم السيد الرئيس" يقصد الجماعة التي أطلقت الرصاص على عدي. وآخر، محمد الطياوي مزارع من ريف الموصل، ردد كثيراً "ما هذه الجرأة" إعجاباً بالمنفذين رغم دفاعه الدائم عن الحكومة وشخص صدام، فالعملية مثلت له جسارة ورابطة جأش تلاءمت مع روحه القبلية المشاكسة. وهذا هو نفسه كان قد سألني مرة عن المواجهات المسلحة التي تحصل بين الجيش وأبناء العشائر في المناطق القريبة من الأهوار: "هل صحيح قام آل جويبر بالاشتباك مع الحرس الجمهوري"، أجبته "نعم صحيح حصل هذا مرات عديدة، ونسمع في المدينة إن الحرس الجمهوري يتجنب خوض معركة مفتوحة معهم" رد عليّ: "والله زلم". ربما يكون جوابي له غير دقيق، لكني فضلتُ أن أثير حماسته وإعجابه، وليعلم من جهة ثانية إن هناك على أرض العراق معارضة للنظام سياسية، وعسكرية مهما كان شكلها وحجمها.
كنّا على يقين أن محاولة اغتيال عدي سوف تصيب نظام صدام بنوبة سعار دموية. وكالعادة سيوجه ماكنته الجهنمية للاقتصاص من كل من له علاقة بالحادث من قريب أو بعيد، ومن كل معارض سياسي مهما كانت درجة معارضته. دخلت البلاد في موجة قمع غير مسبوقة، واستنفار أمني مشدد، حسبما روى لنا ذوونا وأصدقاؤنا أيام الزيارات الأسبوعية. ومن أبشع ما قام به النظام بحملته الثأرية تصفية كل المحكومين بالإعدام عن قضايا سياسية، المودعين في قاطع الإعدام في "أبو غريب،" وكان عددهم 1400 محكوم، بحسب ما ورد لنا من أخبار من مسؤولين أمنيين محكومين في الخاصة مثل (رشيد فليح) صاحب الرتبة الرفيعة، وكان يحظى باحترام بين ضباط الدائرة. أبلغوه بزيارة قصي صدام لقاطع الإعدام، وأمره بتنفيذ الإعدام بهذا العدد الكبير من المحكومين. وحسب الأخبار كانوا جميعهم إسلاميين.
لم يكتفوا بهذه الإبادة الجماعية؛ بل شرعوا في إعادة محاكمة بعض المحكومين بالمؤبد ورفع أحكامهم الى الإعدام. فأعادوا محاكمة 28 سجيناً من سجناء "الخاصّة،" ممن كانوا يعيشون بيننا، ورفعوا أحكامهم الى الإعدام وأعدموهم. منهم من لم أتعرف إليه وألتقه مطلقاً، ومنهم من لم تتعد علاقتي به تبادل التحيات، ومنهم الأصدقاء، مثل الشاب الواسطي (رسن). إسلامي شيعي منفتح وغير متعصب، يمكن القول عنه إنه مسلم ملتزم بوصايا وشعائر دينه التقليدية، من صلاة وصوم، أكثر مما هو متحزب ومتشدد. بل كان ينتقد تزمت الإسلاميين وتشددهم، وجفاءهم وتحاملهم على الآخرين. كان يتردد كثيراً إلى غرفتنا بعد العشاء وأحياناً بعد الفطور، زياراته منتظمة اعتدنا عليها. كان يدخل علينا بهدوء يحيي الجميع دون تمييز؛ حتى مع ابن مدينته "أبو ابراهيم" الذي كان يكنّ له حباً واحتراماً عميقين. يساعد المحتاجين رغم كونه لم يكن ميسور الحال، تبرع مرة بنصف ملابسه الشتوية لأحد السجناء المودعين حديثا للقسم.
طلبته دائرة القسم فجأة، ومثل هذه الطلبات للسجناء تحصل دائماً لأمور وتحقيقات عادية. لكنه غاب عدة أيام، ساورنا القلق عليه وبدأنا نخشى على مصيره. عاد من غيابه بصحبة أحد منتسبي الدائرة الأمنيين مجهداً وقد اصفرّت سحنته وذبلت عيناه، يكاد لا يرى الشخص الماثل أمامه، متوجها إلى غرفته. تابعته العيون بإشفاق وجزع، هذه الرفقة والحال الذي عليه لا يدل على شيء سار. رجل الأمن ينهر كل من يعترض سبيل (رسن)، وقف وسط الغرفة يتابعه ويراقبه حتى جمع فراشه وبعض لوازمه وخرجا دون كلام. بعد قليل من مغادرته، جاءت الاخبار بواسطة السجناء القريبين من الدائرة، بأن رسن أُعيدت محاكمته وحُكم عليه بالإعدام، ونقل الى قاطع الإعدام بانتظار التنفيذ. الصدمة هذه هصرت أفئدتنا الى حد تسببت بلذعة ألم حادة في نفوسنا على فقدان هذا الصديق الطيب وعلى شبابه. تخيلته يسير ضاماً فراشه بين ذراعيه ويقترب بخطوات وئيدة تحت حث الحراس من بناية قاطع الإعدام المظلمة والملبدة بالموت، مع كل خطوة يخطوها يقترب من حتفه، كيف يرى هذه البناية وماذا ساورته من أفكار عن حياته وعن الموت في هذا المكان الذي يتوجه إليه بنفسه. وأثارت فينا هواجس عن حقيقة هشاشة وجودنا في السجن تحت رحمة نظام مجنون. التعاسة الحقيقية العيش مع عدو غاشم، لا ندري متى ولأي سبب، يدفعه للنطق علينا بالموت، ويقضى علينا. ومدى رخص الإنسان وتفاهة حياته عند ممتهني الجريمة كوسيلة بقاء في الحكم. خيم حزن وانكسار على معظمنا وحسرة مخنوقة لرحيل رسن، ووجوم ثقيل على جميع أصحاب القضايا ذات الصلة بالأحزاب والحركات الإسلامية الشيعية.
خفتت همتهم وطغى الهمس على أحاديثهم، وتجمعهم في حلقات لتبادل نقاشات وأسرار مرهقة، أخذ أفراد منهم يترنح بمشيته كالسكران، وآخرون منهم تغيرت ملامح وجوههم واكفهرت؛ واكتست بملامح الموت. هذا تماما ما حصل مع صديقنا (مفيد) الشاب البصري، صاحب العشرين عاماً، الوسيم حنطي البشرة والضحكة الطليقة، وأسنانه الامامية المتراكبة على بعضها. كان يزور غرفتنا بانتظام، يبادلنا التحيات والمزاح بدماثة وخلق. وكان يتواصل بشكل دائم ابن مدينته سعيد كاظم، يتربعان متقابلين على سرير سعيد لقضاء الوقت، والأحاديث عن البصرة. فجأة نكص مفيد داخل نفسه نكوصا حاداً، بعد إحدى زيارات أهله إليه. تغيرت ملامحه تغيراً شديداً، شحب وجهه وأهمل نفسه، يسير ماشياً وعيناه مصوبتان نحو الأرض؛ وفقد التمييز بين الآخرين. كنت ماداً يديّ أغتسل تحت صنبور الماء في الساحة الخارجية، جاء دون إدراك منه وفرك يديه بالماء والصابون فوق يديّ، فنبَّهته: "مفيد هاي شبيك،" فطن إلى خطئه واعتذر: "هااااا العفو أحمد،" واستدار يجفف يديه بثوبه. حسب المعلومات الواردة من أعضاء غرفته، أن أخاه الأكبر نقل له في أثناء الزيارة خبر إلقاء القبض على أحد أعضاء مجموعته الفارين بعد عودته من إيران. أدلى باعتراف جديد عن نية مجموعتهم توزيع منشورات مناهضة للنظام، فخشوا من انكشاف المهمة، وألقوا بالمنشورات داخل إحدى فتحات المجاري العامة. بعد إجراء كشف الدلالة على المكان من قبل أجهزة الأمن وجدوها حافلة بالسباب والشتائم على النظام وشخص صدام، ودعوة لإسقاطه. مثل هذه المعلومة التي أخفاها مفيد أثناء اعترافاته بالتحقيق، كُشفَ عنها في وقت تزامن مع محاولة اغتيال عدي صدام، وما نتج عنه من تشدد في الأحكام على الجماعات السياسية الشيعية. طلبت الدائرة كلاً من مفيد وعلي عبد الرضا، الشاب العشريني، ذي العينين الواسعتين الحادتين، وبشرة تميل للبياض قليلاً، يرتدي دائما تراكسوتاً كُحلياً وسترة بنية، كان متشدداً دينياً، ومحباً للعبة المنضدة، يهرع دائما اليّ بعصبية لحل منازعاته مع حمدي (مدير المنضدة) على حد تعبيره، وكان باسم ثالثهم، ومجموعة أخرى. لا أتذكر من باسم عنه سوى تبادلنا التحيات عندما نتصادف في الممر أو على الدرج، كان شاباً يغلب عليه الهدوء والتشدد الديني، والمظهر الأنيق، يرتدي أغلب الأوقات وحتى أثناء المواجهة مع عائلته (دشداشة) بيضاء مكوية.
انتُزعوا من بيننا، ونحن نحصي الأصدقاء والأرواح التي تتركنا إلى الموت المحتوم. غابوا عدة أيام، وفي عصر يوم غائم حدثت جلبة عند الباب الرئيس للساحة الداخلية للقسم، فسمعنا صوتاً نألفه؛ صوت رائد اسماعيل مدير الخاصة، يرتدي التراكسوت الأخضر، اقتحم الساحة يزعق صارخاً على الموجودين، الابتعاد عن طريق مفيد وعلي وباسم. دخلوا محاطين بالحراس إلى غرفهم، لجلب أفرشتهم وأمتعتهم، وترحيلهم إلى قاطع الإعدام. تجمع عدد كبير من السجناء لوداعهم الأخير، انتظر الحرّاس في باب الممر ذاهلين، ورائد اسماعيل يصرخ لحظة ثم يسكت؛ منفعلاً مع عاطفية مشهد الوداع والعناق والدموع الجارية عند أكثر الموجودين دون نواح. علي عبد الرضا أكثر رفاقه سيطرة على نفسه، رغم احمرار عينيه، ووهن صوته، عانق المحيطين به عناقاً حاراً، وودعهم سائلاً الجميع براءة الذمة. لم أرَ كيف خرج باسم إلى الممر. لكني لمحت مفيدا واقفاً وسط الساحة يحمل كيس فراشه بإحدى يديه، جامداً لا يقوى على أي حركة، منطفئ الحواس لا يكاد يشعر بمن يودعه أو يعانقه أو يصافحه، كالأعمى والأصم والأبكم، لا يستجيب للكلام ولا يرد، مطرقاً إلى الأرض، وحتى صرخة رائد أسماعيل الأخيرة التي انتزعت علي عبد الرضا من بين المودعين؛ لم تكن بنفس حدة التأثير على مفيد. أشعر بالأسى لعدم تيسر فرصة لي لوداعهم، بسبب تجمع عدد كبير من السجناء حولهم، وفوات الفرصة الأخيرة لي ولعدد آخر غيري من السجناء. لوح علي بيده إلى الجميع كمن يلقي التحية على شخص بعيد، مودعاً. وسار باتجاه باب الممر والحراس ورائد اسماعيل. استطعت حينها أن أقول له "وداعاً علي" رفع كفه ملوحاً لي.
كان مفيد معتاداً على حفظ أطعمته في ثلاجتي، يأتي بالخبز والأجبان والمعجون والخضروات، أخصص له مكاناً في إحدى أدراجها، يستهلك منها ما يحتاجه. وعندما غادر برحلته الاخيرة إلى قاطع الإعدام، ظلت علبة المعجون المفتوحة في الثلاجة، زمناً طويلاً حتى تعفنت وجفت. تَمثلُ أمامي كلما فتحت باب الثلاجة، لا أجرؤ على تحريكها، أو حتى التبرع بها ثواباً لروحه حسب نصيحة بعض الاصدقاء. لم استطع التصرف بها، إصغاءً لهاجس داخل نفسي، بأمل عودته لحظةً ما، يطل برأسه دون أن أشعر بوجوده بقربي؛ في كل مرة يراقبني كعادته، عندما أفتح الثلاجة، قائلاً لي" المعجون حمودي". فاحت رائحة العفن من علبة المعجون، وظهر منها أشبه بكرات الإسفنج خضراء اللون. فقررت آسفاً أن ألقيها في القمامة.
بعد أشهر من محاولة اغتيال عدي الفاشلة، وفي شهر نيسان المميز بمناسبة ميلاد صدام وميلاد حزب البعث، يلقي صدام عادةً خطاباً (قومياً شاملاً) يتطرق خلاله إلى أهم القضايا التي تهم البلد والأمة العربية وفلسطين. لكنه كرس خطابه في هذه المناسبة للحديث عن الأعداء الذين يتربصون بالعراق والتعرض لرموزه الوطنية (كان يقصد إصابة عدي)، وعن قدرة القيادة على التصدي لكل محاولة للنيل من العراق، ولمّح إلى الاقتصاص من (العملاء والخونة)، بحملة الإعدامات الواسعة، قائلاً بعبارة استفزازية لا تصدر إلا من نفس مريضة، بأن ضحاياه قد "فروا بلا عودة" إلى مصيرهم المحتوم.
أصبح التلفزيون بشكل عام مصدر إزعاج، وبالخصوص قناة الشباب المملوكة لعدي صدام. أُلغيت جميع برامجها، سوى الرثاء والتبجيل بصاحبها. طلبات الأغاني تكرر بلا هوادة مدة أشهر طلب وإهداء أغنية واحدة (بي ولا بيك حبيبي) لكاظم الساهر. واستحال من وسيلة ترفيه وفائدة إلى مصدر نفور وملل من تكرار مقصود لهذه الأغنية بالذات، كبديل للقول بشكل صريح لملايين المشاهدين نتمنى أن يصيبكم المكروه أنتم وليس عدي، وبرامج ضغينة وتافهة تعرض ليل نهار. الأجواء الملبدة بالانتقام والرعب، هي الحال السائد في الخاصة. الأخبار تتلاحق إلينا، من دوائر الأجهزة الأمنية المختلفة، الأمن والمخابرات والاستخبارات والأمن الخاص عن طريق المحكومين الجدد، أو عن طريق الزائرين، عن الهستيريا التي أصابت منتسبيها ومحققيها باختلاف رتبهم. كل ذلك بسبب الحيف الذي يكابدوه جراء إصابة عدي. مسلسل المجزرة الجماعية متواصل يومياً، في القاطع الذي لا يبتعد عن قاطعنا سوى مئات الأمتار. ونلاحظ ذلك بشكل واضح على وجوه منتسبي قاطعنا، عندما يعودون بعد استعارتهم اليومية للمساعدة في قاطع الإعدام. فهذا القاطع قد انشغل بالكثير من العمل ولابد من أيدي عاملة إضافية. يعودون بوجوه مرهقة وكئيبة، وبعضهم ساخط، وغاضب. ومنهم من كان مصدر الأخبار التي ترد للخاصة عن الأهوال هناك، بفضل المساعدات العينية من سكائر وملابس ومالية، يمنحها بعض السجناء لهم، وتوطد علاقة طيبة مع بعضهم، أظهرت جانباً من طبيعتهم الانسانية، وتعاطفهم المستور. كان معظم هؤلاء من أبناء الأحياء الفقيرة في بغداد. يطلب مني أحدهم بين فترة وأخرى علبة سكائر، أشتري له علبة من البسطيات، بسعر زهيد يكتفي بهذه التقدمة ولا يتمادى بطلبات أخرى. لاحظته ذات تعداد مسائي، مهموماً وتظهر عليه الحيرة، سألته ما الأمر تبدو (تعبان)؟ أجابني "أمي مريضة جداً ولا أملك المال لآخذها للطبيب"، قلت له انتظرني بعد التعداد، كانت بحوزتي (5000) دينار وهبته إياها، فرح كثيرا وشكرني بامتنان.
كنا نتلقى منهم أخبار المذبحة التي تدور رحاها يومياً في قاطع الاعدام، ومن الزائرين المطلعين على أسرار النظام وما يدور في سجن "أبو غريب،" من أصحاب العلاقات مع مؤسسات وشخصيات النظام. وروايات ذوي المعدومين. شاعت أخبار ليلة اقتياد "رسن" بالقوة إلى مقصلة الإعدام، ومقاومته لهم، وهتافاته وسبابه وشتائمه التي أطلقها على صدام؛ ونبوءته التي هتف بها بصوتٍ عالٍ: "سيشنق صدام غداً أو بعد غد".
زارنا شقيق مفيد، مغموراً بالحزن، مثقل الخطى، دخل الساحة واضعاً يده اليمنى بجيب بنطاله الرمادي الذي ظهرت عليه بقع بيض باهته لكثرة الاستعمال. يمعن النظر في وجوه السجناء بحثاً عن شركاء غرفة شقيقه، او أحد من المعارف. استقبله عدد من القريبين من شقيقه وصعدوا إلى الغرفة. جاء ليبرئ ذمة أخيه من دَين محتمل؛ أو أي متعلق آخر. بدأ حديثه، والدمع يملأ عينيه، عن تبليغهم للحضور إلى دائرة قسم الإعدام لاستلام جثمان مفيد. وفصَّلَ ما سمعه عن ساعة التنفيذ ورفض مفيد قرار إعدامه، وكيف شبك يديه بين قضبان باب محجره، تمسَّك بها بكل ما بالحياة من قوة بوجه الموت المكره عليه. صارع جلاّدي القاطع، لكن عددهم وبوسائلهم الوحشية المميزة في هذا القسم استطاعوا تهشيم عظام يديه بالعصي المتينة (التواثي)، وبالحَجَر. وسحبوه بالقوة إلى المقصلة وربطه بالحبال وإعدامه. وذكر أنّه شاهد يدَي أخيه ورقبته، عند دفنه، كانت مهشّمة.
انتهى إلينا في الخاصة الفصلُ الأخير من تراجيديا حياة باسم وعلي في قاطع الإعدام، في ساعة ما يسمّى بالتنفيذ ونداء الجلاّدين على علي، للتهيؤ للموت. طلب منه باسم البقاء وأن يخرج هو محله؛ بأمل حصول تغيير أو تريث ما فينجو علي. والجلادون لا يدققون، عادةً، في الهويات ومطابقة الصور والبصمات في قاطع الإعدام، يكتفون باستجابة المحكوم بالرد على اسمه ولا سيما خلال تراكم العمل وزحمة أعداد المحكومين بالإعدام، خلال الأشهر التي تلت إصابة عدي. رفض علي هذه الفكرة من باسم قائلا له " كلا.. سأخرج أنا إليهم... وأنت الذي ستبقى"، ولم يبقَ باسم بعده طويلاً؛ فلقد سيق هو أيضاً بعد ساعة للمقصلة وأُعدم. وانتهت آخر صفحة من حياتهما.








16
الفوارق الطبقية والموت جوعاً وكمداً
يتميّز قسمُ الأحكام الخاصّة عن باقي الأقسام التي يتألف منها سجن "أبو غريب" تميزاً جوهرياً من حيث طبيعة دعاوى المحكومين، وانتماءاتهم الطبقية وخلفياتهم الثقافية، وهوياتهم المختلفة، وطبيعة التعايش الذي يربطهم على هذا الأساس. كما انفرد سجناءُ هذا القسم بفقدان الأمان والخوف الذي يسكنهم من احتمال إعادة النظر بمحاكماتهم ورفعها إلى الإعدام. هذا الهاجس عبارة عن قلق دائم وإن كان غير محسوس أو مدرك في كثير من الأحيان، نعاني منه جميعنا، ولكل منّا أسبابه التي تدعوه إلى ذلك؛ لأنّ كثيراً من السجناء الذين مروا على التحقيق، كان لابد من أنّهم قد أخفوا شيئاً في اعترافاتهم، أو ربما لمجرد جنون ينتاب السلطة لسبب ما، فتبدأ بإطلاق أحكامها كما تشاء.
يشترك جميع السجناء بصرف النظر عن أسباب دخولهم السجن، بفقدانهم لحريتهم، وانقطاع جميع الصلات بالأهل والأصدقاء والأقارب، وضياع المكتسبات المادية والثقافية، والعيش في رفض دائم لبيئة السجن، والتعلق الذهني والعاطفي المستمر بحياة المجتمع والعائلة. يدخل السجين عالم السجن، وحيداً، مثل حيّ بن يقظان في جزيرته. لا ينقذه من وحدته وهواجسه وعذابه وتأمين حاجياته إلاّ زيارات الأهل والأصحاب. ومن كان منقطعاً بلا عائلة، أو من عائلة فقيرة أو معدمة، فإنه عانى الأمرّين وازداد عليه سجنه حلكةً وقسوة.
من يعيش حياته في حرمان متواصل من ضروريات الحياة، بسبب العوز والفقر، تستحيل حياته سلسلةً حاجات ورغبات قد يطول زمن انتظار إشباعها إلى وقت ربما يمتد إلى الأبد. مركبات من أنواع الحرمان، تغرز في نفسه وفي روحه المرارة من شعوره الدائم بالعوز. وستولّد هذه حتماً عنده اضطرابات ومشاكل في السلوك، تظهر بأشكال وطرق متباينة في التعبير. ومع ذلك، فحتى في هذه الحالة، قد تستطيع العائلة أن تجمع أفرادها بين جناحيها وتشملهم بعاطفة، تتجاوز بسحرها أصعب عقبات الحياة، وتخفف من وطأة الشعور بالحيف والحرمان.
يتفاقم هذا الوضع بصورة أكبر في حالة السجن، حيث يكون التنافر الطبقي جلياً، وحيث غياب العائلة. في الأقسام الأخرى من سجن "أبو غريب" لا تظهر الفوارق الطبقية فيها حيث الغالبية العظمى من السجناء ينحدرون من مستويات طبقية متقاربة، جاءت بهم إلى السجن رغباتُهم الآنية والمباشرة عن طريق السرقة والاختلاس والتسليب. لم يستطيعوا التحكم أو الوعي بمصادر إحباطاتهم، مثل السياسيين الذين تألفوا في أحزاب، وجماعات سياسية منظمة، سعياً للعمل على تغيير واقع تغربوا عنه.
رغم الوعي والسعي المنظَّم للسياسيين الهادف إلى إعادة توازن القوى المتحكمة في المجتمع، وبالتالي استعادة حقوق المحرومين، لا يمكن للنفوس البشرية مهما حمتْ نفسها ألاّ تنازعها لذعة من شقاء البؤس، ولا سيّما في حال كان السجين ذا سجل مديد مع الفقر يعيش في غرفة واحدة مع سجناء منعمين وميسورين. فكيف ستكون ردود أفعاله، أو آليات دفاعه الواعية أو غير الواعية؟ نستطيع تلمسها من خلال تصرفات وسلوك الكثير ممن يعانون من الضيق المعيشي والتسلط الثقافي والعاطفي، تجاه الآخرين.
شقيقان من ريف البصرة المسحوق، محكومان بتهمة الانتماء لحزب إسلامي. الشقيق الأكبر كان يتجنب بحذر شديد كل ما يمت بصلة للوازم وحاجيات وفراش طبيب كان معه في الغرفة، يحمل شهادة عليا في الطب من ألمانيا، محكوم بالمؤبد بدعوى التهجم على شخص صدام. ذكر لي هذا الطبيب أنه انتقد نظام الحكم في العراق وطريقة حكمه غير الديمقراطية في إحدى جلسات الخمر، وكان من بين الحاضرين عميل سري أوشى به إلى الأجهزة الأمنية. كان متزوجاً من سيدة ألمانية تحمل شهادة مماثلة، وصاحبة عيادة طبية في بغداد، كانت تزوره أسبوعياً محملة بكميات كبيرة من مختلف أنواع المؤن والطعام، العراقي والغربي، من المطبوخ والمعلبات وأنواع المخللات والمقبلات وغيرها الكثير. فكانت ثلاجته تضيق بكل ذلك، فيقوم بتوزيعها على منضدته أو تحت سريره. وكان يحرص على تناول كل ما جاءه بشراهة لوحده دون دعوة أي أحد أو مشاركة مع آخرين، لشُّحٍ في نفسه وعدم تعاطف مع المحتاجين.
بحث الشقيقُ الأكبر البصْري يوماً ما عن حاجة له تحت الأسرّة وعند وصوله إلى سرير الطبيب نفر منه مبتعداً ومتسائلاً بتقزز" ما هذه القناني.. عرق؟" هو يقصد قناني وعُلب الخل والزيت والعصائر. ويجيبه أحد المتهكمين: "عرق عرق دير بالك." اعتبر طعامَه الوفير والمتنوع خطيئة، موهماً نفسه وهو يدرك بأنّ الخمر لا يدخل للسجن، بهذه الطريقة المكشوفة والعلنية.
الجوع داءٌ فتاك، مثلما تسبب لمتدين ومحكوم بمدة طويلة على قضية دينية، بالكذب الظاهر؛ تمكن من مقتل آخرين. بعد أن تمكن من أجسادهم ونخرها، فماتوا جوعاً. وهذه ظاهرة أخرى. بعد أن غصت الخاصّة بأعداد كبيرة من السجناء في سنواتها الثلاث الأخيرة، قبل صدور العفو العام في عام 2002، أُهمل ونُسي الكثير من المحتاجين وتُركوا دون أن يتفقدهم أو يساعدهم أحد، وقد شكل عددهم ثلث الموجودين تقريباً.
أحد قتلى الجوع شاب من الريف القريب من أهوار سوق الشيوخ في الناصرية، محكوم مؤبد لانتمائه إلى "المجلس الأعلى للثورة الإسلامية" آنذاك، طويل القامة ونحيف، منطو على نفسه ومتذمر من كل ما يحيطه، وعدائي. فأعرض السجناء عنه، ولم يرضخ هو أو يضطر إلى سؤال أحد. عاش على ما تقدمه وجبة الدائرة من طعام لا يكاد يكفي عُشر عدد السجناء. معروف عنه بأنّه منقطع تماماً ولا يزوره أحد، أمضى فصول السنة الوحيدة التي عاشها في الخاصّة بدشداشته الرصاصية حائلة اللون. في واحدة من مناكداته مع الآخرين كادت أن تتطور الأمور إلى مصادمة مع شاب بصري استفزه، لولا تدخلي بينهما. ازداد نحافة وغارت وجنتاه وبرزت عظامهما، تشاورت مع أصدقاء على طريقة ما لمساعدته، رحبوا بفكرتي؛ وبدأ أحدهم بالتواصل معه ومد يد العون له، لكن الجوع كان قد سبقنا إليه، وأحكم قبضته عليه، وذوى. حتى أبلغونا صباح أحد الايام بأنّه قد مات في المستشفى العام في السجن، بعد أن ساءت حالته الصحية ليلاً نتيجة علة كانت غير ظاهرة للأطباء.
الفقر كان كالظل يسير مع البشر في تجمعاتهم، منذ فجر التاريخ، ومع التجارب المتراكمة لحياة الناس في المجتمع، التي دلتْ على أن البؤس مهما ثقل على كاهل الفقراء، كانوا يجدّون دائماً نحو وسائل تعوضهم وتفتح أبواباً تهوّن من ضيقهم. لكن في مكان محدود، مثل السجن وانعدام أي فرصة تواصل مع المقربين، لم يبق سوى تعاطف الآخرين معهم، أو السؤال. فإذا كان الشباب ينهارون في ظرف مثل هذا، فكيف الحال مع من بلغ السبعين أو الثمانين حولاً، لا صلة لهم بالمجتمع في الخارج، والحصار الذي يعيشه المجتمع في الخارج يصبح في السجن مضاعفاً؟
"سمير الجبوري" المكنى "أبو سفيان"، الصديق الذي تعرفت إليه في موقف الحاكمية، بغدادي متجذر النسب. كان في أواسط العقد السابع من عمره عندما حُكم عليه بالمؤبد، وفق المادة( 164) الخاصة بالتخابر أو الإضرار بمصالح العراق لدى دولة أجنبية. جيء به إلى "أبو غريب،" بعد أن جُرِّد من كلِّ ما يملك، كعقوبة مكملة للسجن بمصادرة أملاكه المنقولة وغير المنقولة، وبعد أن كانت الطائرات الأمريكية قد جردته من زوجته وأولاده وبناته في ملجأ العامرية، حيث تفحمت أجسادهم مع أجساد آخرين في حرب الخليج الثانية عام 1991.
في بداية الأمر زارته مرات معدودة سيدةٌ أربعينيةٌ كان ينوي الارتباط والزواج بها، لكنّها لم تستطع الاستمرار بالتواصل معه، عجزت لفقرها. وزاره كذلك بعض من أفراد عائلته وانقطعوا لنفس السبب. ومنهم من اكتفى بتأدية واجب الاطمئنان على سلامة حياته، واختفى ولم يَعُد. ظل سمير يرزح تحت وطأة الحاجة الدائمة لضروريات الاستمرار بالحياة. رغم مساعدتنا له وتفقده، نحن أصدقائه المقربين، وبعض الميسورين في القسم، لكن المعونات والمساعدات مهما كانت تبقى مساعدات لا تكفي ولا تسد حاجة دائمة. في العام الأول قاوم الجوع، وفي نهاية العام الثاني تدهورت صحته، وبدأ ينحف، ويُسمع أنينه عندما يخلد إلى النوم ليلاً أو نهاراً. يتحدث عنه أعضاء غرفته متعاطفين مع سوء حالته. نقلوه إلى عيادة "الخاصّة" بعد ليلة صراع مع المرض، الذي بدأ يتغلب عليه. أخطر الأمراض وأكثرها شيوعاً، في السجون، وفي كل مكان، التدرن، المرض المتربص بالإنسان، يعلن عن وجوده ونشاطه عندما تبدأ المناعة بالتراجع، والضعف. وأهم أسباب ضعف المناعة سوء التغذية.
كان سمير في جزء من شخصيته حادّ الطباع، وفي أحيان كثيرة يفقد السيطرة على نفسه، ولا يركن للخضوع، أو التراجع حتى ولو كان ذلك ضرورياً أحياناً مع القريبين منه. وأحاديثه اليومية التي كانت تتطور معظمها إلى مشاحنات ومشادات، دعت كثيرين إلى عدم الاحتكاك به وتجنبه. ومن سماته غير المحببة لدى جمهور المؤمنين والإسلاميين أفكاره التي لا يتحفظ عليها، وطريقته المباشرة في الإعلان عن إلحاده في سياق نقاشاته المحتدمة، وسوق الأدلة بعد الأدلة على عدم وجود أي إله وتسفيهه للمقدسات الدينية. البعض تفهم اضطرابه السلوكي هذا وأرجعه إلى صدمته النفسية من فقدان عائلته المأساوي في ملجأ العامرية وتحملوا مشاكساته. ومنهم من لم يرَ فيه سوى كافر وملحد لا يستحق الشفقة، ولم يلتمسوا له عذراً. تحامل عليه الإسلاميون ونبذوه. واشتكاه جماعة منهم إلى الدائرة، بدعوة خوضه المتواصل في المجادلات والنقاشات المبطلة لوجود الإله. أرسل بطلبه مديرُ "الخاصّة،" وقرّعه قائلاً له: "يا أخي إلى متى نبقى نسمع عن كفرك، يتهمونك بأنك شيوعي.. أرجوك أنت رجل متقدم بالعمر لا تخلينا نتصرف معاك تصرفات قانونية، احتفظ بآرائك لنفسك وكفى مشاكسات".
يستفيد سمير في مجادلته من خلفيته الدراسية، كان حاصلًا على شهادة الماجستير من جامعة الأزهر، ومن إعداده المعرفي لأطروحته عن سورة البقرة، وقراءاته الأدبية الكلاسيكية الكثيرة. كان يحفظ عن ظهر قلب أمهات القصائد العربية وجميع قصائد نهج البردة، ويخص بإعجاب قصيدة (محمد إقبال) الشاعر الهندي المسلم التي كتبها باللغة العربية. شرح لي سبب إلحاده وتحوله الجذري عن الدين، ذاكراً رحلته مع التفاسير وشروحات السورة، ومتابعته مع الأساتذة والأزهريين حتى أصابته التخمة على حد وصفه. وكان قد وقع تحت تأثير أزهري معمم فتح له باب الإلحاد. كانا قد تقاربا بعلاقة صداقه خاصه بينهما، وأسرّ له الأزهري بأنّه ملحد، وأنّ الدين عبارة عن "ترّهات"، وهي الكلمة التي ما فتئ سمير يرددها في كل حديث عن الدين. كتب الأزهري كتاباً هجائياً عن سيرة النبي محمد فيما يخص تعدد زوجاته، ثم ترك مصر والجامعة ولباس الدين، وأقام في اوروبا.
هاجمت سمير أمراضُ السجن، والتقدم بالعمر، ومأساة عائلته، وتركته حطاماً. مع بدأ ملامح الحياة بالانسلال من جسده وروحه المتمردة، بدأ يتهيأ للقاء عالم الفناء. بدت على صفحة محياه الغائرة لوحة يرتسم عليها الوجوم والإجهاد، ونظرات ثابتة تجاه الجدران، وكأنه يسأل بلجاجة لمَ أنا وجدتُ مع كل هذا العذاب؟.
باستثناء الإسلاميين، ساعده أعضاء غرفته، بكل أنواع المساعدة، أطعموه وغسلوا ملابسه، وحلقوا لحيته. هزل كثيرا وانطفأ، شاهدته في المرة الأخيرة وسط الساحة الداخلية على كرسي، يحدق بالجدار أمامه دون أن يتعرف إليّ. فغلبَ الرحيلُ البقاءَ: مات سمير في اليوم التالي، أخرجوا جثمانه إلى الدائرة، بعد أن عاينه طبيب القسم وأعطى تقريره النهائي. أقام بعض السجناء مجلس عزاء، على روحه. حظر المجلس 120 شخصاً حسب ما ذكر فالح مكطوف، الذي كان من ضمن المساهمين في إعداد المجلس. وكانوا جميعهم من غير الإسلاميين، من أصل ألفي سجين.
بعد مماته بفترة وجيزة، ونحن نستذكر مأساته ومعاناته، شكك أحد البغداديين في صحة ما ادّعاه "أبو سفيان" عن دراسته في مصر، وشهادته الماجستير، وأيده بغدادي آخر، وكان هذا "ابن محلته،" وكان يتواجد معه في ما مضى في مقهى الزهاوي. ونبه إلى حقيقة أنّ سمير ربما لم يكن حقاً قد درس في أي مكان، إلاّ أنه كان صديقا لكثير من الأدباء وقرّاء الأدب والمعرفة، ومطلعاً كثيراً ومحباً وحافظاً للشعر.
المسنّون يقتلهم اليأس، أو تسكنهم قوة تفقدهم الرغبة في الاستمرار بالحياة. فالسجن لمدة طويلة، المؤبد، وفق أحكام مادة لا تُشمل بأي عفو أو تساهل، مثل مواد التجسس أو ممن خُفضت أحكامهم من الإعدام، كانوا ملزمين بعدّ عشرين عاماً بأيامها ولياليها. وفي بحر الانتظار هذا يتلاشى الأمل، ويسود القنوط وتتسارع علامات الهرم، وتتراجع المقاومة والمناعة. برزت حالات عديدة لمسنّين أسرعوا إلى الموت، ليتخلصوا من عذاب لا مفر منه.
"أبو عصام" البالغ من العمر 82 عاماً، المحكوم بدعوة تجسس لصالح السعودية، ويرجع أصله، حسب تعبيره الدائم، الى ولايتي الناصرية من عائلة السعدون، وكان يقيم في بغداد منذ 60 عاماً، موظفاً في السفارة السعودية ببغداد. وكانت عائلته تزوره بشكل منتظم، ولم يكن يعوزه شيء. أصيب بزكام، فعالجه أحد الشباب المتدينين من المهتمين به بمختلف الأدوية المعروفة لمرض الزكام، لم تفلح الأدوية وحتى الحقن. واستمرت حالته الصحية بالتدهور. بعد كشف الطبيب عليه تبين أنّه مصاب بالتدرن؛ خصصوا له علاج التدرن، ولم ينفع كذلك، بل ساءت صحته مع الأدوية أكثر. راجعوا الطبيب لكيفية التصرف مع حالته، نصحه بترك الأدوية مؤقتاً لاحتمال عدم قدرة جسمه على تحملها. دبت فيه نفحة حياة بعد ترك العلاج ليومين، ثم انتكس انتكاسة شديدة. عادوا إلى العلاج؛ وبعد تناوله فاقم من تردي صحته. زرته أثناء عجزه ومكوثه في السرير مع بعض سجناء من الناصرية، وجدتهم بالصدفة مجتمعين في الساحة واقترحت عليهم زيارة (ابن مدينتنا). استجابوا فورا لوقع العبارة العاطفي عليهم. أردت مصافحته وتقبيله (ما كنت ساعتها أعرف أنه مصاب بالتدرن) منعني بإشارة من كفه الهزيلة، أسّرته الزيارة وجاملنا بخفة روح واضحة وببشاشة. وكان بين لحظة وأخرى يدير نظره اليّ ليتيّقن هل أحمل غيضاً ما عليه. فلقد دخلنا قبل بضعة شهور في نقاش، وقع كلماتي عن السياسة ودور الحكام العرب وتورطهم في كثير من القضايا ساعدت الغرب، وإسرائيل في التغلغل والسيطرة على المنطقة، منهم حكام الخليج والملك حسين، وقعت كلماتي عليه وقع الصاعقة عند إدانتي لملك الاردن، نهض من سريره مبتعداً وأولاني ظهره وابتعد. نهضت خارجاً من غرفته وودعته. ذكر هو هذا الحديث وغضبه، لأزهر عدنان قائلاً له: "أخوك أحمد تحدث بسوء عن المرحوم الملك حسين، وأنا قبل أيام كنت قد أهديت له ختمة القرآن ثواباً لروحه". أزهر أراد أن يلفت نظري إليه قائلاً وهو يضحك" أنت ما تعرفه أشكد رجعي".
بعد زيارتنا الجماعية إليه بأيام فقد الحركة والوعي، ودخل في حالة صحية غريبة، كما يقول الطبيب، تساوى اضمحلال جسده بالانحدار سواءً أخذ العلاج أم لا. وبدا من تشخيص الطبيب أن عقله وروحه قد أوعزت لجسده بالكف عن التمسك بالحياة ورفض كل دعم. وكان يردد في أيامه الاخيرة عبارة "لو الله ياخذ أمانته وأخلص من العيش مع هؤلاء الخرا." (يقصد البعثيين). سئم من الحياة وليس كما سئم زهير ابن أبي سلمى (سَئِمتُ تَكاليفَ الحَياةِ وَمَن يَعِش ثَمانينَ حَولاً لا أَبا لَكَ يَسأَمِ)؛ سئم من العمر، والسجن والبعثيين الخرا. مات في عصر أحد الأيام، وسُجي جثمانه بباب غرفته الصغيرة على سدية المركز الصحي ملفوفاً ببطانية خضراء سميكة.
يموت المسنّون المحكومون بمدد طويلة موتاً نفسياً إن أمكن القول قبل الموت الجسدي. يبدأ بعضهم بالانسحاب من محيطه، ويستسلم الى نداء خفي، ينبعث من داخل ذاته المحطمة، يدعوه إلى التخلي عن كل ما من شأنه المساعدة في مواصلة الحياة. الإرادة موجودة عند كل إنسان لمواجهة الصعاب، بطرق وأشكال متباينة، ولا سيما عند من جُبل على المقاومة منذ نشأته، وغدت سمة مميزة وطريقة لحياته. لكن ظروفاً قاهرةً تحطم المقاومة لديهم، مدعومة بالتزامن مع التقدم في العمر.
حال البَدوي، راعي الأغنام "صلبي غربي"، الذي نشأ وترعرع في بيئة خشنة، أكسَبته الجَلَد وتحمل المتاعب. كان يمتهن رعي الأغنام في بادية الهضبة الغربية بين مدينته الأنبار وسوريا. ورّطته حسب أحاديثه مع السجناء القدامى جماعةٌ بعثيةٌ منشقةٌ عن حزب البعث الحاكم في العراق، ومرتبطةٌ مع البعث في سوريا، بأن أرسلوا منشورات ووثائق تتعلق بتنظيمهم في العراق إلى قيادتهم في سوريا، فاستغلوا أمّيَّته وجهله بمثل هذه المخاطر. أقنعه معارف له أعضاء في هذه المجموعة، بأنّها لا تتعدى كونها أوراقاً، وكتباً، يستطيع اخفائها، حتى ولو في بردعة حماره. حباً بهم وغفلة منه، واصل نقل البريد بين الجهتين، مدة من الزمن. حتى ألقي القبض عليهم بوشاية من المنطقة، الزاخرة بالعيون والمخبرين. أُعتقل معهم بعد اعترافهم عليه تحت التعذيب، وحُكم على المجموعة بالإعدام وحكم "صلبي غربي" بالمؤبد على مادة التجسس للنظام السوري.
مكث مدة طويلة في السجن منقطعاً دونما زيارة من أحد، لم يكن متزوجاً، وبلا عائلة. كان يمد له يد العون عددٌ من السجناء القدماء، وأينما يحل في أي غرفة، يكون ضيفاً يساعدونه ويشملونه بعنايتهم لخفة ظله وقناعته بأي معونة مهما كان قدرها. يعمل بتصليح مخارز الحياكة، والسكاكين والأقفال كأي حداد تراثي، مطرقته بالكاد يستطيع شخص غيره مسكها بيده، وسندانه عبارة عن حصى صلبة بحجم الطابوقة، وسطها محفور من كثرة الطرق عليها سنوات عديدة، ليعيل نفسه من مردودها الزهيد. وكان معظم ما يأتيه من مال سواءً من عمله أو من الإعانات، ينفقه على شراء السكائر؛ التي لا تفارقه طيلة النهار. يدخن كل الأنواع المقدمة له، واللف سكارته المفضلة. يستمتع بالتدخين أكثر من استمتاعه بتناول الطعام، على خلاف كبار السن أقرانه. تركته عادتُه هذه معروق العظام، رغم سمرته الشديدة، يظهر على وجهه شحوب، ويبرز أنفه الضخم. يمازحه ويستلطفه كل السجناء على اختلافاتهم، العرقية والدينية، ومستواهم الثقافي، باستثناء الجماعات الشيعية لا يقيمون له أي اهتمام. على بساطة وعيه ونشأته البدوية؛ لا يعرف الطائفية ولا التمييز العرقي أو الديني مع الآخرين، يتقبل منهم المزاح ويبادلهم النكات. ويجورُ عليه أحياناً كثيرة بعض السجناء بمزاح يستثقله منهم عندما يلمسون عضوَه عامدين. فيصرخ ويشتم بأقذع السباب.
ذات صباح شتوي مشمس، بعد التعداد مباشرة، ناداني وأنا أهمُّ بالدخول للقسم صديقي خلف عسكر: "تعال أحمد تعال... أنت صير حَكَم." دعاني لأكون حكماً بينه وبين "صلبي" المنفعل وهو ملثم باليشماغ وسكارته بين أصابعه. وجدته عابس الوجه ويشتم ويلعن "خلف." طلب مني خلف أن أتعرف على المشكلة التي حصلت بينهما ومن هو صاحب الحق. سألت صلبي: "خير ماكو شي أبو أحمد (كنية صلبي) شبيه وياك أبو فواز (خلف عسكر)." أجابني: "يشاقوني،" وأنا شخصياً أعرف طبيعة المزاح الذي يستثقله ولا يقبله. سألته بمداهنة "اشسووا لك ابو احمد،" رد أيضاً "يشاقوني." كررت عليه " مثلا اشسوولك." وإذا به يصرخ بوجهي: "امش عابت هالوجه، جابوا لهم حكم طلع اخرا منهم،" وقلد عبارتي: "اشسوولك مثلا".
جمدتُ لحظة في مكاني مصدوماً أمام (أبو أحمد) وأنا أتأمل غضبه الذي طالني، وهو على حق؛ لأني تحيزت ضده ولم أحكم بالعدل بينه وبين خلف عسكر، والأخير ضحك بحرج دون أن ينظر إليّ ومضى إلى عمله.
من المقالب المشينة التي حصلت معه، تحدث عنها قدماء. عن سجين شمله عفو عام 1995 اسمه (روبرت) مسيحي من أهالي بغداد. قام بفرم (نعال اسفنج) على شكل قطع صغيرة، وأضاف إليها خليطاً من مواد أخرى، وقدمها له على إنها (تاجينة) بالفشة ( رئة الخروف). تناول صلبي "التاجينة" مع الصمون، وهو يلوك قطع الإسفنج دون أن يستطيع مضغها، مبدياً استغرابه من صلابة هذه (الفشة)، ضحك الحاضرون وضحك صاحب الوليمة على نجاح هذه المكيدة، فهم بعدها صلبي إن الوليمة عبارة عن مقلب للسخرية، والضحك عليه، ونهض وغادرهم وهو يلعنهم ويسبهم على عادته في خصوماته مع أمثال روبرت.
رغم فقره، وعوزه الدائم إلى كل شيء، لا يلتمس بنفسه أي شيء مهما كان ومهما اضطرته الحاجة، لكنه لا يمانع من قبول ما يقدم اليه، من مأكل أو ملابس أو سكائر ومال، إلا الماء البارد صيفاً، كان يقصدني مثلما يقصد آخرين، مرات كثيرة لكأس مبرد من الثلاجة، وبعد ما يرتوي يهز الكأس دائماً على طريقة هز فنجان القهوة، في تقاليد الضيافة العربية، مع ابتسامة مسالمة.
في عامه الأخير، اضطرب كثيراً وساءت صحته النفسية والجسدية. وتفشى حديث عن إدمانه على الحبوب المهدئة، لمست هذا الأمر يوم جاء يسألني وهو متشنج عن حبوب للحساسية (ألرمين Allermine)، كنت أحتفظ بعدد منها لاستعمالها وقت حاجتي إليها عند هيجان حساسية الجيوب الأنفية المزمنة عندي، قائلا لي: "عمو أحمد رجاء ما عندك حباية ألرمين"، قدمت له واحده ابتلعها فوراً دون ماء، وشكرني وغادر الغرفة. بعد أيام عاود السؤال وعاد عدة مرات بعدها حتى نفد كل ما أخزنه عندي من هذ العلاج. وهكذا كان يدور في القسم يبحث عن كل سجين يحتفظ بمثل هذا العلاج. وأحياناً كان يسعفه أحد المدمنين على الحبوب المخدرة، بحبة تعيد إليه توازنه وتهدئه لليلة أو يوم واحد.
نحل جسدُه الهزيل أصلاً، وظهر قوس على ظهره، وبدت أعراض فقدان التوازن والاكتئاب عنده بشكل واضح لا تخطئه عين كل من عرفه. انسحب عن العالم المحدود الذي سكنه سنوات عديدة، إلى هوة سحيقة، تحتويه هو وحده لا غير، منسحباً من الهموم الثقيلة بلا ثقل ملموس، وترك كل الصلات مع الآخرين على مختلف أنواعها، سائبة مثل السراب الذي ألفه على الرمال وهو يرعى الغنم. مات صلبي غربي وحيداً وخسر حياته بلا جريرة تستحق كل هذا العذاب.











17
السايكوباث السياسي 1
الجماعة الأطهر
قطرة الماء، بسبب تكونها الفيزيائي، تعكس العالم حولها على شكل كرة مصغرة، كذلك هو "قسم الخاصّة" كسجن مركزي يشمل كل قضية سياسية؛ أو ما له مساس بأمن السلطة، حتى ولو كان نكتة تمس أحد أزلام النظام. بناءٌ صغير جُمع فيه من كل مكان في العراق كلَّ من تجاوز أو اعترض على إرادة الدكتاتور، أو برامج السلطة، أو أمن العراق بمقتضى صياغة النظام للقانون الداعي لحماية "الأمة" وحسب ما يرى من طريقة لتنفيذه. ضمّ السجنُ داخل حدوده الصغيرة كل الحركات والتنظيمات السياسية، التي مثلت بطريقة ما ألوان الطيف الاجتماعي العراقي في مواجهة النظام البعثي الحاكم، وقمعه المتواصل: تنظيمات قومية كوردية وتنظيمات إسلامية شيعية وسنية، وقوميين عرب وتركمان وتنظيمات ليبرالية، واشتراك في مؤامرات لقلب النظام، فضلاً عن الدعاوى المفردة من تجسس أو محاولة هرب إلى الخارج، والتستر، والسب والتهجم على رموز النظام.
ونجد في هذا المكان شواهد وأمثلة غريبة ولافتة للعلل وللأمراض الأيديولوجية (إن صح القول)، منتشرة، يصرِّف أصحابها من خلالها عقدهم الشخصية اللا اجتماعية أو كما تسمى في علم النفس (anti-social) ضد المجتمع، دون أي شعور بالندم، ويسندون دائماً أفعالهم إلى شرعة دينية، وآخرون إلى توجهات وعقائد سياسية وحقوق إثنية وغيرها.
مجتمع الأحزاب والجماعات الإسلامية الشيعية، يضم داخل تركيبته تمايزاً وتبايناً كبيرين فيما بين أفراده من حيث التكوين والتنشئة، وانعكاس مجموع العلاقات والظروف الاجتماعية على تشكيل جوهر الفرد والجماعة في زمانٍ ومكانٍ معينين. يظهر هذا التباين بين الغالبية الأسوياء ومنبسطي الطباع وبين جزء من المعتلين نفسياً، الذين يشكّل التدين لديهم هوساً ومرضاً اجتماعياً، أكثر مما هو تديناً عادياً.
يتميز الدونكوشيتيون الشيعة عن سواهم من محاربين آخرين في "الخاصة"، بتوجيه رماحهم إلى الآخرين، كونهم مقاتلين مبرمجين من مؤسسة منزهة ومعصومة من أي خطأ بتاتا؛ فهي المؤسسة المكلفة بتبليغ وتوجيه رسائل الإمامة والولاية، ونشرها إلى البشر حول العالم. وعندما كانوا يستهدفون شخصاً ما بإساءة عن سابق إصرار وتصميم، يبررون نوازعهم فقهياً ويسندونها إلى سند أو قاعدة شرعية ويمارسونها بتلقائية على هذا الأساس بوجه الآخرين. وبطبيعة الحال لا يمكن أن يطالها أي نقد كما يظنون. وفي ذات الوقت فإن المؤسسة (الحوزات والمدارس الدينية) هي بحد ذاتها تتعرض من غيرهم إلى النقد والشبهات المختلفة باستمرار، رغم كل المحاولات وعمق هذه المحاولات التاريخي بالظهور بمظهر النزاهة، والاستقامة والابتعاد عن الأهداف المغرضة.
كانوا بعض السيئين من الشيعة يستخفون علناً بالعقائد والممارسات الدينية لباقي المسلمين والأديان الاخرى. حتى لو أدى هذا الازدراء إلى جرح مشاعر الآخرين، وتعرضهم للأذى المباشر. كل ممارسات الشعائر الدينية لغيرهم عرضة للسخرية والتسفيه، وخصوصاً السنيّة التي يرون فيها باطلة ولا يعدّون لها قيمة قدسية أو احترام. فعندما كان السنيون يصلون، ويرددون كلمة (آمين) في صلاتهم، كان أحد النجفيين يصرخ (كووول) ويعلق "بطلتْ بطلتْ صلاتهم." وكان يستجيب له نفر من المبرمجين أمثاله ضاحكين، دون أن يعبؤوا بمن حولهم في الغرفة من سنّيين، متدينين كانوا أم غير متدينين، أو من غير السنّة، أو أشخاص بعيدين عن الطائفية وعن مثل هذه التصرفات.
يتعّمد بعضهم المرور من أمام أحد السنّة في أثناء صلاته مما يبطلها حسب الفقه السني. وحدثت عدة مرات احتكاكات لهذا السبب، تنتهي عادةً بالاعتذار بحجة ضيق المكان، أو لحاجة ملحة ما اضطرته للعبور من أمام المصلي، أو الخشية من دائرة الأمن في السجن.
النقد والاختلافات العقائدية، والأيديولوجية، ممكنة وموجودة على أوسع نطاق في كل المحافل، والتجمعات الكبيرة والصغيرة. أما توجيهها أو إظهاراها بطريقة استفزازية، فيكون بطبيعة الحال لغرض الانتقاص من الآخرين والاستعلاء عليهم. معظم طقوسهم الدينية، يسود عليها طابع الاستعراض، والمبالغات من أجل لفت الأنظار. وبالمقابل يعدّها الآخرون بدعاً لا تمت للدين وشعائره بصلة. وهم على يقين من رأي الآخرين بممارساتهم موضع النقد، يمضون في التمادي بالتمسك بها أكثر بتبجح؛ على اعتبار أنّ صنفهم مجبول من طينة غير طينة البشر. التعظيم والتبجيل لرجال الدين وعلى وجه التحديد إن كان منهم (سيّد)، بأسلوب احتفالي برفع شأنه والمبالغة في إحاطته باهتمام متفرد.
سيّد محمد الطبطبائي من أشهر رجال الدين الشيعة في "الخاصّة،" بمرتبة مجتهد مخفض من الإعدام منذ الثمانينيات، محاط ببعض الغموض، لا نعرف جواباً شافياً عن دعوته وعن سبب سجنه. بعض الأخبار المسربة، ولكن لا يمكن البت بمدى صحتها، تتحدث عن علاقته بمحمد باقر الصدر، الزعيم الديني الذي أعدمه النظام البعثي في بداية الثمانينيات ولا شيء آخر يذكر عنه. كان الرجل يتمتع بالكياسة والخلق الاجتماعي السهل، يعيش في شبه عزلة جبرية، داخل غرفته ليل نهار، لا يخرج منها إلاّ لماماً بين عدة أشهر للساحة للتخفيف من عزلته، بالتمشي وتغيير جو الغرفة الكئيب. في كل مرة عند خروجه للساحة تحدث حوله جلبة ما، أما من اتباعه المبالغين بالاهتمام به؛ أو من المتملقين الآخرين من الذين يريدون نيل رضاه أو كسب حظوة اجتماعية ما بظهورهم برفقة "سيّد محمد طبطبائي". لا يخرج حتى للتعداد مع نفر من العاجزين عن المشي.
يروي بعض من القدماء أنه لم يكن في بداية التسعينيات بهذه الدرجة من العزلة، فقد كان يخرج من الغرفة باعتياد. وحدث اثناء تعداد مسائي حضور رائد نصير التكريتي في الساحة الجانبية، قبل اكتمال حضور النزلاء للتعداد، وهم يتقاطرون فرادى، فلمح أحد النزلاء يحمل بيده مقعداً صغيراً حجز به مكاناً فارغاً. سأل الرائد النزيل "لمن حجزت المكان بهذا المقعد" أجابه النزيل "للسيد محمد". غضب رائد نصير غضباً شديداً، ونهر سيد محمد بكلمات موجعة صارخاً به أثناء نية الأخير للكلام أو للاعتذار: "أقعد لك أنت ما تستحي، خدم ذولة عندك...". مما أحرج سيد محمد حرجاً شديداً، وكما يقال كان هذا الحادث هو سبب عزله بشكل دائم في الغرفة ومنعه من الاختلاط مع النزلاء الآخرين. هذا الحادث سبب أسفاً شديداً في مجتمع المتدينين الشيعة، وحتى عند غيرهم لهذه الإهانة المقصودة والمتحاملة، وظلوا يتداولونها طيلة وجودهم في الخاصة.
وهذه الكلمة النابية (لَكْ)، يستعملها عادةً ضباط الأمن مع كبار السن لزجرهم وإهانتهم، وحصل مراراً توجيه هذه الكلمة أثناء تشفع أحد كبار السن، لمذنب مثلاً، ينهره الضابط المسؤول قائلاً: "ابتعد لك". يستعملونها على الأرجح بدلاً من الصفع والضرب. أُهين الرجل بسبب مبالغة الجمهور بالاهتمام به وإحاطته بالعناية المبالغ بها وهو لم يكن يرغب في ذلك ولم يكن يقصد أي تصرف يعود عليه بمثل هذا الموقف المحرج.
السلوك العاطفي عند جمهور المتدينين الشيعة سلوك يتفردون به عن سواهم من الموجودين في "الخاصّة" من المجاميع البشرية المختلفة؛ تحياتهم التي يتبادلونها بين المصافحة والاحتضان وتبادل القُبل يومياً فيما بين نفس الاشخاص. إذا مرض أحدهم ولازم الفراش، تنتابهم جميعا حمّى العيادة، دون الأخذ بنظر الاعتبار حاجته للراحة أو مضايقة الآخرين في الغرفة؛ يتجمعون بأعداد كبيرة وصغيرة، ويتناوبون على زيارته ليل نهار، ولا بأس من زيارته من نفس المجموعة أكثر من مرة في اليوم الواحد. تستحيل كتلتهم البشرية إلى ما يشبه مملكة النمل، حركة دائبة موجهة لزيارة مريض وعيادته، ويمكن سماع دوي حركتهم في كل أرجاء المكان. هذا السلوك يمكن تفسيره كعزاء أو تعويض نفسي، لكثرة الفقدان بينهم من المعدومين من رفاقهم وأصدقائهم، من أجل الظهور بمظهر كونهم كتلة من البشر منسجمة يسود بينهم الود والعاطفة الحميمة.
يكاد يجمعون (باستثناء نفر منهم)، على قاعدة طهارة طائفتهم، عن سائر الناس، مستندين إلى نصوص دينية مقدسة. والأمر لا يقف عن هذا الحد، بالرغم من نقده وعدم تعميمه من قبل أفراد من داخل مجموعتهم أو من يجد منهم بأنه مؤول بطريقة غير صحيحة. اعتمده كثيرون منهم كآلية "للحرب" ضد الآخرين؛ وليس القصد منه التزاماً دينياً. وهنا أنا لا أستعمل كلمة "حرب"، بل ما حصل من حوادث يومية تصدر من أعداد كبيرة منهم بطريقة متعمدة وغير مبررة في أغلب الأحيان تمنح الدليل على أنهم يستخدمون ظاهرة (التنجيس) ضد الآخرين بقصد الانتقاص منهم والرفع من شأنهم، ولو كان بطريقة وهمية.
يوجهون آليتهم الخاصة هذه إلى الجميع، لا يُستثنى مسيحي، ولا صابئي، ولا أيزيدي ولا علماني وخصوصاً إذا كان يحمل شهادة ما، ولا الشيوعي ولا السني، وحتى فيما بينهم حسب اختلاف التقليد للمرجعيات وانتماءاتهم الحزبية، أو إذا حصل عداء شخصي بينهم؛ يتحول الطرف الآخر إلى نسخة غير طاهرة يستوجب الاحتياط من ملامسته. في نهجهم المتبع هذا، يفز الشيعي المعتل نفسياً من مكانه إذا مر بقربه أحد من غير شاكلته، مثل المتكهرب مبتعداً عنه بطريقة واضحة الإيحاء للآخرين بكونهم أجساماً حاملة لمفسدات طهارته. لا يمسون أدوات غيرهم على اختلافها وتعددها؛ أواني الطبخ والفراش والملابس، والأخيرة يشترطون على صاحب المكوى عدم رش الماء عليها، حتى لا يطالها الماء مصدر النجاسة إذا كان غير معامل وفق قانون (الكر)، وغدى تعبير (كركرة)، اصطلاحاً شائعاً وعبارة ترمز لمجموعتهم هذه. بعضهم يبالغ إلى حدود مرضية، تظهره كمضطرب يتحاشى ملامسة حتى الجمادات وأي إنسان آخر ولو كان قريباً إليه، واشتهر نفر منهم بألقاب مثل (سلام نجاسة) أو (سيد محمد كركرة). ثبت بأن الأول (سلام نجاسة) مهووس بالطهارة هوساً مرضياً شُخّص ذلك عنه باعتراف مشتغلين بالصحة من جماعته. حتى نُبذ من المجموعة وتصادم معه بعضهم، لممارسته عليهم قانونه الصارم بنجاسة كل شيء بما فيها جماعته المتدينين. يستعيض عدد كبير منهم عن أباريق المراحيض بالقناني البلاستكية الخاصة بقاصر الملابس أو أي قنينة أخرى مماثلة لكي لا يشتركوا مع الآخرين بنفس الإبريق الذي يقوم بعضهم بكركرته داخل المرحاض.
هذه الظاهرة كما تم إخراجها في "الخاصّة" تحديداً غريبٌ وجودها في المجتمع العراقي، فلم نسمع عنها أو نشاهد مَن مارسها طيلة الفترات الزمنية التي عشناها في المجتمع، في تجمعاته سواءً داخل العائلة وحتى في الطقوس الاجتماعية الكبيرة. وقد تحدّثَ عن شيء مشابه إليها المؤرخ العراقي البارز جواد علي في أطروحته للدكتوراه "المهدي وسفراؤه الأربعة" مشيراً إلى المبالغة بالتطهر والتنجس من الآخرين كظاهرة عند المراجع الإيرانيين، الذين يرجعونها حسب ادعائهم إلى أن الناس وسخون ولا يلتزمون بأصول النظافة. عند المراجع الإيرانيين يمكن اعتباره نوعاً من التعالي على المجتمع الذي يقلّدهم والمؤلَّف في غالبيته من الناس البسطاء. فاستعاره منهم جاهزاً المضطربون نفسياً في "الخاصّة،" كسلاح موجه ضد الجميع ونيل الرضا عن النفس. ويضيف الملحاح منهم بأنّ المشرك (وهذا تعريفه غير محدد عندهم) تصدر من جسده روائح كريهة تلتصق في فراشه وأثوابه، دون سند علمي وكأن العالم قد توقف عند حدود الحياة الأولى في قريش وبادية الجزيرة العربية بدايات الدعوة الإسلامية. وبعض هؤلاء منهم الآن من تسنم منصب وزير أو وكيل وزير أو جنرال (دمج) في المؤسسات الأمنية، وفي الكثير من المناصب العامة في الدولة. وهذه العادات والنفسية المنحرفة استمرت معهم، أي بعد سقوط النظام البعثي وتوليهم المناصب الرفيعة في النظام الجديد. ظهر ذلك حالياً في طريقة دفاعهم عن النظام الحاكم في منصات التواصل الاجتماعي، ضد انتفاضة تشرين؛ وتوجيه عقدهم النفسية في كثير من المناسبات بالتشفي من الضحايا الذين قتلتهم الحكومة وميليشياتها وتصويرهم مرة باعتبارهم بعثيين أو عملاء، أو فجرة.
الوقاحة وقلة الحياء، صفة غير مستحبة، تؤدي في كل الأحوال والظروف إلى نفرة المجتمع من صاحبها. أحياناً يكون المرء خجولاً ومحتشماً بطبيعته وتكوينه الشخصي، وعندما يتبنى عقيدة أو مبدأ ما، يتأسس جزء مهم منها على احتقار الآخرين والنظر إليهم بدونية غريبة. هنا يكون المأزق لهذا الشخص، مثل باسم من ناحية الطار، كان شخصاً مفطوراً على الطيبة ومحباً للمزاح. كان متديناً على بساطة لكنه لم يستطع الخروج عن الإطار العام لهذا النوع من التدين. كان يعيش معه في الغرفة "سيدو" الايزيدي الخياط وهو نجس في فقه "الخاصّة." كان سيدو يمزح مع باسم عند المغاسل وهو يتوضأ، ويرش عليه الماء، فيقوم باسم بإعادة وضوئه أكثر من مرة وهو يضحك ويطلب منه أن يكف عن رش الماء عليه؛ حتى لا يبطل وضوؤه ويفوته وقت الصلاة. كيف يمكن لأصدقاء يعيشون في غرفة واحدة وأحدهم يعتبر الآخر نجساً كأي كلب أو خنزير؟
في حادثة ظريفة تشهد على الاضطراب في تقييمهم للبشر وفهمهم المتخلف للحياة؛ في أثناء إعداد وجبة الغداء في الساحة الداخلية للقسم الثاني كانت تنهمك أعداد كبيرة من السجناء في تحضير مستلزمات الطبخ. شاهد أحد السجناء دخول حشرة خنفساء في وعاء الزيت المفتوح لمطبخ "سلام نجاسة"، أخرجها سلام من الوعاء بملعقة وعاد يعالج طعامه. استفهم منه السجين قائلاً "لماذا لا ترمي هذا الزيت...هذه الخنفساء قذرة ربما تكون خارجة من البالوعة،" أجابه (سلام نجاسة) "لا لم تكن قذرة ولا نجسة فهي من ذوات الانفس." أثار هذا الحديث موجة من النقد والسخرية بين السجناء، وعلق فالح مكطوف تعليقاً متهكماً حينها: "إذا كانت الخنفساء طاهرة لأنها من ذوات الأنفس..يعني سعيد كاظم ألم يكن من ذوات الأنفس؟"
الحدث المميز في نهاية التسعينيات التي عشناها في "الخاصّة"، كان مجيء أتباع ومقلدي الصدر. النسبة الأكبر منهم من أهالي مدينة الثورة (الصدر فيما بعد)، ويليهم من الناصرية والبصرة ثم باقي مدن الجنوب والفرات الأوسط بأعداد قليلة. الأعداد الكبيرة التي جاءت غيّرت كثيراً في طرق العيش والتقاليد المألوفة داخل الخاصة. أعدادهم الكبيرة سببت ازدحاماً خانقاً، فامتلأت الغرف والممرات جميعها ولا تكاد زاوية من زويا القسم تخلو من سجين يشغلها، وأصبحت الغرف في الأيام الأخيرة قبل العفو وكأنها حافلات ركاب مكتظة، وحتى في الساحات أيام المواجهة شكلت نسبة عوائلهم إلى باقي عوائل النزلاء الضعف أو اكثر. ولقرب (الثورة) الواقعة في بغداد، من "أبو غريب" سهلتْ زيارة العوائل أسبوعياً لأبنائهم في السجن، ومدهم بكل ما يحتاجونه من متطلبات ومن مؤن مما هوّن على الكثير منهم منغصات وحرمان السجن. ينصبون الخيم ويمضون وسط عوائلهم أوقات (حميمية) وأُلفة، ولعوائلهم أيضاً الاستقرار النفسي وتخفيف المعاناة على الجميع. غدا وضعهم المريح نسبياً ميزة تعود عليهم بالتمتع بالكثير من المكاسب مقارنة مع غالبية السجناء.
المعارضة للنظام البعثي، اكتست شتى الألوان والسمات على اختلاف مناطق العراق وخصوصية كل مكان في البلد. وحتى بين هذه المناطق نفسها تعددت ألوان ظهور المعارضة. في بغداد مثلاً المعروف عن مدينة الثورة؛ إنه حي قد حجزه النظام كمعسكر للفقراء والمعدومين. أشد فقراً من كل مناطق بغداد الكثيرة. تعتمل داخله المعارضة والاحتجاجات على البؤس والحرمان الذي يعانوه أصلاً؛ ثم وطأة الحصار الشديدة جعلتهم يلتفون حول كل رمز ممكن أن يقف بوجه النظام. وظهور رجل الدين محمد صادق الصدر معارضاً من أرض النجف، استطاع أن يجمع عدداً كبيراً من الأتباع والمعارضين، في المناطق الشيعية من الطبقة المسحوقة بين جور النظام ووطأة الحصار، حتى وإن كان منهم من غير المتدينين، أو من كان منهم غير ملتزم بأي التزام. انجذب إلى تيار الصدر المعارض الوحيد داخل العراق حشود جماهيرية وكانت الثورة في بغداد أبرز مثال لما شهدته الساحة العراقية.
ليس كل الذين انخرطوا في تيار الصدر الإسلامي الشيعي كانوا راسخي التدين، بل معظمهم كان طارئاً على هذا النوع من الالتزام. وواقع قسم "الخاصّة في أبو غريب" كان شاهداً على هذه الحقيقة. كان عددٌ كبيرٌ من الصدريين، من أهل الثورة بالذات، يحرصون على الظهور بمظهر "الشقي"، وهذه لفظة شعبية عراقية تُطلق على الفتوّة أو العيّار. كانت تصرفاتهم مع الآخرين من غير أهل الثورة تأخذ هذا المسلك غالباً، ففي المجاملات العادية يتحول المزاح إلى سخرية من المقابل تهكماً واستخفافاً، مثلما يستخف المغرور من شأن الآخرين، إخفاءً لعدائيةٍ واحتقارٍ في زي دعابة.
نلمس أسلوب التعالي هذا في سلوك البعض من أهل النجف وكربلاء والكاظمية والثورة، والنقد الساخر والجارح أحياناً، لبسطاء مدن الجنوب، يقترب إلى نوع من التسيّد الطبقي. يعتبرونهم مَسودين وهم السادة. ولم يخلُ الأمر من مواجهات، ففي إحدى المرات حرَّضتُ أنا علنا داخل الغرفة ونبهتُ إلى هذا التصرف الذي يقصد كما قلتُ (لاستعبادكم) موجها كلامي لريفيّين من سوق الشيوخ ضد أحد (أبناء الكاظمية)، عندما سخر بكل صفاقة من زي ولهجة عائلة أحد هؤلاء الريفيين. وما كان من الأخير إلاّ أن استجاب لتنبيهي وقرّع الكظماوي محذراً إياه بغضب وتهديد جاد من النيل من عائلته، مما أخرسه وظل يدور بعينيه بيني وبين الريفي الغاضب، أفحمه التهديد، ووضع حداً من تطاوله على الآخرين. ومثل هذه الحوادث حصلت مرات عديدة، ومنها تطور إلى مصادمات عنيفة.
شاب عشريني من أبناء الثورة تحدث معي أثناء جلوسه على كرسي الحلاقة، وأنا أنتظر دوري قائلاً لي ببلاهة: "أنتم أهل الناصرية سكان الأهوار يقال أصلكم إنكليز." كلامه صدمني؛ هل هو أحمق إلى درجة تصديقه الإشاعة والتصور المغرض بأن الناصرية جزيرة طافية على قصب الأهوار؟ هذه المدينة الكبيرة المساحة وعدد السكان ووجود الحواضر الشهيرة والعريقة فيها، من مركزها إلى مدينة سوق الشيوخ والشطرة ...الخ، وردد بدون روية ما كان البعثيون (مثل علي حسن المجيد)، يتقّولون على الناصرية بالفاحشة بأنسابهم؛ بعد انتفاضة عام 1991 ودور أهل الناصرية في مواجهة السلطة. مثل هذا الكلام الذي صدر من هذا الشاب، ممكن أن يكون كلاماً عابراً من شاب غر، لكنه في الحقيقة كان رنّة مفردة وسط إيقاعات متنوعة تطرق الأسماع بكثرة، ليس على الناصرية فحسب، بل شاملة لكل مناطق العراق وفيما بينها انعكاساً لما صنع النظام من تفرقة ولمحدودية مذهبه في الحكم.
البعض ودائماً هم البعض من أهالي الثورة، وبالخصوص من الجيل الشاب أو الجيل الذي ولد في مدينة الثورة. نشأوا في بغداد وتعلموا وعملوا وشاركوا أهالي بغداد بالكثير من المشتركات، التي تتميز بها هذه المدينة الساحرة، بتمدنها وتاريخها المدهش. خلاف آبائهم المتحدرين أغلبهم من أرياف الجنوب والنسبة الأكبر من ريف العمارة. قد عانوا ازدواجية فرضتها عليهم أنظمة الحكم المتوالية باستثناء فترة حكم عبد الكريم قاسم، بين كونهم نشأوا وترعرعوا وسط بغداد، واكتسابهم نمط معيشتها الخاص، من جميع الأوجه الثقافية، وبين قيام الطبقات الحاكمة دق أسفين يحول بينهم وبين انتمائهم، بعمل مشابه لقانون القوة الطاردة المركزية في الفيزياء، لنبذهم وتصنيفهم كبشر من مرتبة ثانية، وهنا عملت الطبقة السائدة بالقانون الاجتماعي الطارد عن قصد، فهم من وجهة نظرها ليسوا سوى كتلة بشرية احتياطية، لتنفيذ مشاريعها الاقتصادية ووقود المغامرات العسكرية، وجعلت منهم مترددين وأضاعت على هؤلاء (البعض) الهوية وأدراكهم بالانتماء الحقيقي. نفس هذه المشاعر والسلوك المضطرب والمتباين مشابه الى حدٍ ما، ما يعانيه أبناء المهاجرين من دول المغرب العربي في فرنسا، أو باقي دول أوروبا؛ فهم كذلك نشأوا وتعلموا وتشاركوا الحياة مع الآخرين في أماكن ترفضهم حكوماتها، وتعمل على تهميشهم. وحَدَتْ ببعضهم أن يلجأ إلى الإرهاب كوسيلة للانتقام. وقد وجهوا سهام نقمتهم نحو المجتمع في كثير من الأحيان، وليس نحو الأنظمة التي استعبدتهم وهمشتهم. مثل هذا التوجه غير السديد لا يدل إلا على الاضطراب وانعدام الحكمة، يقع على ضحية بيد ضحية لنظام جعل الآخرين في عين الدوامة، هيأها وأسس لها لتكون ساحة صراعات بين الضحايا أنفسهم، ليحتل داخلها الصراع الثانوي محل الصراع الأساسي بين الضحية والجلاد.
من جملة ما يُحرم منه السجين ممارسة الجنس في هذا المكان المغلق. غالبية نزلاء الخاصة متزوجون وحكموا بمدد طويلة، وقبعوا داخل الخاصة يعدون سنواتهم يعانون ألوان الحرمان، العاطفي والنفسي والفصل القسري عن زوجاتهم. ومعروف أنّه في الوسط الذي يعيش فيه جماعة من جنس مماثل، مثل مجتمعات الجيش والسجون والبحارة، وهي مجتمعات ذكورية، تشيع المثلية الجنسية. وهذا الأمر مفهوم حصوله نتيجة لغياب الجنس المغاير حسب تعبير الدراسات والبحوث العملية المعاصرة، ونتيجة للحرمان المتواصل والزحام والتلامس بين السجناء، فيحدث بينهم نوع من الانجذاب والتقارب المثلي. كان وجود المثليين في الخاصة بصنفيهما، يقتصر على عدد محدود جداً بعدد أصابع اليد الواحدة، مميزين ومنبوذين. يمارسون ميولهم الجنسية بتستر وخفية شديدة، منهم من كان "مثلياً" قبل دخول السجن، ومنهم من لجأ إلى هذا الميل اضطراراً تحت ضغط الحاجة الجنسية، وخرج من السجن مثلياً.






18
السايكوباث السياسي والاجتماعي 2
الفتاة القط
تروي الأساطير اليونانية القديمة قصة قطة عاشت مع الآلهة اليونانية، وهبنها مَلَكة تحويل نفسها إلى غادة حسناء، تأسر قلوب الرجال. ذاع صيت جمالها بين الناس حتى نشد الأباطرة والملوك مجالستها ودعوتها إلى موائدهم. وخلال إحدى الحفلات الصاخبة مرَّت فأرةٌ تحت الطاولات أمام أنظار الحسناء المتحولة؛ وعلى الفور استدعتها طبيعتُها الأصلية وعادتْ قطةً، راغبة عمّا لذ وطاب من الموائد الملكية لتطارد الفأرة وتلتهمها.
من ضمن طلباتي المُلحة من أهلي بالإضافة إلى المؤن الضرورية، تزويدي بمؤن الكتب والمجلات الثقافية تواصلاً مع هوايتي (عادتي) في المطالعة، ولتمضية الوقت من ناحية ثانية. وقعُ طلبي على إخوتي كان غير مريح بعض الشيء، كتبي كلها ممنوعة وقد تسبب مسؤولية أمنية. بعد مداولة الأمر معهم أخبرتهم بأنّي لم أقصد أي كتاب ممنوع وأقدّر وأفهم جيداً المسؤولية الأمنية، لكن الكتب والمجلات التي تصدرها الدولة من دور نشرها، هي المرخص دخولها إلى "الخاصّة." في مواجهة تالية جاءني أخي جعفر بروايتين وعدد من المجلات الثقافية مثل الأقلام وآفاق عربية من دور النشر الرسمية، مرتْ بالتفتيش بين أيدي الضابط المسؤول دون أية مساءلة. كانت إحدى الروايتين، العرس الوحشي ليان كيفيلك، تتحدث عن فتاة فرنسية تتعرف على جندي في قاعدة أمريكية استدرجها إلى داخل القاعدة، متظاهراً بحبها ثم اغتصبها مع أفراد مفرزته. الرواية أعجبتني لمغزاها السياسي، وجمال اسلوبها الأدبي البسيط. قررت إعارتها للدكتور ضرغام ليطلع عليها هو أيضاً، ونتحدث عنها وستمع للرجل لتكن فاتحة علاقة كنت بحاجة إليها؛ تعيد لي أُنس أصدقائي المثقفين والمتعلمين تعليماً رائداً. أُعجب بها كثيراً، وأخذ يثني عليها كلما ألتقيته. ومهدت لتطور علاقتي معه، وتبادل الكتب والمجلات بيننا، وأصبحنا صديقين، تربطنا وشائج الأدب والسياسة وتبادل الولائم، وكان سخياً ومضيافاً.
كنا نلتقي يومياً تقريباً، أقصد غرفته عصراً ونخرج إلى الساحة الرئيسية نتمشى حتى يحين موعد التعداد المسائي، يمسك زمام الحديث هو دائماً. يبدأ بقص تجاربه مع الفكر القومي العروبي، رغم أنّه من أصول تركمانية، وانجذابه لهذا الفكر التحرري والاشتراكي، وتأثره بقضية فلسطين تأثراً نفسياً بالغاً. استمرت حلقات قصصه لأشهر، تطرق خلالها إلى تركه العراق متوجهاً إلى سوريا معقل اليسار القومي، حسب رأيه. ولقاءاته واجتماعاته الحزبية مع الرئيس حافظ الأسد؛ كعضو قيادة قومية في الحزب السوري، ويوم كان بشار الأسد شاباً صغيراً لا يشاركهم الاجتماعات. ومشاركاته بالعمل الفدائي وزواجه من أم فراس من أصول لبنانية، وسفره إلى ألمانيا الشرقية لدراسة العلوم السياسية، ونيله شهادة الدكتوراه بهذا الاختصاص وحبه وتعلمه للغة الألمانية وإتقانها كلغته الأم.
ما أساء ونكد حياته رغبته وإصراه على زيارة العراق أعوام الثمانينيات، أعوام الحرب العراقية الإيرانية وجنون نظام البعث وبطش صدام بكل من يعارضه من بعيد أو قريب. حدثني بأسى عن تجاهله لنصيحة زوجته (أم فراس) بعدم الذهاب إلى العراق في هذا الوقت، ووقوع المحذور منه. سافر من ألمانيا قادماً إلى العراق اشتياقاً لمنزله الأول، لأهله وأصحابه وعشقه لهذا المكان الذي لا يبارحه حنينه إليه طيلة سنوات غربته، وكما يقول نزار قباني الشغوف هو بقصائده وترديده الدائم لمقاطع جميلة من شعره: "وعدتُكِ، أنْ لا أعودَ، وعُدْتْ.. وأنْ لا أموتَ اشتياقاً، ومُتُّ، وعدتُ بأشياءَ أكبرَ منّي فماذا بنفسي فعلتْ؟".
أراد العودة إلى أسرته في ألمانيا بعد أن سكنتْ روحه من الحميم المكنون في الغربة لأهله وأقرانه ومكان نشأته، ولكن تبيّن أن السفر ممنوع ولا يسمح له بمغادرة العراق. فشلت جميع محاولاته الأصولية بالسماح له في العودة إلى ألمانيا، وما كان له من بد آنذاك إلا اختيار طريق التهريب عَبر السليمانية إلى تركيا وبعدها إلى ألمانيا. لكن سوء الحظ أوقعه مع أخيه وصديقهما (سلام مدلول) في شراك السلطة. اعتُقل الثلاثة، حُكم على الآخرين بالسجن المؤبد، وعليه بالإعدام لولا تدخل شقيقته ابتسام عبد الله وزوجها أمير الحلو عند صدام وتخفيضه إلى المؤبد، لكان قد أعدم وأطفأتْ حياته بعد أن أراد إطفاء حنينه للعراق.
ذكر لي شقاء التحقيق وهول قاطع الإعدام وذكراه التي تركت ألماً متواصلاً يحز في نفسه. ومما ذكر لي، توجهه إلى التشيّع فترة وجوده في قاطع الإعدام لحاجة روحية ما، في ممارسة الطقوس والشعائر الدينية الخاصة بالمذهب الشيعي؛ قال: "وجدت راحة لنفسي مع الموجودين في القاطع (يقصد الشيعة) وقررتُ أن ألتئم معهم.." شارحاً لي سبب تحوله المذهبي. وربما كان تحوله للتشيع نوعاً من المعارضة الخفية والوقتية للنظام الذي عصف بحياته وكاد أن يفتك به.
استمرت لقاءاتنا شهوراً وامتدت لسنوات، عُرفت صداقتنا بين السجناء كعلاقة متميزة ويعتبرها كثيرون ناضجة. يُعرّف نفسه دائماً لي بالقول: "إني ماركسي،" عندما يلج لتحليل موضوع أو حدث سياسي أو اجتماعي ما، منطلقاً من مقدمات طبقية واقتصادية؛ يبرع باستنتاجات منطقية لمقدماته في ضوء اطلاعه الواسع على أدبيات الفكر اليساري، فضلاً عن إحاطته المذهلة بالأدبين العربي والعالمي. ينتقد دائماً نظام صدام ويعتبره نظاماً قَبلياً متخلفاً، ويمينياً واستبدادياً لا صلاح يرتجى منه إلا بالإطاحة به وتغييره جذرياً. يقيم مقارنات بين روعة النظام الاشتراكي في ألمانيا الشرقية، وبين النظام الأخرق في العراق الذي يدّعي الاشتراكية. وكيف أنّ الدولة الاشتراكية في ألمانيا تستوعب الطلبة الوافدين من جميع الدول المناهضة للإمبريالية وتجهد في تعليمهم؛ وتتعامل مع جميع القادمين سواءً من أفريقيا أو دول آسيا المتخلفة على قدم المساواة بإنسانية واحترام لآدميتهم.
يروي لي ونحن نتجول في الساحة عن كيفية تهذيب عادات الطلبة الأفغانيين على سبيل المثل عند وصولهم لألمانيا: "نعلمهم كيفية استعمال فرشاة الأسنان وطرق الاستحمام.". ويقول مشبهاً: "هؤلاء مثلهم مثل أن يأتي طالب من مدينة العمارة (سحك) فنبذل جهوداً مضنية كي نجعل منه شخصاً مقبولاً أمام زملائنا الأوروبيين." وكان يستعمل كلمة (السحك) ليعني بها غاية التخلف، كان يرددها كثيراً في أثناء أحاديثه معي. في بداية الأمر، ظننتُ أنه يقصد شخصاً معيناً أو عدة أشخاص من مدينة العمارة؛ ولم يدُر في خلدي قصده (بالسحك) شاملة لمدينة العمارة، ومن المحتمل إنه يتحفظ أمامي بوصف الناصرية كذلك.
هذه العبارة وغيرها مثل "لا نريد شخص يحكمنا أسمه عبد الحسين أو عبد الزهرة،" لم أفطن إليها ولم أفسرها في حينه تفسيرات ذات مضمون عدائي. فكنت أفسر نفوره من الأشخاص غير العصريين، ومن المتشددين الإسلاميين الذين يصفهم دائما "مخرفين"؛ بالذات عندما يعرض التلفزيون حكام أفغانستان بلحاهم وعمائمهم، يقوم برشقهم بسيل من عبارات التقزز، بكونه يسارياً وعلى قدر وافر من الاطلاع والتأليف والترجمة ويستقر في أوروبا، وكلفه بفيروز وترقرق الدموع في عينيه، عند استماعه للمطرب سعدي الحلي؛ وفي لحظة تأثر عاطفي أقسم مرة "والله لو أصير رئيس جمهورية يشرفني لو أكون كومبارس خلف سعدي الحلي."
في بداية عام 2000، حصل تقسيم جديد للسجناء على أساس الدعاوى الأمنية والسياسية، يُفصلْ بموجبه النزلاء في "الخاصّة." القسم الأول يكون للدعاوى السياسية والأحزاب والتجسس، والقسم الثاني دعاوى تسمّى "الأمنية،" مثل التستر أو التهجم. فنُقلتُ إلى القسم الأول ونُسبتُ بعد توسط من دكتور ضرغام إلى غرفته مع عدد من النزلاء الموجودين، نصفهم تقريباً من البصرة، وأيزديين وأكراد وتركمانيين، وآخر من الكوت، بسرير علوي يفقدني ميزة لقاء أهلي في المواجهة داخل الغرفة.
مع احتفاظي بإشاراته وإيماءاته التي تنطوي على التمييز الاجتماعي داخل نفسي، تريثتُ ولم أصدر عليه أي حكم بعد ولأجد مخرجاً أبرر فيه أحكامه وتصوراته المتعسفة عن الآخرين، ولا بأس أن أرجعها إلى: توالي السنين في السجن وغياب الأمل بالشمول بأي عفو يصدر من السلطة كونه مخفضاً من الإعدام، وغياب أسرته عنه في ألمانيا وإدراك ولَدَيه الشبابَ وهما بعيدان عنه. خيبات تجمعت لتهصر روحه وتعذبه. وتجعل من حزنه مرضاً، حاله حال جميع القدماء في الخاصة.
لكن مشاركته السكن في غرفة واحدة مدة ناهزت العام، كانت تجربة كافية تمنح ضماناً لنسف احتمال وجود أي عذر يسوغ أفعاله وتصرفاته المتحاملة ويبررها. كانت تجربة كافية لتكشف ما يضمره، وما يتظاهر لستر مطمورات تشوهاته النفسية. وتكشف الفرق بين الأمراض التي يُحدثها السجن، وبين الأمراض الأصلية.
الغالبية العظمى من السجناء في الخاصة هم معارضون للنظام، يحملون نقاءً وأملاً سياسياً بنشدان عالم جديد أو جنة على الأرض تعوض وتعيد لهم كرامتهم الإنسانية التي هدرها النظام. منهم من يعيش في وسطٍ تعرض لأبشع الجرائم ومورست ضدهم أبشع وسائل القتل الجماعي، وهؤلاء هم الكورد ومعاناتهم الطويلة على يد نظام أمعن في اضطهادهم وسلب استقرارهم وجودياً ونفسياً بحملات تطهير عرقية لطالما افتخر بمنحها ألقاب المغازي الدينية "الأنفال،" "وتوكلنا على الله" وكأنه يمنح صفة المشروعية على جرائمه الشوفينية. وليس التركمان أو باقي القوميات الأخرى المتوطنة في العراق بأقل نصيب من الكورد اضطهاداً.
وكأي بدائي موتور، لم ينسَ أن يوزع النظام التفاتاته على الباقين في أي مكانٍ من أرض العراق. سواءً أكان في العاصمة بغداد أو في الوسط أو في الجنوب. اتخذت معارضة النظام في كثير من مناطق العراق ومدنه صفة دينية، ومذهبية بحكم واقع مكانها الجغرافي وكرد فعل ضد سياسات النظام الطائفية. ففي مدن الجنوب تنشط أحزاب وحركات شيعية. ويتجه المحرومون البسطاء لاستمداد قوة ما في من هذه الأحزاب، بأمل تصحيح ظروفهم الاجتماعية واستعادة العدالة الغائبة. وبعد دخولهم السجن يتعرضون إلى قهر مضاف من يدي سجين آخر نظير للنظام مُراقب وقامع. يرى من وحي ما ترسخ في ذهنه بأنّ البشر في العراق مصنفون اجتماعياً كالتصنيف الهرمي في مملكة النحل. كل فريق يؤدي دوره الطبيعي، الذي أُسند إليه كمعطى نهائي داخل هذه المملكة، ولا يوجد تساهل في الطبيعة على ما فُطرت عليه تقسيماتها.
يعتقد الدكتور ضرغام جازماً من خلال أحاديثه وتصريحاته التي يكررها باستمرار "لا يمكن أن يحكمنا شخص اسمه عبد الحسين"، ويسهب بتعزيز ما يؤمن به، بسوق أدلة وبراهين بعيدة عن كل منطق وواقع، لا تفصح إلاّ عن شخص يوهم نفسه ويصر على إحياء هذه الأوهام، بوجه المنطق العلمي الذي يدعّي تبنيه وبتجرد من كل إنسانية.
أخذ لمدة طويلة، يفتتح الصباح بعد عودتنا من التعداد وتجمعنا على الفطور داخل الغرفة، بترديد ترنيمة بدون داعٍ لترديدها، وهو يكز على أسنانه: "عفّت نصرة من نيك البصرة،" على الرغم من وجود عشرة بَصْريين متربعين على أرض الغرفة يتناولون فطورهم، مكبّلين بالصمت، يتجاوزون هذه النكزات رفعةً وحياءً.
أحد البصريين لا يزوره أحد من أهله لفترات طويلة، بسبب فقرهم. اضطر لسد حاجاته للمال إلى العمل متعهداً لتبديل اسطوانات الغاز الفارغة لسجناء القسم، مقابل هامش مالي زهيد جداً. تسمح مديرية السجن العامة، للتخلص من أعباء تجهيز مقادير طعام لجميع السجناء دخول وكلاء الغاز خارج حدود الأقسام لمطابخ السجناء الخاصة، تحت متابعة الحراس ومراقبتهم. ويقوم سجناء مسجلون لديهم بتبديل الفارغة منها لأقسامهم. يعود عامل الغاز البصري إلى الغرفة يلهث من ثقل القناني، مطلياً بالغبار وبالصدأ للاستحمام ولكي يريح بدنه المنهك. دخول الحمام وحتى المرافق الصحية، يتم وفق العادة الدارجة في السجن حسب الدور والتسلسل المسجل بعبارة معروفة لدى السجناء "منو الأخير" "أنا بعدك" تسمح له جميعنا دخول الحمام للاستحمام بغض النظر عن الدور، وأحيانا يتنازل أحدنا عن دوره كدعم بسيط له، إلا دكتور ضرغام لا يسمح له مطلقاً دخول الحمام حتى يحين دوره. ويفتعل مشادةً معه في كل مرة ويعيبه قائلاً " أنت أفضل من الآخرين لتأخذ دورهم.." " أنت ليش جليل مروة". تكيّف المسكين مع الرفض الدائم من دكتور ضرغام، يرد عليه بالقول وهو يتصبب عرقاً " نعم ..نعم دكتور أخذ راحتك تفضل أنت أدخل الحمام وأنا أنتظر دوري". يغمزه أحدنا بعد ذلك ليحل مكانه، أو يتنازل له علناً. في عرف الدكتور ضرغام غير جائز التنازل عن الدور لعامل الغاز، يوجهنا بعد خروجه من الحمام وهو محتد "ما يصير...خلوه يدخل بسراه .." تدخلتُ مرة أنا بالقول: "هذا تعبان خطية من نقل القناني والصدأ وحر الصيف .." يرد عليّ " أحمد اتركنا من الطبقة العاملة ..هذا محتال لا يستحق الرحمة". لا أدري هل حقاً كان هذا البائس لا يستحق الرحمة، أم أنّ قلب الدكتور ضرغام كان فارغاً من الرحمة؟
أقول ذلك ليس استنتاجاً حسابياً أو منطقياً، بل عن واقع معاش، وبعد تراكمات كثيرة. يعرض التلفزيون الرسمي بين فترات أفلاماً وثائقية عن انتفاضة عام 91 وما رافقها من تداعيات مأساوية، وفي أحد هذه الأفلام يظهر دخول الحرس الجمهوري إلى مدينة النجف، وصوّر الفلم أطفالاً حديثي الولادة موتى في مهادهم في مستشفى الأطفال، ركزت إحدى اللقطات على طفل في القماط، ملقى على الأرض مزرق الوجه ومتورماً، أشحت بوجهي من قساوة المشهد، وظل هو يتابع المشاهد القاسية بدون تأثر ويطلق عبارات التشفي على هؤلاء الأطفال الموتى. بل كان سعيداً.
كان يختار ردوده حسب طبيعة المتحدث ليلجمه عن مواصلة الحديث. انتقدتُ مرةً شراهةَ وبخلَ سجين من الأنبار، كان مسجوناً بتهمة التجسس للكويت يدعى أبو هيثم، بعد أن لاحظ جميع السجناء أنه لم يُقدِم ولو مرة واحدة على مساعدة محتاج بكسرة خبز، رغم كميات الطعام الكبيرة التي يوفرها له أولاده وبناته وتفيض عن حاجته ويتسلل إليها العفن في ثلاجته، فيرميها في القمامة دون أن يفكر بتوزيعها على المحتاجين، فقلت: "هذا الرجل ما يفكر بالآخرين،" فانبرى لي الدكتور ضرغام من سائر الموجودين في الغرفة نظر إليّ شزرا وقال: "ماذا تريد منه...هل تريده أن يفكر بالصراع الطبقي". ففطنتُ إلى حقيقة أنّ الدكتور ضرغام لم يقبل أن ينتقد شخصٌ من الناصرية شخصاً أنباريًا، بل لا يحق لي التشكيك في مصداقية شركة أدوية أردنية استورد العراق منها أدوية تبين من مصادر رسمية في الصحة إنها غير فعالة. فرد عليّ بانفعال "لا ..لا كلامك غير دقيق شركات الأدوية في الدول العربية كلها معروفة بجودة صناعتها." فتدخل الموصلي أبو فواز الحديدي وهو معاون طبي خبير "لا دكتور، في ندوة أقامتها وزارة الصحة في التلفزيون قبل أيام انتقدت شركة الأدوية الأردنية هذه."
استمر في منعي وحتى إرباكي عندما أتكلم في أي موضوع آخر، سواءً عندما أشترك في تعليق أو ملاحظة ما، عن تقييم فلم سينمائي أو فعالية ما يعرضها التلفزيون، أكانت حدثاً سياسياً أو حدثاً عاماً بهدف إبراز شخصيته كمهيمن على الغرفة. مارس الطائفية عليّ وهو يعلم علم اليقين إني لم أكن صاحب توجهات دينية أو طائفية أو قومية، "أنت صاحب مُثل صالحة ومن الجيدين القلائل الذين تعرفنا عليهم في الخاصة" حسب إدلائه لي بهذا الكلام في مرات.
ومثلما شهر سيف الطائفية على كل جنوبي في الغرفة أو في القسم، شهر سيفاً آخر عنصرياً وقومياً ضد الأكراد، يتندر على قادتهم وعلى أحزابهم وعاداتهم، وكان يبعد عن النظام تهمة قصف حلبجة بالأسلحة الكيمياوية ويعتبرها غير مقصودة ويتهم إيران والأحزاب الكوردية باستغلال هذا الحدث وإظهاره كجريمة ضد الإنسانية. استعرتُ ديوان شعر من أحد أصدقائي الأكراد لشاعرهم الكبير عبد الله كوران، مترجم للعربية. وقف منتصف الغرفة يسألني: "ما الغاية من قراءتك لديوان هذا الشاعر؟" أجبته "لأتعرف إلى الشعر الكوردي...ويقال بأنّ عبد الله كوران شاعر جيد"، ابتسم بسخرية وعلق على كلامي " تافه وسطحي لا يستحق جهد مطالعة قصائده". دكتور ضرغام ما كان يقصد في هذه اللحظة نصحي أو توفير الجهد عليّ لقراءة كتاب تافه كما قال، بل أراد الانتقاص من الثقافة الكوردية ورموزها، أمام جمع من الأكراد، الذين أكتفوا بالصمت والحيرة.
والحدث الذي أثار كل حفائظه، وأطلق أنماط عدوانيته بكل سفور، وعقدة الشعور بالتهديد، يوم الحادي عشر من أيلول، يوم ضربتْ الطائرات المختطفة بُرجَي التجارة العالمية في نيويورك ومقتل الآلاف من الأبرياء. فهمَ على الفور طبيعة المرحلة المقبلة لتبني الفكر القومي العروبي نهج الجهاد الإسلامي بنكهة طائفية. تخلى عن كل ذخيرته المعرفية وزاده الثقافي وترك أصدقاءه غير الإسلاميين، وانضم إلى رهط الوهابيين الساكنين في غرفة 10، والتي تُعرف بين السجناء بقندهار. كانت هواجسه واضحة وفي محلها عن قرب تغيير النظام والإطاحة بصدام، يتسقط الأخبار من الراديو، عن بديل لصدام وكانت الإشاعات وقتها تشير إلى نزار الخزرجي كعسكري ومعارض. رحبَ هو بالفكرة برضا غامر؛ التضحية بصدام والاحتفاظ بنظامه.
غدا مجرد وجوده في الغرفة لا يُطاق، أعلن الحرب ضد الجميع مع نوبات انفعالية بلغ به الأمر إلى استعمال اللكمات من يده الثقيلة ضد من يدخل في مشادة معهم. قررت بعد تلبسه جنون الطائفية الهرب من الغرفة. انتقلت إلى غرفة أخرى بحجة شرائي لسرير أرضي يسمح لي بلقاء أهلي داخل الغرفة. بعد انتقالي تراجعت علاقتي معه إلى حد انعدام التحية، ولم يبالِ هو بذلك. وحتى خروجي من السجن بالعفو الأول لم أودعه وهو كان حاضراً من ضمن الحاضرين في الساحة العامة.
وربما يرد سؤال لماذا اخترت الحديث عن دكتور ضرغام وحده، جوابي: باعتباره أشهر المتعلّمين الطائفيين، ويصلح نموذجاً عاماً عنهم ومن أمثال الدكتور عبد الكريم هاني الذي لا يقل عنه سوءاً وحقداً طائفياً.
















19
السايكوباث السياسي والاجتماعي 3
الشوفينية القومية
من بين الذين استقبلونا، أول دخولنا الخاصة، شاب كوردي، مخفَّض من الإعدام، شيوعي ذو ملامح مشرقة، يحمل وعي وذكاء شخص متعلم، دعانا إلى وجبة عشاء سخية. أجابنا لأكثر من ساعة عن تفاصيل قضيته، إلقاء القبض عليه، والحكم عليه بالإعدام وتخفيضه إلى المؤبد. يذكر خلال وجوده في إحدى زنازين قاطع الإعدام، دخول قطة مستأنسة عليه، تحمل حول رقبتها، مسبحة منسوجة من خيوط البطانيات. هذه الطريقة بصنع المسابح كانت متداولة، يقوم بها كثيرون لشغل أنفسهم في التوقيف، ومن أجل التسبيح في الصلاة. نزعها من رقبتها، ولا زال يحتفظ بها كذكرى لأيام قاطع الإعدام العصيبة.
شعرتُ منذ أول لحظات إلقائه التحية علينا ومن نظراته إلينا، ومن ثم دعوتنا إلى وجبة العشاء، أنه كما لو كان مجبراً على دعوتنا، دفعاً لنقد الآخرين له في حالة عدم الترحيب ودعوة شيوعيين مثله. وكانت مجالسته لنا ثقيلةً عليه، وتجشم عناء مجالستنا والحديث معنا, والسبب هو لأننا عرب. أجوبته كانت معنا وجيزة وكان جلوسه معنا على مضض. ولم ينفتح في الحديث إلاّ عندما تطرق لمأساته في قاطع الإعدام. بعد مرور عدد من الأسابيع تجاهَلَنا تماماً، ونسي حتى أن يبادلنا التحيات خلال لحظات تصادفنا الكثيرة داخل القسم، واستمرت القطيعة والجفاء حتى خروجنا من السجن بعد أعوام.
بعد انقضاء الأشهر الأولى من وجودنا في "الخاصّة"، انكشفت أمامنا حقيقة عزل الأكراد القوميين لأنفسهم عن كلّ الناس، بكل جلاء. خبرنا هذه الحقيقية بالتجربة المُعاشة ولمسناها لمس اليد. غلّفوا أنفسهم بحجاب من العنصرية بوجه كل شخص غير كوردي، ولاسيما أعضاء الأحزاب القومية منهم. ولكن هناك النسبة الأكبر من الناس البسطاء والطيبين، تشيع منهم المجاملات اللطيفة، والصداقة المخلصة.
جميع الكورد يحملون الحساسية القومية بنسب متفاوتة؛ تتدرج من البسيطة إلى التعصب إلى درجة العنجهية. ردد بعض الأصدقاء الكورد من غير المتعصبين أمامي، مع علمهم ويقينهم بأنني لا أحمل أي أثر شوفيني أو ديني مهما كان لونه، نغمة انتشرت بعد فصل المدن الكوردية وخروجها عن سيطرة النظام في تسعينيات القرن الماضي، رددوا بأن القادة الكورد سيتعلمون فن الحكم في كوردستان كما تعلم الحكام العرب منذ ستين سنة. كانوا يوجهون كلامهم هذا لي كما لو أنني كنت قوميًا عروبياً أو حاملاً لأمراض قومية. وحتى الإسلاميين منهم، الذين يفترض أن يكونوا عابرين للتحزب القومي، يحملون أيضاً بدرجات متفاوتة هذا الفرز.
في البداية حملت في نفسي بعض الغيظ على هذا الشيوعي الكوردي لتجاهله لنا بهذه السرعة واعتبرت حينها مجافاته لنا لا مبرر لها، سوى إنها عنصرية مقيتة. في حديثي مع أحد أبناء دعوتي سألت مستفهما: "هل الشيوعي الروسي أو الفيتنامي أو من أي مكان آخر حول العالم، يبتعد عن الشيوعيين الآخرين على أساس قومي، أم إن الكورد يقدمون مشاعرهم القومية على كل شيء آخر؟" . اعتراضي يعود لما كنت أحمله لصورة الشيوعي المثالية في ذهني؛ الشخص الذي يرتفع على كل هوية ثانوية، ويقدم جوهره الإنساني أمام كل التصنيفات الجزئية، من نسب قومي أو ديني...، لكني بعد طول عِشرة ومصاحبة أصدقاء أكراد تبيّن لي أن تصوراتي مثالية محض، متخيلة من عالم مجرد قائم وجوده في الدراسات والبحوث النظرية، ولا يقترب كثيرا من الواقع.
هناك شعوب عاشت على الأرض تعرضت لاضطهاد وعسف، منقطع النظير؛ مثلما كاد الهنود الحمر أن ينمحوا من العالم، ومثلما تعرض الفلسطينيون إلى ما يشبه الإبادة الجماعية ومصادرة أرضهم، وكذلك ما حصل في أفريقيا من قتل جماعي ونهب ممنهج، وأمثلة غير ذلك لا حصر لها. تقطَّع الكورد وتوزعوا بين بلدان دون أي سيادة أو حتى إدارة ذاتية فعلية، إضافة إلى تعرضهم إلى الإبادة الجماعية والأسلحة الكيمياوية على يد النظام البعثي الشوفيني. هذا من المحتم خلَّف في نفوس الكورد نقمة ومرارة، والشعب الكوردي دفع ثمن مأساته مرتين؛ عندما ضُمّن وجوده على خريطة لم تكن من اختياره، كخرائط بلدان المنطقة المرسومة حسب متطلبات خارجية، وأن يحكم عليه بالتبعية وفقاً لهذه الخريطة وعدم المقاومة، واستغلال قياداته ومن صار رمزاً، لهذا الجور الثقيل، من أجل مكاسب سياسية، وتحقيق مغانم فئوية. وقع الشعب الكوردي بين شقي رحى النظام البعثي المجرم وممثليه وقادته الفاسدين.
الفرد الكوردي البسيط شاغله كإنسان أن يعيش بكرامة وأن يضمن معيشته وعائلته، ولا عداء له مع أحد. معظم الكورد في الخاصة كانوا من الناس البسطاء، وإن حملوا شيئا من الحساسية القومية؛ بشكلها المتسامح، يعود لما تركته المعاناة والأهوال التي تعرضوا لها، ولا شيء عدا ذلك. وهنا يكمن الفرق بين هؤلاء الناس البسطاء، وبين من منح نفسه من المتعصبين القوميين، حق تمثيل هؤلاء مستغلين أزمتهم لغايات شخصية مثل سالار وغيره، وفي طبيعة الحال لا تبتعد عن الغايات الفئوية، والتربح السياسي. وتعميق الأسافين التي دقها النظام البعثي للتفرقة بين البشر في العراق.
ينفتح البسطاء من الكورد، سواءً أكانوا مسلمين أو أيزيدين أو كاكائيين أو من القومية الجرجرية، مع الشيوعيين بقدر استثنائي عن سائر السجناء الآخرين مطمئنين إلى حياديتهم وعدم انحيازهم القومي أو الديني. أتلقى يومياً تحياتهم الحميمة "أهلا كاكا أحمد" ومنهم من كان يلفظها بلكنة شعبية " كاكا أحا"، مثلما يجعلون من أسم محمد (حما)، تعرفت لأول مرة الى طريقة لفظتهم الشعبية لاسمي.
والسخاء كصفة مغروسة في النفوس النقية، التي لم يلوثها جشع وحب الاستحواذ، كانت عندهم كأظهر ما تكون. أحد أصدقائي الكورد كان يصغرني بأكثر من عشر سنوات، يعاملني كأخيه الأكبر، اشتركنا معا في مائدة واحدة لمدة طويلة، لفتَ انتباهي انتهازه لأي فرصة لكي يهرع لمساعدتي، حتى في أبسط الأمور. وشكواه المتواصلة من الكورد المتسلطين، الذين حسب ما شرح لي: "يمارسون سلطة علينا، ويتحكمون بنا دون الإحساس بالمعوزين أو مساعدتهم" وسألني "هل صحيح كاكا احمد إن (سالار.. الشيوعي المخفض من الإعدام) قد عوقب بالفلقة أمام السجناء، وكسرو عصى الماسحة على أرجله" أجبته: "سمعت ذلك من السجناء وكان قبل دخولنا الخاصة". فهمت من سؤاله بأنه يرى سالار ليس أكثر من سجين يتعرض كالباقين للعقوبات والضرب، وليس القائد الذي لا يطال صورته أي خدش.
إن سالار مع إنه محسوب على الشيوعيين، مثال للمتعصب المأزوم. يحمل جيشانه القومي في كل لحظه من حياته، ويظهر على شكل غليان متواصل حتى دان جميع الكورد له بالخضوع والانقياد. ينفر من سجين كوردي لأن أباه يعمل مذيعاً في محطة تلفزيونية باللغة الكوردية تابعة للحكومة، ومن صديقي الأديب (جلال جرمكا) لأنه هو وزوجته كانا قريبين من السلطة بحكم عملهما في بغداد. في إثناء أحدى المواجهات حصلت بينهم حركة غير معتادة، أسرعوا جميعهم إلى تبديل ملابسهم إلى الزي الكوردي، لفت انتباهي التغير المفاجئ هذا وسألت صديقي رائد قارد عن السبب. أجابني " توجيه من سالار لأننا سمعنا عن مسؤول من الأمم المتحدة، يقصد زيارة ’الخاصّة‘، ارتدينا الزي الكوردي لكي يعرف بوجود أكراد موجودين هنا.." وهذا الزائر المزعوم لم يصل للخاصة هذا اليوم.
لمناسبة نوروز وقع خاص عند الكورد. فهو عيد الربيع تحتفل شعوب كثيرة لإحيائه منذ آلاف السنين، وهو بالنسبة إليهم يوم قومي. يتمسكون كثيراً بإحيائه باحتفال كبير وكثير من الطقوس. يستعدون بدايةً بأخذ الموافقات الرسمية من دائرة السجن للاحتفال، ثم يهيئون كامل متطلبات الاحتفال الكبير: تحضير مائدة استثنائية يزينونها بمختلف الحلوى والفاكهة والشموع، والظهور بأبهى الأزياء من ملابس عصرية وكوردية تقليدية، ورقصة الدبكة المميزة ولكن بلا نساء، ولا يمانعون مشاركتهم من آخرين متعاطفين ومعجبين برقصهم واحتفالهم. يستمر الاحتفال حتى الليل، وتُقدم لهم التهاني والتبريكات من الجميع، باستثناء الوهابيين والقوميين العروبيين الغلاة. الأولون يتحفظون على هذا العيد كونه عيداً زرادشتياً حسب ادعائهم وينطوي على طقوس عبادة النار، فلقد سرّني أحد الوهابيين قائلا: "أترى الشيعة كيف يعظمون هذا اليوم مع الكورد ويهنئونهم، لأنه عيد إيراني بالأصل ومجوسي،" وأضاف: "إننا كمسلمين محرم علينا الاحتفال به ولذا لا نهنئهم ولا نعايدهم". أما القوميون العروبيون لا يعيرون اهتماماً له كونه مناسبة خاصة بالفرس والكورد، ولا يمت بصلة لتقاليد الأمة العربية!!. وكان بعضهم يتعمد الإساءة لهم ولمناسبتهم هذه ويزدريها علناً.
خلال إقامتي في إحدى الغرف كانت التشكيلة مؤلفة من غالبية كوردية وتركماني وشيعة وسنة وأحد أبرز القوميين العرب في الخاصة وكان طائفياً أيضاً، واصل يومه بملابسه الداخلية وسط احتفالهم بالغرفة يتندر عليهم ويضحك ضحكات مفتعلة. يضطرون إلى تجنبه وتجاهله لإدراكهم لحقيقته العنصرية تجاههم، والابتعاد عن الاصطدام به تحسبا من علاقته الوثيقة مع الدائرة. بعد فترة أكثر من شهر صادف انصرام شهر رمضان، وحلول العيد. وهذه المناسبة يحييها الجميع كتقليد ديني واجتماعي؛ وكالعادة في حسابات الفرق التقليدي بين توقيت ما درج على تسميته (عيد الحكومة) يحيونه السُّنّة ويأتي إذن رجال الدين الشيعة بالعيد بعد عيد الحكومة بيوم وأحيانا بيومين. بعد صلاة العيد الرسمي صباحاً، انطلق جميع من في الخاصة يهنئون بعضهم باستثناء الشيعة المتشددين. دخل أحد الوهابيين الكورد إلى غرفة سالار ليهنئ الموجودين بالعيد وعندما مد يده ليهنئه لم يقدم سالار له يده معتذراً له بالقول " اليوم ليس عيدنا...عيدنا غداً" اقتصاصاً منه لرفضه الاحتفال بنوروز واعتباره من تقاليد الشرك وعبادة النار.
بسبب الازدحام واختلاف الثقافات، والمستوى التعليمي تحصل دائما احتكاكات بين السجناء؛ كثير منها لأسباب تافهة. وتتطور أحيانا إلى تحشيد مناطقي مثل ما حصل مرة في مشاجرة بين اثنين، أحدهما كان من مدينة الثورة، وكان والآخر من البصرة. شتم الأول غريمَه البصري بكلام فاحش عنه شخصياً وعن مدينته، ثار البصري وهتف بأعلى صوت منادياً: "وينكم أهل البصرة ... هذا مهدي يشتمني ويشتم البصرة" تجمع نفر من سوقيي البصرة حوله وكادت أن تحصل موقعة لولا تدخل عدد كبير من البَصْريين وأهل الثورة ومراقب القسم (أسعد العيداني محافظ البصرة حالياً)، حسموا الموقف بالاعتذار وتراضي الطرفين. لا يُكتفى في أحيان كثيرة عند المواجهات والشجار بين طرفين ينتميان إلى مناطق أو مدن مختلفة، شتم الند شخصياً بل يشمل مدينته ومنطقته وحتى انتماءاته.
مثل هذا الحادث حصل مرات كثيرة ولم يتحول إلى معمعة واشتباكات واسعة، كما يحصل في باقي أقسام سجن "أبو غريب،" فيصل الأمر هناك حد وضوع ضحايا. يركن سجناء الخاصة في غالبيتهم الى التعقل وتجنب إثارة النعرات بين الجماعات وحصرها بين مثيريها الأفراد، إلاّ مرة واحدة هاجم مجموعة من الكورد أحد السجناء من الموصل، وكان هذا الأخير مصاباً بانفصام الشخصية ومنتسباً سابق للأمن الخاص، وكان أهل الموصل يعرفونه قاتلاً محترفاً. هاجم "جلال جرمكا" وهو مستلق في قيلولة بسكين فشطب وجهه وكاد أن يفقأ عينه، لولا تدخل أعضاء الغرفة وإبعاده عنه. كان هجومه بدافع هلوسة يمر بها دوريا؛ يختار ضحاياه بلا تمييز ودون إدراك، ينزل بهم أقسى الضربات. بعد انتشار خبر إصابة جلال إصابة بالغة وآثار الضماد على رأسه ووجهه، اجتمع نفر من الكورد ضده، صمم أحدهم إنزال عقاب مماثل به بشفرةٍ أصابه بقفاه إصابةً أبلغ من إصابة جلال. هذه المرة الوحيدة التي اجتمع فيها الكورد ضد خصم وقرروا تحديه ومواجهته بالمثل.
تبرز الجماعات في الخاصّة بمختلف المظاهر؛ من التشدد والانغلاق المذهبي، أو العزل والتماسك القومي، أو التقرب من أفراد الدائرة المسؤولة عن السجن واعتبار أنفسهم امتداداً للسلطة. لم يكن الأنباريون يتصرفون كسجناء مثل باقي السجناء في الخاصة حَكمَ عليهم النظام كأصحاب دعاوى معارضة له. كانوا يتصرفون كسلطة ويترفعون على جميع الموجودين، هم والأفراد القليلون من تكريت وبعض الموصليين، وكذلك الضباط من مختلف القوى سواءً من الجيش أو الشرطة أو الأمن، ومن أية مدينة أو منطقة كانت، لشعورهم بأنّهم جزء من السلطة. تؤكد ملاحظة وتجارب السجناء حقيقة أنّ غالبية الأنباريين يمكن أن يكونوا متعاونين أمنياً مع "الدائرة،" أو ما يطلق عليه (وكيل). وإن لم يكن قد تعاون فعلاً، أو ارتبط بطريقة ما مع دائرة الأمن، فإنّ تصوره بأنّه ممثل للسلطة التي يجب على الآخرين الخضوع إليها يدفعه لأن يجعل من نفسه محافظاً على الأمن. (صارم) أحد أعضاء جماعة عبد الجبار الكبيسي البعثي المنشق، والمقيم في سوريا. دخل إلى العراق من الجهة السورية، أواسط الثمانينيات بشاحنة مملوءة بعبوات متفجرة؛ لتفجيرها في بغداد. ضبطتْ شاحنته عند صحراء الرمادي وأُلقي القبض عليه، وهذا الحادث عرضه التلفزيون الرسمي في أخبار الثامنة مساءً، وأنا كاتب السطور الآن قد شاهدت الخبر والشاحنة حينذاك. سيق صارم إلى الإعدام عقاباً على فعلته، ولعل الأمر المستغرب حقاً تخفيضه الى المؤبد؛ استجابةً لتدخل كبار شيوخ عشائر الأنبار وتوسطهم عند صدام حسين. يتصرف "صارم" بإحنة طائفية جاعلاً من نفسه رقيباً ومبلّغا عن أي شكوك أمنية تراوده. أعلن عن عدائه الصريح لكل الموجودين في "الخاصّة" وأخذ على عاتقه مرة من المرات القيام بحملة تأديبية ضد جماعة شيعية أثارت حفيظته لسبب خاص به باللكمات والضرب. لم يراعِ حتى تقدم سن أحدهم. تعرض في النهاية إلى قبضة شديدة من محترف كلفته غالياً، تدخلت إثرها الدائرة. جمعونا في الساحة وحقق رائد اسماعيل في المسألة المتنازع عليها، شرح صارم ببلاهة: "سيدي: هؤلاء عندهم تنظيم.. وهذا ال.. أخوه قاتل ضابط بالمخابرات"، ولكن "صارم" نسي شاحنته المليئة بالمتفجرات. عوقب بالفلقة أمام الجميع حتى أغمي عليه وتركه رائد اسماعيل والضباط الآخرون وباقي السجناء مسجى تحت الشمس لوحده يئن.
يسكن الكثير منهم الشعور بالقلق، أو ما يعرف بهاجس الغربة، لإحساسهم من خطر خارجي يمكن أن يداهمهم بكل لحظة. هذه المشاعر غير السوية أبعدتهم عن محيطهم وجعلت منهم مستنفرين وعدائيين، وتحول عدد منهم إلى إرهابيين داعشيين بعد تغيير النظام. (عابر مخلف) مخفض من الإعدام للاشتباه بتعاونه مع السلطات السورية، لم يكن حاملاً أو مقتنعاً بأي مبدأ أو عقيدة ما تحمله إلى الهروب الى سوريا. كان هروبه حسب بعض معارفه على إثر أزمة عائلية حادة، طرده أبوه من المنزل بعد قيامه بالتحرش بزوجة أبيه الشابة، لم يستطع بعدها البقاء في المدينة واتجه الى سوريا. الضغينة لكل شخص من حوله مضمرة داخل نفسه، تنفجر كراهيته مع أقرب الناس اليه لأتفه الأسباب؛ على شكل تقارير أمنية ملفقة. تقاريره الأمنية لم يسلم منها أي شخص تقرب يوماً ما منه، وحتى البعيدين منه لم يسلموا من شراره. تقاريره أتقن صياغتها صياغة مهلكة، يفرغ فيها شحنات حنقه وضغينته. السجناء القدماء مطلعون على سيرته وتصرفاته، يتحاشونه بالمجاملات المحدودة. أول أشهر السجن تقرب إلينا ونحن لما نزل بعد حديثي الاطلاع والخبرة بالسجن وشخصياته. حذرنا صديقنا وشريك غرفتنا (أبو أبراهيم) منه، في حديث جانبي قال لي: " انتظر وسترى كيف راح يكتب عليكم". أنا شخصيا لم أتوقع أن يصل شخصٌ إلى الدرك الأسفل. كتب علي تقريراً مدعيا بأني لم أنقطع عن علاقتي بالحزب ويزورني دائما ممثلون عنه بالمواجهات الدورية، وإن ثلاجتي حكر لأهل الناصرية والثورة، لأنّه اغتاظ مني عندما اعتذرت له بأن لا مكان فارغاً في الثلاجة لأطعمته. بعد المواجهة، استدعاني ضابط الأمن (نقيب ناجي) وحقق معي متسائلاً من كان زوارك اليوم، أجبته "أولاد أختي من بعقوبة" رد عليّ: "يعني ما كانوا شيوعيين" قلت له: لا أبداً وأنتم بالدائرة تعرفون كل الزائرين وأسماؤهم مسجلة وقرابتهم لكل سجين" صمت لحظة وسألني: "ثلاجتك لماذا تحتكرها لأهل الناصرية فقط وأهل الثورة؟" أجبته: "إليك أنت أن تذهب للمراقب لينادي على كل من له كيس أو قدر في الثلاجة، لتعرف إني لا احتكرها ومفتوحة للجميع". بعدها حذرني من العواقب الوخيمة فيما إذا اتصلت "بالشيوعيين"، ونصحني "افتح ثلاجتك للناس ولا توقفها على ناس معينين، أفضل". وأمر مفوض (سعد) بإيداعي المحجر ليلةً كانت غاية في السوء.
كان المحجر مغلقاً تماما لا يتسرب اليه إلا ضوء واهن من شقوق صفائح (الجينكو)، ولا هواء ولا فراش، ولا تواليت. ظهر اليوم التالي أفرج عني وعدت إلى القسم مصاباً بالدوار والوهن الشديد، بسبب السهر وكثرة التعرق، شعرت بأنّ جسمي فقد كل سوائله؛ لم أتوقف عن شرب الماء لمدة أربعة أيام متتالية. بعد مرور يوم واحد تقابلنا أنا و "عابر مخلف" عند زاوية درج الطابق الثاني، بانتْ مني نظرة حادة دون قصد فأشاح بوجهه عني إلى الحائط ولم يكلمني، إلا بعد المواجهة التالية جاء مسرعاً وجلس على سريري يسألني "هؤلاء زوارك شيوعيين؟" أجبته " هؤلاء كانوا أخي واولاده" خرج من غرفتي غير مرحب به، وانقطعت علاقتي به إلى اليوم.
عند (حسيب) المسيحي الوافد إلى "أبو غريب" من مدينة الموصل المحكوم مؤبد بتهمة تجسس لصالح سوريا، عقدة الاضطهاد الديني المسيحي. كانت يستشعر هذه المعاناة كل حين ومن ردود أفعال تصدر منه تكاد تأخذ بصوابه واتزانه. أغلب شكواه من انتهاكات متخيلة، أو مبالغ فيها. كان يؤمن بقناعة لا تتزعزع، بأنّ العالم غير المسيحي وغير الأوروبي وتحديداً غير الأمريكي، عبارة عن مجتمعات وحشية، وهمجية، ويصنفهم تصنيفات نازية خالية من كل رحمة. حتى المجتمع الذي يعيش فيه، كان يعدّه مجتمعاً لا يرتجى منه خيراً، ولا صلاح له إلا أن تضع أمريكا يدها عليه وتعيد برمجته من جديد، ليتوافق مع المستوى الحضاري الذي يتمتع به الغربيون والمسيحيون. هذا الاعتقاد القاطع الذي ستحوذ عليه ليل نهار كرره بانفعال مع كل شخص يطمئن إليه. ردد معي كثيراً من المرات: "نحن ننتظر مجيء الآثوريين المقيمين في أمريكا، يبلغ عددهم مائة الف آثوري وبينهم طيارون في الجيش الامريكي"، هذه الجملة أسمعها منه في كل حديث بيننا طيلة فترة وجودي بالسجن. كان ينتظر فتح العراق بحملة آثورية أمريكية لإعادة إنسانية ودور العراق الحضاري القديم. عرض تلفزيون بغداد في أحد برامجه تقريراً من إنتاج أوروبي، يتحدث عن وحشية الحملات الصليبية في الشام، من مذابح ونهب وكيف طبخوا الكبار في القدور وشووا الأطفال على الأسياخ. نادى الكثير من المتفرجين، عليه "تعال شوف هذا التقرير" وتطوع أحد القدماء يدعى (صفوك) شاب مهذب ومتعلم بأن يأتي بحسيب من يده وأجبره ليتابع حقيقة الحملات الصليبية ومن لسان المؤرخين والمنتجين الأوروبيين، في تقريرهم وشرحهم. تضايق وانسحب غاضاً بصره عن الجميع، عائداً إلى غرفته دون أن ينبس ببنت شفة. التقيته في اليوم التالي وشرح لي بأن مثل هذه التقارير لا صحة لها وممكن أن تكون موضوعة، تهدف إلى تشويه تعاليم المسيحية. سكتُ أنا تماماً لأني أعرف يقينا بأنه مَوتور ولا يدخل إصلاح على قناعاته.
كان يضحك إلى حد الإنهاك على أخبار الهزائم التي تعرضت لها طالبان على يد الأمريكان، وضحكته العصبية هذه يطلقها لمجرد سماعه أي نكتة عن بدوي أو إعرابي مما يتداوله الناس في المجتمع العراقي، ولكنها بالنسبة لحسيب هذه ليست نكات أو مفارقات بل هذا هو مستوى المجتمع.
همدت غلواؤه كلياً ليلة مشاهدتنا لحفلة غنائية مشتركة على تلفزيون الشباب للمطربة غزلان مع سعدي الحلي، وخصوصاً مع المقطع القائل "ولك عمري أنقضا شمعة بأثر شمعة.." لاحظته من طرف عيني يردد بتأثر هذا المقطع. في اليوم التالي سألته: "عجبتك حفلة أمس،" رد بنفس التأثر: "والله أحمد لم أنم ليلة أمس،" وسألني: "هذه المطربة بصرية،" وأردف قائلاً: "فعلاً أعمارنا أنقضت شمعة بأثر شمعة". وقد أمضى بالسجن حينها اثني عشر عاماً.
كان هناك مسيحيون آخرون في "الخاصّة،" يحملون نفس تصوراته عن المجتمع الذي يعيشون فيه، ولكنهم بخلافه متزنون ولا يبيحون بأفكارهم لأيٍ كان. عبّر عدد منهم في أثناء أحاديثهم معي عن تصوراتهم المسبقة عن تخلف وهمجية المجتمع العراقي من عربه وأكراده وسنَّته وشيعته، وباقي الديانات والطوائف الأخرى.
الحقيقية الملموسة في الخاصة هي أنَّ معظم جمهور السّجناء تنطوي نفوسهم على عقد متأصلة، جذورها مصنوعة عَبر تاريخ سياسي بعيد وحديث. عملتْ على تشييئ البشر في العراق، إلى مستعمرات بشرية، لا لقاء بينها سوى الانتماء الاسمي. غذّت الأنظمةُ الحاكمةُ التباعدَ والتفرقةَ بأكثر الوسائل خسةً ووحشيةً لغايات سياسية بهدف السيطرة وفرض النظام الذي تحتاجه. وتركت في النفوس أوجاعاً راكدة، تتنفس وتتحرر في ردود أفعال وأفكار مريضة. ينطبق ذلك كقاعدة عامة على الموجودين في الخاصة من إسلاميين سنّة أو شيعة، عروبيين، أو كورد أو تركمان او أيزيديين وصابئة ومسيحيين، وغير الأديان والقوميات الاخرى. حرب وحقد الجميع ضد الجميع، ولا وجود لأحد تجاوز هويته الجزئية والثانوية وشخَصَ بهويته ومحتواه الإنساني أمام النظام والسلطة التي أرادت وعملت التفرقة والكراهية، لتسعد بمغنم الحكم لأكثر وقت، وتترك البشر في العراق حطاماً في فخ نزعات التوزع والتفرقة.










20
الخروج من السجن

لا يتحمّل السجين السياسي وحده عذاب السجن، فالسجن عذاب متواصل أيضا لذويه وأصدقائه ومعارفه. يبدأ من الصدمة الأولى لخبر الاعتقال، إلى مسلسل البحث والتقصي المكتنفة بالمخاطر الأمنية، وأشدها تحميل الأهل والأصدقاء أوزار السجين نفسه.
منذ الأيام الأولى لاعتقالي هبَّ إخوتي وبعض المعارض والأصدقاء لنجدتي، أو كانوا يظنون أنّهم قادرون على "نجدتي." أصيب جميع أفراد عائلتي بصدمة وحزن شديدين، وكانوا يتوقعون الأسوأ: الإعدام. فكان جواب أحد معارف إخوتي أن الوقت لم يسعفه، فلقد حولت قضيتنا ونحن معها إلى بغداد. واكتشف بعضهم عجزه عن المواصلة في طرق أبواب المعنيين والمسؤولين خشيةً على أنفسهم، فقضايا مثل هذه قد تجلب حتى على غير المتهمين شبهات هم في غنى عنه.
إن ما كان يُعرف بالملف الأمني للدولة العراقية في جميع المؤسسات والدوائر الامنية على الإطلاق؛ كان تحت إشراف صدام شخصياً، لا يسمح لأي شخص في الحكومة أو من قيادات حزب البعث التدخل فيه بتاتاً وفق قرار صدر من "مجلس قيادة الثورة" أو ضمن المفاهيم الضمنية لإدارة الدولة، وهذا إجراء عُمل به منذ زمن استيلاء البعث على السلطة في العراق.
جميع الذين قصدهم إخوتي عجزوا بطبيعة الحال عن التدخل أو التوسط في قضيتي، وكل ما أمكن الحصول عليه ليس سوى أخبار مشتتة، لا تروي ظمأ، وغالباً ما تكون ملفقة أو كاذبة، إما لمجاملات اجتماعية، أو لمنافع مالية. وسط الدوامة المضنية التي استغرقت من جميع أهلي أشهراً عديدة، جاء خبر عبر أثير الهاتف من زوجة صديقي (جلال جرمكا) يطمئنهم بأني موجود في "أبو غريب" وقد حُكم عليّ بعشرة أعوام.
في ظهيرة يوم السادس من آب، عام 2002، تركت غرفتي من أجل تحضير وجبة الغداء، في الساحة الجانبية للقسم مع عدد من السجناء. أقبل علينا أحد السجناء بخطى واسعة، ودون أن يلقي التحية هتف: "هل سمعتم؟ أذاعت الحكومة في التلفزيون عفواً عن السجناء السياسيين". شملنا خرسٌ دام لحظات فلم نملك أي رد سوى النظر إلى بعضنا وإليه، تمعنتُ أنا في وجهه لحظة وسألته: "صحيح؟" أجاب وهو مضطرب " نعم.. أين كنتم ..سمعت الخبر أنا شخصياً من التلفزيون في القسم الأول،" وتركنا ومضى إلى داخل القسم.
أطفأتُ موقد الغاز وأسرعت لتلفزيوني في الغرفة لكي أتيقن من الخبر، دخلتُ الغرفةَ مُغيراً، ولأول مرة أدخلها في أثناء تأدية أعضاء الغرفة للصلاة، مشيت لأصل سريري على رؤوس أصابعي فوق سجادات الصلاة. قفزت إلى السرير وشغلتُ التلفزيون وسط استغراب أعضاء الغرفة من تصرفي غير المعتاد هذا معهم أثناء صلاتهم. أخذتُ أقلّب القنوات لعل الخبر يعاد وأتحقق من صحته، دون أن التفت إلى المصلين. انتهى عدد منهم من الصلاة وسألوني باستغراب "شكو بالتلفزيون أحمد؟" قلت لهم "يقال إن الحكومة أصدرت عفواً عن السجناء السياسيين،" بُهروا جميعهم وبكلمة واحدة استفهموا " ماذا.. ماذا؟"
الأخبار التي نسمعها من أجهزة الراديو المخبأة عند السجناء، ومن أهلنا والأحاديث الكثيرة حول الوضع السياسي في العراق، كانت تشير إلى قرب حدوث تغيير. لكنّنا لم نتوقع صدور عفو عن السجناء السياسيين بهذه السرعة وبهذه الكيفية. فوجئنا دفعة واحدة منه كقرار سياسي عاجل ولنيل حريتنا التي طال انتظارها.
بعد انتهاء الصلاة، وعودة القسم إلى حركته المعتادة، إضافة إلى انتشار خبر العفو، حصلت جلبة أقرب إلى الضجيج والتوتر بين جميع السجناء، للتأكد من صحة الخبر رغم سماع الكثيرين منّا الخبر من التلفزيون. أخذ الذين سمعوا الخبر يشرحون تفاصيله: "عفو يشمل كل من أمضى 20% من محكوميته ولا يشمل التجسس والمخفضين من الإعدام ووو".
وفقاً لهذا القرار سأكون من المشمولين بهذا العفو، فقد أمضيت سبع سنوات من أصل عشرة من محكوميتي. تلهفت إلى سماعه مجدداً من التلفزيون أو من أي مصدر إعلامي آخر، ليثبت لي يقيناً إني سوف أتمتع بالحرية قريباً وأخرج من السجن. وحتى موعد النشرة الأخبارية القادمة ظل يغلي السجن على نار الانتظار. وبين المتفائلين وبين بعض غير المشمولين اليائسين من العفو، انفتحت نوافذ وأبواب واسعة من الأحاديث والتحليلات والآراء غير المألوفة، لكنها تتجه في اتجاه واحد لا غير: الحرية التي بان جزء منها من بعيد، من بين ضباب السنين المتراكم، والأمل الذي وثب شاخصاً فجأة بعد أن كان ساكناً في النفوس. وكثيرون منّا يرى بأن يوم مجيئه حتمي والمسألة مسألة انتظار. أيَّدَ أصحاب أجهزو الراديو صحة الخبر، وأعيد إعلانه مجدداً في أخبار عصر نفس اليوم مع سرد تفاصيله؛ التي أسعدت كثيرين، وأشقت آخرين، سواءً أكانوا في قسم الأحكام الخاصة، أو في باقي الأقسام التي يتألف منها "أبو غريب" عموماً، فثمة عدد كبير من السجناء في "الخاصّة،" لن يشملهم العفو.
في الزيارة التالية على إعلان العفو، تدفق الزائرون علينا فرحين ومهنئين، ومؤكدين إطلاق سراحنا القريب. روى لي أخي الحاج وهاب مجيء منتسب من مديرية أمن الناصرية لمحله، وطرح بعض الأسئلة الروتينية عليه بحضور إخوتي الآخرين، ومن أسئلته: "أنتم عائلة السجين أحمد عبد الستار" أجابوه "نعم" وكرر أكثر من مرة عليهم سؤالاً آخر: "هل أنتم شيوعيون كذلك مثله." شرح له الحاج وهاب قائلاً: "أنتم تعرفوننا جيداً، لأنكم كجهة أمنية لابد من أنكم استقصيتم عنا طيلة سنوات مكوث أخينا في بالسجن،" "نحن لسنا شيوعيين قطعاً". فضحك... وأتحفوه بهدية بسيطة وغادر. مجيء هذا المبعوث الحكومي حسم كثيراً من الجدل والظنون حول صحة العفو وشمولي به. لو لم يكن هناك عفو بالحقيقة ولو لم يشملني لما جاء هذا المبعوث الأمني وحقق مع عائلتي.
لم يُحدد يوم إطلاق السراح، وهذا الأجل غير المسمى قد تُرك للتكهنات والنقاشات المحتدمة ليل نهار، ليضيف مع كل يوم جديد مزيداً من الشعور بالضيق والجزع. أصبح كل شيء في الخاصة غير محتمل، ويدعو للنفور كمكان غريب؛ العيش فيه قسري ومع كثير من الناس الذين يصعب حتى مجرد إلقاء التحية العادية عليهم في الحياة العامة، وليس العيش معهم ليل نهار طيلة سنوات مديدة، ومع وجود طاقم ضباط الأمن والحراس المكروهين كراهية النظام نفسه والعاكسين لوجهه القبيح.
انتاب المستثنين من العفو، وخصوصاً القدماء، إحباط فتّر همتهم، نتيجة فقدانهم الثقة بما جرى، وانكفأوا داخل أرواحهم الجريحة. اكتفى عدد منهم بمباركتنا والتمني لنا بالتنعم بالحرية، وأفراد منهم رغم محاولاتهم الظهور بمظهر الثابت العزيمة، إلاّ أن شحنات التوتر والغضب تشي بأصحابها. ومنهم من تكلم بدعابة: "اطلعوا خلصونا حتى يفرغ القسم ونرتاح من الازدحام...". لكننا؛ المشمولين بالعفو أو غير المشمولين ما كنّا سعداء مطلقاً بهذه الاستثناءات التي تحرم الكثيرين من الحرية، وكنا نود أن يطلق سراح الجميع.
سيطر مع مشاعر الجزع، الشعور بالقلق والخوف من احتمال تراجع السلطة عن قرارها بافتعال شتى الألاعيب، وأساليبها المنحرفة المعهودة. أحد السجناء الكورد، وكان آخر من علَّمتُهم القراءةَ والكتابة، كان مجتهداً ويحب التعلم نلتقي يومياً لندرس الألف باء وخطى خطوات جيدة بالتعلم. بعد إعلان العفو شعر بأني متوتر ونفسياً غير مهيأ للاستمرار بالدرس قال ليخفف عنّي: "كاكا أحمد... هل توقفت عقارب الساعة" بهذه العبارة البسيطة والدارجة وعلى الأرجح إنه قد سمعها من آخرين؛ قد لخص ما نمر به من ضغط نفسي وانتظار مفرط يوشك أن يؤدي بنا إلى حد الاضطراب.
امتدت الفترة بين إعلان العفو ويوم إبلاغنا بالتهيؤ لإطلاق السراح خمسة وخمسين يوماً. في صباح التاسع والعشرين من شهر أيلول أبلغنا "أبو رازق" عبر مكبرات الصوت، التي دوّت معلنةً عن أسمائنا مع "استصحابكم للمستمسكات الاصلية،" و"التهيؤ في الساحة الجانبية من القسمين الأول والثاني." فاجأنا هذا الإعلان وأربكنا، وقد حصلت موجة من التدافع والدربكة بين جميع السجناء، لأننا رغم انتظارنا وتوقعنا هذا اليوم إلاّ أنّه جاء هذا الصبح على حين غرة.
هاجمني المئات من المودّعين على عجل، استحال العناق والوداع الى ما يشبه زفة العرس أو المناسبات الدينية في الهند؛ ازدحام جعلني لا أركز على من يودعني ومن أعانقه، اختلط الكلام عليّ بين الوداع والتهاني والوصايا؛ وردودي كانت أقرب إلى الثرثرة. بعد ساعة تقريباً هدأت وودعت الأصدقاء وقمت بجولة على بعض كبار السن والمرضى أودعهم. غمرتني وأنا أودعهم لذعة عاطفية شعرت بها بين جوانحي لأول مرة بهذه القوة، وشفقة على الذين تجاوزهم كل عفو يصدر، تمنيت لهم من صميم قلبي وأنا أصافحهم بإطلاق سراح قريب يشملهم ويفتح عليهم أبواب الحرية.
وكيف سأوزع، وماذا سأفعل بالأفرشة وأدوات ومعدات الطبخ والصحون وقنينة الغاز، والأدوات الشخصية، وأنتهي من كل متعلقات المعيشة في حياة السجن على عجل وأنجو بلحمي ودمي. ثلاجتي قد بعتها منذ شهر تقريبا للسيد محمد طبطبائي ب 230 الف دينار، رغب فيها وتوسط بعملية الشراء سيد عماد الجابري، وأمنت تلفزيوني عند صديقي سلام مدلول، الصابئي المولود في الناصرية ويقيم في كركوك. ووزعت جميع ما بحوزتي من متعلقات أخرى بين السجناء من المحتاجين ومن الجدد. وخرجت للساحة أنتظر مع مجموع المطلق سراحهم بحقيبة يد صغيرة شبه فارغة.
انتظرنا حتى الظهر دونما نتيجة، استدعانا بعض الأصدقاء لتناول الغداء وتغديت دون شهية. جاء نداءٌ آخر عصراً بالخروج للممر والوقوف بطابور انتظاراً لدعوة أسمائنا حسب نظام خاص بهم. حركة ضباط القسم وآخرين غرباء، منهم بالزي العسكري وبالمدني، السريعة والمنفعلة تدل على وجود أمر شديد الأهمية، لابد من تنفيذه. مع أولى بدايات الغروب وحلول المساء، بدأ عدد من المساجين الدخول إلى الدائرة بصحبة ضابط ومنتسبين، ساد صمت مطبق بيننا وهدوء، وأنظارنا ترنو تجاه غرفة صغيرة من غرف الدائرة يدخلها السجناء ولم يعودوا. هذه دلائل على خروج السجناء من "الخاصّة" إلى فضاء العالم الخارجي.
يتقدم الطابور بخطوات وئيدة لكنها ثابتة، ولم يخفِّف عنّا في هذه الساعات الحرجة والثقيلة سوى تعليقات أصدقائنا الباقين من داخل الأقسام، ومناولتنا بعض كؤوس الماء البارد، من بين فراغات جدران البلوك العازلة بين الأقسام والممر. استمر الطابور بالسير باتجاه الغرفة الصغيرة، وصل دوري ما يقارب الساعة العاشرة مساءً. دخلنا الغرفة ووجدنا ثلاثة منتسبين بزي مدني، كل فرد منهم منهمك إلى حد الإجهاد بالعمل على حاسبة يسأل الداخل إليه للتحقق من اسمه وتطابق أوراقه الثبوتية مع شيء موجود في الحاسبة، سألني أحدهم عن اسمي الرباعي واسم أمي وزوجتي، وعن عشيرتي. نهره على ما يظهر أعلى رتبة منه: "لا تسألهم عن العشيرة"، ثم أعاد لي أوراقي دون أن ينظر إليَّ قائلاً: "تفضل" وأشار بسبابته بحركة سريعة إلى الخارج.
أمسيت خارج قسم الأحكام الخاصة لأول مرة بعد سنين، تحت سماء مفتوحة وساحة تمتد على اتساع سجن "أبو غريب" وأقسامه المتعددة، تلقفنا ضابط برتبة نقيب فاتحاً ذراعيه أمامنا وأمرنا بالجلوس "دقائق" لوعظنا، وبَرَكْنا على الارض الترابية مع حقائبنا قائلاً: "إياكم وتكرار أفعالكم المشينة ضد الدولة والتورط بالسياسة، العودة للعمل السياسي، مرة أخرى، معناها الإعدام، أذهبوا لأهلكم وزوجاتكم وأبنائكم وعيشوا كما يعيش باقي العراقيين، تحت جناح الدولة." بعدها أشار إلينا بالذهاب وودعنا قائلاً: "روحوا الله معكم،" "والأهم قصدت من تأخيركم هذا أن أخبركم بأنّنا أبلغنا جميع السيطرات بعدم تأخيركم أو سؤالكم عن هوياتكم."
سرنا مسافة طويلة حتى بلغنا الباب الرئيسي لسجن "أبو غريب"، وجدنا شاحنات نقل مختلفة وسيارات أجرة صغيرة. كان سائقوها بأثوابهم التقليدية ونظرات التعاطف بادية. نادانا أحد السائقين بكرشه الكبير وهو متكئ على ثلاجة عاطلة: "هيا اصعدوا" مشيراً إلى شاحنته ذات الأحد عشر راكباً: "هذه سيارتي الكيا" علق أحد المطلق سراحهم مازحاً " الكيا هي سيارة أم شحاطة" رد السائق البطين " لا.. سيارة لكن هناك موديل شحاطة يدعونه كيا" وتقدم يفتح بابها إلينا لنصعد، قائلاً "كلكم الخارجين من السجن لا تعرفون فتح باب هذا الموديل من السيارات".
امتلأت الشاحنة فوراً، وصعد بصعوبة داخلها سائقها البطين وتحرك باتجاه بغداد. دخلنا بغداد بعد منتصف الليل متوجهين نحو كراج النهضة، طلبنا من السائق التوقف قرب مطعم لتناول العشاء. توقف قرب مطعم في النهضة صاحبه رجل ستيني يعتمر العقال والكوفية، همس مع السائق قليلاً وعاد إلينا مستفسراً: "أنتم سجناء سياسيين" أجبناه: " نعم" "معكم سجناء إسلاميين؟" أجابه الإسلاميون: "نعم"، رد مُرحِّباً: "يا أهلا وسهلاً بكم وعشاكم الليلة على حساب المحل،" شكرناه على كرمه وأخبرناه جميعاً "معنا مال كثير شكراً جزيلاً". بعد العشاء تحركنا إلى داخل "كراج النهضة" لاستئجار سيارة تقلنا إلى لناصرية. وجدنا شاحنة أيضا بأحد عشر راكباً اتقفنا مع سائقها لإيصالنا، رحب الرجل بامتنان وتضامن. قبل التحرك بلحظات طلب منه عدد من الركاب أخذهم إلى الامام الكاظم للزيارة؛ وافق قائلاً" تدللون". لكن الوقت قد تأخر كثيراً وحضرة الكاظم وجدناها مغلقة.
اتجهنا للناصرية بما يقارب الساعة الثانية بعد منتصف الليل، والنعاس والإرهاق قد أخذ مأخذه منا. شعرت برأسي يميل متطوحاً يميناً ويساراً ولم أرغب في المنام رغم نعاسي الشديد، أعد الدقائق والساعات للوصول إلى أهلي في الناصرية. الطريق سارت سالكة وسلسة لم توقفنا إلاّ نقطة سيطرة بين الديوانية والسماوة، تقرب إلى الشاحنة جندي مسلح ببندقية كلاشنكوف، ماداً رقبته للنظر في الداخل سألنا "من أنتم؟" من خلفه خرج ضابط برتبة ملازم سألنا بصوت عالٍ " أنتم سجناء سياسيون" أجبناه جميعنا "نعم" أشار للجندي بإخلاء سبيلنا قائلاً: "وداعا".
بعد عشر أو خمس عشرة دقيقة بدأت طلائع الفجر تتألق في سماء جنوب العراق، وتصبغ أشعة الشمس الدور الريفية والحقول الجميلة بأشعتها الذهبية. مع السير الوئيد للشاحنة وهي تطقع الطريق السريع، وقراءة قطع الدلالة المصنوعة من الالمنيوم والمثبتة بجانب الطريق، والتي تشير إلى المسافات بين المدن، نقترب كل خمس دقائق عشر كيلومترات من الناصرية. وأنا الوحيد من بين جميع الركاب لم تغمض لي عين لهفةً للوصول للناصرية.
وصلنا كراج الناصرية في الساعة السادسة صباحاً، تفرقنا كلٌ في اتجاهه لأهله، وتوادعنا وداعا حميماً. أجَّرت سيارة إلى بيت أخي الحاج وهاب طلبت من السائق إيصالي خلف مبنى تربية ذي قار، عند مروره ودورانه في شوارع المدينة شعرت بأني أفقد بوصلتي القديمة بالمكان، لكنه أوصلني مع إحساسه بأنّي كنتُ بعيداً عن المكان مدة طويلة.
طرقتُ الباب وضغطتُ على الجرس عدة مرات، بعد دقائق شاهدت الحاج وهاب من خلف شباك المطبخ يطل برأسه ناظراً إليَّ منادياً "أحمد"، فتح الباب بسرعة وانطلق نحوي حافياً فاتحاً ذراعيه على اتساعهما وعانقني. اتصل بجميع إخوتي وأخواتي وأبنائهم، يخبرهم بوصولي للبيت، أول القادمين كانت ابنته وفاء جاءت راكضةً على طول سياج حديقة غازي لتحتضنني، ثم توافد جميع أفراد عائلتي على مدى ساعتين مهللين فرحين ومتحررين من قيد قيدنا جميعاً ولطالما أثقل عليهم ونكد راحتهم. وجاءت زينب ابنة أخي علي وجلست بحجري، مرحبة بي: " شلونك عمو".












21ملحق بالمصائر
حاكم عدّاي وعماد عبد الرزاق

بعد شهر من إطلاق سراحي من سجن "أبو غريب" استُدعيت إلى مديرية الأمن العامة فرع الناصرية، لإتمام إجراءات روتينية مع كل سجين سياسي يُطلق سراحه حديثاً. وأنا جالس في مكتب الضابط المسؤول عن ملف الشيوعيين في المدينة، وخلال إسداء النصائح لي عن ضرورة الابتعاد عن المشاكل السياسية وعدم نفعها وعن حب الوطن، داهمنا ضابط آخر يحمل ملفاً بيده وأشار للضابط بحاجته للانفراد به، حياه صاحب المكتب قائلاً: " أهلا سيدي.. تفضل ...نعم نعم سأوافيك في الحال". تركاني لوحدي وتركا الملف على المنضدة أمامي. لمحت على أعلى الملف عنوان ( المجرم حاكم محمد عداي)؛ اضطربت اضطراباً فاق اضطرابي ساعة إلقاء القبض عليّ ويوم المحاكمة، وبدرت مني (لا إرادياً) التفاتة إلى الأبواب لأهرب وأخلّص نفسي، وهما مشغولان عني، من هذا الموقف الذي لا أحسد عليه. ظننتُ أنّهما ينسجان لي مكيدة عن طريق اطلاعي بمعرفتهما بعلاقتي بحاكم وتنظيمنا السابق الذي لم يرد ذكره في اعترافاتي السابقة. وحانت الآن في حسابات الأمن ساعة الكشف عنها.
عادا بعد دقائق، ولم يبدُ على ملامحهما ما يوحي بشيء قريب مما ظننتُ. أخرج الضابط المسؤول عنّي إضبارة أخرى من أدراج كثيرة مرصوفة في رفوف على الجدار، ونسخ أوراقاً منها وسلّمها للضابط الآخر، وهو يقول له: "سيدي هؤلاء كنّا نجطل بيهم (أي: نقتلهم) بدون اهتمام لأمرهم...واليوم يريدون منّا وثائق؟" هذه آخر جملة استطعت تمييزها من الكلام الذي دار بينهما، قبل أن يتوادعا وقبل عودة الضابط لمكتبه ومواصلته إرشادي وتحذيري من عواقب العمل ضد السلطة، وأن أكون متعاوناً مع الأجهزة الأمنية في حالة وجود أي خطر يمس أمن الدولة. ثم أعلن عن نهاية اللقاء ونهض وودعني إلى باب مكتبه وأنا غير مصدق بأنّي سأعود إلى البيت ثانيةً.
زارني لمحل عملي في اليوم التالي صديقي صلاح حسن، وحكيت له ما حصل أمس في مديرية الأمن، فجاء جوابه هادئاً: "لا أحمد.. أهل حاكم طلبوا من الأمن شهادة وفاته من أجل قضايا تتعلق بالميراث بينهم،" وذكر لي أن حاكم قد أُعدم منذ عام 1986. وما حصل أمامك كان عرضياً، ويا للمصادفة العارضة التي جعلتني أشهد بعينيّ بأنّ صديقي حاكم استحال ملفاً بين يديّ جلاد لا يعير لحياة الإنسان أية أهمية أو قيمة لبشر.
بعد عدة أشهر مرت على سقوط النظام البعثي، قَدِمَ إلى محلي عبد الرزاق عبد سكر والد عماد، يسير بخطوات متمهلة، وعند اقترابه بعدة خطوات مد يده داخل جيب بنطاله وأخرج ورقة بلون أخضر فاتح؛ ثناها بين أصابع كفه، صافحني وحيّاني وسلمني الورقة وقال: "هذه شهادة وفاة عماد ..جئتُ بها من مقبرة سجن ’أبو غريب‘". قرأتُ الملاحظات المدونة فيها: "اسم المتوفى عماد عبد الرزاق عبد سكر الملقب البصري... سبب الوفاة شنقاً حتى الموت.. التاريخ 7/8/ 1986 مع توقيع الطبيب الذي صادق بخبرته على توقف قلب وحياة عماد للأبد". هكذا أوجزت هذه الورقة الخضراء مصير عماد المغيب منذ عام 1985، وأصابتْ مشاعري بالخدر.
الموت ظاهرة مألوفة ويومية في حياة كل إنسان، يرافقه إحساس عارم بالخسارة لفقدان عزيز يبقى أحياناً سنوات وأحيانا طول العمر، مع إن موت عماد وحاكم على يدي جلادي البعث، كان متوقعاً. لكن ما يحزّ في النفس ويوجع القلب، ظروف وطريقة موتهما البشعة. وهما لما يزالان في ريعان شبابهما يعاقبان بالموت لأمرٍ لا يستحق كل هذه القساوة؛ التي سببت ليس هدم شطر من حياة الماضي فحسب، بل اصطبغ شطر آخر من المستقبل بلون الحداد الداكن. حزناً على رحيلهما.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - من اجمل ما قرأت عن الفترة الصدامية
د. لبيب سلطان ( 2023 / 9 / 4 - 08:58 )
التحية والشكر للاخ الكاتب
باسلوب جميل وسلس وحقيقي نقلت لنا الواقع المرير الذي مر به العراق تحت الصدامية..الجميع متآمرون والجميع يلتقي في السجن ..الشيوعيون والمؤمنون والملحدون والاخونجية والليبرالية والصدرية والكرد اليزيدية والبدو والحضر والجنوبي والشمالي والمسلم والمسيحي ..ونقلت لنا صورة نادرة عن مشتركات هذا المجتمع وكذلك عو اهاته كما اوردتها مثلا جماعة النجاسة والخصوصية ..وهم اليوم يحكمون ..ولولا صدام وجلاوزته حتى لما حلم ملتحي من جماعة النجاسة ان يخرج على التلفزيون ..فما بالك وزراء للتعليم العالي اليوم
كتابتك رائعة واقارنها مع رسائل من بيت الموتى لدستويفسكي ..والحمد لله على سلامتك لتنقل لنا هذه الصورة ..والله اعتقد انك خرجت من بين يد البعث باعجوبة..فمزاج رجل امن صغير منهم كان يمكن ان يذهب بك عن العالم ..لله الحمد ابقوك والا كيف نعرف ماجرى
مع الشكر مجددا

اخر الافلام

.. مصادر: ورقة السداسية العربية تتضمن خريطة طريق لإقامة الدولة 


.. -الصدع- داخل حلف الناتو.. أي هزات ارتدادية على الحرب الأوكرا




.. لأول مرة منذ اندلاع الحرب.. الاحتلال الإسرائيلي يفتح معبر إي


.. قوات الاحتلال الإسرائيلي تقتحم مناطق عدة في الضفة الغربية




.. مراسل الجزيرة: صدور أموار بفض مخيم الاعتصام في حرم جامعة كال