الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


كأن يعتاد المرء أمراً

عبد الرحمن جاسم

2006 / 11 / 9
الادب والفن


(1)
كان المراسل يلهث بالخبر، قامت القوات الإسرائيلية باقتحام بيت حانون، وقتلت العديد.... فغيرت القناة! هربت من القناة إلى أخرى، يتلوى فيها مطربٌ لا شكل محددٍ له، أهرب من قناةٍ إلى أخرى، لكي لا أرى ظلي، قديماً قرأت قصيدة، للشاعر الإنكليزي ياتس، يتحدث فيها عن رجل ظل هارباً من ظله، وحينما تيقن من أنه لا يقدر، أمسك بمسدسه فأطلق النار على رأسه، وارتاح!
يا أحبتي، ليتني أقدر أن أطلق النار على ظلي فلا أراه بعد الآن، المجازر في عالمنا العربي، باتت خبزاً يومياً، ملمحاً عابراً تعابثه ويعابثك، تداوره ويداورك، لا تماس فيه ولا تجاهل، تريده ويريدك، وحتى ولو هربت منه، هو ظلك الذي لا يفارقك.
أغيّر القناة، كما يفعل الكثيرون غيري الآن، والشعور بالعجز يتقمصنا. قبل أيام كان بيتنا يقصف، بنفس الطائرات، ونفس الصواريخ، يومها كنا خائفين بعجز، وعاجزين بخوف، كانت القنوات لا تتغير وقتها، وكانت ظلالنا هي الأخرى، لا تختبئ بداخلنا.
قبل أيام، كنا هناك، في قلب الخبر، وكان المراسل يلهث ما بيننا، وكان هناك آخر، مثلي الآن، في بلدٍ آخر، في مكانٍ آخر، يغير القناة، ويذهب باحثاً عن مطربٍ لا شكل له، لكي يغير له شكل يومه. كنا هناك يا أحبتي، نعاقر اجتيازاً ما يحدث في فلسطين اليوم. كانت الطائرات تقصف، وكان بشرنا يقتلون، ويستشهد الكثيرون، ويرحل الشهداء كأسراب النوارس، كالطيور المهاجرة، لكن بلا وداعٍ أبداً.
وأعتاد الأمر، كما اعتدته منذ سنواتٍ طوال، أعتاد رؤية الدماء، أعتاد متابعة الشهداء، أعتاد مراقبة تعدادهم، كما لو أنهم مجرد أرقامٍ بسيطة، يكررها المذيعون والمراسلون. حيث يفقدون هؤلاء الأحبة أسماءهم، يصيرون خبراً عابراً على قناة. هو اعتياد تقريري، تتعلمه شيئاً فشيئاً، ولأنه "لا ناقة لك ولا جمل" تتأكد أنك التعود على الأمر، خير من قتل نفسك، ولكن غرائز حفظ الذات تحميك، تخفض رأسك وتغيّر القناة.
أن تنظر فحسب إلى جثث الشهداء المتناثرة هنا وهناك، البيوت المتهدمة، الأماكن الذكريات، هنا ترك الأحبة أحبتهم، هنا كان فتيةٌ يلعبون، عند زاوية الطريق تعارك فلانٌ وفلان، عند هذا الحائط لافتة الصيدلية القديمة، بائع الكعك بالجوز، كلها ذكريات، مر عليها الطوفان، مر عليها الشيطان، وصارت ذكرى! صارت ذكرى.
أن تعاد رحيل الأشياء التي تحب، عادي في بلادنا، إنه اعتياد الرحيل. وطقوس الرحيل، ولأننا عرب، والعرب بطبيعتهم رحّل، متلازمون والرحيل، فالأمر، ببساطة، إعتياد!

(2)
نحن شعوبٌ لا تحب الحياة، هكذا يحاولون وسمنا دائماً، كما لو أن هذه الحياة هي لهم فحسب، هم يريدون المدارس، والسينماهات، والمسارح والأفلام، وكل ما نريده نحن هو الموت، هكذا يريدون أن نبدو، لكن يا أحبتي، لماذا لا يبين منا شيٌ آخر؟ لأنه لا ملمح آخر يبين منا، نحن نظهر على وسائل الإعلام بشكلين لا ثالث لهما. الأول جثث بلا وجوه، أو أسماء، أرقام تسقطها طائراتهم، والدماء تنفر حولها بغزارة، هذه الصورة هي للشرق، لنا، لها استعمال للتأديب وللترهيب، لأعداء شعب الله المختار. الشكل الثاني، أكثر بساطة، رجالٌ مقنعين، يحملون بنادق حربية، ويهددون، أو يخرجون سيوفاً ويقطعون رؤوساً "قد أينعت". هذه الصورة هي للغرب، هي لأصدقائهم، للإيحاء، ويمكنك أن تعرف ماذا يعني أن ترى رجلاً يحمل سيفاً وينطق بكلمات بلغةٍ غريبة، ثم يقطع رأس رجلٍ أعزل.
يا أحبتي، هذه هي صورتنا، وهذه هي ظلالنا، وكل مشاهدنا اليومية، ومشاعات حياتنا، فأين سيكون نطقنا؟ وهل سننطق؟ أم سنبق صمت الظلال الأخير؟ وسنختفي، وهل سيردد الصدى، كلام سياتل زعيم هنود "الداوميش" آخر زعماء الهنود: "يا سيد البيض، خذها مني، سيبقى لك أخيراً صمت هذه القبور، حينها، لن تجد أرحب منها للسكن".








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. فيلم السرب يتخطى 8 ملايين جنيه في شباك التذاكر خلال 4 أيام ع


.. الفنان محمد عبده يكشف عبر برنامج -تفاعلكم- أنه يتلقى الكيماو




.. حوار من المسافة صفر | الفنان نداء ابو مراد | 2024-05-05


.. الشاعر كامل فرحان: الدين هو نفسه الشعر




.. جريمة صادمة في مصر.. أب وأم يدفنان ابنهما بعد تعذيبه بالضرب