الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


التطورات في النيجر و جنوب الصحراء: شعوب إفريقيا بين واقع الاستعمار والطموح إلى التحرّر.

علي الجلولي

2023 / 9 / 7
مواضيع وابحاث سياسية


التطورات في النيجر و جنوب الصحراء:
شعوب إفريقيا بين واقع الاستعمار والطموح إلى التحرّر.

تشهد الأوضاع في منطقة جنوب الصحراء تسارعا لمؤشرات التصعيد العسكري على خلفية الانقلاب العسكري بالنيجر والذي نظمه قادة الحرس الرئاسي وانظم إليهم لاحقا قادة الجيش ضد الرئيس محمد بازوم يوم 26 جويلية 2023 الجاري الذي تم انتخابه في 2 أفريل 2021 بعد انتخابات شكلية وفاقدة للمصداقية من جهة الشروط السياسية، وأيضا من جهة الهيمنة الكلية للامبريالية الفرنسية لا على المسار السياسي فحسب، بل أيضا على الرئيس الذي عرف بتبعيته وولائه التام للدولة الفرنسية ومؤسساتها التي يوجد البعض منها قرب قصره الرئاسي. ولئن شكل الانقلاب نقطة في مسار تحولات كبرى تعرفها المنطقة خاصة مع انقلابي بوركينا فاسو و مالي العسكريين الذين استهدفا المصالح الفرنسية، فان انقلاب النيجر تزامن مع ردود أفعال قوية قد تصل إلى التدخل العسكري من قبل قوات "ايكواس"(1) التي تهدد وتستعد لذلك تحت تأثير الجارتين نيجيريا والبنين بدفع من فرنسا، فيما تعرف مواقف بقية بلدان المنطقة تناقضات بحسب مصالحها. و تعرف مواقف القوى الدولية الفاعلة ذات التناقض في إطار صراعها الضاري الذي تعدّ منطقة جنوب الصحراء أحد ميادينه الأبرز. إن هذه التطورات تدفع الى طرح أسئلة حول حقيقة الخلفيات والسياقات والأهداف لما يجري في المنطقة من توترات قد تحولها قريبا إلى برميل بارود لن تدفع فاتورته غالية إلاّ الشعوب المفقرة والمقهورة في منطقة تحمل أحدّ تناقضات النظام الرأسمالي العالمي ممثلا في حيازة أهم أعمدة التقدم والرخاء فيما تعرف شعوبها أفظع مظاهر البؤس والفاقة في عالمنا المعاصر كامتداد لقرون متتالية من النهب.
1ـ منطقة جنوب الصحراء منطقة الثروات الكبرى.
تمتد المنطقة على عرض القارة من سواحل المحيط الأطلسي إلى حدود السودان شرقا، تحدها شمالا الصحراء الكبرى وبلدان المغرب الكبير وجنوبا البحيرات الإفريقية، وهي منطقة إستراتيجية في موقعها منذ غابر التاريخ إذ تربط جنوب القارة بشمالها وغربها بشرقها، وتربط الساحل بالصحراء لذلك تعتبر ممرّا بريا حيويا وتتركز فيه سابقا وحاضرا العديد من الأنشطة الاقتصادية والتجارية والعسكرية الرسمية منها والموازية. وتحمل هذه المنطقة في أحشائها أهم الثروات من معادن ثمينة وفسفاط وطاقة (نفط، غاز طبيعي)، إضافة إلى الصيد البحري وما تحتويه سواحل الأطلسي من ثروات بحرية وسمكية مهمة كما ونوعا. كما تحوز ثروات طبيعية وحيوانية أساسية (أنهار وبحيرات، فصائل حيوانية نادرة، كميات هامة من الشمس...).
إن ما يفسر تنامي الصراع الدولي في هذه المنطقة الأشد فقرا في العالم هو قيمة وحجم المقدرات والثروات الباطنية التي يتوقف عليها حاضر ومستقبل التقدم الصناعي والتكنولوجي في العالم، لذلك تتهافت الشركات والمؤسسات والدول من أجل وضع اليد على المنطقة.
وضمن جغرافية المنطقة تحوز النيجر موقعا هاما من جهة المقدرات التي تحوزها، فهذا البلد هو السادس عالميا في كمية اليورانيوم ويوفر ربع حاجة الاتحاد الأروبي من هذه المادة الموجهة لإنتاج الطاقة النووية، وحسب "الرابطة النووية العالمية" فان منجمين فقط من مناجم النيجر يوفران 5°/° من إنتاج التعدين العالمي من خامات اليورانيوم عالية الجودة . وقد تم اكتشاف هذه الثروة سنة 1957 من قبل "المكتب الفرنسي للبحوث الجيولوجية"، وقد كانت النيجر تحت الاستعمار الفرنسي المباشر واكتشفت في نفس الفترة نفس المعدن في الغابون من قبل "لجنة الطاقة الذرية الفرنسية".
أما الثروة النفطية فتعود بداية استغلالها إلى سنة 2011 ببعث أول مصفاة، وللنيجر قناة بطول ألفي كيلومتر تمتد إلى سواحل البنين انطلقت سنة 2019 لتسهيل التصدير إلى الخارج.
وللنيجر ثروة هامة من الذهب إذ بلغت صادراتها 2.7مليار دولار سنة 2021. كما تحتوي أرض النيجر كميات هامة من الحديد والزنك والقصدير والفسفاط.
2ـ منطقة جنوب الصحراء منطقة الفقر والتبعية.
مقابل هذا الحجم من الثروات فان المنطقة تعدّ الأكثر فقرا وبؤسا وتبعية، فحسب البنك الدولي (2) ستتراجع نسبة النمو من 3.6°/° سنة 2022 إلى 3.1°/° سنة 2023 فيما ستكون نسبة التضخم في حدود 7.5°/°. وهو ما سيعمق معضلة المنطقة وهي المديونية الفاحشة إذ يقول ذات التقرير: "مخاطر بلوغ مرحلة المديونية الحرجة لا تزال مرتفعة، إذ إن 22 بلداً في المنطقة تواجه مخاطر كبيرة من الوصول إلى حالة المديونية الخارجية الحرجة أو بلغتها بالفعل حتى ديسمبر 202".
وبطبيعة الحال فان الكلفة الاجتماعية لهذه المؤشرات لن تكون سوى ارتفاع البطالة التي تبلغ نسبا هي الأعلى في العالم (28°/° في النيجر حاليا)، وتدهور كل شروط الحياة، ففي تقرير للأمم المتحدة بلغ عدد الأطفال المحرومين من التمدرس سنة 2015 في كامل القارة 97.894.515 أكثر من نصفهم بمنطقة جنوب الصحراء. هذه المنطقة الغنية بالثروات لكن شعوبها تعيش المجاعة، ففي تقرير للأمم المتحدة صدر سنة 2017 بعنوان "الاستعراض الإقليمي للأمن الغذائي والتغذية في العالم" يوجد بالمنطقة 237 مليون يعانون من نقص التغذية المزمن وذلك من أصل 257 مليونا في كامل القارة، وورد بذات التقرير أن عدد الأطفال الذين يعانون الهزال بلغ 13.8مليون بكل القارة وان عدد النساء في سن الإنجاب اللاتي تعانين فقر الدم هنّ في حدود 38°/°.
وتعدّ المنطقة من أكثر مناطق العالم تضررا من التغيرات المناخية القاسية الجارية على كل الكوكب، فالمنطقة يتصاعد فيها الجفاف والتصحّر بآثاره المدمرة على الطبيعة والبشر فيتنامى النزوح الداخلي والهجرة الخارجية النظامية و غير النظامية.
لكل هذه الأسباب مجتمعة يتنامى في إقليم جنوب الصحراء الإرهاب كنتيجة لذلك، ففي تقرير لبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي صدر يوم7فيفري 2023 وفي قسم تحت عنوان "مؤشر الإرهاب العالمي" أشار إلى أن 48°/°من ضحايا الإرهاب في العالم سنة 2021 يسقطون في هذه المنطقة، وتعرف العصابات الإرهابية تواجدا كبيرا في المنطقة من خلال فروع "القاعدة" و"داعش" و جماعة "بوكو حرام" المتركزة في نيجيريا والناشطة في أغلب المنطقة و "حركة الشباب" الصومالية. فقد قامت هذه العصابات ب4155 عملية إرهابية سنة 2017 مما أدى إلى مقتل 10.417 شخصا. وأشار ذات التقرير إلى أن 25°/° من مجنّدي العصابات الإرهابية انتموا إليها بسبب الفقر وأن 22°/° انتموا بتأثير أفراد عائلاتهم وقبائلهم الأعضاء في هذه المجموعات، وان 17°/° فقط انتموا بدافع معتقداتهم الدينية والسياسية. واعتبر التقرير أن الشعور بالغبن والمهانة والحرمان من الثروات الوطنية المبددة بفعل الفساد وهيمنة الشركات الأجنبية يعزز شروط الانتماء في هذه العصابات. هذا وقد فرضت الأعمال الإرهابية وتداعياتها الأمنية هجرة داخل الإقليم فالنيجر لوحدها تستقطب أكثر من 255 ألف لاجئ فروا من بوركينا فاسو ومالي ونيجريا إلى حدود بداية 2022 حسب تقرير للأمم المتحدة.
ولئن كانت المنطقة هي من أكثر مناطق العالم فقرا وتخلفا في بناها الاقتصادية، فالنيجر هي أكثرها فقرا وهي التي تحتل أدنى الترتيب العالمي في مؤشرات التنمية سنة 2019 من جملة 189 دولة ، وهي سابع أفقر دولة في العالم ، ويعيش نصف سكانها تحت خط الفقر، فيما يعيش أكثر من عشر ملايين الفقر المدقع (أي بأقل من دولارين ونصف في اليوم). ويعرف شعب النيجر الذي يعد 25مليونا كل مظاهر البؤس التي تهم التمدرس وعمالة الأطفال إذ يلتحق أكثر من 40°/° ممن أعمارهم دون 14عاما بالعمل في مناجم الذهب واليورانيوم.
إن النيجر تستقر على ثروات باطنية ضخمة ومقدرات زراعية وحيوانية كبيرة إذ يساهم القطاع الحيواني ب13°/° من الناتج المحلي الإجمالي، وينشط 80°/° من السكان في القطاع الزراعي خاصة في الجنوب أين تساعد نسبة التساقطات على ذلك، لكن البلاد تعيش على المديونية و"المساعدات"، ف40°/° من ميزانيتها تأتي من الخارج (2021)، ويستفحل صلب أجهزة الدولة الفساد وتبديد الثروات والتعامل الكامل كمجرد وكلاء للشركات الأجنبية والفرنسية أساسا التي تضع يدها على المقدرات. إن مجمل بلدان المنطقة هي في الحقيقة مجرد مستعمرات جديدة للدولة وللرأسمال الفرنسي الذي يتحكم فعليا في كل مفاصل القرار الاقتصادي والسياسي والثقافي والعسكري.

3ـ السيطرة الامبريالية على المنطقة والقارة.
أغلب بلدان جنوب الصحراء هي مستعمرات فرنسية قديمة وتبعيتها العضوية تواصلت بعد حصول هذه البلدان على استقلالات شكلية في ستينات وسبعينات القرن المنصرم. لقد تواصلت السيطرة الاقتصادية والسياسية والثقافية على مجمل المنطقة التي تعتبر فعليا الحديقة الخلفية لفرنسا مثلما تعتبر الولايات المتحدة بلدان أمريكا الجنوبية. فالصناعة الفرنسية تعتمد في جزء هام على مقدرات القارة الإفريقية وتحديدا جنوب الصحراء، ف35% من المفاعلات النووية الفرنسية للتزود بالكهرباء تشتغل بالطاقة المتأتية من مناجم شمال النيجر و تشاد. وتستورد فرنسا اليورانيوم بأسعار بخسة لا تتجاوز 300مليون دولار سنويا.
وتمارس فرنسا سيطرتها المالية والاقتصادية من خلال شبكة "فرنساـ إفريقيا" (France/Afrique) وأداتها المصرفية "البنك الإفريقي" وهي منظومة تضم 14 دولة افريقية (منها 12 مستعمرة فرنسية سابقة) منخرطة في النظام المصرفي الفرنسي وتعتمد عملة موحدة مرتبطة بالعملة الفرنسية تسمى "الفرنك الإفريقيFranc CFA " منذ 1945. وتحتكم المنظومة إلى شرط تورید 100% من ودائع النقد الأجنبي الخاصة بتلك البلدان إلى البنك المركزي الفرنسي، وقد تمّ تخفیض هذه النسبة إلى 65% في السبعينيات، و إلى 50% عام 2005، وذلك تحت ذريعة توفير غطاء نقدي لإصدار الفرنك الفرنسي (العملة الفرنسية الأصلية). إن هذه التبعية العضوية ربطت اقتصاديات المنطقة بفرنسا وبمنطقة اليورو، فالدول المعنية مطالبة بوضع 50% من احتیاطیاتھا الأجنبية في البنك المركزي الفرنسي، وقد أشارت العديد من التقارير المالية الدولية إلى أن احتیاطیات الدول الإفریقیة في البنك المركزي الفرنسي بلغت نحو 500 ملیار دولار، إلا أنها لا تستطیع التصرف في هذه الأموال إلا في حدود 15% في السنة، وفي حالة الحاجة إلى أكثر من ذلك فهي مطالبة باقتراضھا من الخزانة الفرنسية مقابل فوائد عالية.
إن هذه المعطيات تؤكد طبيعة العلاقة التي تربط المتروبول الرأسمالي الفرنسي بمستعمراته الجديدة، فدولة الطوغو تدفع إلى اليوم 80% من الدخل القومي لصالح فرنسا كضريبة للاستعمار، وفي سنة 2017 أكدت الأمم المتحدة وجود 9 دول من منطقة الفرنك الإفريقي ضمن قائمة الدول "الأقل نمواً" في العالم. وذات البلدان مسجلة من قبل البنك العالمي وصندوق النقد الدولي بكونها البلدان الأفقر والأكثر مديونية.
إن انبناء اقتصاد فرنسا على هيمنته على ثروات إفريقيا وتحديدا جنوب الصحراء جعل البعض يعتقد أنه لولا ذلك لتدحرج ترتيب فرنسا الاقتصادي من المرتبة الخامسة إلى المرتبة 15 عالميا (3). هذا وتتساوق السيطرة الاقتصادية والمالية مع سيطرة ثقافية واضحة من خلال الاعتماد الرسمي للغة الفرنسية على حساب اللغات المحلية، كما تتساوق مع تواجد عسكري في أغلب أقطار المنطقة، فلفرنسا قاعدة جوية و قوة قارة في تشاد عدد جنودها من 3000 إلى 4500 في إطار تحالف تشكل سنة 2014 ل"مكافحة التمرد في منطقة الساحل الإفريقي وهو التحالف الذي قاد حملة "برخان" لكن التواجد الفرنسي استمر رغم انتهاء العملية ضد المجموعات الإرهابية التي أصبح نشاطها شماعة لتكثيف التواجد العسكري الفرنسي وغيره، ويوجد بالنيجر زهاء 1500 جندي إضافة إلى قاعدة الطائرات المسيرة الأمريكية بشمالها ، كما يوجد بالمنطقة تواجد ألماني وتركي. وقد تمّ بعد الانقلاب العسكري في مالي ( ديسمبر 2021) طرد 25 عسكري فرنسي كانوا منتشرين في ثلاثة قواعد عسكرية. علما وأن الوجود العسكري الفرنسي سيتقلص نهاية العام الجاري إلى 2500عسكريا في مجمل منطقة الساحل، وفي حدود 6000عسكريا في مجمل القارة.
هذا ويوجد بالمنطقة حضور عسكري أمريكي وروسي لافت إذ تتمتع قوات "فاغنر" بدور عسكري نشيط هو بصدد التحول إلى دور اقتصادي يتركز حول مناجم المقدرات الثمينة من السودان شرقا إلى حدود موريتانيا غربا.
4ـ الانقلابات العسكرية: السياق والنتائج.
تعتبر القارة الإفريقية عموما ومنطقة الساحل والصحراء خصوصا من أكثر مناطق العالم احتكاما للانقلابات العسكرية، ففيما بين 1970 و 1989 انتظم بالقارة 99 انقلابا بين ناجح وفاشل، وفيما بين 1956 و 2001 وصل إلى الحكم 88 حاكما عبر الانقلاب العسكري، وخلال العامين الأخيرين حدثت 10 محاولات انقلابية بين ناجحة وفاشلة. وتعتبر السودان وبركينا فاسو وغينيا كوناكري وتشاد ومالي أكثر البلدان اعتمادا على العسكر لبلوغ السلطة، و علما وأن هذه البلدان هي من أفقر بلدان القارة. وتزامنت الانقلابات مع أزمات اقتصادية و سياسية حادة مثل تزوير الانتخابات والاستفراد بالحكم وتوريثه مثلما حدث في الغابون التي أعلن فيها الجيش يوم 30 أوت 2023 إنهاء حكم عائلة "بنقو" التي استمرت عبر الأب "عمر بنقو" منذ 1967 إلى 2009، وبعد وفاته انتقل الحكم لابنه "علي عمر بنقو" الذي يستمر على الكرسي وقام منذ أيام بتنظيم مهزلة انتخابية مزورة كانت مرتكزا للجيش للتدخل وإنهاء حكم العائلة الذي استمر 56عاما، وقد وجد الانقلاب الغابوني مساندة من فرنسا فيما اعتبرته عديد الجهات أنها من يقف وراءه و ذلك بغرض استعادة المبادرة بعد تلقي ضربات موجعة في مواقع هيمنتها التقليدية . كما ارتبطت الانقلابات في عديد الحالات بمعطيات عرقية وقبلية كان الجيش فضاء حسمها. وقد كانت البزّة العسكرية هي الحاسمة لمآل الحكم بمناسبة حراك احتجاجي واسع مثلما صار في مالي في 18 أوت 2020، علما وأن مالي لها في تاريخها المعاصر رئيس واحد ترك منصبه دون تدخل عسكري. كما أن انقلاب غينيا (5 سبتمبر 2021) تمّ على خلفية القمع الواسع الذي قابل به عمر الفا كوندي خصومه لتعديل الدستور للحفاظ على كرسي الحكم، فتدخل الجيش لحسم الأمر. لقد تعوّد الإفريقيون على انقطاع البث الإذاعي والتلفزي وظهور قائد عسكري لتلاوة "البلاغ رقم واحد"، فمنذ نهاية خمسينات القرن المنصرم قضّى السودان 52 عاما تحت حكم العسكر وبركينافاسو 48 عاما.
إضافة إلى الأسباب الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، تتدخل أسباب أخرى مثل تضخم الأجهزة العسكرية والأمنية واختراقها بصراع المصالح ومراكز النفوذ الاقتصادي والسياسي والعرقي والقبلي، وتأثير مناخات الجريمة والإرهاب التي أعطت للأجهزة الصلبة أدوارا حيوية في إدارة المجتمع والدولة، ففي عام 2019 مثلا تمت في المنطقة 800هجمة دموية، وخلال العشرية (2010/2020) تم نزوح أكثر من 2.5مليون داخل الحدود وعبرها. (4)
وعرفت النيجر منذ 1960 تاريخ استقلالها الشكلي خمسة انقلابات تم الأول في 1974 والثاني في 1996 والثالث في 1999 وكان الأكثر دموية، والرابع في 2010، والأخير هو الذي حدث يوم 26 جويلية 2023الجاري ضد الرئيس محمد بازوم، مع فشل محاولة في 2021.
إن هذه "الخاصية" الإفريقية فرضت على "الاتحاد الإفريقي" إصدار "إعلان لومي" في 1999 لرفض كلّ التغييرات السياسية "غير الدستورية" والتي تعتمد القوة العسكرية،وقد تمّ ذلك بضغط خارجي وخاصة فرنسي للحفاظ على حلفائها. وقد علّق الاتحاد عضوية مالي وغينيا ومؤخرا النيجر في هياكل الاتحاد كما أعلن عقوبات اقتصادية بما فيها غلق الحدود، لكن هذا الاتحاد فاقد للمصداقية والتأثير إذ أنه قبل التحايل الدستوري الذي نظمه ألفا كوندي في غينيا وقيس سعيد في تونس، كما غضّ الطرف عن كيفية تحويل السلطة في تشاد، وهو نفس موقف و سلوك "ايكواس" التي لا يخفى على أحد بكونها صوت الامبريالية الفرنسية في المنطقة تأتمر بأوامرها وتضمن مصالحها، بل أن فرائص حكامها ترتعد خوفا من ذات المصير أي الانقلابات خاصة في رأس حربة هذا التجمع الإقليمي التابع وهما دولتي نيجيريا والبنين، خاصة وأن الأمور في المنطقة تتجه نحو تحالفات جديدة من بينها تحالف الأنظمة العسكرية الجديدة المستهدفة والتي تجد الدعم من قوى إقليمية ودولية فاعلة. وقد قامت عديد الأنظمة في الأيام الأخيرة بتغييرات واسعة في قيادة جيوشها بما فيها تسريح أعداد كبيرة خوفا من تحول عدوى الانقلابات إليها مثلما حصل في الكامرون (الرئيس عمره 90عاما ويرتبط اسمه بالفساد الكبير) و سيراليون والكونغو... إن فرائص حكام إفريقيا ترتعد وهم الذين يعرفون أثر من غيرهم أنهم مثلما أتوا إلى الحكم على ظهر الدبابات فإنهم سيغادرونها بنفس الأسلوب والطريقة، ومثلما وجدوا المساندة من قبل الامبرياليات المختلفة فان المنقلبين عليهم يعتمدون نفس المسار، وأن مصالح حلفاء الخارج تتغير لتتغير معها المواقف، فنظام عائلة "بنغو" في الغابون كان مدلل الامبريالية الفرنسية طيلة خمسة عقود حكم فيها البلاد بالحديد والنار والفساد، لكن الامبريالية الفرنسية ومخابراتها وأعوانها هم الذين وضعوا حدا لهذا الحكم حتى لا تفاجئهم الأحداث مثلما حصل في النيجر وبركينافاسو ومالي أين تلقت ضربات موجعة. إن انقلاب الغابون هو ضربة استباقية لفرنسا كي تؤكد لمنافسيها من القوى الدولية الأخرى أنها لازالت لاعبا أساسيا في المنطقة والقارة. وهو تأكيد أن ما يجري من تسارع للأحداث هو في إطار الصراع الامبريالي المحموم الذي يجري على أرض القارة و يجري فصله الحالي في غربها تحديدا.
5ـ الصراع الدولي في المنطقة.
لقد كانت القارة عموما و منطقة جنوب الصحراء خصوصا فضاء لصراع عالمي ضار بين مختلف القوى الاستعمارية ماضيا وحاضرا. صحيح أن المنطقة كانت على العموم تحت السيطرة الفرنسية سواء في حقبة الاستعمار المباشر أو ما بعده، لكن ثروات المنطقة و موقعها الجيواستراتيجي كثّف حولها أطماع كل القوى الإقليمية والدولية. هذه الأطماع التي تستعمل كل الوسائل والأساليب لمواصلة التحكم في المنطقة. لقد وظفت الامبريالية الفرنسية والأمريكية ورقة العصابات الإرهابية الظلامية وحولت البعض منها (وآخرها عصابات داعش) من سوريا والعراق إلى منطقة الساحل والصحراء للقيام بنفس الدور ونفس المهمات وعلى رأسها تشريع الوجود العسكري الدائم في المنطقة وأقطارها. لقد عززت الامبريالية كل مظاهر التوتر والنزاعات من ليبيا إلى السودان إلى عرض القارة من الساحل إلى الصحراء من خلال الطفرة الواسعة والنشيطة للنشاط الإرهابي الذي تقوده أربعة منظمات دموية هي فرع القاعدة وداعش وبوكو حرام وحركة الشباب، إضافة إلى نشاط متصاعد لعصابات التهريب المتقاطع مع عصابات الإرهاب والذي تصل مظاهره حتى الحدود التونسية شرقا وغربا، ويمتد على طول الصحراء الجزائرية وعرضها مما يفسر الاستنفار الجزائري فيما يتعلق بأوضاع المنطقة وتطوراتها الأخيرة.
وإضافة إلى التواجد الغربي التقليدي فان التواجد الروسي والصيني آخذ في التصاعد على مختلف الأوجه وتتجه عديد التحاليل إلى أن ما يجري في جنوب الصحراء هو فصل من فصول الصراع بين فرنسا وروسيا ومن خلالهما بين الامبريالية التقليدية والامبريالية الصاعدة، لقد انتبه الرأي العام العالمي إلى أن قطاعا من المتظاهرين ضد التواجد الفرنسي وأمام قواعده العسكرية في المنطقة يحمل الأعلام الروسية، والصورة تحمل كل الدلالات المتعلقة بطبيعة الصراع بين قوى الهيمنة في المنطقة. والصراع يتجلى اليوم من خلال الحضور البارز لقوات "فاغنر" وشركات أمنية خاصة أخرى في المنطقة، وهي ذات وجود بارز في مالي وبركينافاسو بدعوة من الحكام العسكريين الجدد، علما وأن حضور"فاغنر" يعود إلى ما قبل الانقلابات الأخيرة، كما أن حضورها مكثف في السودان و هي تسند "قوات الدعم السريع" سليلة عصابات "الجنجويد". وتؤكد تقارير متطابقة أن قوات "فاغنر" هي من يحمي جزء من مناجم الذهب والمطارات في مناطق هيمنة حلفائهم السودانيين. كما أن لها حضور حيوي في ليبيا وخاصة شرقها بحكم العلاقة الوطيدة مع "خليفة حفتر". ويعتبر وجود هذه القوات مؤثرا في مالي وبركينافاسو وهي بصدد استلام مهمات القوات العسكرية الفرنسية، علما وأن روسيا لا تساند كل الانقلابات بل وقفت ضد بعضها حين مسّ حلفائها وهو الحال حين أدانت انقلاب غينيا لا لسبب سوى كون "عمر ألفا كوندي" هو حليفها وحليف الصين.
واقتصاديا يبرز تصاعد الوجود الروسي والصيني في القارة والمنطقة بشكل ملحوظ حوّلهما إلى لاعبين أساسيين في مجمل معادلات المنطقة.
لقد نظمت موسكو في 17 جويلية المنقضي القمة الدولية الثانية بسانت بطرسبورغ حول الشراكة الإقتصادية والتجارية بين روسيا والقارة الإفريقية حضره العديد من رؤساء إفريقيا ومسؤوليها وأفضى إلى اتخاذ إجراءات مهمّة مثل إلغاء ديون ستة دول افريقية وإمضاء اتفاقيات تجارية ومالية وزراعية وخدماتية مهمة. وقد تمّت القمة اثر قيام بعض الدول الإفريقية بمبادرة وساطة بين روسيا أوكرانيا بما يدلل على تطور العلاقة بين الطرفين واتجاه روسيا لتعميق الروابط مع القارة السمراء. هذا وقد بلغ حجم التبادل التجاري بين روسيا والقارة 17.9 مليار دولار نهاية عام 2022. علما وان مؤتمر سانت بطرسبورغ هو رد على مؤتمر ديسمبر 2022 الأمريكي الإفريقي الذي انعقد في واشنطن بحضور 49 مسؤولا إفريقيا للتصدي لتنامي الوجود الصيني والروسي في القارة الإفريقية.(5)
وتعتبر الصين اليوم أهم شريك تجاري للقارة وهي تحضر لا من خلال تمويلاتها الضخمة فحسب خاصة في قطاعات البنية التحتية والتعدين والنفط والغاز الطبيعي، بل أيضا من خلال الاتفاقيات العسكرية، وتحضر من خلال شركات الأمن الخاصة وخاصة التابعة للشركات الاستثمارية والتي تلعب دور الحماية الأمنية المسلحة في عديد البلدان التي تعيش توترات ونزاعات، علما وان مبادرة "الحزام والطريق" الصينية تشمل القارة طولا وعرضا. وقد تجاوزت المعاملات التجارية بين الصين والقارة 250مليار دولار عام 2021 (مقابل 64.33 مليار دولار فقط للولايات المتحدة).
إن إفريقيا اليوم هي فضاء لصراع بين كبريات الدول من أجل بسط الهيمنة ووضع اليد على شروط التقدم الاقتصادي، وتتكرّس في القارة كل تناقضات النظام العالمي السائد والمتحول، والقارة اليوم هي فضاء لحرب باردة جديدة بين الامبرياليات التقليدية التي تتلقى بعض الضربات هنا وهناك وبين القوى الصاعدة والناعمة التي تعتمد الأساليب المرنة وغير الفظة في التسلل إلى هذا المجال الحيوي. إن جوهر الصراع في القارة الإفريقية هو حول ما تحمله في أحشاءها من مقدرات وثروات ضخمة. إن قارتنا تحتوي 30°/° من احتياطي المعادن و 8°/° من الغاز الطبيعي و 12°/°من النفط و40°/° من الذهب و 90°/°من البلاتين والكروم وأكبر احتياطي من اليورانيوم والكوبالت والماس والبلاتين، و65°/° من الأراضي الصالحة للزراعة في العالم و 10°/° من مصادر المياه العذبة. لهذه الأسباب فإن الصراع بين القوى العالمية سيتواصل ويشتدّ ضراوة لأن ما يسيل لعاب رأس المال هو الثروة والربح الذي تزخر به القارة طولا وعرضا. وستبقى شعوبنا مفقرة وذليلة ما لم تضع يدها على مقدراتها وذلك بانتزاعها من براثن السيطرة الخارجية ووكلائها المحليين.
6ـ أي مصلحة لشعوب المنطقة؟
لا شكّ أن الشعوب هي الضحية الأولى للهيمنة الامبريالية وسيطرة الطبقات الطفيلية التي تقوم بدور الوكيل لدى الاستعمار الجديد الذي اخضع له كل بلدان المنطقة. إن أوضاع العمال والفلاحين والكادحين والنساء تعد من أسوأ الأوضاع في العالم، كما أن تردي الخدمات والحرمان منها مثل التعليم والصحة والنقل...يعتبر قياسيا. إن منطقة جنوب الصحراء هي النموذج الفاقع لما تعانيه القارة السمراء من اضطهاد وحرمان وتفقير رغم ما تحتويه من ثروات تصدر لصنع تقدم دول المركز وشركاته العابرة للقارات.
إن الانقلابات العسكرية لم تحمل لإفريقيا الحلّ الجذري للمشكلات العويصة المطروحة. ودون الدخول في جدل حول تحديد طبيعة الانقلاب الحاصل في هذا البلد أو ذاك، إذ وجب التفريق بين ثلاثة أصناف من الانقلابات: انقلاب يقوم به وطنيون ويحمل شعارات الجماهير حول التغيير (ضد الهيمنة الخارجية، الإصلاح الزراعي...)، و انقلاب يحافظ على استمرارية الخيارات السائدة ولا يقوم إلا بتغيير الحكام، وصنف ثالث يهدف لأوضاع أكثر سوء وأكثر رجعية (عنف، انتهاكات جسيمة...).
إن هذا التمييز لا يعني البتة انحيازا لهذا الأسلوب في حسم الصراعات السياسية. إن هذا الأسلوب مرفوض حتى ولو حمل الضباط توجهات وطنية أو اجتماعية تقدمية، لان الانقلاب هو تعويض و استيلاء على الأسلوب الأصلي في التغيير وهو الأسلوب الذي تنخرط فيها الجماهير المعنية في حركة نضال منظم من خلال الآليات النضالية التي أنتجتها الطبقة العاملة في تاريخها (نقابات،أحزاب،جمعيات...). أما الانقلاب العسكري فيقوم على الإلغاء الكامل لعمل الجماهير ودورها حتى ولو تم تحت ضغطها وفي حالات نادرة بطلب منها نظرا للعجز عن التقدم بالنضال الجماهيري و/أو العجز عن مزيد تحمل القمع المسلط من قبل الأجهزة الأمنية والقضائية. إن الجيش هو أحد أهم أجهزة القمع التي شيدتها الدولة منذ غابر التاريخ للقيام بكل المهمات العنيفة/القتالية دفاعية كانت أو هجومية، وكان دوره الأساسي هو حماية الحكم والحاكم، لذلك كان يحوز النصيب الأهم من الإمكانيات المادية حتى يكون قويا. وظلت الصراعات داخل دوائر الحكم لقرون متتالية تتمحور حول كسب هذا الجهاز سواء داخل العائلة الحاكمة أو بين مختلف المعنيين بمآل الحكم، لذلك ظل الجيش تاريخيا محكوما بسلطة الحاكم والطبقات التي تسنده، كما ظلت قيادة الجيش حكرا على الطبقات العليا من المجتمع، أي الطبقات الحاكمة والمتنفذة من سادة ونبلاء وارستقراطيين، وكان الأمراء أو أغلبهم ينتمون إلى قيادة الجيش وهو تقليد مازال قائما إلى يومنا، فالأمير يدرب منذ طفولته الأولى على فنون القتال والفروسية ليحافظ على هيبته وكرسي حكمه مستقبلا. أما الجندية أي الرتب السفلى فهي من أبناء الفقراء من العبيد والفلاحين والعمال وهو الحال إلى اليوم، وقلة قليلة من تمكنها الظروف والمعطيات من الصعود إلى أعلى الهرمية. لذلك تحافظ الجيوش عموما على ولائها للحكم وتبعيتها له، أما حالات الانزياح عن هذا التقليد فهي إما حالات الانحياز لأحد طرفي الصراع من الطبقات والكتل المتنفذة وهو الغالب من الحالات، وإما رفع اليد عن الحاكم وتسهيل وصول غيره بما في ذلك الانحياز إلى الشعب المنتفض من قبل جزء هام ومؤثر من قيادة الجيش وهو الحال في الثورات والانتفاضات الكبرى. كما أن الجيش يمكن أن يرى نفسه جديرا بالحكم مباشرة وهو الحال اليوم في منطقة جنوب الصحراء، ففي ظل أوضاع متوترة وغضب شعبي واضح يستند المنقلبون إلى خطاب ينتصر إلى مطالب الشعب الأساسية أو جزء منها. إن الانقلابات لا تفتح آفاقا لتطور الوعي والممارسة، كما لا تطور حركة الجماهير ونضالها، بل ينكب المنقلبون على ترتيب أوضاع الحكم وسد الباب أمام انقلابات أخرى لذلك اتجهت كل تجارب الانقلابات تقريبا إلى القمع السافر لكل الخصوم، وقد طال الأحزاب والنقابات والمنظمات الثورية والتقدمية نصيب وافر منها. لقد أثبتت التجربة التاريخية لعديد الشعوب في كل القارات هذه الخلاصة، لذلك يجد الثوريون أنفسهم مناهضين للانقلابات حتى ولو عبّر منفذوها عن شعارات منحازة للشعب. ووحدهم من انسدّت أمامهم الآفاق وفقدوا الثقة في النضال الطبقي والسياسي الجماهيري هم من يتحولون إلى الدفاع عن الانقلابات العسكرية وغيرها بتبريرات لا تعكس إلاّ حالة الانهيار المعنوي تحت وقع الضعف الفكري والميداني. إن الشيوعيين لا ينحازون ولا يتذيلون لأي قوة اجتماعية أو سياسية مرتبطة بالطبقات أو الطبقات المهيمنة، فهذا يضرب في العمق استقلالية الطبقة العاملة والجماهير الكادحة واستقلالية فعلها التاريخي الذي يستهدف كل منظومة السيطرة والاستغلال التي تمثلها الدولة البرجوازية ومختلف أجهزتها المادية والإيديولوجية. إن هذه الأجهزة ليست فوق الصراع الطبقي بل هي في قلبه، وهي تتأثر خاصة في الأوضاع المأزومة والثورية بما يجدّ في المجتمع من صراعات ويضطر بعضها إلى التعبير عن مواقف من أشدها صلفا إلى أكثرها تعاطفا مع الجماهير، لذلك أفضت كل الثورات والانتفاضات في مختلف البلدان وعبر التاريخ إلى انقسامات حادة في أجهزة الحكم وإلى انخراطها في إصطفافات جديدة حول مختلف أطراف الصراع بما فيها الكادحون والثوار، ويلعب هذا الانقسام دورا مهمّا وحتى حاسما في انتصار الثورة لأنه يوجّه ضربة موجعة لقوة الدولة متمثلة في وحدة أجهزتها . لكن أن تتحول هذه الأجهزة أو المنشقين منها إلى قيادة للحراك فهذا سيشكل ضربة عاجلة أو آجلة له وللمسار النضالي المستقل للجماهير. إن الوضعية الأفضل هي محافظة حركة النضال السياسي والاجتماعي على زخمها الخاص ومسارها الطبقي المستقل، فالمتربصون بهذا النضال كثر في الداخل والخارج ولا همّ لهم سوى إجهاضه بأي شكل بما فيه حمل شعاراته والاستيلاء على نتائجه.
إن انجاز التغيير السياسي من قبل الأجهزة الصلبة للدولة ليس هو الحل الأفضل، و حتى الانقلابات التي استهدفت الهيمنة الخارجية فشلت في اختبار الديمقراطية والحريات رغم أهميته كاستحقاق عاجل في البلدان الخاضعة للاستبداد. لقد رفع المنقلبون في بوركينافاسو ومالي شعارات ضد الهيمنة الفرنسية وأعلنوا إجراءات مهمة مثل تعليق تصدير اليورانيوم والذهب إلى فرنسا وهو ما أعتبر من قبلها وقبل حلفائها بمثابة إعلان حرب، إلا أن المطلوب للتحرر من الهيمنة الخارجية هو سلسلة كبيرة من الإجراءات العملية تهمّ تفكيك شبكة السيطرة والإخضاع الاقتصادي والمالي والاجتماعي والثقافي والعسكري والأمني متزامنا مع ضرب القاعدة الطبقية الحاملة والمعبّرة عن التبعية العضوية للرأسمال الاحتكاري الخارجي. إن قادة الانقلابات سارعوا على العموم للتعبير عن التزامهم بالاتفاقيات الخارجية والمعاهدات... وان إلغاء بعض الاتفاقيات لم يشمل إلا الدولة الفرنسية في مجالات محددة بحكم حالة الغضب العارم ضد سيطرتها ونفوذها. إن تحرر هذه البلدان لا ولن يكون بتغيير الهيمنة الفرنسية والغربية عموما بهيمنة جديدة، هيمنة دول الشرق الصاعدة أي دخول الشركات الروسية والصينية عوضا عن الفرنسية. إن هذا الخيار الذي تتجه إليه بعض البلدان في إطار التعاطي مع تناقضات النظام الامبريالي العالمي هو خيار غير سليم لأنه اصطفاف جديد وراء قوى جديدة وإدامة لحالة التبعية. إن المطلوب في بلدان المنطقة والقارة ومجمل بلدان الجنوب التابعة هو التحرر من الهيمنة الخارجية لأي كان من القوى الدولية التقليدية أو الصاعدة. إن هذا لا يعني ضرورة التصادم مع هذه الدول الصاعدة بل المطلوب هو العمل من أجل إقامة علاقات قائمة على احترام الاستقلال والسيادة الوطنية، علاقات ندّية وقائمة على تبادل المصالح. إن بلدان المنطقة والقارة لها كل شروط إقامة هذا النوع من العلاقات لو وجدت فيها خيارات جديدة وطنية وشعبية، وهذه الخيارات لا تحملها وتدافع عنها إلاّ القوى الشعبية الوطنية والثورية.
لقد آن الأوان لشعوب المنطقة وقواها الوطنية والثورية أن تحتلّ مكانها الطبيعي في قيادة النضال الشعبي ضد الهيمنة والتفقير والفساد والاستبداد خاصة في ظل حالة اتساع النقمة والغضب بين الطبقات والفئات المفقرة والمسحوقة. إن القوى الثورية مؤهلة اليوم للعب دور نشيط وفعال في تأطير النضال وقيادته حتى لا يبقى فريسة للقوى الرجعية وللتوظيف الخارجي. إن المنطقة التي تستقطب اليوم أنظار العالم يجب أن تنهض شعوبها للنضال من أجل التحرر الوطني والانعتاق الاجتماعي. لقد آن الأوان لتشبيك النضال وتوحيده وخلق الأطر الملائمة والمناسبة بين الشعوب وقواها الثورية كخطوة في اتجاه إيجاد الأطر القارية باعتبار المشاكل في إفريقيا هي ذاتها من شمالها إلى جنوبها ومن شرقها إلى غربها. إن إفريقيا تحمل في أديم أرضها وفي صحاريها وبحيراتها وأنهارها و بحارها ومحيطاتها كل عناصر التقدم الزراعي والصناعي والخدمي، كما تحمل في ثقافاتها وحضاراتها كل شروط التعدد والتنوع والأصالة والانفتاح. إن إفريقيا لن تتحرر إلا حين تكون سيادتها بين أيدي بناتها وأبنائها، حينها وحينها فقط سيكون لنا مكان فوق الأرض وتحت الشمس، أي حين نكون أحرارا في قارة حرّة باعتبارنا جزء من حركة النضال الأممي والإنساني من أجل عالم خال تماما من الطبقية والسيطرة والاستغلال.

علي الجلّولي
في 5 سبتمبر 2023

الهوامش:
(1) ايكواس: المجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا، تأسست في 28ماي 1975، تضم 15دولة . ورغم طبيعتها الاقتصادية فقد قامت بأدوار عسكرية تهم النزاعات الحاصلة داخل أعضائها أو فيما بينهم. للمجموعة ذراع عسكري يسمى "لجنة رؤساء أركان قوات دفاع ايكواس". مقر ايكواس في أبوجا عاصمة نيجيريا و هي عموما تحت تأثيرها بحكم حجمها الإقليمي، كما تمارس فرنسا نفوذها في هذا التجمع من خلال الأنظمة الموالية لها.
(2) البنك الدولي، تقرير بعنوان: "نبض إفريقيا"،أفريل 2023
(3) تصريح نائب رئيس الحكومة الإيطالي "لويجي دي مايو" الذي تزامن مع "أزمة" ايطالية/فرنسية حول ملف الهجرة اللانظامية: إن اتفاقیات ما يُعرف بالاستقلال تجعل من فرنسا خامس اقتصاد في العالم، ولولا هذا الاستغلال الفرنسي الفاحش لثروات الدول الإفریقیة لكان اقتصادھا في المرتبة 15 عالمیاً .
(4) الأمم المتحدة ،تقرير، 14حانفي 2020
http cutt.us/rthuV
(5) جاء في وثيقة أصدرها البيت الأبيض بعنوان" إستراتيجية الولايات المتحدة الأمريكية تجاه إفريقيا جنوب الصحراء"ـ 8 أوت2022 ، ما يلي: " تؤدي إفريقيا جنوب الصحراء دورا مهمّا في دفع الأولويات العالمية لصالح الأفارقة والأمريكيين ، فهي لديها واحدة من أسرع المناطق نموا في العالم، وأكبر مناطق التجارة الحرّة، وأكثر النظم البيئية تنوعا، وواحدة من أكبر مجموعات التصويت الإقليمية في الأمم المتحدة" (موقع البيت الأبيضWH.GOV )








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. عمليات بحث تحت الأنقاض وسط دمار بمربع سكني بمخيم النصيرات في


.. مظاهرات في تل أبيب تطالب بإسقاط حكومة نتنياهو وإعادة المحتجز




.. رغم المضايقات والترهيب.. حراك طلابي متصاعد في الجامعات الأمر


.. 10 شهداء في قصف إسرائيلي استهدف منزلا في حي النصر شمال مدينة




.. حزب الله يعلن قصف مستوطنات إسرائيلية بعشرات صواريخ الكاتيوشا