الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


تحديات القوة الناعمة الداخلية لدولة ما بعد الاستقلال بالقرن الـ 21.. السودان أنموذجا

حاتم الجوهرى
(Hatem Elgoharey)

2023 / 9 / 7
السياسة والعلاقات الدولية


مفتتح: "مصر والسودان" وعتاب المحبة
الحقيقة التي قد لا يعرفها الكثير من أهل السودان في جنوبه وفي شماله، أن المصريين ينظرون لهم بمحبة وعاطفة لا يحملونها لأحد تقريبا، وهي محبة في مخيلة المصريين تشبه صلة الرحم دون مزايدة، حيث يمثل السودان في المخيلة الشعبية المصرية إخوة بالجوار وبلد الطيبة والسماحة والنيل الجميل والبساطة والوداعة، ورغم الخطاب الغاضب الذي يستخدمه بعض السودانيين اليوم من الذين تأثروا بالشحن الثقافي المعادي لمصر والمصريين -من مصادر متنوعة ولأسباب متعددة-؛ إلا أنه سوف يظل لهم عند المصريين حق يشبه صلة الرحم بالفعل مهما كان غضبهم تجاهنا قويا وحادا، ففي أعماقنا ندرك أنه فورة الأخ الذي يغاضب أخيه معاتبا معتدا بذاته شامخا مرفوع الرأس، دون أن يصرح له أن هذا الغضب القاسي العنيف هو عتاب محب عظيم، فعلى قدر المحبة يكون العتاب والغضب وربما القسوة المتعمدة، وهذا مقال موضوعي قدر المستطاع لكنه لا يخلو أبدا من المحبة.
وفي الوقت نفسه؛ لا يملك المتابع لما وصلت إليه الأمور في السودان الشقيق إلا السعي لتقديم يد العون قدر المستطاع، ولكن دون تجميل للواقع -وهو الواقع الذي ينسحب على معظم البلدان العربية في اللحظة التاريخية الراهنة- ومع النظر بدقة في الوقائع والمتغيرات التي وصلت إلى ذروة الاستقطاب الداخلي هناك بامتداداته الإقليمية والدولية، ونحن في الربع الأخير تقريبا من عام 2023م..

مفهوم "القوة الناعمة الداخلية" والجاذبية الطوعية
من السياسات الخارجية إلى السياسات الداخلية
بداية يجب الإشارة إلى أننا سوف نستخدم مفهوما قديما ومعروفا في النطاق الثقافي، لكننا سنستخدمه في مجال ونطاق مغاير لنطاقه الأصلي، وهو مفهوم "القوة الناعمة الداخلية" حيث من المعروف أن مفهوم "القوة الناعمة" ظهر على المستوى التاريخي في مجال السياسات الخارجية، ليدرس عموما الجاذبية الطوعية للدول وثقافاتها الخاصة عند الجماعات البشرية خارج حدودها وعند الدول الأخرى، لكننا في هذا المقال سوف نستخدمه في مجال السياسات الداخلية وبشكل مغاير وفي نطاق آخر للتعبير عن الجاذبية الطوعية للدول عند مواطنيها أنفسهم، أي بشكل داخلي وليس خارج الحدود، وكأننا نتحدث إذن عن مفهوم جديد/ قديم وهو مفهوم "القوة الناعمة الداخلية"، بمعناه الذي هو مدى القبول الطوعي من مواطني دولة ما للخطاب السياسي/ الثقافي أو لـ"المشترك المجتمعي العام" الذي تطرحه عليهم مؤسسات الدولة التي ينتمون إليها.

مفهوم "دولة ما بعد الاستقلال" عن الاحتلال الأجنبي
والدور المؤسسي للقوى العسكرية بالقرن العشرين
وسوف نطبق مفهوم "القوة الناعمة الداخلية" على الدول العربية في القرن الحادي والعشرين، وتحديدا عند الدول العربية التي ترتبط بمفهوم آخر وهو مفهوم "دولة ما بعد الاستقلال" عن الاحتلال الأجنبي منذ القرن الماضي (ومنها دولة السودان)، والتي ارتبط الشكل المؤسسي لها بدور المقاومة المسلحة للاحتلال الأجنبي، ثم تحول المقاومة المسلحة –النظامية أو غير النظامية- إلى شكل مؤسسي في الحكم مستندة إلى شعارات التحرر والاستقلال والوطنية (ويمكن أن نعتبر هذه الشعارات هي المفصلية الثقافية الخاصة بدولة ما بعد الاستقلال ومركزها)، ذلك مع الإشارة إلى أن مفهوم "دولة ما بعد الاستقلال" يمكن أن يكون مفهوما عاما وليس عربيا فقط، يشير للدول التي استقلت القرن الماضي عن الاحتلال الغربي سواء كانت عربية أو غير عربية، ولكن سيأخذ خصوصيته عربيا من جمود الوضع والظرفية التي أدت لاستمراره في البلدان العربية في القرن الجديد (الحادي والعشرين) في حين تجاوزت مرحلته العديد من دول العالم.

أسباب حصار دولة ما بعد الاستقلال
في الوطن العربي
وتضم مجموعة دول ما بعد الاستقلال في الوطن العربي عدة دول رئيسية منها: "مصر- العراق- الجزائر- السودان- سوريا – اليمن – ليبيا- ...."، ولأسباب متعددة تعرضت "دولة ما بعد الاستقلال" في الوطن العربي للحصار الخارجي والتضييق عليها، لأسباب ثقافية وواقعية واستعمارية..، لأسباب ثقافية (باعتبار أن الدول العربية تمثل قلب العالم الإسلامي وثقافته وتم استهدافها لهذا السبب)، ولأسباب واقعية (ترجع لأهمية السيطرة الغربية على منابع الطاقة والبترول التي ظهرن في القرن العشرين مواكبة لانتهاء مرحلة الاستعمار المباشر)، ولأسباب استعمارية ممتدة (ترجع لفرض هيمنة الصهيونية ودولتها على العرب بعد انتهاء الاستعمار الأوربي التقليدي المباشر).

الصهيونية ودورها
إشغال دولة ما بعد الاستقلال العربية وتجميدها
فلم ينجح العالم العربي ودوله المعنية في تجاوز الشكل المؤسسي لـ"دولة ما بعد الاستقلال" كما فعلت العديد من دول العالم في آسيا، وأمريكا اللاتينية، وأفريقيا -بدرجة أقل-، ودخلت هذه الدول العربية القرن الحادي والعشرين مثقلة بالعديد من المشاكل الهيكلية، أبرزها على المستوى الوجودي أو السياسي العام أنها تحولت إلى "دولة حارسة للتناقضات" أي دولة تقف في محلك سر -أو تم دفعها لتكون كذلك- فلم تستطع تجاوز مرحلة الاستقلال عن الاحتلال الأجنبي بسبب حضور الصهيونية الملح (وما جرى من أحداث شملت ضرب "إسرائيل" للمفاعل النووي العراقي، واحتلالها الجولان السوري، واجتياحها الجنوب اللبناني، وطردها الفلسطينيين المقاومين إلى الأردن ثم إلى تونس ثم عودتهم وحصارهم باتفاقيات أوسلو داخل الأرض المحتلة مجددا، وكذلك عدوانها على تونس بالطيران الحربي، وحروبها المستمرة تجاه مصر 56 ، 67، 1973م).

تفجير التناقضات في مستودع الهوية العربي
ووقعت "دولة ما بعد الاستقلال" ضحية للسياسات الثقافية الغربية التي دعمت تفجير التناقضات الكامنة بها، على المستوى السياسي بين الدول وبعضها وتركة الاستعمار ذاتها خاصة المشاكل الحدودية المفتعلة، على سبيل المثال وليس الحصر مثل المشاكل التي تركها الاستعمار بين مصر والسودان (خط عرض 22) وفي المغرب العربي (الصحراء المغربية)، والأهم على المستوى الثقافي والتركيز على سياسات تفجير التناقضات في "مستودع الهوية" العربي على المستوى اللغوي والعرقي والديني، ولم تكن بعض السياسات الرسمية في الدول العربية بالحكمة الكافية لتدير التنوع وتفكك التناقضات، تلك التي نفخ فيها الغرب وسياساته الثقافية عبر المنح والمراكز الثقافية والشبكات الأكاديمية (فروع الجامعات الغربية) التي أنشأها في العالم العربي، والتي أصبح بعضها لسان لحال لـ"الاستشراق الجديد" يقدم انسلاخا عن الذات العربية، ويعبر عن شعور بالانفصام تجاهها مستخدما خطاب الراعي الغربي وخاضعا للسياسات الثقافية تلك، ومدفوعا بمصالحه التي ارتبط بتلك التشابكات الثقافية والأكاديمية الغربية.

انتفاضة الأقصى والحراك الشعبي المستقل
دعما لمستودع هويته
إجمالا دخلت "دولة ما بعد الاستقلال" في الوطن العربي القرن الحادي والعشرين مثقلة بالهموم والمشاكل، لكن كرة الثلج لم تبدأ في التدحرج داخليا – لتبدا أزمة القوة الناعمة الداخلية والقبول الداخلي بوضوح- سوى مع انتفاضة الأقصى عام 2000م، حيث خرجت حركة طلابية واسعة –وغير منظمة أيديولوجيا- دعما لفلسطين في مواجهة العنصرية الصهيونية.
ثم انتفضت هذه الحركة الطلابية المستقلة مع احتلال العراق وسقوط بغداد بعدها بثلاثة أعوام 2003م، ثم تبدأ الحركات الاحتجاجية الجديدة في التكون والظهور مع تطور وسائل الاتصال الإلكتروني (المجموعات البريدية، ثم المدونات الشخصية، ثم المنتديات الحوارية، وصولا إلى الفيس بوك)..
حتى وصلت كرة الثلج إلى ذروتها بعد عقد كامل من الزمن، وظهرت الثورات العربية في العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين متمثلة في موجة أولى في بداية العقد شملت كل من (تونس- مصر- ليبيا- سوريا- اليمن)، وموجة ثانية شملت كل من (الجزائر- العراق- لبنان- السودان).

أزمة القوة الناعمة لدولة ما بعد الاستقلال وذروتها
غياب "المشترك المجتمعي العام"
ووصلت إلى ذروتها أزمة القوة الناعمة الداخلية التي تحقق حدا أدنى من "المشترك المجتمعي العام" المتفق عليه لدولة ما بعد الاستقلال في أربعة دول، اثنان من الموجة الأولى وهما: سوريا وليبيا، واثنان من الموجة الثانية وهما: السودان ولبنان، وكانت الأزمة على أشدها مع دول الموجة الثانية ففي لبنان وصل الأمر إلى أن العجز عن التوافق حول رئيس للدولة، وفي السودان وصل الأمر إلى التهديد بتفكك الدولة ذاتها!

الوضع في السودان
ومأزق القوة الناعمة للدولة وجاذبيتها لمواطنيها
وحينما نصل إلى السودان علينا أن نتوقف كثيرا؛ فالسودان هو بوابة العالم العربي الجيوبولتيكية باتجاه الجنوب الأفريقي، تماما كما يعد العراق بوابة العالم العربي في اتجاه آسيا، والسودان الحديث نشأ في توافق حول المفصلية الثقافية لدولة ما بعد الاستقلال وشعاراتها التي كانت تقوم على التحرر والاستقلال والوطنية، لكن الجاذبية الطوعية لتلك الشعارات التليدة إرث القرن الماضي؛ ربما لم تعد كافية لبناء "مشترك مجتمعي عام" جديد لدى الشعب السوداني المتنوع، والذي نجحت السياسات الثقافية الغربية في تفجير تناقضاته داخليا وإقليميا..

تفجير تناقضات دولة ما بعد الاستقلال في السودان
تم ذلك داخليا عبر الصدام بين سياسات دولة البشير وآليات الحفاظ على التنوع الثقافي ولحمته في السودان، بما دفع لانفصال الجنوب السوداني، وكذلك غياب السياسات الاقتصادية الفاعلة التي تدمج مكونات الشعب السوداني في أبنية متكاملة تحقق مفهوما للجغرافيا الاقتصادية العادلة، بما يجعل الجميع في حالة رضا فزاد الشقاق بين أفراد الوطن الواحد، وإقليميا نجحت أفكار "المركزية السوداء" العنصرية (الأفروسنتريك) في تفجير الكراهية تجاه مصر والإسلام والعروبة، والترويج للبعد العنصري الأسود للسودان واستقطابه شعبيا نحو السياسات الأثيوبية المعادية لمصر تحديدا.

أزمة الثورة السودانية
والصدام المسلح الداخلي
ووصلت أزمة دولة ما بعد الاستقلال في السودان إلى منعطف جديد بعد إزاحة حكومة حمدوك ثم استقالته، ثم وصلنا للمنعطف الخطير عندما تفجر الصراع داخل المكون العسكري نفسه بين الجيش السوداني وميليشيات الدعم السريع، خاصة في ظل الامتدادات الإقليمية والدولية لكل منهما بما يعيق انفراج الأزمة، ويدفع بها في اتجاه سيناريوهات التفكيك والمحاصصة الجغرافية سواء المعلنة أو الضمنية، العاجلة أو الموقوتة.

ما بعد شعارات التحرر والاستقلال والوطنية
المجتمع الفعال والفرز الطبيعي وتفعيل الحواضن الجغرافية
وحقيقة الأمر أن "دولة ما بعد الاستقلال" في الوطن العربي –عموما وليس السودان فقط- أصبحت في حاجة ضرورية لمراجعة مفصليتها الثقافية ومدى جاذبيتها الطوعية لمواطنيها أنفسهم بما يحقق "مشتركا عاما" يشيد وحدة الدولة ذاتها، ويجعلها تقدم حدا أدنى مشتركا للجميع يقبلوا به ويدافعوا عنه، إن المفصلية الثقافية السابقة الخاصة بدولة ما بعد الاستقلال عن شعارات القرن الماضي والتحرر والاستقلال والوطنية لم تعد كافية للبعض، بل يطالب البعض بتصورات سياسية جديدة للدولة العربية في القرن الحادي والعشرين.. ربما يمكن أن نستشف بعض ملامحها التي تتمثل في: العدالة في معايير "الدمج والتسكين" المؤسسي وفق الكفاءة والمهارة وليس وفق "الولاء السياسي"، اعتماد "الفرز الطبيعي" لمنح الفرصة لأصحاب المواهب وليس وفق علاقات القربى والمصاهرة وعلاقات السلطة، تفعيل "الحواضن الاقتصادية الجغرافية" استنادا لطبيعة كل بلد وموارده وتوظيفها، تصعيد "الكتلة الجامعة" التي تدافع بفطرتها على "مستودع هويتها" وتملك "مُعامل رفض قيمي" مرتفع ضد إغراءات الاستلاب للآخر و"مستودع هويته"، وصولا إلى حالة "المجتمع الفعال" والقيام بعملية التحديث الذاتي وبناء تراكم حضاري رافع أمام الآخرين ومواجهة التحديات المرتبطة بذلك.

دولة ما بعد الاستقلال
وإعادة تقييم دورها في الأمن القومي العربي
السودان هو بوابة العالم العربي تجاه أفريقيا ويحتاج إلى خطاب سياسي وثقافي جامع جديد، خطاب يحقق الجاذبية الطوعية لسكانه ليجتمعوا عليه، السودان محطة مهمة وعتبة أساسية في الأمن القومي العربي ومفاصلة الجغرافية بأهميتها السياسية (الجيوسياسية)، لا تقل أهمية عن العراق ودوره الجيوسياسي العربي، وما يحدث في السودان هو تهديد مباشر للأمن القومي العربي لمن ما زالوا يهتمون بهذا المفهوم العتيق.
والحقيقة أن الجاذبية الطوعية لـ"دولة ما بعد الاستقلال" العربية في القرن الحادي والعشرين في حاجة لمراجعة جادة لأنه ربما أصبح جمودها خطرا وجوديا في حد ذاته على الأمن القومي العربي، في بعده الثقافي والعجز عن تحقيق الجاذبية الطوعية- وفي بعده الإقليمي وتراجعه أمام مشاريع إقليمية أخرى متدافعة معه مثل المركزية السوداء ومثل العثمانية التركية الجديدة والتمدد الشيعي الإيراني.

دولة ما بعد الاستقلال
والدول الملكية
بل إن العالم العربي نفسه أصبح منقسما على ذاته ليس فقط في صورة "دولة ما بعد الاستقلال" وجاذبيتها الطوعية وبنيتها المؤسسية والثقافية فقط، إنما في الشق الآخر للبنية السياسية الخاصة بالدول العربية في القرن العشرين؛ وهي "الدول الملكية" فرغم تفادي هذه الدول لموجات الثورات العربية الأولى والثانية في بداية العقد الثاني ونهايته مع حضور بعض الإرهاصات (في السعودية والأردن والمغرب وعمان والإمارات الخليجية)، إلا أن التوافق و"المشترك العام" والحوار البناء بين هذه الدول ودول ما بعد الاستقلال، في حاجة إلى جهد كبير أيضا، خاصة في ظل التشاحن في العديد من الملفات الإقليمية ومساراتها!

استقطاب دول ما بعد الاستقلال
والدول الملكية في الملف السوداني
وفي السودان سوف نجد أثر السياسات الغربية عن دق الأسافين وتفجير التناقضات بين "الدولة الملكية" العربية" و"دول ما عبد الاستقلال العربية"، حيث وصل الأمر لحالة تشبه طرفي النقيض في ملف مثل الملف السوداني الآن، الذي تقول بعض القراءات إن إحدى دول الأنظمة الملكية -على صغرها- هي التي تدعم الميليشيات المتمردة، وهي التي تقف ضد المصالح المائية لواحدة من "دول ما بعد الاستقلال" الكبرى والمركزية!

نحو حوار داخلي وإقليمي ودولي لاستعادة القوة الناعمة
وبناء "مشترك عربي مجتمعي" جديد
ليُطرح هنا السؤال هل هناك إمكانية للقيام بحوار بناء لتفكيك التناقضات التي تفجرت في دول ما بعد الاستقلال العربية، حوار داخلي لبناء الجاذبية الطوعية الداخلية والوصول لتوافق و"مشترك مجتمعي" عام، وحوار إقليمي بين مجمل هذه الدول والدول الملكية للوصول إلى "مشترك عام" يحقق المصالح الكبرى ويضبط وجهتها وفق "مستودع الهوية" العربي محدداته الحاكمة، وحوار عالمي يدفع القوى الكبرى الجديدة لاحترام الوجود العربي وضبط ميول الصهيونية في الهيمنة الوجودية على العرب برمتهم وليس الفلسطينيين فحسب.

مفترق الطرق
احتمالات "إعادة الإنتاج" المفصلية القديمة
يقف السودان أمام احتمالين في المعظم للأسف مثل معظم دول ما بعد الاستقلال في الوطن العربي، الاحتمال الأول وهو التمترس حول اللحظة التاريخية لدولة ما بعد الاستقلال ومفصليتها الثقافية وتراتباتها الاجتماعية والسياسية العتيقة، وهو ما يمكن تسميته بـ"احتمال إعادة الإنتاج" أي إعادة إنتاج التراتبات الاجتماعية والثقافية القديمة نفسها لدولة ما بعد الاستقلال سلطة ومعارضة، ومعضلة هذا الاحتمال أنه لن يحتوي المطالب الحقيقية للتغيير ومعالجة الأزمة، وسوف يؤكد على التناقضات التي تفجرت داخليا وإقليميا وحضورها في السودان (ويطرح البعض هنا النظام الكونفدرالي بديلا لكنه في حقيقة الأمر سيكون تعبيرا عن الفشل في الوصول لمشترك ثقافي/ مجتمعي جديد، والهروب باتجاه الأمام فيما يشبه المحاصصة بين الفرقاء)، ولكن تبقى الخطورة الأبرز لمسار "احتمال إعادة الإنتاج" هو التفكك الداخلي وأن يلي النظام الكونفدرالي "حق تقرير المصير" الممهد لانفصال المزيد من مكونات المجتمع السوداني، بسبب غياب مشروع سياسي ومفصلية ثقافية جديدة تحقق "المشترك المجتمعي" السوداني ويجتمع حوله الفرقاء، وتعيد اللحمة للتناقضات التي تفجرت.

احتمالات بزوغ المفصلية الثقافية الجديدة
الاحتمال الثاني في السودان؛ هو "ظهور التصورات الجديدة" أي تطوير القوى المستقلة لخطاب ومفصلية ثقافية جديدة تتجاوز أبنية المعارضة التقليدية التاريخية في السودان والسلطة القائمة على حد سواء، وللأسف هذا الاحتمال ضعيف لأن التراتب الاجتماعي العربي ببنيته الثقافية/ المعرفية –عموما وليس في السودان- برمته لم يسمح بتطور تلك التصورات بشكل جماعي، وإن وجدت فهي تظل مشاريع فردية في الظل لا تملك بنية السلطة ولا بنية المعارضة التاريخية إرث دولة ما بعد الاستقلال (عند اليمين واليسار)، وهذا المسار الثاني لبزوغ مفصلية ثقافية جديدة في السودان؛ يحتاج لجماعة ثقافية جديدة تدرك التشابكات الفكرية والأيديولوجية والاجتماعية والسياسية لدولة ما بعد الاستقلال وأنساقها الثقافية المعلنة والمضمرة، وتملك القدرة على طرح البديل ومفصليته الثقافية وتحمل المسئولية التاريخية للقيام بمثل هذا الدور الواسع والمتكامل..

السودان والوطن العربي
الجسور الثقافية المطلوبة ومفصلياتها الناعمة
ربما إذا وسعنا الصورة قليلا أبعد من النموذج السوداني؛ فيمكن القول إن العالم العربي يحتاج لجسرين ثقافيين رئيسيين للعبور للمستقبل بأمان وفعالية، وامتلاك فرصة الصعود الحضاري بينيا (أي بين دوله وبعضها)، وإقليميا (في مواجهة مشاريع ثقافية إقليمية أخرى متدافعة معه)، وعالميا (في مواجهة محاولات تذييله واستقطابه في تدافعات بين المشاريع الثقافية والسياسية الدولية)..
الجسر الثقافي الأول هو تطبيع العلاقات الثقافية بين كتلة "دول ما بعد الاستقلال" وكتلة "الدول الملكية" وذلك بالمزيد من المكاشفة والعمل المشترك على مستوى السياسات الإقليمية، والتنسيق الفعال على المستوى العالمي، وتدعيم التعاون الاقتصادي الحقيقي على المستوى الداخلي والبيني.
والجسر الثقافي الثاني هو الوصول إلى حل مرحلي وسط بين المفصلية الثقافية القديمة في القرن العشرين لكل من "الدولة الملكية" و"دولة ما بعد الاستقلال"، وبين المفصلية الثقافية الجديدة الكامنة في القرن الحادي والعشرين لمشروع الثورات العربية، إذ أن الإنكار والقطيعة بين المفصليتين سيؤدي إلى الخصم من رصيد "الأمن القومي العربي" والمحصلة الكلية له، وسيؤدي إلى طول المسافة الزمنية وزيادة الموارد اللازمة التي يتطلبها استعادة الذات العربية، وصعودها في مواجهة المشاريع الإقليمية والدولية الأخرى.

خاتمة: حلول خارج الصندوق
وتجاوز الاستقطابات والبدائل المطروحة سلطة ومعارضة
إنما ستكون محاولة قبول التغيير من جانب المفصلية الثقافية القديمة في القرن العشرين، ودمج مطالب المفصلية الثقافية الجديدة -طرح القرن الحادي والعشرين- في سياساتها العامة، مسارا سلميا ناجعا يمهد الطريق لمجتمع عربي فعال يقدم "مشتركا مجتمعيا" فاعلا يحقق مفهوم "القوة الناعمة الداخلية"، بما قد يختصر سنوات طويلة من الصدام بين المفصليتين الثقافيتين (مفصلية القرن العشرين وما بعد الاستقلال في الدول الجمهورية والملكية، ومفصلية القرن الحادي والعشرين وطموح الثورات الجديدة في مجتمعات جديدة وصاعدة عالميا على المستوى الثقافي/ المعنوي قبل أي شيء)..
وهو الصدام الذي لن يستفيد منه سوى المشاريع الإقليمية المنافسة للذات العربية.. وعلى رأسها المفصلية الثقافية التي تطرحها "إسرائيل" عن الصهيونية الإبراهيمية الروحية الجديدة والهيمنة الناعمة على الدول العربية، والمفصلية الثقافية المرتبطة "بالمركزية السوداء العنصرية" التي تقودها أثيوبيا لنزع السودان من حاضنته العربية وعزل دول شمال أفريقيا العربية، والمفصلية الثقافية المرتبطة بالعثمانية الجديدة ومحاولة تركيا فرض هيمنتها على العرب باسم الشكل السياسي للخلافة القديمة، والمفصلية الثقافية المرتبطة بإيران وأشكال التمدد السياسي المرتبط بقواعدها الشيعية في الدول العربية..
ناهيك عن القوى الدولية الغربية التقليدية والقوى الشرقية الجديدة الصاعدة (مثل روسيا والصين)، ومحاولتهم استثمار كل هذه التناقضات العربية لصالح النفوذ الخاص بهم... وهنا يصبح البحث عن مفصلية ثقافية جديدة تتجاوز التناقضات التي تفجرت في دولة ما عبد الاستقلال عموما، وفي السودان خصوصا، مشروعا من الأهمية والأولوية عند أصحاب الرؤية الثاقبة والذين لا ينظرون أسفل قدميهم.. والذين يبقى لديهم الأمل واسعا -يفيض دوما مثل النيل- في استعادة الذات العربية ونهضتها في القرن الحادي والعشرين، وتحقيقها لـ"قوتها الناعمة الداخلية".








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. Brigands : حين تتزعم فاتنة ايطالية عصابات قطاع الطرق


.. الطلاب المعتصمون في جامعة كولومبيا أيام ينتمون لخلفيات عرقية




.. خلاف بين نتنياهو وحلفائه.. مجلس الحرب الإسرائيلي يبحث ملف ال


.. تواصل فعاليات معرض تونس الدولي للكتاب بمشاركة 25 دولة| #مراس




.. السيول تجتاح عدة مناطق في اليمن بسبب الأمطار الغزيرة| #مراسل