الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ثقوب سوداء في رواية شربل العرجاء

جهاد الرنتيسي

2023 / 9 / 8
مواضيع وابحاث سياسية


يَحول عرج الرواية التي قدمها غسان شربل للحصار والرحيل عن بيروت عام 1982 والثقوب السوداء التي انتشرت في حلقاتها الثلاث المنشورة في صحيفة "الشرق الاوسط" دون تقديمها رؤية متوازنة او اضافة او حتى توفير فرص العثور على قطبة مخفية مما يستدعي التوقف عند معطياتها وشهاداتها التي جمعت في وقت لاحق على الحدث المفصلي والسياقات التي جاءت فيها الاحداث.
يشير الكاتب في بدايات روايته للاحداث الى كشف الغزو الاسرائيلي للبنان عن شيخوخة الاتحاد السوفيتي، ولم يجانب الصواب في اشارته، لكنه استثمر الحقيقة في مسارات مختلفة تضاربت مع بعضها في اكثر من منعطف.
رغم ارتباط الشيخوخة بالهشاشة وتراجع القدرة على التأثير استطاع الاتحاد السوفيتي عرقلة مشروع الامير فهد الذي طرح في العام 1981، حسب ما جاء في احدى الحلقات الثلاث على لسان عضو مركزية فتح هاني الحسن، دون اي تعليق على الشهادة من قبل شربل لتظهر بصورة المسلمة، وبذلك تجاهل الكاتب فرضية تعثر المشروع بفعل القوى الوطنية الفلسطينية ـ سواء في داخل حركة فتح او فصائل منظمة التحرير ـ التي كانت لها اعتباراتها المعلنة والواضحة التي تدور في مجملها حول تعارض المبادرة مع الثوابت الوطنية الفلسطينية، ولم يلتفت للقبول الفلسطيني الواسع الذي حظي به موقف هذه القوى، وفقدان القيادة المتنفذة في منظمة التحرير القدرة على مواجهة هذا الزخم، وبذلك التقى الكاتب والشاهد عند استبعاد البعد الوطني للموقف، املا في تكريس فرضية تأثيرات خارجية لحليف تبذل المحاولات لاظهاره بصورة المشغّل للعملاء.
تأخذ قراءة قدرات الاتحاد السوفيتي منحى آخر في مواضع اخرى، فهو غير مؤثر على اسرائيل بناء على اعترافات المسؤولين السوفيت ولم يجانب التقييم الصواب اذا اخذنا في عين الاعتبار اصطفافات القطبية الثنائية، تتذرع موسكو بخشية تدمير العالم من اجل بيروت وقد تكون هذه الذريعة حقيقية في ظل توازنات تلك المرحلة، عتب قيادات فلسطينية على السوفيت ونفور اخرى من موسكو اقرب الى العنصر المكمل للمشهد، لكن الصورة التي قدمتها الحلقات الثلاث ظلت ناقصة بتجاهلها للصمت الرسمي العربي عن حصار عاصمة عربية، فمن الاولى ان يلام الاشقاء وجيوشهم قبل الحليف، جرى تجاهل هذه الفرضية في تلك المرحلة، لكنها لا تسقط بالتقادم حين تعاد القراءة بعد مرور سنوات على الحدث.
تعاملت شهادة الحسن التي يتبناها الكاتب مع مشروع الامير فهد باعتباره محاولة لابطال النوايا الاسرائيلية لغزو بيروت، جاءت بعد اتصالات قيادة منظمة التحرير مع الرياض، وفي هذه المعلومة ما يستحق التوقف لعدة اسباب، ابرزها انها تتعارض مع السياق الذي جاء فيه المشروع وهو الاستجابة لدعوة وزير الخارجية الامريكي الكسندر هيغ الى تحرك اصدقاء الولايات المتحدة لردع السوفييت والدول العاملة لحسابهم كما جاء في التصريحات التي ادلى بها خلال جولة قام بها في المنطقة، ولا تتفق الشهادة العتيدة مع الهدف المعلن للمشروع وهو التوصل الى تسوية للقضية الفلسطينية، تكفي العودة الى بنوده للتأكد من هذه المسألة، علاوة على عدم صدور توضيحات لاحقة من اصحابه تكشف عن وجود اهداف اخرى ذات طابع تكتيكي.
يظهر الكاتب حماسا للشهادات التي تحاول تصوير فصائل يسار منظمة التحرير واليسار الفتحاوي باعتبارهم ادوات، مرة للاتحاد السوفيتي، واخرى للسوريين، وفي ذلك مغالطة كبرى اذا اخذنا في عين الاعتبار عددا من المعطيات، بينها ان لهذه القوى شارعها الذي يرى في السوفيت وسوريا وغيرها حلفاء دوليين واقليميين في مواجهة الحلف الامريكي الذي كان يراهن عليه اليمين الفلسطيني، كانت الساحة الفلسطينية منقسمة حول القطب الدولي الذي يمكن التعويل عليه للوصول الى اهداف محددة، وبالتالي من غير الانصاف التعامل مع احد شقي المعادلة الفلسطينية باعتباره تابعا والنظر للاخر باعتباره حرا في خياراته، ظهرت ابعاد هذه الاصطفافات واضحة في الالتفاف الشعبي حول مطالب انتفاضة فتح عام 1983، المأزق الذي واجهه ياسر عرفات في التعامل مع الانشقاق في بداياته، واضطراره الى التصعيد مع سوريا لاستعادة الشارع الذي ادار ظهره له.
تخضع رواية الصمود في بيروت التي يقدمها الكاتب للتضليل الذي عملت القيادة المهيمنة على تكريسه، بتقديمها ياسر عرفات بصورة بطل الصمود على حساب الاخرين الذين ظهروا في صورة المغامر الذي لا يعطي وزنا لقوانين الصراع، وفي ذلك جرعة لدفع القارئ نحو مقارنة بين لوحة مرسومة بالالوان الزيتية واخرى كاريكاتورية، يتم تعليق الاولى على الجدار، وتلقى الاخرى جانبا بعد قراءة الصحيفة.
كان بامكان الكاتب الاقتراب خطوة من الحقيقة واحداث شيء من التوازن في روايته لو عاد الى اجتماع كلية الهندسة في بيروت ـ قبل اشهر من الغزو الاسرائيلي ـ والمشادة التي حدثت بين ياسر عرفات وزعيم اليسار الفتحاوي نمر صالح "ابوصالح"، والاستماع للذين شاركوا في ذلك الاجتماع، فقد كان معظمهم على قيد الحياة حين شرع في جمع شهاداته.
وجد المشاركون في ذلك الاجتماع انفسهم بين خياري القتال والاستسلام، الانسياق وراء الامريكان او الاصطفاف مع سوريا، بعد القاء عرفات كلمته، مما اضطر ابو صالح لرد حاد عكس حالة الاستقطاب الداخلي بين المقاومة والانسحاب، يعرف الذين عاشوا الحياة الداخلية في حركة فتح قبل الحصار وخلاله وبعده شكل التعبئة الذي اتبعه التيار المتنفذ قبل حدوث المعركة ومحاولته ايصال الكوادر والاعضاء الى قناعة بهزيمة على الابواب تفرض معطيات جديدة واساليب عمل مختلفة وابعادهم عن خيار المواجهة، الغضب الذي انتاب الكادر الفتحاوي جراء انسحابات ابو هاجم والحاج اسماعيل من الجنوب مع بدء الاجتياح والغطاء الذي وفره عرفات، وقرارات التنقلات العسكرية التي صدرت بعد الانسخاب لتبعد القادة العسكريين عن ساحات المواجهة توطئة للركوب في القطار الامريكي.
لم يكن خيار اطالة الصمود في المدينة الذي حاول يسار فتح دفعه الى الامام مبنيا على انتظار الاتحاد السوفيتي بقدر ما يستند الى امكانية استنزاف القوات الاسرائيلية وايجاد توازنات جديدة.
تنكمش امام هذه المعطيات رواية تشدد عرفات في زمن الحصار واصراره على الصمود، وتتراجع جدوى تضخيم مسؤولية السوفيت عن عدم مواصلة القتال التي تم تحميلها في مراحل سابقة للسوريين رغم انهم كانوا الطرف العربي الوحيد الذي شارك في المعركة الى جانب الفلسطينيين والقوى الوطنية اللبنانية.
تعري رواية زعيم الحزب الشيوعي اللبناني الاسبق جورج حاوي الاساطير التي كانت تنسج حول فشل محاولات اسرائيلية لاغتيال عرفات خلال حصار بيروت فـ "نحن مكشوفون للاستخبارات الإسرائيلية والتصوير الإسرائيلي، عندما كنا نجتمع يبدأ القصف الإسرائيلي على محيط السفارة، فننزل إلى الملجأ، القصف كان رسالة من إسرائيل إلى عرفات مفادها: لا تتكلوا على السوفيات" مما يعني ان عرفات كان في متناول الاسرائيليين، بعكس ما كان يتم تسويقه على قواعد فتح بعد 1982 للحد من غضبها على قيادتها المتهمة بالتقصير، ومن ناحية اخرى يمكن الاجتهاد في تفسير الرواية لتأخذ منحى توجيه اسرائيل الرسائل للسوفيت من خلال قصف محيط سفارتهم في المدينة المحاصرة.
يدير الكاتب ظهره للواقع ويقطع شوطا واسعا نحو الخيال مع تسليمه بصحة رواية هاني الحسن لحوار جرى مع ضابط الـ "كي جي بي" المدعو "الكسندر" طلب فيه الاخير مساعدة منظمة التحرير الفلسطينية في تسهيل تسليم الحزب الشيوعي الايراني "تودة" مقاليد الامور في ايران.
ياخذ استخدام شهادة الحسن التي يتعامل معها شربل مجددا باعتبارها مسلمة اكثر من منحى، في بعض جوانبها محاولة لمسخرة الاتحاد السوفيتي المنهك من صراع القطبية الثنائية، فمن غير المعقول ان مخابرات تلك الدولة العظمى عاجزة عن قراءة التوازنات الداخلية الايرانية المتمثلة برمزية اية الله الخميني وحضور مجاهدي خلق الذين تحولوا فيما بعد الى قوة معارضة رئيسية وغياب قدرة "تودة" على السيطرة حتى لو كان قوة فاعلة في تحريك الشارع الايراني ضد النظام المخلوع، وتنطوي الشهادة على محاولة لاظهار اليمين الفلسطيني باعتباره ندا للسوفيت، وتكريس صورة اليسار العميل للمخابرات السوفيتية، لا سيما وان الحديث عن هذه الواقعة يسبق الولوج الى بدايات علاقة السوفيت مع الظاهرة الفلسطينية برواية قصة ترددت اكثر من مرة حول لقاء جرى بين مسؤول المجال الخارجي في الجبهة الشعبية المناضل وديع حداد ورئيس الـ "كي . جي . بي" يوري اندروبوف في غابة قريبة من موسكو، طلب فيها الاول اسلحة نوعية صغيرة يتم تسليمها قبالة شواطئ عدن، واللافت للنظر انه لم تتم الاشارة الى المصدر، والشهود على الواقعة.
تندرج شهادة مدير مخابرات الجيش اللبناني جوني عبده حول تسرب معلومات الغزو الاسرائيلي لبيروت قبل اشهر من حدوثه في سياقات مماثلة، فقد ورد فيها انه ابلغ الجانب السوري عما تخطط له اسرائيل، الامر الذي لا يخلو من تجاهل لمدى نفوذ سوريا في لبنان واتاحة هذا النفوذ الحصول على المعلومات من اطراف لبنانية وفلسطينية مختلفة، وفي الشهادة تقليل من قدرة الـ "كي جي بي" مخابرات القوة العظمى على الوصول الى المعلومة التي ظهرت في سياق الشهادة باعتبارها حكرا على استخبارات الجيش اللبناني ووضع الحليف السوري في الصورة.
الواضح من خلال شهادة عبده رغبته في تضخيم دوره، وربما انسجامه مع رؤية ذلك الدور بحجم اكبر مما هو في الواقع، ولا شك ان في تعامل شربل مع الرؤية المضخمة على هذا النحو محاولة لتوظيف المبالغة والتضخيم في تسخيف السوريين والروس معا.
للمهزومين روايتهم، ابتداء من السوفيت ومرورا بالسوريين واليسار الفلسطيني الذين خذلتهم التحولات الدولية والاقليمية، لا يتحمل غسان شربل وحده مسؤولية تغييها، فهي السردية التي امتلك المنتصرون القدرة على طمسها لصالح الرواية الاخرى، ومن المفترض التنبيش عنها ووضعها في عين الاعتبار، كي لا يبقى التاريخ ماشيا على قدم واحدة.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. تطبيق يتيح خدمة -أبناء بديلون- لكبار السن الوحيدين ! | كليك


.. تزايد الحديث عن النووي الإيراني بعد التصعيد الإسرائيلي-الإير




.. منظمة -فاو-: الحرب تهدد الموسم الزراعي في السودان و توسع رقع


.. أ ف ب: حماس ستسلم الإثنين في القاهرة ردها على مقترح الهدنة ا




.. متظاهرون مؤيدون لفلسطين يلاحقون ضيوف حفل عشاء مراسلي البيت ا