الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


رواية -الحياة لحظة- الفصل الخامس عشر -الأخير- - بم -

سلام إبراهيم
روائي

(Salam Ibrahim)

2023 / 9 / 8
الادب والفن


- بم -


كان «إبراهيم» يتكور مذعورا، موثوق اليدين والقدمين في طرف حوض سيارة التيوتا بيكم دبل قماره، وإلى جواره ينحشر «أحمد» الذي شلّه الرعب وجعله يحملق بذهول.. وكأنه في عالم آخر، وحولهم في الحوض يجلس أربعة رجال ببنادقهم الكلاشنكوف، يرتدون ثيابًا بيضاء عريضة، ويلفون وجوههم بالكوفية البيضاء المرقطة ببقع سوداء.. يلزمون الصمت، ويحدقون نحوهم بعيون مثل عيون الصقور، وقسماتهم بتقاطيعها الضخمة، تحتدم بالقسوةِ، وكأنها قدّتْ من رملٍ متحجر.
ما حدث لهم كان مباغتًا يشبه ما يحدث في أفلام العنف الأمريكية بالضبط.
بعد تناول الفطور في ذلك المطعم القريب من نقطة «الوليد» الحدودية، على الطريق السريع والمكتظ بالسواق والمسافرين، وأثناء تناول الشاي أسرّ «إبراهيم» لـ «أحمد» وللسائق بريبته؛ إذ سرعان ما خفَّ دفق الحنين، وبدأ «إبراهيم» يتلمس الوجوه المحيطة بوجودها الحقيقي.. فلاحظ في عيون المحيطين توثبًا وتدقيقًا، تحدق فيهم وفي طرفها مكرٌ، لكن السائق المعتاد على الطريق، و«أحمد» استخفوا بخشيته، وردّها «أحمد» إلى مخيلته، التي ألهبها الأدب قائلا:
- «إبراهيم» هؤلاء عراقيون.. إخوتنا في التراب والماء والهواء، لا تكن سيئ الظن.. وقت الدكتاتور راح!..
طالما أنقذه هذا الحس الغريزي من الموت مراتٍ عدة، لكن هذه المرة استسلم لقول صاحبه، مأخوذا بحلم دخول مدينته بعد ساعات معدودة.. كانت سيارة الأجرة القديمة تنهب أسفلت الطريق السريع، وتتوقف أحيانا عند نقاط تفتيش طيارة، يقف فيها عراقيون بصحبة جنود أمريكان، فيُسمَح لهم بالمواصلة بعد تدقيق الجوازات.. كانت حركة الدبابات والمدرعات الأمريكية دائبة حول الطريق.. عبروا بقعة خضراء، فسأل «إبراهيم» السائق عنها فأخبره أنها مدينة «حديثة».. كان «أحمد» نشطا عقب قسط النوم الطويل، يوجه كلامه إلى «إبراهيم» عن عزمه على تقديم محاضرات عن الحضارة السومرية، التي تعّمقَ في دراستها أثناء وجوده في ألمانيا، فرتّبَ كل تلك المعارف في محاضرة، أبرز أوراقها، وناولها لـ «إبراهيم» كي يطلع عليها قائلا:
- ستقدمني يا «إبراهيم» في أمسية!.
وأردف:
- تخيّل نحن نعيش في مدينة، وحولنا حضارة طَورتِ البشرية من وضعها الحيواني إلى البشري، وأبناء مدينتنا لا يعرفون ذلك!.
- ...
كان «إبراهيم» قلقا يتتبع الطريق وأفق البادية بريبة، هازًّا برأسه موافقا على قول «أحمد»..
- تصور مدينة «نفّر» عاصمة السومريين، على بعد خمسة وعشرين كيلومترا من الشوارع والبيوت التي نشأنا فيها.
- ..
- الباحثون الألمان.. بعضهم كرّسَ حياته كلها لدراسة حياة أسلاف ترابنا!.
- ..
- هل تخيّلتَ أنهم شربوا من النهر نفسه الذي نشرب منه الآن، وتنفسوا الهواء نفسه وبنوا بيوتهم من الطين نفسه.. هم نحنُ من هذا المنظور!.
- ..!.
لم يكن «إبراهيم» قادرًا على الثناء على ما كان يفضي به «أحمد» من أفكار، لا بل كان لديه المزيد ممّا يعمق قول وأفكار صاحبه؛ إذ إنه اشتغل في دائرة تلقيح اصطناعي للأبقار في ناحية «نفر».. بالذات أول سنتين من سنيّ الحرب العراقية - الإيرانية بين 1980- 1982، وكان يدور في الأرياف كل صباح؛ ليلقح الأبقار التي يجلبها الفلاحون إلى حظائر موزعة في طرف كل قرية، وذلك ما يجعله يمر كل صباح على موقع آثار مدينة «نفر» السومرية، فكان يترجل من السيارة أمام دهشة سائقه القروي، ويذهب متأملا الصمت والجدران القديمة، التي لا يزورها أحدٌ ممن يسكن في الجوار، عدا حارس عينته «مديرية الآثار»، وهو فلاح من قرية قريبة لا يكاد يحضر المكان..
وقتها كان «إبراهيم» قد قرأ كل ما توافر من كتب عن الحضارة والأدب والحياة الاقتصادية والاجتماعية لأسلافه العظام.. لكنه كان هاجسًا بمصيبة، سرعان ما وقعت و «أحمد» يحلم بمحاضرة عمن سكن مدينتنا من الأسلاف البعيدين.
أوقفهم حاجز عسكري وسط الصحراء، قبل وصولهم الرمادي.. أبرز السائق هويته أمروه بالترجل.. لم يسألهما أحد للوهلة الأولى، إذ انشغلوا في حوارٍ مع السائق بعد تقليب الأوراق، التي أبرزها، ثم تطور إلى شبه شجار:
- انزل ابن الكلب!.
صرخ أحد الشرطة بالسائق لما تلكأ في النزول؛ مما جعل السائق يقول بصوتٍ واهن مذعور:
- ليش إخواني.. ليش أش مسوي.. ليش أني عراقي مثلكم!.
وتشبث بالمقود بقوة، فانحنى شرطيٌّ، وسحبه من كتفه بعنف ملقيا به على جانب الطريق صارخًا:
- رافضي مشرك مرتد!.. أكسب بدمك ثواب!.
.. وصوّب فوهة بندقيته نحو رأس السائق، الذي شبّك أصابع كفيه حول قفا رأسه غامدًا وجهه في التراب.. الأمر جرى في بحر ثوانٍ: أطلق سيل من الرصاص على الكيان الرث الممدد المستسلم على تراب البرية، فأنتفض الرأس وهَمَدَ ساكنًا، وكأنهُ لم يكنْ. جمدهما الهول حتى أنهما لم يستطيعا النظر إلى بعضهما.. لبثا متيبسين كلٌّ في مكانه.. أحمد في المقعد الخلفي.. و«إبراهيم» جوار مقعد السائق الفارغ. كان المسكين مسفوحًا على البرية على بعد أقدام عشرة من باب السيارة المفتوح. حملق بالجسد المبحر في الصمت والسكون هاجسًا في تلك اللحظة بأن فقاعته موشكة على الانفجار، بل توقع أنها ستنفجر في الدقيقة التالية، وشرطي آخر يتقدم فاتحا باب المقاعد الخلفية، منحنيًا بقامته الفارعة، نحو تكور «أحمد» المذهول صارخًا بغلظة:
- هويتك؟!.
تمنى «إبراهيم» تلك اللحظة بالذات لو تنشق الأرض وتبتلعه كما يحدث في حكايات «ألف ليلة وليلة».. لكن هيهات تلك أخيلة وهذا واقع إلى الحجر أقرب. تسمرت عيناه على الشرطي المنحني الذي مدّ يده الطويلة بكفها اليابسة بأصابعها المتشنجة نحو الجواز الذي أخرجه «أحمد» بكفٍ مرتعشةٍ، جعلت الوجه البدوي القاسي يتهلل فرحًا قائلا:
- الجبان راح يقف قلبه من الخوف!.
والتفت نحو «أحمد»متسائلًا:
- شو اللغة المكتوب بها الجواز!.
أدرك «إبراهيم» أن لهجة اللابس زي الشرطة غير عراقية، إذ لكنتها البدوية واضحة، ولا يعرف شيئا من اللغات الأخرى. أجاب «أحمد» بصوت يرتعش:
- جوازي ألماني!
فصاح بصوت غليظ فَرِح:
- .. ألماني.. تخيلوا هذا ألماني.. أهلا بك في بلاد الإسلام!.
التفت نحو «أحمد» وسأله:
- أأنت ألماني؟!.
فأجاب «أحمد» بعناء:
- عراقي بس متجنس ألماني!.
فقال موجها الكلام إلى مجموعته، التي كانت تشهر أسلحتها مراقبةً الطريق:
- صيد دسم يا جماعة!.
تفحص جواز «إبراهيم» وأردف مرحًا:
- والثاني دنمركي يا جماعة.. أهلا بكما أحباب أنتم في ضيافة المجاهدين!.
جروهما جرًّا عنيفا، شدوا وثاق أيديهما وأقدامهما، وأصعدوهما حوض سيارة التيوتا، التي نهبت طريقًا جانبيًّا، بدا وكأنه سيضيع في عمق الصحراء.
كان «إبراهيم» في زاوية حوض التيوتا المجاور لنافذة المقاعد الخلفية.. يتكور عاجزا تمامًا، يدور في ذهوله سؤال وحيد عاشره في اللحظات الحاسمة في المخاض الشرس الذي عاشه:
- هل ستكون الدقائق التالية ختام رحلة العمر؟!.
وقع السؤال كان مجردًا، فلم يشعر «إبراهيم» بجدية لحظة المغادرة المحتملة، بل كان يأمل ككل مرة في الخلاص من مأزق التهديد بطريقة ما.. فما جرى قبل دقائق مع السائق بدا مثل وهمٍ.. مثل كابوس.. أو مشهدٍ عنيفٍ من فيلم، برعت السينما الأمريكية في جعله زادًا يوميًّا عبر السينما والتلفزيون.
- هل ستنفجر فقاعتي يا «شاكر ميم»؟!.
مزدحما بالسؤال نفسه الذي يأتي بأشكالٍ مختلفة، والسيارة تبحر في غور الصحراء.. والسماء ساطعة الزرقة وجواره «أحمد» مطأطئا رأسه بين كتفيه ملتزمًا الصمت.. ودَّ لو يرفع رأسه مرة ليرى عينيه، لكن هيهات كان في وادٍ بعيد، فيه الأشياء محسومة، مستسلما.. وكأن ما يجرى لهما قدرٌ نزل من السماء.
أنصت لأزيز السيارة المتوغلة في الرمل، متحاشيًا النظر إلى وجوه المسلحين المحيطين بهما.. أنصت مبحرًا في يمِّ عمره الصاخب الذي تأرجح فيه مرارا على حافة الدنيا.. فأول مرة أحس فيها بهلع فقدان الدنيا، حينما كان صبيا بعمر الثامنة، وكان يحب الماء، فيتسلل إلى نهر المدينة الصغير ظهيرة كل يوم صيفي، ويسبح على الجرف معاندًا وصايا الأهل.. وكانوا يكتشفون ذلك كل مرة.. فدأب أبوه على مراقبة الشط كل ظهيرة.
وفي مرة كان يسبح في الجرف الضحل، فلمح أباه على دراجته الهوائية مارًّا يتفحص السابحين.. انتابه الرعب وجعله يبتعد قليلا.. قليلا نحو عمق النهر ظانًّا أنه لو غط عميقًا سيختفي عن عيني أبيه.. إلى أن فقدت قدماه ثباتهما مبتعدة عن رمل الساحل الهش، وتأرجحت في الماء فغمره.. جاهد بيديه وقدميه حتى طلع إلى السطح والمجرى يدفعه بعيدًا.. ثلاث مرات ظهر على سطح الماء، صارخًا مستنجدًا، والماء بدأ يملأ رئتيه.. لم يزل يتذكر حتى هذه اللحظة، وهو يتكور في زاوية حوض السيارة المكشوف، رعبه وهو يتخيل نفسه غريقًا، مثل الذين يأخذهم نهر المدينة كل صيف..
لم يزل يحس بطعم الماء ثقيلا في جوفه في المرة الأخيرة، التي صرخ فيها مستنجدًا.. عاد ذاك الطعم الغريب، وهو يجلس متكورًا وسط المسلحين الصامتين، وكأنهم أسلاف أبي الهول والسيارة تمخر بهم في مجهول الصحراء.. ظل يتذكر بوضوح اللحظة التي سبح فيها نحوه ولدٌ يكبره بأعوام.. رفعه من تحت كتفيه إلى سطح الماء، ودفعه مرتين نحو ساحل النهر الضحل، لم ينس بقية عمره اللحظة التي لامست فيها قدماه رمل الجرف، وكأنه بلغ حضن الدنيا من جديد، فرمق بودٍ وجه الولد اليافع الذي لم يره أبدًا بقية العمر..
- هل سيأتي منقذٌ مثل ذاك، ويخلصه من هذه المحنة؟!.
فكر في ذلك ورمق من تحت أهدابه قسمات المسلحين، الذين تمنى لو تبادلوا حديثا ما، كي يفهم عنهم شيئًا ما، أي شيء، عله يجد لغة ما معهم.. لكنهم كانوا يجلسون متقابلين على حافة حوض السيارة الجانبي، ملفوفي الرؤوس باليشامغ، يمسكون بنادقهم بقوة ويحدقون بوجوه بعضهم البعض بصمت.. فتخيلهم من حجر، وكأن الله قدَّهم منه لا من طين أدم.
منذ تجربة غرقه في الطفولة.. تشبث بالحياة تشبثًا مجنونا.. لما كبر ووعى وفلسف الأشياء، وجد صدى كلمات أمه الحزينة، التي كانت تقول له عن أبيه السكير:
- يمه أبوك يريد يموت من وقت.. ليش ما أتفهم.. ليش واحد يعوف هذا الهوه الطيب وينام جوه التراب!.
سوف يستعيد هذه الكلمات بعد سنتين وسيارة حمل تدهسه، وهو في طريق عودته من دكان عمه الحلاق ظهرًا.. كان قد توقف على رصيف لتناول قدح من الأيس كريم.. يتذكر ذاك المشهد بالتفصيل فتلك الظهيرة الحارقة تشبه هذه الظهيرة، ومجهولون يقودونه نحو المجهول في سيارة مكشوفة.. تنهب رمل الصحراء.. مثل هذه الظهيرة.. بالضبط. كان يظاهر شارع «صاحب عكموش» القادم من عمق المدينة باتجاه جراج «عفك»، يبادل صبية حديثا حول عربة خشبية، تبيع الأيس، عندما سمع أصواتا تصرخ به كي يبتعد.
التفت صوب ما يشيرون، فسمَّره الرعب ولوري نقل ركاب خشبي قديم متجه نحوه على بعد أمتار وإطاراته تصعد الرصيف.. بعدها لم يتذكر شيئا. أحس بجسده يسحق ولغط وصراخ وتنادى، ثم هو في حضن رجل يتذكر اسمه حتى الآن «سلطان» من أهل الشط، صاحب دكان قريب.. كانا في مقاعد سيارة خلفية.. تنهب الطريق إلى مستشفى الديوانية الجمهوري الذي يبعد قرابة مائة متر عن موقع الحادث.. كان على وشك الاختناق والهواء الذي تحكي عنه أمه أصبح عسيرًا، فراح يصرخ متخيلا الجنائز التي تمر كل يوم محمولة على الأكتاف، أمام دكان عمه الحلاق، عابرة جسر الديوانية الخشبي القديم، الواصل بين شارع «علاوي الحنطة» وشارع الصيدليات باتجاه كراج النجف:
- عمي.. عمي.. خاف أموت.. خاف أموت!.
متشبثا بكتفي الرجل، الذي كان متماسكًا وصوته الحنون يطمئنه:
- لا عمو .. لا تخاف.. راح نوصل المستشفى وتطيب!. لا تخاف عمو!.
سيغيب عن الوعي ويستيقظ بعد وقت لا يدرك ولم يدرك إلى الآن مدته على صوت أمه، التي دخلت ردهة المستشفى بثوبها الأسود الطويل وقسماتها الجميلة الحزينة، وهي تصرخ فاقدة ثباتها الذي تعلم منه الكثير لاحقًا:
- يمه.. ابني فدوة لطولك!.
ففتح عينيه ليرى المضمدين، يخرجونها عنوة قائلين:
- لا تفزعيه.. لا يجوز.. لا!.
ليغيب بعدها عن الوعي!.
- هل سيدعني هؤلاء أزور قبرها؟!.
تساءل وهو يحدق من تحت أهدابه شبه المسدلة في الوجوه الصخرية السادرة في صمتها، والساكنة في شمس الظهيرة التي سطعت محرقة، والسيارة تنهب الرمل مخلفة غبارًا يتصاعد مشكلًا خلفية متحركة، كالحة لأجساد المسلحين المحيطين بهما.
- يا «شاكر ميم» .. هل سيفجر هؤلاء فقاعتي؟!.
- ...!.
- لو يسمحون لي برؤية مدينتي مرة واحدة فقط، وبعدها ليفعلوا بي ما يشاءون!.. لو!.
ردَّد مع نفسه ناظرا إلى صفيح أرض حوض العربة الساخن الوسخ، المنتفض على وقع طريقٍ غير ممهدٍ وسط كثبان الرمل، إلى قدميه المكبلتين بحبال من القنب، وقدمي «أحمد» المشدودتين، البائدتين.. وكأنهما قدما ميتٍ، المجاورتين لحافة قدميه المتشنجتين.
كان يود لو يعرف ما يفكر به «أحمد » الحالم بمحاضرة، ينوِّر فيها عقول أبناء مدينته.. لو يرفع رأسه مرة واحدة ؛ كي يرى ما في عينيه فقد يُعِينه أو يعينان بعضيهما، لكن هيهات كان «أحمد» سادرًا في صمته وتحجره، وكأن الكائنات الصخرية المسلحة المحيطة بهما أورثته صمتها وتحجر أجسادها القاسية.
بدا الطريق الصحراوي طويلًا.. مضنيًا، أو هكذا أحس به «إبراهيم» المحتدم المتسائل المرة تلو المرة:
- هل من المعقول أن يقضى نحبي هنا، بعدما سَلِمْتُ من عشرات الميتات في أحرج الأوقات؟!. هل وفي هذا التوقيت أين عدالتك يا إلهي!. أتحرمني من متعة رؤية أمكنة طفولتي في خريف عمري، وتأخذني نحوك مكسور الخاطر.. لا يا ربي.. أرجوك.. لا.. فهذه الوجوه المقدودة من حجر رمل الصحراء ليس في أعماقها شفقة ولا رحمة.. لا.. يا إلهي.. أرجوك.. دعهم يطلقوني؛ لأرى مدينتي وصحبي وبقايا عائلتي مرة واحدة فقط ولأمت بعدها!.
تمنى لو يتكرر المشهد، الذي تخيله عندما قرأ حكاية «النعمان ابن المنذر» في «ألف ليلة وليلة»، الذي ارتكب حماقة بقتل جليسيه الحبيبين في لحظة سكرٍ وندم على فعلته، فأقام طقسًا خاصًّا بالجلوس قرب قبر نديميه يوم نحسه، الذي قرر فيه قتل أي مارٍٍّ بالمكان صدفة.. فمرَّ بدوي.. وفهم الحكاية، فترجى «النعمان» إعطاءه مهلة يودع فيها الأهل والأحباب والدنيا مدتها سنة.. ففعل «النعمان» ووفى البدوي.. تمنى «إبراهيم» لو يسمحون له بهذه الفسحة قبيل الموت.. لا يطلب سنةً بل أيامًا ويعود.. سيفعل مثلما فعل ذاك البدوي من أسلافه.. لو يسمحون له بالوصول إلى مدينته ورؤية صحبه وأحبابه، وسيعود ليقتلوه غير آسفٍ..
- لكن هل سيفعل هؤلاء القساة الملامح المنقبون مثلما، فعل «النعمان بن المنذر»؟!.
أوهنته الفكرة، فهؤلاء ليسوا ملوكًا، بل عامة معبئون بأفكار الأيديولوجيا القادرة على تبرير القتل بيسر، ودون شعورٍ ما بالذنب..
- مع ذلك سأحاول، علَّ وعسى؟!.
- لعلني أجد فيهم «نعمانًا»؟!.
قال في نفسه ذلك والسيارة تقترب من طرف مدينة، بدا واضحًا في تلك الظهيرة؛ إذ سرعان ما سلكت السيارة طرقًا مبلطة تخترق دور محلة فخمة البناء.. كان «إبراهيم» يتوق جدًّا لمعرفة آخر مطاف هذه الرحلة الغامضة.. لبث صامتًّا ساكنًا،لم يعصب الخاطفون أعينهما، وذلك أتاح له رؤية المكان الذي أنزلوهما فيه.
أول ما طالع عيني «إبراهيم» المنارة الشاهقة لجامع يعرفه عن كثبٍ.. طالما نام فيه القيلولة، حينما كان جنديًّا في معسكر تدريب «سن الذبان»، الواقع على مرتفع يشرف على بحيرة الحبانية أواخر عام 1975، حينما أكمل دراسته الجامعة فسيق للخدمة الإلزامية.. كان يحل بمدينة «الفلوجة» صبيحة كل جمعة، يتناول طعام الغداء في مطاعم المدينة الشعبية، ويأخذ قيلولة الظهيرة في هذا الجامع، الذي يدفعونه بعنف نحو مدخله الفخم، وبدلًا من التوجه نحو قاعته الرحيبة، انحرفوا بهما نحو بناية صغيرة في طرف الباحة اليسرى.. كان يقف على بابها شابٌّ، لا يتجاوز العشرين استقبلهما قائلًا:
- أهلا بكلاب الاحتلال!.. أهلا؟!.
وفتح بابًا حديديًّا ودفعهما بعقب بندقيته «الكلاشنكوف»، فسقطا على سجادة غرفة واسعة، خمّنَ «إبراهيم» أنها غرفة حارس الجامع.
سقط «إبراهيم» حال معانقته سجادة الغرفة في نومٍ عميق، كحاله في أوقات عمره الحرجة؛ فالنوم كان يساعده على التوازن ومواجهة المحنة بذهنٍ صافٍ، مكنهُ من تخليص نفسه في المرات الخمس، التي أُعتقل فيها زمن الدكتاتور، وأطلق سراحه لعدم ثبوت الأدلة وصمود المتورطين من أصدقائه في السياسة الذين لم يعترفوا عليه أبدًا.. بحيث دفعه ذلك الوفاء إلى العمل في غمرة السياسة؛ ليعيش العناء الذي أكل عمره..
استيقظ وكأنه يعود من عالمٍ آخر، كان فيه مثل طيرٍ، يتنقل بين الأمكنة ويعانق الأشياء.. الماء والناس والتراب.. كان صوت المؤذن يتعالى صافيًا من مكبرات الصوت.. فتح عينيه المجهدتين، وجد أن الوقت موشك على الإظلام، شخص صوب «أحمد» فرآه مستيقظًا، يجلس متكورًا لصق زاوية الجدار، يلزم الصمت والسكون. نهض بجذعه الأعلى، ونظر عبر النافذة العريضة المطلة على باحة المسجد، وموقع الوضوء.. الذي كان مكتظًا بالمصلين المنهمكين في غسل أيديهم وأقدامهم، قبيل توجههم نحو قاعة المسجد الواسعة المضيئة، عَجِبَ وغضب من التلقائية، التي يمارس بها الناس حياتهم.. ولا كأن ثمة مخطوفان، يرقدان في غرفة الحارس، ويقف مسلحان في حراستهما.. التفت نحو «أحمد» هامسًا:
- أتعرف أين نحنُ؟!.
نطق بصوتٍ شديد الخفوت:
- ما أدري يا «إبراهيم»!.
- في جامعٍ وسط الفلوجة يا «أحمد»!.
تمتم «أحمد» بصوتٍ مكسورٍ:
- يعني انتهينا يا «إبراهيم»!.
قالها ولاذ بالصمت مطأطئ الرأس، يحرز من لون زخرفة السجادة الوثيرة ما يعن له من أخيلةٍ.. أدرك «إبراهيم» ما يعنيه «أحمد» بقوله «انتهينا»، فقبل أربعة أيام من سفره، رأى خبرًا بثته المحطات الفضائية في العالم عن قتل وسحل أربعة مقاولين أمريكان في شوارع الفلوجة، قبل تَعليق جثثهم على عامود كهرباء قرب الجسر الحديدي الضيق، الذي عبرته سيارة التيوتا في طريقها إلى هذا المسجد.. لكن «إبراهيم» المتشبث بالحياة قاوم في نفسه فكرة قتله، وفكر كشأنه في مثل هذه المواقف بطريقة عملية، تخلصه من المأزق.. فسألَ «أحمد» سؤالًا مباشرًا:
- تعرف اتصلي؟!.
- أي؟!.
همس بخفوت.. كان «إبراهيم» يفكر باحتمال اختبارهما من قبل المختطفين بامتحان الصلاة، وهو لا يجيدها في التكنيك، رغم أنه يحفظ كل الآيات والأدعية الموجبة فيها.. لعلَّ الصلاة تنقذهما ، فتذكر تلك التجربة البعيدة في طفولته، التي أبعدته عن الدين وطقوسه.. كانت قاسية نفّرته من فعل الصلاة بالذات:
- اللعنة عليك!.
هتف بصمتٍ وغضبٍ ووجه مرشد الصف المعلم «جبار» الأسمر، النحيف بنظارته الطبية العريضة، وصوته ذو الطبقة العريضة، وكأنه قارئ حسيني، تجسّد أمامه بوضوح.. كان في الصف الثالث الابتدائي عام 1963 في التاسعة من عمره، ومباشرة عقب انقلاب 8 شباط واعتقال غالبية المعلمين اليساريين.. أصبح «جبار» مرشدهم بدلا من معلم «شيوعي» غاب في السجن.. وكان شديد القسوة في كل تفاصيله.. لغته في الكلام، جديته المفرطة، وشدة العقاب، الذي يلقاه التلميذ الذي يخطئ..
لم ينس، أبدًا، ذاك اليوم الذي طالبهم فيه بقراءة درس من دروس القراءة. معلنًا منذ البدء أن كل غلطة بضربة عصا على الكف، فكان ذلك اليوم شبه مجزرة حقيقية؛ إذ لم يسلم تلميذٌ من الضرب.. لم يأت إليه الدور في الحصة الأولى.. بل توقف عند تلميذ يجلس إلى جواره يدعى «سعد ألبو جمعة»، وهو من عائلة ثرية تملك سينما الجمهورية الصيفي والشتوي وقتها؛ إذ إنه من الرعب الذي شاهدهُ في ضرب من قرأ قبله، قرأ بارتباك ولم تسلم مفردة واحدة من خطأ التلفظ؛ مما جعل المعلم يصرخ مثل مجنون ويسحبه بعنف جوار السبورة، وينهال على يديه المبسوطتين بعصاه السوداء الغليظة ضربًا مبرحًا إلى أن سقط في زاوية الصف على برميل القمامة، وبال في ملابسه، في تلك اللحظة قرع جرس الاستراحة..
لما أتاه الدور بعد انقضاء مدة الفرصة، غلط أيضًا من الارتباك والذعر، رغم أنه اختبر نفسه بنجاح قبل قدوم المعلم، فدخل واثقًا بأنه سينقذ نفسه من هول العصا السوداء، وابتدأ دون خطأ إلى اللحظة، التي رفع فيها رأسه نحو المعلم.. فأرعبته عيناه اللتان تحملقان من خلف عدستي النظارة نحوه بعداء، وكأن نجاحه في القراءة أزعجه.. فغلط أربع مرات، فذاق أربع ضربات ألهبت يديه، وكأنها من نار لا من خشب.. كان من أحلامه لو وصل المدينة، زيارة مدرسته الابتدائية ورواية تلك الأحداث للتلاميذ الجدد..
كان يبغي فتح عيون الأجيال الجديدة على بشاعة القسوة والعنف، الذي جعله ينفر من ذاك المعلم، وبكل ما كان يبشر به من خلال الدرس.. أما كيف جعله يكره الصلاة ويبتعد عن الدين فقد حدث ذلك بسبب أنه كان متشددًا في تشيعه، يجبرهم على الصلاة جماعة كل صباح عقب اصطفاف المدرسة.. يقودهم صفًّا واحدًا إلى مغاسل المدرسة؛ كي يتوضئوا في برد الصباح القارس؛ ليصطفوا بعدها في الحديقة الخلفية، ويبدءوا في طقس الصلاة..
كان يمارس تلك الطقوس بآلية وضيق، سرعان ما كشفها المعلم، فطلب منه الظهور أمام الجميع لممارسة الصلاة، أمام زملاء الصف بصوت مسموع..
وقتها كان «إبراهيم» شديد العناد، فردَّ بأنه يصلي مع الجميع.. لكن المعلم أصرّ على الصلاة بصوت يسمعه الجميع، فبدأ الصلاة فلم يضبط مرات السجود والركوع وترتيب الآيات، فتحمل من جراء ذلك ضربًا مبرحًا؛ مما جعله ينأى عن الصلاة كل العمر، لكن ما كان يظن وقتها أنه سيحتاج إلى تلك الطقوس، كما الآن، كي يبقى يتنفس الهواء:
- يا إلهي دعهم يطلقون سراحي أزور المدينة، وأعود وليفعلوا بي ما يشاءون!.
لا يدري متى سقط في النوم.. ظل غاطًّا في غفوة مثل ميت إلى أن أيقظه أذان الفجر.. باعد أجفانه ورمى بصره عبر نافذة الغرفة المطلة على باحة المسجد الشاسعة، رائيًا جموع المصلين يتوضئون في المغاسل المقابلة لجلسته، قبيل توجههم إلى قاعة المسجد المضاءة بوهج مصابيح مخفية في عمقها. ولم يستطع استيعاب ما جرى لهما بعد دقائق من انفضاض المصلين وخلوّ المسجد.. فقد كان سريعًا مباغتًا، يشبه ما يجري في أفلام العنف الأمريكية.
- هل سيقدمون على قتلهما؟!.
تساءل في اللحظة التي دخل فيها أربعة مسلحين، لا يظهر من ملامحهم سوى عيونهم المتوقدة في ضوء الفجر؛ إذ غطوا بقية قسماتهم بيشماغ بطريقة محكمة.. فكوا وثاق أيديهم وأرجلهم، وأمسك كل اثنين بواحد بأذرع قوية:
- هل؟!.
هتف مرة أخرى مردفًا:
- لكن لماذا؟!.
هذا السؤال هو ما كان يدور في رأس «إبراهيم»، رغم معرفته الكاملة بطبيعة الصراع السياسي، بين تنظيم القاعدة الذى صنعته المخابرات الأمريكية وقت احتلال السوفييت لأفغانستان مطلع الثمانينيات، والقوات الأمريكية التي صنعت منها عدوًّا في مرحلة ما بعد الحرب الباردة.
- لماذا؟.. فهو و «أحمد» متعَبان من المخاض بأسره، وحلمهما بالعودة ورؤية الأهل والمدينة؟!.
لم يعد قادرًا على التركيز والتأمل.. بل كان متخشب الجسد بين أيديهم مستسلمًا، وهم يقودونهما إلى غرفة خلف قاعة المسجد الكبيرة.. ينظر ببلاهة بين آونة وأخرى إلى «أحمد» المستسلم تمامًا، وهو يخطو بعناء وسط الملثمين.. أدخلوهما غرفة تركن خلف قاعة المسجد لصق السياج الخلفي.. أوقفوهما إزاء جدارها، وخلفهما علقت لافتة سوداء، خط عليها بصبغ أبيض شعارات تمجد الإسلام.
- الله أكبر.. لا الله إلا الله .
لم يتمكن من قراءة بقية اللافتات؛ إذ سوروهما وألبسوهما ثيابًا حمراء فاقعة فوق ثيابهما.. أجلسوهما متربعين، ووقف خلفهما صف من الرجال المسلحين لا تظهر من قسماتهم إلا العيون.. على حامل معدني مركز أمامهما.. نصبت كاميرا ﭬﻴﺪيو.. أنصت «إبراهيم» إلى أصواتهم، وهم يتبادلون الكلام فشخّص لهجات مختلفة سعودية وليبية ويمنية، وعراقية بدوية، وبغدادية.. أنصت متماسكًا كما هو حاله في مواقف متشابهة، متذكرًا نصيحة أبيه الذي قال له مرة حينما أطلق سراحه من الاعتقال، أول مرة في مطلع شبابه:
- كن قويًّا، فالموت لا مرد له.. فلا تذل نفسك!.
ظل يتذكر ذلك في لحظات المحنة فيتماسك، ويتصرف وكأنه ما يجري له يجري لآخر.. ابتدأ التصوير وراح شخص يقف خلف مكان جلوسهما يقرأ بيانًا بلغة مندثرة غليظة متوعدة مسجوعة عن نضال المجاهدين في العراق ضد الاحتلال، وظفرهم بجاسوسين واحد ألماني وآخر دنمركي، يظهران أمام الكاميرا.. أنصت «إبراهيم» بيأس إلى صوت قارئ البيان الأجش متعجبًا من وصفهما بالجاسوسين.. تهمة ليس لها أدنى صلة بمسار حياتهما.. فليس لديهما صلة بالقوى التي احتلت بلدهما، بل على العكس لديهما شعور معادٍ للأمريكان المحتلين، ظهر حال وصولهما الحدود العراقية، وجندي دبابة أمريكية من سمح لهما بالدخول.
حينما سمع قرار نحرهما يعلنه في نهاية البيان، تصلب جسده تحت ضوء المصباح القوي المسلط عليه، ومرَّ خطفا حشدٌ من الوجوه والروائح والأصوات، والأوقات المختلطة وكأنه في حلم، وجوه تخطف واضحة تحملق نحوه بودٍ.. آخرها كان وجه زوجته البعيدة وطفليه.. فزَّ على حفيف سكين يقترب من عنقه وصوت رفيع كصوت أنثى يردد:
- بك نستعين ونتوكل!.
وأكف تمسك بشعر رأسه وتسحبه إلى الخلف بعنف حتى التصق بركبتي الواقف خلفه، تشنج متصلبا رائيًا وجه شاكر «ميم» الزنجي مستكينًا، يقترب منه لحظة سقوط الحد على عنقه.. اعتنقه مخففًا من ألم الحزّ.
تحرر من الوجع حاسًّا بجسده خفيفًا.. يطير خارج الفقاعة!!خارج اللحظة!!


أيار 2004 ـ كانون الأول 2007
الدانمارك








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. وفاة الأمير والشاعر بدر بن عبد المحسن عن عمر ناهز الـ 75 عام


.. الفلسطينيين بيستعملوا المياه خمس مرات ! فيلم حقيقي -إعادة تد




.. تفتح الشباك ترجع 100 سنة لورا?? فيلم قرابين من مشروع رشيد مش


.. 22 فيلم من داخل غزة?? بالفن رشيد مشهراوي وصل الصوت??




.. فيلم كارتون لأطفال غزة معجزة صنعت تحت القصف??