الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


حديث عن الشعبوية في أوروبا

فهد المضحكي

2023 / 9 / 9
مواضيع وابحاث سياسية


يجادل البعض بأن التيارات الشعبوية في أوروبا في طريقها لأن تكون أكثر طبيعية عبر انتهاج خطاب أكثر اعتدالاً وبرجماتية بل وأنها أصبحت «طبيعية إلى حد ما» في ظل حدوث التقارب بين بعض المواقف السياسية للأحزاب الشعبوية الأوروبية وبين التيارات السياسية التقليدية، سواء فيما يتعلق بقضايا الهجره، أو تخلي بعض الأحزاب الشعبوية عن مواقفها المناوئة للاتحاد الأوروبي. وهنا ما نود أن نتوقف عنده ما كتبه الباحث بجريدة «الأهرام» المصرية، عبدالمجيد أبوالعلاء، بينما كان الاتجاه العام للشعبويين قلب وعكس التيار السائد، فإن ثمة ملامح لبلورة تيار شعبوي وسيط بين التيارات التقليدية وبين الشعبوية المتطرفة، وما بين القبول السياسية الراهنة وبين الانقلاب التام عليها. فعلى سبيل المثال، أعلنت جورجيا ميلوني، رئيسة الوزراء الإيطالية، أن حكومتها ليست ضد أوروبا. فضلاً عن أن بعض الصور من الشعبوية لم تعد راديكالية بقدر ما تقاربت مع رؤى سياسية موجوده في أوروبا، ومنها ما يتعلق بانتقاد الاتحاد الأوروبي كمؤسسة والمطالبة بإصلاحه دون أن يعنى ذلك الخروج منه، وهو ما يفسر التراجع النسبي للمخاوف والقلق من سيطرة الشعبويين في أوروبا في الحاله الإيطالية، على سبيل المثال. وكما يشير تقرير لمعهد توني بلير أن التراجع الشعبوي في أمريكا اللاتينية ليس تراجعاً انتخابياً فقط عبر سقوط رؤساء مثل بولسنارو في البرازيل، ولكنه أيضاً يرتبط بانتخاب جيل من اليساريين المعتدلين في القارة ممن تخلوا عن الخطاب الشعبوي التقليدي وركزوا على الاقتصاد التقدمي والحقوق الاجتماعية بدلاً من التركيز على التأميم الصناعي. وقد عملت رئيسة الوزراء الإيطالية، جورج ميلوني، على النأي بنفسها عن الجدل حول أصول حزبها التاريخيه والتنصل من الانتقادات التي تواجهها، رافضة الاتهامات بأن حزبها سيحيي الفاشية في إيطاليا، معلنة أن قيم حزبها مشابهه لقيم حزب المحافظين البريطاني والحزب الجمهوري الأمريكي. كما تشير فتره حكمها حتى الآن واجتماعاتها مع الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، ورئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين، إلى اقترابها بشكل أكبر من النهج الأوروبي الأقل شعبوية.

ثمة محددات ومحفزات قد تدفع القوى الشعبوية الأوروبية إلى تعديل خطابها السياسي نحو خطاب أكثر اقترابًا من الخطاب الأوروبي، أو ما يمكن تسميته بشعبوية أكثر اعتدالاً، بحيث تتبنى خطابًا أكثر براجماتية، دون أن يعني ذلك التخلي عن صلب الخطاب الشعبوي بما يخلق من فرص سياسية تضمن لهذا التيار صعودًا انتخابيًا ملحوظًا. ومن أبرز تلك المحددات والمحفزات التي أدت تغير الخطاب الشعبوي وتراجع حدته، تعود وعلى المستوى العالمي إلى ما يشهده العالم من تراجع عن اللحظة الشعبوية التي كان الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب يجسد ذروتها عبر تراجع جاذبية النموذج الشعبوي في العالم، وسقوط عدد من الحكومات الشعبوية حتى خارج القارة الأوروبية. فقد شهد عام 2022، سقوط أربع حكومات شعبوية، في البرازيل والفلبين وسلوفينيا وسريلانكا، حيث شهدت الانتخابات الرئاسية في البرازيل هزيمه الرئيس السابق جاير بولسونارو، وهزيمة حزب رئيس الوزراء السلوفيني السابق، يانيز يانسا، واطاحة الاحتجاجات السريلانكية بالرئيس غوتابايا راجاباكسا. ويشير تقرير معهد توني بلير إلى انخفاض عدد القادة الشعبويين في العالم إلى أدنى مستوى له منذ 20 عامًا بعد سلسله الانتصارات للتقدميين والوسطيين خلال العام الماضي، وانخفاض عدد الأشخاص الذين يعيشون في ظل الحكم الشعبوي بمقدار 800 مليون نسمة في عامين، حيث يذكر التقرير أن هناك 1.7 مليار شخص كانوا يعيشون في ظل حكم شعبوي في بدايه عام 2023،مقارنة بـ2.5 مليار في عام 2020.

إن التداعي السريع للتجربة الترامبية مع استمرار تاثيراتها السلبية، من الممكن أن تؤثر على الأحزاب الشعبوية الأوروبية من زاوية رغبة تلك الأحزاب في الاستمرار في السلطة، في حين أن الرئيس الأميركي لم تمكنه شعبويته من الاستمرار في الحكم سوى فترة واحدة، ما أشار إلى أن الأداء الشعبوي الترامبي قد يحقق مفاجأة بالوصول إلى السلطة في أكبر دول العالم، لكنه قد لا يضمن الاستمرار فيها، وأن هذا الأداء بحاجة إلى ترشيد وضبط وتهدئة مخاوف الذين يرون في الشعبوية تهديداً للنظام السياسي الغربي المستقر منذ عقود بقيمه ومؤسساته، رغم الملاحظات التي يحملها البعض على هذا النظام والمطالبة بإصلاحه أو ترشيده وزيادة كفاءته. بل أن تأثير التجربة الترمبية امتد إلى ما بعدها، حيث ساعد على الحشد ضد الشعبويين وإدراك مدى تهديدهم للمؤسسات والقيم الديموقراطية الغربية. ومن محفزات التراجع أيضًا أزمات بريطانيا بعد البريكست،لم تنجح بريطاينا في تقديم نموذج ناجح للخروج من الاتحاد الأوروبي، بل على العكس، فإنها تشهد مشكلات اقتصادية متفاقمة، مع تزايد وتيرة الفشل والتغير الحكومي. والأمر الآخر يعود إلى الرغبة في تخفيف القيود الرقابية والأمنية الحكومية، بمعنى ربما ترغب بعض القوى الشعبوية في التخفيف من حدة خطابها السياسي من أجل القدرة على الاستمرار في العمل وحصد المكاسب الانتخابية التدريجية، دون صدام مباشر مع السلطات الأمنية.

ومن بين هذه المحددات، أن النظم الشعبوية واجهت اتهامات سياسية وانتقادات أكاديمية ربطت بينها وبين الفشل في مواجهة الأوبئة على أثر تجربة فيروس كورونا، باعتبار أن الاستقطاب والمشاعر الشعبوية المناهضة للخبراء أدت إلى سياسات غير قادرة على مواجهة الجائحة، مع التشكيك في توصيات الخبراء وعرقلة مبادرات التعاون الدولي. ومن بين هذه المحددات ارتبط الصعود الشعبوي والجدل حول قضايا الهجرة والجريمة والإرهاب بشكل كبير بتداعيات ثورات «الربيع العربي» على القارة الأوروبية، والحرب الأوكرانية التي تمثل الآن الشغل الشاغل الأهم، ومن المتوقع أن تشكل جانبًا كبيراً من الرؤى الأوروبية ومستقبل القارة وتوجهات قواها السياسية خلال السنوات المقبلة والاضطرابات السياسية والاجتماعية والحروب الأهلية التي شهدتها منطقة شمال إفريقيا والشرق الأوسط، وأدت إلى تدفقات غير مسبوقة من اللاجئين والمهاجرين إلى أوروبا. ومع تجاوز ذروة تدفقات اللاجئين العرب، فإن الجدل حول القادمين من المنطقة العربية وما يثيره من حساسيات اقتصادية وثقافية، لم يعد هو الشاغل الأهم للأوروبيين. اما وعلى صعيد المؤثرات السياسية والمحلية والحضارية، تلعب العوامل المحلية دورًا مهمًا في تحديد طبيعة الخطابات الشعبوية داخل الدولة. فعلى سبيل المثال، أشارت بعض التحليلات عند مقارنة الحكومة الإيطالية بنظيرتها المجرية، إلى النظر بعين الاعتبار إلى الفوارق بين المجر وإيطاليا التي تلعب دورًا في تحديد طبيعة الخطاب الشعبوي في البلدين، بالنظر إلى كون إيطاليا عضوًا مؤسسًا في الاتحاد الأوروبي، والقوة الاقتصادية الثالثة في القارة، مع عدم إغفال دور المؤثرات الحضارية والنهضوية التاريخية التي تمتلكها روما. كما سبقت الإشارة إلى ارتباط جاذبية الخطابات الشعبوية بطبيعة القضايا والمشكلات التي تعاني منها الدولة والتي تركز عليها تلك الخطابات، سواء كانت القضايا الثقافية أو الأمنية أو المؤسسية أو الاقتصادية.

ثمة محدد آخر ربما يدعم تراجع الشعبوية وهو أن الاتحاد الأوربي يعمل على ربط الشعبوية بتكلفة سياسية واقتصادية، في محاولة لخفض حدة هذا الخطاب، وإجباره على الالتزام بالمعايير والقيم الأوروبية، حيث ربط على سبيل المثال تمويلاته وخاصة المرتبطة بالتعافي من جائحة كورونا بالمعايير التي يضعها الاتحاد. وفي حين أن الحكومات الشعبوية يمكنها رفض الاستجابة لمطالب بروكسل، إلا أن الاتحاد يراهن على تحميل الحكومات تكلفة ذلك بحرمانها من الأموال التي يدرك الناخبون أنها ستساعد في مواجهة الأزمات، ما يعمل عبره الاتحاد على وضع تلك الأحزاب تحت ضغوط تجبرها على الاستجابة للمعايير. ويستخدم الاتحاد الأوروبي تمويله بشكل خاص لكبح جماح الشعبوية المجرية والبولندية، إذ يمنع عنهما تمويلاً يقدر بنحو 138 مليار يورو، على خلفية إتهامه لهما بانتهاك ميثاق الحقوق الأساسية للاتحاد الأوروبي. ومع ذلك، يعتقد أن البيئة الأوروبية تحمل محفزات أستمرار الشعبوية، ومنها الأزمات التي تواجه بعض الحكومات الأوروبية، والاستياء الشعبي المتصاعد تجاهها، خاصة فيما يتعلق بقدرات الحكومات على مواجهة المشكلات الاقتصادية والاجتماعية، والوفاء باحتياجات المواطنين في قطاعات حيوية كالرعاية الصحية. فضلاً عن احتمالية تزايد حضور شعبويات جديدة مثل الشعبوية البيئية، كما أن وجود الأحزاب الشعبوية في مقعد المعارضة يمكّنها من استثمار الأزمات لزيادة حصصها التصويتية تدريجيًا باعتبار أن الأزمات والإخفاقات تخلق فرصا لأحزاب المعارضة، باختلاف أيديولوجيتها السياسية، وأن زيادة المخاوف لدى الجماهير تعزز من احتمالات لجوئهم إلى خيارات الشعبوية.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - الشعبوية القومية تنمو في العالم
د. لبيب سلطان ( 2023 / 9 / 9 - 13:22 )
الاستاذ المحترم
شكرا على تناولك لهذا الموضوع الهام والذي اراه واحدا من اهم سمات الوقت الحالي وهو نمو التكتل القومي في العالم امام التكتل الليبرالي الذي ساده عند بداية القرن والتكتل القومي على ما اعتقد ينمو وليس يتقلص كما جاء في مقالكم والذي استند الى عدد سكان دول مثل البرازيل وسيري لانكا
ان الاتحاد الاوربي باستمرار النزوح والهجرة هو اول من سيقوم مستقبلا برفض السياسات الانفتاحية ومنه ربما يتحول الى اتحاد امبراطوري قومي، مقابله اتحاد امبراطوري انعزالي اميركي ـ بريطاني وثالث روسي ورابع صييني ومنطقتنا تحت امبراطوريتين عثمانية واخرى صفوية ..انه العالم الذي ينادي به بوتين والرئيس الصيني ..بوضع القومية ضد الليبرالية ويكسب حلفاء جدد باعتبار ان الاخيرة بمناداتها بحقوق الانسان والديمقراطية هي تدخلا في الشؤون الداخلية للشعوب ومن مجابهيها سيتشكل حلف قومي واسع يضم كل الديكتاتوريات وبمجرد صعود مثل ترامب في اميركا ستجد مثل قطع الدومينو سيتوجه العالم للامبراطوريات ونكون نحن اول ضحاياها كوننا الاضعف..انه سيناريو غير مستبعد وهو كارثي بلا شك ..معناه الرحوع للقرن 19
مع التقدير


2 - دكتور لبيب تعليقك اعلاه مفزع حقا لو توضحه بمقال او
المتابع- ( 2023 / 9 / 10 - 15:48 )
بتعليقات اوفى-رغم انني اعتقد بان الانفتاح اللبرالي عاللجوء لايؤدي الى نتائج انسانية تقدميه وانما الى تهديم الدمقراطيات اللبراليه الغربيه لان عفونات ليس فقط الاسلام غير قابله للازاحة من اللاجئين وانما خالقه ردود افعال مسيئة لحاضر ومستقبل مجتمعات الليبرالية -الغربيه-والتي هي تاريخيا لازالت ناشئه وفتيه وهنالك هجمات يوميه-في كندا مثلا-من قبل الواطنين-اللاجئين-في القتل والخطف والاحتيال وسكس الاطفال والثاءر و و و غير مسبوقه وانما مستورده مع اللاجئين والمهاجرين بل حتى مع الطلبة-الدوليين-الذين صاروا اعدادا هائله بل ولاجئين ومهاجرين متتسترين-الرجاء ان لاتبخل علينا بمعارفك وخبرتك الغنيه-تحياتي


3 - أستاذنا الكريم هذا سيناريو بوتين اية الله و تشينغ
د. لبيب سلطان ( 2023 / 9 / 10 - 23:10 )
تحية طيبة للاستاذ المتابع
واقعا العالم عام 2023 يشبه العالم عام 1923 حيث بدأت التيارات القومية تنمو و دعوات بوتين باعادة الامبراطورية الروسية مثل دعوات هتلر لمجد المانيا والظروف مؤاتية بتذمر اوربا من الليبرالية لتساهلها مع المهاحرين وتحولها نحو اليمين القومي ببطء ولكنه نموا ملحوظا ونفس دعوة بوتين في الصين وعند اردوغان واية الله بارحاع الخلافة وليس اخرها دعوة ترامب بارجاع اميركا عظيمة وترجمته انغلاق اميركا وفصلها عن الاتحاد الاوربي ..هذا السيناريو وارد ولكن لايعني انه حتمي..في منطقتنا معناه امبراطوريتين سنية وشيعية .....وهو ترجمة للبوتينية الى امبراطورية اوربية مجاورة للروسية ..اي القرن 19
ان منهج بوتين هذا سيؤدي لحروب كماادت اليه الهتلرية ..وهذه الحرب الاوكرانية هي الفاتحة لاغير..
هل سينجر العالم الى ذلك ؟ربما ولكن ليس حتما ولذلك اسبابا عديدة ساتناولها في مقالة منفصلة عن تحديات القرن 21 ..ولكن لايمكن استبعاد الامر خصوصا وان دغدغة المشاعر القومية دوما حركت الغوغاء ولليوم جماعتنا لم يفهموا المشترك بين البوتينية واليمين القومي الاورربي والاميركي ..كونهم غشمة وستالينية وضد الليبرالية

اخر الافلام

.. ريبورتاج: الرجل الآلي الشهير -غريندايزر- يحل ضيفا على عاصمة


.. فيديو: وفاة -روح- في أسبوعها الثلاثين بعد إخراجها من رحم أم




.. وثقته كاميرا.. فيديو يُظهر إعصارًا عنيفًا يعبر الطريق السريع


.. جنوب لبنان.. الطائرات الإسرائيلية تشن غاراتها على بلدة شبعا




.. تمثال جورج واشنطن يحمل العلم الفلسطيني في حرم الجامعة