الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


محاسن الذكريات في النص السردي رواية - الطريق الذاهب شرقا - للكاتب حسن مروح مثالاً مراجعة محمود يعقوب

محمود يعقوب

2023 / 9 / 9
الادب والفن


محاسن الذكريات في النص السردي
رواية " الطريق الذاهب شرقا "
للكاتب حسن مروح مثالاً
مراجعة محمود يعقوب

إن تقليد كتابة نص المذكرات السردي له تاريخ طويل ، وأصبح في الوقت الحاضر يشكّل اتجاهاً شائعاً جداً . ومقارنة بأساليب الكتابة التقليدية ، شهدت الكثير من نصوص سرد الذكريات تغيرات مهمة ، لا سيّما في أدب ما بعد الحداثة ؛ مثل التحوّل من السمات التاريخية إلى السمات الشعرية ، ومن التأكيد على الواقع ، إلى الروايات المختلطة بين الواقعية والخيالية . ومع ذلك فإن الأبحاث والدراسات الأدبية لم تزل تركّز ، حتّى الوقت الحاضر ، على الجانب التاريخي في هذا النمط من الكتابة الإبداعية .
وفي المذكرات التقليدية ، غالباً ما يتبنّى الراوي موقفاً سردياً بأثر رجعي ، مع الحفاظ ، بعناية ، على مسافة معينة بين وقت القصة والزمان والمكان الحاليين
التذكّر فعل أخلاقي ، والأدب ضامن له .
يقول الكاتب ، والمترجم ، والروائي الكولومبي " خوان غابرييل فاسكير " ، وهو أفضل من كتب بعمق عن أدب الروائي الإنجليزي " جوزيف كونراد " : " أعتقد دائماً أننا نحن الكتّاب ، في أفضل وضع للتعمّق في ما يسمّى بماضينا الجماعي ، وتاريخنا ، وكذلك الذاكرة الفردية . هناك شبكة كاملة ، الحكومة والسلطة ، والكنيسة ، وهم رواة عظماء ؛ والذين يريدون إخبارنا بما حدث . وهنا يجب على الأدب أن يرفع يده ويقول : " لدي نسخة أخرى " ، وهو منصب متميّز للغاية . التذكّر هو عمل أخلاقي ، يمكن للأدب أن يكشف مقاطع من ماضينا ، تريد السلطة إخفاءها أو تعديلها . إذن أنتم متشككون في المؤسسات ؟ تماماً . أحد موضوعات رواياتي هو كتابة التاريخ ، تذكرنا الرواية بأن التاريخ شيء يُحكى . هناك راوي ، وهذا الراوي لديه وجهة نظر ونوايا وأحكام مسبقة ، تريد السلطة أن تفرض علينا سرداً لتجربتنا " . نعم ثمّة عمل أخلاقي تتبوّأ به القصص والروايات حينما تتصدّى لقول ما يصعب قوله . فالكاتب إذن يستطيع من خلال كتابة مذكراته عن أي من الحوادث المميّزة ، أو عن موقف محدّد من المواقف التاريخية ، أن يبني هيكلاً تحليلياً ، ويضمّنه رأيه الشخصي ، وتفسيراته الخاصة بذلك الحدث أو الموقف ؛ بمعنى أنه يطرح كشفاً سردياً شخصياً ، سيكون مغايراً بلا شك لما يطرحه من يكتبون التاريخ والوقائع الرسمية .
يعبّر المنظور السردي عن مشاعر ومعاني معيّنة ، بصورة مباشرة أو غير مباشرة ، على الرغم من الاعتماد المفرط على تجربة حياة الكاتب ؛ حيث تلعب تجربة حياة المؤلف ، إضافة إلى تجاربه ومواقفه العاطفية دوراً مهماً في بناء المعنى في النص . إن أغلب الكتابات السردية هي نتاج السيرة الذاتية ، أو هكذا هي في نظر المهتمين في شؤون الأدب ، وهذا يعني أن تلك الكتابات هي سفر عبر الزمن لالتقاط ما يمكن التقاطه من الأحداث . وعندما يتذكّر الإنسان أحداث الماضي ويمضغها ، يشكّل هذا التذكّر منعطفاً أو نقطة واضحة بين نقاط حياته .
عند النظر في محاسن الذكريات ، يجب أن يكون السرد هو الاعتبار الأول . تُكتب المذكرات بشكل حصري تقريباً من وجهة نظر الشخص الأول ، وهذا يعني أنها تأتي من منظور الضمير المفرد .تأتي القصة من سرد " أنا " بدلاً من " أنت " أو " نحن " .
كما تمتاز المذكرات بقوة تركيزها المحدّد ، حيث يميل الكثير إلى التركيز على علاقات أو أحداث معيّنة حدثت في الماضي ـ القريب أو البعيد ـ ومناقشتها بوضوح .
والمذكرات تجعل الموضوع ينبض بالحياة ، لأن الكاتب كان في قلبها ، أو على تماسٍ مباشر معها ، بحيث أن القارئ سوف يشعر بألفة مع النص وسارده ، وأنه على مقربة أيضاً من روح كل ما مرّ وحدث . وهذه المذكرات يجب أن تنطوي على قصة واضحة ، أي أنها أكثر من مجرد مجموعة من الذكريات العشوائية .
والمذكرات غالباً ما تكون محدودة في طبيعتها ، المذكرات ليست تسلسلاً زمنياً كاملاً للحياة . تدور المذكرات حول لقطات محدّدة في الوقت ، تتضمن دروساً مقدّمة للقارئ . إنها وصفية للغاية أيضاً ، وتنقل القارئ مباشرة إلى كل ذكرى أو قصة كما لو كان هناك بالفعل ، ويختبرون الأحداث على أساس مباشر .
فائدة سرد المذكّرات هي أن السرد يأتي من المنظور الشخصي للكاتب ، والهدف منها هنا هو إعطاء القارئ منظوراً شخصياً بدلاً من درس التاريخ . في الكثير من سرد الذكريات نعثر على بعض المعلومات غير الضرورية ، ربما ينظر إليها البعض على أنها ضرب من الحشو ؛ وإذا شغلت حيّزاً من السرد لا أكثر ، سوف لن يكون لها أي معنى يُذكر ، أما إذا استخدمت كطريقة لتطوير أفكار الكاتب ، والخطوط العريضة للنص السردي فإنها تُعد ذات فائدة وضرورية أيضاً في الكتابة . وعند كتابة نص المذكرات السردي ينبغي الاهتمام بطبيعة الحوار الذي يجب أن يكون طبيعياً وتلقائياً ، وبعيداً كل البعد عن اللغة والنهج الصحفيين .
٭ ٭ ٭

يقول البعض إن فن الأدب " هو فن النظر إلى الوراء " ، وإن كانت هذه المقولة لا تتناسب مع الاتجاه الميتافيزيقي ، والخيال العلمي في أدب ما بعد الحداثة . وهذه الرواية التي بين يديّ : رواية " الطريق الذاهب شرقاً " للكاتب حسن مروح جبير ، هي نتاج فترة من فترات شبابه الذي ضاع هدراً في حروب العراق العبثية الظالمة . وهي وقائع حدثت بالفعل في تاريخنا المعاصر ، وكذلك الحال بالنسبة لشخصيات روايته على الرغم من خضوعها إلى المونتاج القصصي .
وثمة مقولة أدبية شائعة هي الأخرى تقول : " كيفية الكتابة أكثر أهمية مّما تكتبه " ؛ والكاتب حسن مروح يستخدم سحر الذكريات في عودته السلسة إلى الماضي ، ليتحرّك بصدق ، أقرب إلى العفوية ، في التنقّل بين المحطّات التاريخية ، لمرحلة هي الأسوأ والأعنف دموية من مراحل التاريخ العراقي الحديث .
الكاتب حسن مروح جبير ، أقرب ما يكون إلى روائي بالفطرة ، وعظامه مليئة بكل ما هو ضروري لكتابة الروايات . نسيج لغته جميل ، يمكّنه من التعبير بمعاني واضحة ، في روايته هذه . حيث يجمع المؤلف بين عناصر مهمة : السياسة ، المجتمع والحياة ، البيئة ؛ ويطرح أسئلة بلاغية جسيمة تمسّ بشكل بالغ الحسّاسية المجتمع العراقي ، حول أمور من مثل : الفساد ، والشر ، والجشع والاستغلال ، وقلّة الوعي ، والعنصرية ، والتمييز بكل صوره وأشكاله . وهو يسعى بأمانة لرسم صورة لملامح ذلك المجتمع العسكري الصغير ، والذي بدوره يعكس ملامح المجتمع العراقي ككل .
بطل الرواية هو الجندي سامي عبد المجيد ، وهو جندي في سريّة المشاة الثالثة ، وكان رجلاً طيباً ، كما ألفته سريّته العسكرية . وسرد الرواية يجري على لسانه . وقد لاح محبطاً ويائساً منذ افتتاحية القصة " أمسى كل ما حولنا يا حور لا معنى له ! " .
تبدأ ذاكرته تسترجع الصور في ذهنه ، وهو جالس في موضعه من السريّة . كان يسترسل في تذكّر أخته حورية ، فيشعر برضا ، وهي إلى جواره في الحلم ، فينسى شيئاّ من ذلك الشعور بالضياع ، أو الإحساس بالتلف ، ويطلق الحسرات وهو يتذكّر نصائحها له . كان يأسه نابعاً من اليأس في وضع نهاية للحرب .
"سألته بسذاجة :
ـ ومتى تراها تخمد نارها ؟
ضحك ساخراً مّما يجري حوله ، وقال :
ـ حينما تتناثر عظام الجميع في العراء " .
وكان سامي لا يواري حزنه عن صديقه العسكري حامد شياع ، الذي فقد كفّه في الحرب ، وأصيب بإصابات بليغة في جسده . وجراء إحساسه بالإحباط ، والضياع ، واللا جدوى ، فإن سامي كان يحرص على عدم إنجاب الأطفال ، وهو يردّد مقولة أحد الأدباء : " لا أستطيع تحمّل فكرة إلقاء يتيم مثلي في هذا العالم " .
كانت سريّته في مكان ناءٍ ، والطريق إليها قذراً ، وكأنه يتّجه ذاهباً إلى الجحيم . وكان لا يكتم تذمّره من ظروف الحرب البائسة في لقائه مع صديقه الجندي صباح . فكانا يتبادلان الشكوى فيما بينهما عن مخاطر جبهة القتال ، ومكابدة المكوث والوقوف لساعات طويلة في متاريس الحراسة ، وفي الخنادق في ساعات الإنذار المتكرّرة ، وقسوة الأوامر ، وكثرتها . ثم عطف على ذكر الروائح المنفرة للملاجئ العسكرية ، وتعذّر الاستحمام . ثم ذكرى لقاءاته بأمه ، وصوت نشيجها ، وهي تستقبله ، وتحتضنه ، مستنكرة ما حلّ به .
كانت صورة المعسكر الخلفي لوحدته العسكرية تشبه في آثارها آثار مقبرة دارسة ، وهو يشقّ طريقه نحوها مكرهاً . ثم يأتي إلى وصف آمر سريّته ، ذلك الرجل الصحراوي المتقشّف ، وكان آمر السرية يشعر بكراهية أيضاً لشخصه ، ولذلك كان يصدر أوامره بأن لا يقوم هذا الجندي على حراسته . أضف إلى هذا إن رئيس عرفاء السريّة ياسر غزال ، كان شخصاً وصولياً ، متملّقاً ، تندى من أعطافه كراهية الآخر .
ومن بين أكثر المآسي التي يواجهها الجنود في واجباتهم القتالية ، هي تقديم الرشاوى ، وإفراغ ما في جيوبهم من نقود ، ليقدمونها كهدايا إلى رئيس عرفاء الوحدة ، لقاء أن لا يذهبوا إلى الأرض الحرام الفاصلة بين الجيشين المتحاربين ، عندما يتم تهيئة الكمائن .
إن تلك المذكرات لا تغفل ذكر الشذوذ الجنسي الشائع في الوحدات العسكرية ، كما هو الحال في اللمحة التي ترد بين مُمرّض السريّة باسل شامي والشاب المخنّث شوكت ، عندما وقف الجندي سامي عبد المجيد ينصت ، ويتلصّص من خلال ألواح الباب ، ليكتشف العلاقة الشاذّة تلك .
في هذه الأجواء الحربية ، وفي هذا الموضع العسكري الموحش ، يفقد المرء كل أسباب ونضارة الحياة ، بل ويفقد كذلك هويته . كل شيء هناك موحشاً ، وباهت اللون وشاحباً ، وحتّى بالنسبة للزهور البرية ، لم تكن تمتلك سوى ألوان غائمة تحت طبقات من الغبار الحزين . "
وهو يشقّ طريقه مع صديقه صباح ، ألقى نظرة باتجاه مطبخ السريّة القريب من الساتر الترابي ، واستعاد ذهنه حالاً تلك الأيام التي أمضاها في المعسكر الخلفي ، وبمعية رئيس العرفاء الطاهي شاكر بردان ، وعدنان سعود الذي أصبح صديقه الأثير فيما بعد ، وتذّكر الليل ورائحة اللحوم الزنخة ، وفرم أكياس البصل ، أو تقشير المزيد من حبّات البطاطس ، ثم صراع الذئاب خلف الساتر الترابي ، وزئيرها حول ما تلتقطه من عظام علق بها الشيء اليسير من اللحم " .
مجتمع الوحدة لعسكرية تلك ، على قلّة أفراده من الرؤساء والمرؤوسين ، مجتمع مفكّك ، غير متجانس ، ولا متساوق بالمرّة . وتشوبه الكثير من العلل والأمراض الأخلاقية والنفسية ؛ لذلك لا غرو أن تغلب فيه المصالح الشخصية وتعلو فوق مصلحة الوطن ! . وفي الوقت الذي تعبّر فيه هذه الرواية عن عيوب الحياة العسكرية وسوء القيادة ، فإنها لا تتوانى عن توضيح التفكير الجمالي لقيمة الحياة ومعناها ، من خلال علاقات الصداقة الحقّة بين بعض الزملاء في السريّة ، ولا سيّما حين انتقل الجندي سامي إلى مكان آخر وابتعد عن هؤلاء الأصدقاء ، ومن خلال المشاعر العاطفية مع الأخت والحبيبة .
أمضى الكاتب حسن مروح جبير دهراً شاسعاً في خدمته العسكرية ، وقد أملت عليه هذه التجربة تكويناً عميقاً ، ولهذا السبب وحده ، يمكن الوثوق بنظرته الدقيقة إلى مختلف الأمور التي كانت تدور ضمن السياق العسكري ، خاصة في أوقات الحروب ، وهذه واحدة من جماليات سرد الذاكرة . إن حسن مروح في عودته إلى تلك المأساة ، يقف في الوحل ، لكونه رجلاً عسكرياً ، يقف في أرض سريّته الموحشة ، ويتمكّن من أن يضع أكبر مقدار من الحبر في قلمه ، ويشرع في الكتابة عن ذلك الفضاء ، وهو ينظر إلى الحياة مفكّراً ، ومسجّلاً ، ومعبّراً عن مجمل مشاعره وأحاسيسه .
قدّم حسن مروح قصة واقعية ممتازة ، استخدمت الذكريات كمادة إبداعية ، بمعنى أنها غير خيالية ؛ وهذا يدلّ على أنه قدّم تقارير إخبارية حقيقية ، مّما يوفّر للقارئ فرصة نقد بعض وجهات النظر التاريخية .
إنها ليست عملية إسقاط للتجربة الذاتية ، ولكن أيضاً تقييم الراوي ـ الكاتب إلى الحياة ، وحالة الحرب التي خاضتها وحدته العسكرية ، وكافة الملابسات . إن الكاتب الذي يحتفظ بروح التفاني ، كتب عن لمساته الإنسانية في تلك الفضاءات ، وقد عبّر عن مشاعره النفسية ، وإحساسه بالوحدة والخراب الشامل من حوله ، بصدق بعيد عن المغالاة والإسراف . واستطاع أن ينجز عملاً أدبياً يمكن أن يشكّل إضافة نوعية إلى أدب المذكرات العراقية .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. فيلم #رفعت_عيني_للسما مش الهدف منه فيلم هو تحقيق لحلم? إحساس


.. الفيلم ده وصل أهم رسالة في الدنيا? رأي منى الشاذلي لأبطال في




.. في عيدها الـ 90 .. قصة أول يوم في تاريخ الإذاعة المصرية ب


.. أم ماجدة زغروطتها رنت في الاستوديو?? أهالي أبطال فيلم #رفعت_




.. هي دي ناس الصعيد ???? تحية كبيرة خاصة من منى الشاذلي لصناع ف