الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


-باربي- والوجودية النسوية

سليم سوزه

2023 / 9 / 12
الادب والفن


عالمان اثنان مختلفان جسّدتهما الكوميديا الهوليوودية في فيلم "باربي" الذي يُعرض في دور السينما منذ أسابيع، الأول عالم فنطازي اسمه عالم باربي لاند للدمى والآخر حقيقي، وهو عالم الإنسان الذي نعيش فيه.

لم يكن بين عالم باربي لاند وعالمنا الحقيقي هذا سوى رحلة تقطعها "باربي" بينهما، الدمية الشابة الشقراء التي تؤدي دورها الممثلة مارغوت روبي. كانت رحلة مهمة اكتشفت باربي من خلالها تبعات أن يولد الفرد امرأة. لقد شاء القدر أن تنزل باربي من عالمها الفنطازي ذاك، العالم الذي لا يعي فيه الفرد جندره، ولا يشهد تراتبية جنسانية أو علوية ذكورية، إلى عالم الإنسان الذي تحضر فيه المرأة جسداً وتغيب كياناً وذاتاً تحت ذكورية رأسمالية بيضاء مغطاة بأقنعة ديمقراطية.

كان عالم باربي لاند الخيالي عالم مساواة وحرية ورفاهية وسعادة، لا يشعر فيه المرء بالملل والتعاسة طالما لا وجود للاستغلال الجنسي والعرقي والطبقي، ولا سباق نحو المال والسيارات والجاه والرفعة. لا مكاتب ولا مسؤوليات ولا حكومات يتقاتل الناس من أجلها. لا أعضاء تناسلية تُخبر المرء بجنسه، ولا ألم يضرب الأجساد أو موت يتربص في الأفق. كيف تتألم الدمى أو تموت؟ الدمى كيانات صماء بلا عقل. كانت تلك الدمى كلها، ذكوراً واناثاً سواسية، تعيش في عالمٍ وردي سعيد، لا فرق بين ذكر وانثى، بل لا ذكر ولا أنثى من الأساس. كائنات بأجساد ذكور وإناث، لكن بلا أعضاء تناسلية ولا رغبات أو غرائز تحكم علاقة بعضهم ببعض. كل شيء وردي اللون، البنايات والمنازل والسيارات ولباس الأفراد، في انسجام جميل مع ثيمة السعادة التي أراد صانعو الفيلم تسويقها عن عالم باربي لاند، وهي ثيمة غير بريئة طبعاً، إذ لطالما ربط أصحاب الشركات الرأسمالية الكبرى السعادة بالاستهلاك. استهلكْ واشترِ وأنفقْ مالك كي تصبح سعيداً. لقد أبدع المصمّمون في تصميم تلك الواجهات الجذّابة والملابس الغريبة ذات الدلالات محايدة الجنس. إنها رسالة مرئية عن الحياد الجندري "الخيالي" الموجود في باربي لاند فقط.

فجأةً، تكبر قدما باربي وتتسطّح، وتنتابها أحلام مخيفة. ومثل أي عجوز نال منها المرض في أواخرها، صارت تفكّر تلك الدمية بالموت في كل لحظة. طفقت تشعر بأزمة وجودية تهدّد ماهيتها وكيانها. أخبرتها كبيرة الدمى وعرّافة أرض باربي لاند الحكيمة، تلك الدمية غريبة الأطوار، أن هذه الأفكار قد وجدتْ طريقها إلى رأسها لأن هناك مَن هو في عالم الإنسان يعبث بجسد دميتها الصغير. صار ثمة التحام بين باربي الخيالية في عالم باربي لاند وباربي الدمية التي تلعب معها طفلة في العالم الحقيقي. نصحتها العرّافة أن تذهب إلى العالم الحقيقي لتجد تلك الطفلة وتخلّص الدمية منها، فقدر كل فرد في عالم باربي لاند محكوم بمصير دميته في العالم الحقيقي.

نزلت باربي إلى عالم الإنسان ونزل معها صديقها الدمية "كين" (الممثل رايان غوسلنغ). لا باربي ولا كين على علم بما سيواجهانه في عالمنا الحقيقي هذا. لقد تعرّفا على عالم جديد بالكامل، عالم تحكمه الرغبة في التحكّم بكل شيء، بالملبس والمأكل وجميع مفاصل الحياة، عالم المال والشهرة وشعارات المساواة والديمقراطية، عالم البيروقراطية والخداع.

في العالم الحقيقي فحسب، اصطدما بواقع جديد، وانبثق فجأة وعيهما الوجودي من "العدم". تعرّف كين لأول مرة على جنسه. لم يكن يعرف إنه ذكر وباربي انثى، فلا قيمة لهذه الأشياء في عالم باربي لاند الخيالي. قيمة هذه الأشياء في العالم الحقيقي فحسب. هنا تكمن المفارقة. يصبح كين ذكراً وتصبح باربي أنثى في نظره، أنثى بحاجة إلى رعاية وحماية ذكورية لا مناص منها. وفي عودتهما إلى باربي لاند من العالم الحقيقي، يبدأ صراع مرير في إطار من الكوميديا الاستعراضية بين كين وباربي، أيهما ينتصر ويفرض هيمنته على باربي لاند، الرجل (كين) أم المرأة (باربي).

لم يكن هذا الفيلم "الوجودو-نسوي" مثيراً بمجمله. ثمة مشاهد ممّلة واستعراضات أشعر أنها حُشِرت في الفيلم لإطالته فحسب. لم تكن تلك المشاهد لتؤثر إن أُزيلت من الفيلم. مع هذا، احتوى الفيلم على حوارات ذكية وعميقة، وقدّم نقداً مهماً للرأسمالية الذكورية الغربية وتسليعها المرأة عبر قولبتها في دمية شقراء جميلة ونحيفة، بعيون زرقاء، لا يلعب معها الأطفال فحسب، وانما يتمناها الرجال أيضاً لأنها تطابق الصورة النمطية التي شكّلتها أذهانهم عن المرأة المثالية. ورغم أن الدمية باربي هي رمز للنسوية في فترات عدة، إلّا أنها استُقبِلت أيضاً بوصفها تنميطاً عابراً للحدود للمرأة الأيقونة، فاضطرت الشركة الحقيقية المنتجة (ماتل) إلى صناعة باربيات عدة، سمراوات وسوداوات وبدينات وغيرها، إرضاءً للنسويات الناقدة وطمعاً في مبيعات أكثر.

تعرّض الفيلم أيضاً إلى ظاهرة ال Tokenism، أي سياسات تمثيل الأقليات والنساء صورياً في المناصب العليا من أجل اظهار المؤسسة أنها ديمقراطية ومهتمة باشراك مكوّنات اجتماعية متنوعة في عملية صنع القرار. أظهر مشهد ذكي عمق مشكلة "التمثيل الصوري" للنساء في الحوار الذي دار بين باربي ومدير شركة ماتل في الفيلم، إذ لم يكن من بين التسعة الكبار في مجلس ادارة الشركة امرأة اطلاقاً، فذهب المدير يذكّر بأن ثمة نساءً كثر في مواقع أخرى في الشركة، وأن امرأة ترأّست الشركة في أعوام سابقة، ناهيك عن أن في مبنى الشركة حمامات محايدة الجنس، في إشارة إلى التسامح الجندري الذي تنتهجه شركة "ماتل"، وكأن وجود حمامات من هذا النوع دليل على التسامح حقاً!

"باربي" فيلم ممتع وعميق في رمزيته، مزج الوجودية مع النسوية والخيال مع الواقع، وقدّم نقداً ساخراً لعالم ذكوري لم تكن باربي الدمية تألفه من قبل. إنه رسم توضيحي لفكرة النسوية الأساس في اللامساواة الجندرية وتطبيع التراتبية الاجتماعية القائمة على علوية الذكر على الأنثى. الفيلم درس عملي أيضاً على طبيعة العلاقة المختلة بين الرجل والمرأة نتيجة الأدوار الوظيفية والثقافية المحددة التي يفرضها المجتمع على كلٍّ منهما. لم تكن باربي ولا كين يعرفان ما المرأة والرجل في عالمهما الخاص. عرفاهما بعد أن اختلطا بالمجتمع في عالم الانسان الحقيقي. هذه خلاصة لمّاحة تشرح لنا كيف يتشكّل الجندر اجتماعياً، وكيف يعي الانسان ذاته وجندره عبر علاقته مع محيطه الثقافي والاجتماعي.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. عام على رحيل مصطفى درويش.. آخر ما قاله الفنان الراحل


.. أفلام رسوم متحركة للأطفال بمخيمات النزوح في قطاع غزة




.. أبطال السرب يشاهدون الفيلم مع أسرهم بعد طرحه فى السينمات


.. تفاعلكم | أغاني وحوار مع الفنانة كنزة مرسلي




.. مرضي الخَمعلي: سباقات الهجن تدعم السياحة الثقافية سواء بشكل