الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


من أجل ثقافة جماهيرية بديلة43

عبدالرحيم قروي

2023 / 9 / 13
الارشيف الماركسي


خطوط أولية لنقد الاقتصاد السياسي
فريدريك إنجلس
الحلقة الثانية

التجارة – تبادل الأشياء الضرورية، البيع والشراء – عاقبة مباشرة للملكية الخاصة. وهذه التجارة، مثل كل نشاط آخر، لا بد لها، في ظل سيادة الملكية الخاصة، من أن تصبح مصدراً مباشراً للدخل بالنسبة للتاجر، وهذا يعني أنه ينبغي على كل تاجر أن يحاول أن يبيع بأغلى ما يمكن ويشتري بأرخص ما يمكن. ومن هنا ينجم أن شخصين لهما مصالح متضادة تماماً يقفان أحدهما ضد الآخر في كل عملية بيع وشراء. وإن النزاع يتسم بطابع عدائي حقاً وفعلاً، لأن كلاً منهما يعرف نوايا الآخر، يعف أن هذه النوايا مضادة لنواياه. ولهذا كانت العاقبة الأولى للتجارة، من جهة، عدم الثقة المتبادل، ومن جهة أخرى، تبرير عدم الثقة هذا، وتطبيق الوسائل اللاأخلاقية لأجل بلوغ هدف لاأخلاقي. فإن القاعدة الأولى في التجارة، مثلاً، هي لزوم الصمت، إخفاء كل ما من شأنه أن يخفض ثمن البضاعة المعنية. ومن هنا الاستنتاج التالي: يجوز في التجارة استخلاص أكبر نفع ممكن من عدم اطلاع الجانب المضاد، من سرعة تصديقه، كما يجوز بالقدر نفسه للتاجر أن ينسب إلى بضاعته صفات لا تملكها. خلاصة القول إن التجارة خداع يجيزه القانون. أما إن الممارسة تتطابق مع هذه النظرية، ففي وسع أي تاجر أن يؤكد هذا، إذا أراد قول الحقيقة.
ثم إن النظام المركنتيلي كان يتميز أيضاً، بدرجة معينة، بصراحة ساذجة، كاثوليكية، ولم يكن يخفي جوهر التجارة اللاأخلاقي. وقد رأينا كيف عرض على المكشوف جشعه الدنيء. لقد كان التعادي بين الشعوب في القرن الثامن عشر، والحسد الكريه، والتنافس التجاري عاقبة محتمة للتجارة على العموم. فإن الرأي العام لم يكن قد اكتسب بعد الصفات الإنسانية، - ولذا، أي داع كان يدعو إلى إخفاء ما كان ينبع مباشرة من جوهر التجارة ذاتها اللاإنساني، المفعم بالعداء؟
ولكن، عندما شرع لوتر الاقتصاد السياسي، آدم سميث، ينتقد الاقتصاد السياسي السابق، تغير وضع الأمور كثيراً. فقد صار العصر أكثر إنسانية، وشق العقل لنفسه طريقاً، وأخذت الأخلاقية تدّعي بحقها الخالد. ودخلت المعاهدات التجارية المفروضة بالقوة، والحروب التجارية، وانعزال الشعوب الشديد، في تناقض حاد جداً مع الوعي المتقدم. ومحل الصراحة الكاثوليكية حل النفاق البروتستانتي. وزعم سميث أن للنزعة الإنسانية أيضاً أساساً في جوهر التجارة، عوضاً عن ""أن تكون أغزر منبع للخلافات والعداوة""، إنما ينبغي لها أن تخدم ""أواصر الوحدة والصداقة سواء بين الشعوب أم بين الأفراد"" (راجع ""ثروة الشعوب""، الكتاب الرابع، الفصل الثالث، الفقرة الثانية)؛ ذلك أن التجارة، كما يزعم، تنطوي، بحكم طبيعتها بالذات، على كونها نافعة عموماً وإجمالاً لأجل جميع المشتركين فيها.
كان سميث على حق حين أعلن أن التجارة إنسانية. وليس ثمة في الدنيا أي شيء لاإنساني إطلاقاً؛ وفي التجارة يوجد جانب تلقى فيه الأخلاقية والنزعة الإنسانية حق التقدير. ولكن ما أكثر ما تلقيا حق التقدير! إن حق القبضة القروسطي، السلب السافر على الطريق العريض، صار إنسانياً نوعاً ما حين تحول إلى تجارة، وصارت التجارة إنسانية نوعاً ما حين تحولت درجتها الأولى التي تتصف بمنع تصدير النقود إلى نظام مركنتيلي. والآن صار هذا النظام نفسه هو أيضاً إنسانياً نوعاً ما. وبديهي أن من مصلحة التاجر أن يقيم علاقات طيبة سواء مع من يشتري منه برخص أم مع من يبيعه بغلاء. ولهذا تتصرف ببالغ الغباوة تلك الأمة التي تثير في نفوس مزوديها وزبائنها شعور العداء حيالها. وبقدر ما تزداد علاقاتها مودة، بقدر ما يزداد نفعها. هنا تكمن إنسانية التجارة؛ وهذا الأسلوب المرائي لسوء استغلال الأخلاقية في سبيل أهداف لاأخلاقية هو موضع اعتزاز نظام حرية التجارة. يصيح المنافقون: أولم ندك بربرية الاحتكار، أولم نحمل الحضارة إلى أبعد زوايا الكرة الأرضية، أولم نبنِ أخوية الشعوب، أولم نقلل عدد الحروب؟ – أجل، كل هذا فعلتموه، ولكن كيف فعلتموه!؟ فقد قضيتم على الاحتكارات الصغيرة لكي يتطور الاحتكار الأساسي الكبير بمزيد من الحرية ومزيد من الطلاقة هو الملكية؛ وحملتم الحضارة إلى جميع أطراف الدنيا لكي تكسبوا تربة جديدة لأجل تطوير جشعكم الدنيء؛ لقد آخيتم بين الشعوب ولكن بأخوية اللصوص، وقللتم عدد الحروب لكي تبتزوا المزيد في زمن السلم، لكي تؤزموا إلى الحد الأقصى العداوة بين الأفراد، وحرب التنافس الشائنة! – أين فعلتم شيئاً ما انطلاقاً من الدوافع الإنسانية البحتة، من إدراك أن التضاد بين المصلحة العامة والمصلحة الفردية لا يملك الحق في الوجود؟ هل كنتم يوماً ما أخلاقيين دون أن تكون لكم مصلحة في هذا، دون أن تخفوا في أعماق نفوسكم البواعث اللاأخلاقية، الأنانية؟
بعد أن فعل الاقتصاد السياسي الليبرالي ما يتوقف عليه، لكي يجعل العداوة عامة عن طريق إبادة القوميات، ولكي يحول البشرية إلى قطيع من الوحوش الضارية، - لأنه ما عسى أن يكون المتنافسون إن لم يكونوا كذلك؟ – التي تلتهم بعضها بعضاً للسبب التالي بالذات، وهو أن لكل مصلحة واحدة مع الغير، - بعد هذا العمل التمهيدي، بقي له أن يخطو في الطريق إلى الهدف خطوة أخرى فقط – انحلال العائلة. ولبلوغ هذا الهدف، مدّ له يد المساعدة اختراعه اللطيف بالذات – النظام المصنعي. فإن البقايا الأخيرة للمصالح العامة – الوحدة العائلية للأموال، قد قوضها النظام المصنعي، وهي تتواجد – هنا، في إنجلترا، على الأقل – بسبيل الانحلال. وصارت الظاهرة التالية عادية تماماً، وهي أن الأولاد، ما أن يصبحوا بالكد قادرين على العمل، أي ما أن يبلغوا التاسعة من العمر، حتى ينفقوا على أنفسهم أجورهم، ويروا في البيت الأبوي مجرد مأوى مدفوع الأجر، ويعطوا والديهم جزاء معيناً لقاء المائدة والمسكن. وهل يمكن أن يكون الحال غير ذلك؟ وهل يمكن أن يحصل أمر آخر من انعزال المصالح القائم في أساس نظام حرية التجارة؟ وما أن يبدأ تحريك مبدأ ما حتى يشبع بنفسه جميع عواقبه، بصرف النظر عما إذا كان هذا يطيب للاقتصاديين أم لا.
ولكن الاقتصادي نفسه لا يعرف أية قضية يخدم؛ لا يعرف أنه بكل تفلسفه الأناني لا يشكل سوى حلقة في سلسلة تقدم البشرية العام، لا يعرف أنه لا يفعل فإفساده لجميع المصالح الخاصة غير أن يمهد السبيل إلى ذلك الانقلاب العظيم الذي يتحرك قرننا إلى لقائه – تصالح البشرية مع الطبيعة ومع نفسها بالذات.
يتبع








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الشرطة الأميركية تشتبك مع المتظاهرين الداعمين لغزة في كلية -


.. حشود غفيرة من الطلبة المتظاهرين في حرم جماعة كاليفورنيا




.. مواجهات بين الشرطة ومتظاهرين في باريس خلال عيد العمال.. وفلس


.. على خلفية احتجاجات داعمة لفلسطين.. مواجهات بين الشرطة وطلاب




.. الاحتجاجات ضد -القانون الروسي-.. بوريل ينتقد عنف الشرطة ضد ا