الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


قراءة في نفسية الأسد

سامر عساف

2023 / 9 / 14
مواضيع وابحاث سياسية


يتبع التحليل النفسي المعاصر تقييم تجانس التركيبة النفسية لتشخيص الحالة النفسية للشخص. تتجاوز هذه الأداة آليات التشخيص القائمة على النظام العالمي لتشخيص الأمراض النفسية (ICD-10)، وتصنّف التركيبة النفسية تنازلياً وفق تجانسها الى: متجانسه بشكل جيد، متجانسه نسبيًا، ضعيفة التجانس، غير متجانسة أو متوزعة.
يعتمد هذا الفهم والتشخيص أساساً على فهم كيرنبيرغ للنفس البشرية. في المستويين الأوليين، تظهر بشكل رئيس الحالات العصابية الموجودة عند البشر كافّة تقريباً (حاجات نرجسية، اكتئاب، مشاكل في العلاقات الاجتماعية، وغيرها مما يدفعنا إلى الإنجاز، الاعتراف، والتعويض الطبيعي عموماً). بينما في المستويين الأخيرين، تظهر اضطرابات الشخصية، كاضطراب الشخصية النرجسية، الشخصية الحدية، والحالات السيكوباتية. هذا التقسيم اصطلاحي، ولا يوجد اضطراب نفسي ليس له بعد على مستوى الهيكل النفسي أو البناء والتركيبة، لكن الاضطرابات والمشاكل النفسية، التي تصنّف تحت (اضطراب الهيكل النفسي)، هي الأشدّ لعنة وديمومة.
تظهر أعراض التجانس، على مستوى الإدراك والوعي، في القدرة على فهم الذات والآخر والواقع المحيط، وفي الهوية الذاتية، بمعنى أنها مصقولة ثابتة، أو متوزعة تائهة. وعلى مستوى السلوك، يظهر التجانس في القدرة على موازنة العلاقات الاجتماعية، والتحكم بالرغبات. يستدل المحلل النفسي على مدى تجانس التركيبة النفسية وصحّتها انطلاقاً من حديث المريض، وبالتالي وسائل الدفاع النفسي التي يعتمدها، وتظهر في سلوكه ولغته، وحتى في طريقة لباسه، وحضوره الجلسة العلاجية، ونظريته عن نفسه ومرضه. يربط المحلل النفسي هذه المعطيات مع السردية الذاتية للمريض، ويترك لخياله، بناءاً على نظريات نفسية، إمكانية ربط ملاحظاته مع تاريخ المريض، ليكوّن صورة عامة عن المشكلة، أسبابها، وطرق علاجها.
هناك وسائل دفاع نفسي (ناضجة) منها التذاكي, الفكاهة، الكبت، الإيثار، ووسائل دفاع نفسي غير ناضجة، كالإنكار أو التعامي، والإسقاط، والتفريق، والعزل، وهي عامل حاسم في التشخيص، وبخاصّة للتركيبة النفسية.
في حوار بشار الاسد مع قناة سكاي نيوز (أوائل آب/ أغسطس المنصرم)، راقبتُ لغته وسلوكه بعين المحلل النفسي، محاولاً فهم مدى نضوجه، واستخلاص وسائل الدفاع النفسي التي يستخدمها. يلجأ بشار الاسد في لغته، على الأقل إلى ثلاث وسائل دفاع نفسي غير ناضجة، منها الإنكار، الإسقاط، والتفريق، وخير مثال على الإنكار النعامة التي تضع رأسها في الرمل، وتقول لنفسها (أين الأخطار؟ انا لا أرى اخطاراً). لا ينكر الأسد فقط الواقع السوري بكل مأساته، بل يقف على أطلال سورية وجثث أبناءها كديك "قفز على دجاجاته، وصعد فوق المزبلة ونفخ صدره وراح يصيح بكبرياء". وينكر أن سورية مقسمة إلى كنتونات، تجوبها وتحتلها جيوش عدّة.
برغم ما حل بسورية خلال فترة حكمه التي قاربت ربع قرن، يحدّث الأسد محاوره، بأنه لم يرتكب أخطاءً، وسيعيد اتخاذ القرارات التي اتخذها، لو حدث الأمر نفسه مرّة أخرى. وينكر دور ابيه في تولّيه السلطة، وكان عمره 34 عاماً عندما تولّاها زوراً، إذ كان يشترط لمرشّح رئاسة الجمهورية ألّا يقل ّعمره عن 40 عاماً. حينها، شاهد العالم على شاشات التلفزة، كيف اجتمع مجلس الشعب على عجل (أو مجلس التصفيق كما يحلو للبعض تسميته)، وغيّر الدستور خلال دقائق ليصبح على مقاسه.
أمّا وسيلة الدفاع النفسي الثانية لديه فهي الإسقاط، تُلاحظ هذه الآلية عادةً عند ذوي اضطراب الشخصية الحدّي، حيث ينسب المريض الخلل في العلاقة مع الآخر إلى الآخر وليس إلى نفسه، فيسقط على الآخر ما لا تستوعبه سعته النفسية. وفي حديث الأسد عن علاقته مع الدول والحكام العرب، يمكن ملاحظة هذه الآلية بوضوح، فالعرب هم "المخطئون والخاسرون" من قطع علاقاتهم بسورية، وقد نسي أنه وصفهم بأنصاف الرجال، وتجاهل مصالحهم في العراق أو قلقهم من علاقته بايران. ثم تأتي وسيلة الدفاع الثالثة التفريق، هي وسيلة دفاع نفسي لتحمّل التناقضات القائمة في التركيبة وسهولة التعامل معها وهي نتاج الأنا اللاواعي في مراحل طفولية مبكرة، وآلية الأبيض والأسود في الإدراك والمحاكمة، فالمأزوم لا يستطيع رؤية طيف الألوان، بمعنى النسبية واتساع الافق، بل البشر هم خيّرون أو سيئون، موالون أو معارضون، وطنيون أو خائنون، وهي الثنائيات التي تحكم منطق تفكير الأسد.
بعد ذلك، تأتي آلية العزل، وتعني عزل المشاعر السلبية التي لا تملك التركيبة النفسية وزر عيشها. فالطفل الذي يتعرض للضرب باستمرار يتوقف في لحظة ما عن البكاء، وقد ينفجر ضاحكاً عندما يُضرب "كالطير يرقص مذبوحاً من الألم". من الصعب ملاحظة مشاعر جيّاشه لدى بشار الاسد ، هو يدّعي الفكاهة فقط من حين لآخر، وفي أوقات غير مناسبة شعورياً، مثل زيارته لمدينة حلب بعد الزلزال، حيث استغرب الناس بشاشته وابتسامته العريضة آنذاك. هذا التناقض بين الحدث وردة الفعل العاطفية غير المناسبة، يفضح التركيبة المأزومة للشخص. والأسد لا يبدي أي علامة تأزّم شعوري أو عاطفي أو تأثّر ومعاناة بسبب ما حل بشعبه (بوصفه الرئيس)، ولم تلق أسئلة الصحفيين المتكرّرة عن حالته الشعورية إزاء ما يحصل في البلد أي استجابة شعورية مناسبة، وهذا على الأرجح نتيجة أسلوب عزل المشاعر اللاواعي.
انطلاقا من تحليل الدفاع النفسي، يمكن للمحلل النفسي تشخيص حالة التركيبة النفسية عند المريض، بربط هذه الملاحظات والمراقبات مع سردية المريض وتاريخ تطوّره النفسي. لا يمكن الحديث عن سردية الأسد، طالما لم يسردها بنفسه، ولكن من خلال الحوارات والمقابلات التي أجراها، تظهر جليةً وسائل الدفاع النفسي آنفة ذكر، وهذا يدعو إلى التخمين بأنّ تركيبته النفسية مأزومة، وبأنّه عانى من أزمات نفسية في المراحل العمرية المبكرة. هذه الملاحظات تدعو المحلل النفسي إلى البحث عن علائق شرطية بين السلوكيات (العوارض) وأسبابها، وتبقى هذه النظريات والتخمينات حبيسة المستوى النظري، إلى أن تظهر وتعيد إنتاج نفسها في العلاقة العلاجية، وعند هذه النقطة يبدأ العلاج النفسي الديناميكي وفق كيرنبيرغ. وكون الأسد لن يأتي إلى العيادة بحثاً عن علاج نفسي، سنبقى حبيسي التخمينات والاستنتاجات.
بعد ربط وسائل الدفاع النفسي بالسلوك، يبقى السؤال عن الأسباب الموجبة لهذا الدفاع النفسي. وانظلاقاً من فهم فرويد للتركيبة النفسية، وفهم آنا فرويد للدفاع النفسي، واعتماداً على نظريات ميلاني كلاين، وويني كوت في أهمية الموضوع (الموضوع كمصطاح نفسي هو الآخر) الوالدين بشكل أساسي، ننحو إلى الاعتقاد بأنّ بشار الأسد تعثّر في نموّه النفسي وبقي حبيس المرحلة الفموية، أي ما قبل الأوديبية. من المعروف عموماً أنّ المرحلة الاوديبية للولد أصعب منها للبنت، فالولد عليه مغادرة حضن أمه (والأم تمثّل الماضي)، متماهياً مع الأب (ويرمز إلى المستقبل) وساعياً لقتله وتجاوزه، بالمعنى القيمي، وهذا ما أطلق عليه فرويد الأنا الأعلى. لا يختزل الأنا الأعلى بجملة القواعد والنظم، بل الأهم هو القيم والمثاليات، وهي في جزء رئيس منها، حصيلة التماهي مع الأب، لذلك يقال "الآباء ضمير الأبناء".
نميل إلى نظرية تأثير خيبة الأمل من الأب في حالة بشار، لأن حافظ الأسد وضع ابنه باسل في المقدمة على حساب إخوته، وأعدّه ليكون خليفةً موعوداً، ووليّاً للعهد يخلف أباه في السلطة. لكن موت باسل المفاجئ، خلط الأوراق وفرض بشار خليفة اضطرارياً. هنا يراودنا الشّك، بأنّ خيبة بشار الأسد بأبيه، دفعته إلى النكوص نحو علاقة (تقايض) مع الأم، والمقصود بهذا علاقة تقايض لاواعية. مثلا، لا يصبح الطفل مقداماً بل خائفاً، فالأم حبسته في ظلها كحاجة نرجسية لها (مثلاً غياب الزوج)، وهو يقبل الدور بشكل لاواعي، ويحصل مقابل ذلك على الرعاية، أي أنه بقي تابعاً وغير ناضج، وكمونه الداخلي (الدافع البدئي للذات كما يرى كوت أو النرجسية البدئية عند كلاين، بل حتى المعطى الميتافيزيقي لمعنى الوجود عند الروحانيين)، تحور إلى خوف أو عدوانية في نظام علائقي (سادي مازوخي)، وربما تفضح علاقة بشار الأسد بزوجته هذا النموذج، كونها ذات دور محوري في سياسته، وفق ما تشي المعطيات. تعدّ هذه العلاقة مصدومة بالمعنى الطبي للصدمة، بمعنى أن الشخص البالغ يعاني بشكل حقيقي في بناء العلاقة مع الأخر، وفي الوقت نفسه، وبسبب فقدانه الاتصال بكمونه، يبقى غريباً في ذاته، فيصبح فهمه لذاته وللكون من حوله قاصراً، وانفصاله عن الواقع ملموساً، ويبلغ هذا العرض مداه في الحالات السكيوباتية والفصامية.
لا يمكن ببساطة التحلّي بالموضوعية في التحليل النفسي لرئيس، إذا كان المحلل (متداخل) سياسياً، بمعنى له موقف سياسي. صحيح أنّ هذه الأفكار تبقى منقوصة بسبب ذاتية المحلل، إلا أنّها دعوة للتفكّر ومحاولة أوّلية لفهم الخلفية النفسية لسلوك الأسد الهدام على المستوى الوطني.
سامر عسّاف*
* أخصّائي تحليل وعلاج نفسي








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. تفاصيل بنود العرض الإسرائيلي المقدم لحماس من أجل وقف إطلاق ا


.. أمريكا وفرنسا تبحثان عن مدخل جديد لإفريقيا عبر ليبيا لطرد ال




.. طالب أمريكي: مستمرون في حراكنا الداعم لفلسطين حتى تحقيق جميع


.. شاهد | روسيا تنظم معرضا لا?ليات غربية استولى عليها الجيش في




.. متظاهرون بجامعة كاليفورنيا يغلقون الطريق أمام عناصر الشرطة