الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


عن توبيخ السوريين العلويين المتجدد

راتب شعبو

2023 / 9 / 17
مواضيع وابحاث سياسية


في الشهور الأولى من الثورة السورية، فهم الكثيرون عدم مشاركة الكتلة الشعبية من العلويين في المظاهرات المطالبة برحيل الطغمة الأسدية، على أنه خوف من ضياع امتيازات يتمتعون بها في ظل "نظام علوي"، فليس في مصلحتهم انتصار ثورة تساويهم مع بقية السوريين. لم يقتصر التحليل المذكور على الإسلاميين أصحاب تعبير "النظام العلوي"، بل سارت على هذا الطريق أيضاً عقول غير إسلامية. وفق ذلك، فإن رفض العلويين "المدللين" للمساواة هو ما جعلهم يقفون ضد الثورة.
كان هذا الفهم أساساً ثابتاً لتوبيخ العلويين ككتلة شعبية دعمت نظاماً مجرماً لأنه يوفر ويصون لها موقعاً ممتازاً في المجتمع السوري. وقد عرض أصحاب هذا الفهم، وهم في الغالب من خارج البيئة العلوية، مفارقة طريفة وذات دلالة، حين راح ينوس توبيخهم بين اعتبار العلويين عبيداً، كناية عن خدمة السلطة وعبادة رموزها أو حتى عبادة القيد والإحجام عن كسره، وبين اعتبارهم سوريين ممتازين، كناية عن مكاسبهم قياساً على بقية السوريين. دلالة هذه المفارقة هي أن الفهم المذكور يقوم على أساس خاطئ هو افتراض تمتع العلويين بامتيازات فعلية في ظل نظام الأسد.
معظم المعارضين العلويين لم يشاركوا هذا الفهم، لأنهم على دراية بالوضع البائس لهذه الكتلة البشرية التي تنسب السلطة إليها، حتى يمكن أن تسمع من يقول مثلاً "إن العلويين يحكمون سوريا". والواقع أن صاحب السلطة الفعلية بين العلويين تحول إلى سيد يترفع على محيطه الاجتماعي ويستخدم سلطته ضد الأهالي حين يقصرون في إرضاء جشعه. هذه قاعدة مطردة في منطق السلطات المستبدة. من القصص المعروفة مثلاً أن أحد كبار ضباط المخابرات منع شق طريق إلى قريته لأن بعض الأهالي رفضوا بيعه الأراضي المجاورة لقصره الذي شقت له طريق خاصة. ومن القصص المعروفة أيضاً أن أحد المسؤولين "تواسط" لصالح عائلة من أجل نقل ابنهم المعلم الذي يدرّس في محافظة بعيدة، إلى التدريس في مدرسة القرية، مقابل أن تقيم اخت هذا المعلم في بيت المسؤول في دمشق لمساعدة الزوجة في أعمال المنزل. المبدأ الذي يتم إغفاله هو أن السلطة الفاسدة وغير المقيدة تستخدم وتستهلك الشرائح الفقيرة، وليس العكس بأي حال.
بعد سنوات من التعثر والفشل السوري العام، انتهت موجة التوبيخ الأولى تلك لتبدأ موجة توبيخ جديدة للعلويين لأنهم لا يخرجون ضد نظام الأسد، رغم الحضيض المتعدد الجوانب الذي يعيشونه. يتولى هذا التوبيخ الجديد معارضون علويون قدماء أو مستجدون، وينطلق من أنه ليس في حياة العلويين ما يميزهم، وما يمكن بالتالي أن يقعدهم عن الخروج على نظام الأسد أسوة ببقية السوريين. وهكذا فإن هذه الفئة من الموبخين لا تجد، على خلاف الفئة الأولى، سبباً يفسر عدم خروج العلويين ضد طغمة الأسد. على هذا يميل توبيخ هؤلاء إلى أن يكون قاسياً وأن ينطوي على شتائم بحق العلويين مثل "قلة الأخلاق" و"انعدام الكرامة"، ويصل الأمر أحياناً إلى حد البصاق. يسمح بهذا المستوى من الشدة، كون هذا التوبيخ "أهلياً"، أي يصدر عن أبناء من الطائفة نفسها، فلا يمكن لمن هو من غير هذا المنبت أن يصل توبيخه العلني إلى هذا المستوى، وإلا لاعتبر كلاماً طائفياً فظاً ومستفزاً.
كان حرياً بمن اعتقد في البداية أن انكفاء العلويين عن الثورة ناجم عن تمتعهم بامتيازات، أن يراجع قناعته حين رأى أن العلويين لا يخرجون ضد النظام رغم انعدام مكاسبهم وحضيض عيشهم. فقد نقد الواقع قناعتهم السابقة بصراحة. ولكن يبدو أن الموبخين في الموجتين، مع إدراكنا لطيب النوايا، لا يسعون كثيراً إلى فهم الدوافع المتشابكة (التصورات الخاصة ونمك استيعاب التاريخ الحديث والشروط المادية المحيطة ... الخ) التي تحدد سلوك هذه الكتلة البشرية أو تلك. بدلاً من محاولة فهم سلوك لا يروق لنا من جماعة ما، من الأسهل أن نعتبر سلوكها شاذاً وأن نكيل التقييمات السلبية بحقها. كما لو أن الجماعات البشرية جواهر متفارقة لا تحكمها الشروط، منها جماعات ثورية بطبيعتها، ومنها جماعات تستطيب الذل والجوع والعبودية. ومن الطبيعي أن سوق التوبيخات لا توجد في أرض الناس المستهدفين بالتوبيخ، بل تزدهر في أرض خصومهم أو من يروق لهم سماع هذه التوبيخات التي تصبح، والحال كذلك، إرضائية وعديمة الفائدة.
الكتلة البشرية التي تسمى العلويين تجد نفسها، منذ سنوات، في مأزق عميق لا يزيده الزمن إلا عمقاً، مع تزايد الإفلاس السياسي للطغمة الأسدية، وتزايد ارتهانها "للحلفاء"، وازدهار فساد الحرب وأربابه، وتزايد العبء الاقتصادي للناس بسبب النهب والفساد وتوقف عجلة الإنتاج في مجتمع انهكه اقتتال عبثي تديره مصالح غريبة عن عموم السوريين. وليس مأزق العلويين هذا سوى أحد أعقد جوانب المأزق العسير الذي أوصلت الطغمة الأسدية المجتمع السوري ككل إليه.
لدى العلويين في سوريا رهاب تأصل على مدى عقود من حكم عائلة الأسد، هو رهاب التغيير. وهكذا فإن مأزقهم هو أنهم عالقون في رفض تغيير ما ينبغي تغييره، مثل "بالع الموس على الحدين". كل ما يمكن أن يقود إلى التغيير السياسي، بات مصدر رهاب لدى العلويين. لاحظ مثلاً موقف عموم العلويين من المظاهرات "غير الإسلامية" في السويداء اليوم. في الحق، من العبث انتظار دور فاعل للكتلة العلوية في عملية تغيير سياسي في سورية. الأصوات الانتحارية التي تخرج من الساحل هذه الأيام هي صرخات ألم أكثر منها صرخات احتجاج سياسي، عدا عن كونها أصوات متفرقة. هذه واحدة من تجليات مأزق العلويين. ومن العبث البحث عن تطمين للعلويين. مبدأ التطمين بحد ذاته ينم عن مشكلة لا ينفع معها التطمين، أقصد انعدام الثقة، والحق إنه انعدام ثقة متبادل ومستقر بين الجماعات السورية المختلفة. أما مبدأ التوبيخ فينتهي غالباً، رغم النوايا الطيبة، إلى عكس ما يريد فاعلوه، إن كانوا يريدون حقاً تحريك الجماعة العلوية ضد نظام الأسد.
التغيير السياسي في سوريا سيكون غالباً ضد رضى العلويين، حتى إن كان، في النهاية، في مصلحتهم مع جميع السوريين.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الاتحاد الأوروبي.. مليار يورو لدعم لبنان | #غرفة_الأخبار


.. هل تقف أوروبا أمام حقبة جديدة في العلاقات مع الصين؟




.. يديعوت أحرونوت: إسرائيل ناشدت رئيس الكونغرس وأعضاء بالشيوخ ا


.. آثار قصف الاحتلال على بلدة عيتا الشعب جنوب لبنان




.. الجزائر: لإحياء تقاليدها القديمة.. مدينة البليدة تحتضن معرض