الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


مَن سيسبق مَن؟ مشروع بايدن أم مشروع أردوغان للربط بين آسيا وأوروبا؟

عبد الحميد فجر سلوم
كاتب ووزير مفوض دبلوماسي سابق/ نُشِرَ لي سابقا ما يقرب من ألف مقال في صحف عديدة

(Abdul-hamid Fajr Salloum)

2023 / 9 / 19
مواضيع وابحاث سياسية


كُتِب الكثير في الآونة الأخيرة عن الممر الإقتصادي بين الهند وأوروبا عبر الشرق الأوسط، لاسيما دولة الإمارات العربية المتحدة، والمملكة العربية السعودية، والمملكة الأردنية الهاشمية وإسرائيل، ثم أوروبا عبر ميناء حيفا..
هذا المشروع الذي أطلَق عليه البعض ممر(بايدن) نسبة للرئيس الأمريكي جو بايدن، صاحب الفكرة بالأساس والمتحمِّس لها بقوة منذ سنوات، وذلك في إطار الإستراتيجيات التي ترسمها الولايات المتحدة لمواجهة النفوذ المتنامي للصين عبر العالم، وخاصة في منطقة الشرق الأوسط، من خلال مبادرة (الحِزام والطريق).. رغم أن الولايات المتحدة تنفي ذلك..
وبِحسبِ تصريحات الرئيس بايدن فإن هذا المشروع سوف يتمدّدُ مستقبَلا من الهند شرقا حتى يصل إلى فيتنام في أقصى شرق آسيا..
وكانت الخطوة الأولى لتجسيد هذا المشروع هي في نيودلهي على هامش قمة العشرين بين 9 و 10 أيلول 2023 ، حينما وقّع زعماء الولايات المتحدة الأمريكية، والسعودية، والإمارات، والهند وفرنسا وإيطاليا والإتحاد الأوروبي، مذكرة تفاهم لإنشاء هذا الممر..
**
في الوقت الذي طرح بهِ الرئيس بايدن إقامة هذا الممر الإقتصادي الإستراتيجي العملاق في عام 2021، كان الرئيس التركي رجب طيب أردوغان يُفكِّرُ  بممرٍّ إقتصاديٍ آخرٍ يربط بين أذربيجان وتركيا، كمرحلة أولى، عبر مقاطعة (ناخيشيفان) الأذرية ذات الحُكم الذاتي، والواقعة في مُثلّث صغير على الحدود في أقصى جنوب غرب أرمينيا، ومحشورٌ بينها وبين إيران وتركيا.. وتمَّ تتبيعها لجمهورية أذربيجان في زمن الإتحاد السوفييتي، مع أنهُ لا تربطها أي حدود برية مع أذربيجان.. ويُطلَقُ عليه ممر (زنغزور) ..
فما هو ممر زنغزور، وما أهميته الإستراتيجية لتركيا؟. ولماذا أردوغان متحمس لهُ بقوة؟.
**
ممر زنغزور تم الحديث عنهُ بعد اتفاقية وقف إطلاق النار، التي عُقِدت إثر الحرب الثانية بين أذربيجان وأرمينيا برعاية روسيا في 9 تشرين ثاني/ نوفمبر 2020 ، وذلك بعدَ حربٍ استمرّت ستة أسابيع في إقليم ناكورنو كاراباخ ( أو أرتساخ باللغة الأرمينية) بدأتها أذربيجان في انتهاكٍ واضحٍ  لإتفاق وقف إطلاق النار الذي تمّ الاتفاق عليه في أيار / مايو 1994، ومُخالَفَة لكافة التفاهمات السابقة برعاية مجموعة (مينسك) الوسيطة بين الطرفين، والمُنبثِقة عن منظمة الأمن والتعاون في أوروبا، والتي تأسست بعد الحرب الأولى بينهما بين عامي 1988 و 1994 ..
تركيا في الحربين ساندت أذربيجان، ولكن في الحرب الأولى حينما حاولت رئيسة وزراء تركيا تانسو تشيللر، التدخل عسكريا وحشدت قواتها على حدود أرمينيا، جاء التهديد الروسي من الرئيس بوريس يلسن، فلملمت ضفائرها الشقراء وانسحبت.. لاسيما أن أكبر القواعد الجوية الروسية موجودة في أرمينيا..
 ولكن في الحرب الثانية في خريف 2020 ، تدخلَ أردوغان، وشارك بالدعم العسكري والميداني وأرسل كثيرا من المُرتزَقة السوريين الذين يخضعون لسيطرته في الشمال السوري، للقتال إلى جانب أذربيجان.. كما أرسلهُم قبلها للقتال في ليبيا..
كان الإتفاق مؤلما بالنسبة لأرمينيا وشعب أرمينيا، وهذا ما عبّر عنهُ رئيس وزرائها الذي شارك في التوقيع (نيكول باشينيان) حينما قال على صفحته في فيسبوك:
(لقد وقّعتُ إعلانا مع الرئيسين الروسي والأذربيجاني لإنها الحرب في كاراباخ، وهذه خطوة مؤلمة بشكل لا يوصف لي شخصيا، كما لِشعبي) ..
وقد أشعل تصريحهُ هذا مظاهرات واسعة في أرمينيا، واتهام باشينيان بالخيانة..
بينما كانت الفرحة في أذربيجان إذ اعتبر الرئيس إلهام علييف أن الإتفاق هو وثيقة استسلام.. ولكن التوتر ما زال قائما في كاراباخ بين الطرفين..
**
الإتفاق تضمن تسعة بنود، ونصّ على بقاء كل طرف في الأماكن التي يسيطر عليها، ونشرِ ما يُقارب من ألفي عسكري روسي كقوات حفظ سلام، ولضمان تنفيذ الإتفاق والإشراف على وقف إطلاق النار، وكذلك على ضمان استمرار فتح معبر (لاتشين) الذي يربط بين أرمينيا وإقليم ناكورنو كاراباخ..
كما تشارك قوات تركية في عملية حفظ السلام..
إلا أن اذربيجان أغلقت مؤخرا هذا المعبر ومنعت وصول الغذاء والدواء إلى عشرات آلاف الأرمن في المناطق التي ما زالت تحت سيطرة الأرمن في إقليم كاراباخ.. وقد ناشدتها الولايات المتحدة وروسيا بفتح المعبر..
الأرمن عاتبون على روسيا بذلك، فهي الضامنة لسلامة المرور في المعبر.. وكذلك عاتبون لأن هناك اتفاقية دفاع مُشتَرك بين أرمينيا وروسيا، وحينما طالبت أرمينيا بتفعيلها ومساعدتها في الحرب، رفضت موسكو وقال الرئيس بوتين نحن ندافع عن أرمينيا إذا حصل اعتداء مباشر عليها..
وهذا الموقف الروسي هو بعكس الموقف الروسي القوي إلى جانب أرمينيا في الحرب الأولى بين 1988 و 1994 .. في زمن بوريس يلسين..
طبعا الظروف تغيرت، وروسيا اليوم، وفي ظل الحرب في أوكرانيا، بحاجة إلى علاقة جيدة مع أذربيجان الغنية بالنفط والغاز، ومع تركيا الدولة الإقليمية القوية في المنطقة.. ودوما في الطبيعة الإنسانية، الناس مع القوي.. ولا أحدا يكترث بالضعيف..
**
من أهم بنود الإتفاقية كان البند التاسع، الذي تضمن بناء طرق مواصلات (برية وسكك حديد) بين أذربيجان ومُقاطعة ناخيشيفان ذات الحُكم الذاتي التي تتبع لأذربيجان ولا ترتبط معها بحدود برية.. وذلك في داخل أراضي أرمينيا وفي أقصى الجنوب على الحدود التي تفصلُ بينها وبين إيران، في منطقة زنغزور .. ولذلك سُمِّيَ هذا الممر، بممر زنغزور..

وهذا ما يُركِّزُ عليه الرئيس أردوغان بقوة، ويسعى بشتّى السبُل لإنجازهِ بسرعة.. لماذا؟.
لأن هذه الطُرق، أو الممر، بين أذربيجان وناخيشيفان، يعني الربط برا بين أذربيجان وتركيا.. فإقليم ناخيشيفان على حدود تركيا.. ولن تحتاج تركيا للمرور إلى أذربيجان عبر أراضي جورجيا..
وهذا يعني لاحقا الربط البرّي مع كافة الجمهوريات (التوركمانية) في آسيا الوسطى الناطقة باللغة التركية، والأعضاء في (منظمة الدول التركية)، عبر أذربيجان، وبحر قزوين، وهي:
 كازاخستان، قرغيزيستان، أوزبكستان، وتركمانستان، طبعا إضافة لأذربيجان وتركيا، فضلا عن المجَر وشمال قبرص كأعضاء مراقبين..
طبعا هذه الرابطة القومية (الطورانية التركية) يقابلها عندنا نحن العرب (جامعة الدول العربية، ولكن شتّان بيننا وبينهم، فهُم يدا واحدة)..
هذا الممر البري سوف يُغني عن الممرات القديمة من الصين عبر دول آسيا الوسطى، ثم روسيا إلى أوروبا.. أو إلى البحر الأسود ثم أوروبا.. ويُصبحُ ممر العبور البري من الصين إلى آسيا الوسطى وأذربيجان ثم إلى تركيا ومنها، ومن موانئها، إلى أوروبا..
ولذلك كان تصريح أردوغان أنهُ سيربط برّا بكّين بلندن..
ومن هنا يمكن إطلاق اسم (ممر أردوغان) على هذا الممر..
ولا ننسى أن تركيا هي مقر ضخ وتوزيع الغاز الروسي إلى أوروبا أيضا..
**
إيران تعارض بشدّة إقامة هذا الممر لأنه سيضرُّ بمصالحها الإستراتيجية والإقتصادية، ولأن هذا الممر سيفصلها عن أرمينيا حيثُ السيادة عليه لأذربيجان.. ويُعيقُ وصولها إلى جورجيا والبحر الأسود، ودول أوروبا.. ويُقوّي من مكانة ودور تركيا وأذربيجان في المنطقة على حساب إضعاف دورها.. ولن تحتاج أذربيجان للمرور عبر الأراضي الإيرانية للوصول إلى ناخيشيفان، ودفع الرسوم..
عدا عن الحساسية والخلافات التاريخية الشديدة بين إيران وأذربيجان، وهذه تحتاج لبحث مستقل.. رغم أن البلدين شيعيين، ولكن المصالح تفوق المذهب، وأذربيجان تتمسك بالرابط القومي أكثر من الرابط المذهبي.. أي ترى نفسها بجانب تركيا التُركية على أساس عِرقي، وليس بجانب إيران الشيعية، على أساس مذهبي.. (يعني كما القوميون العرب الذين يضعون رابط القومية فوق رابط الدين والمذهب)..
وتجدرُ الإشارة هنا إلى تصريح سابق لأول رئيس لأذربيجان بعد تفكُّك الإتحاد السوفييتي، وهو حيدر عالييف(والِد الرئيس الحالي إلهام) بخصوص الرابط مع تركيا، وقال فيه: نحنُ شعبٌ واحدٌ في بلدين..
مع أن حيدر عالييف أمضى حياته في الحزب الشيوعي السوفييتي وكان في أعلى هيئاته وقياداته، وكان من صقور الحزب، ولكن العصبية القومية بقيت حيّة في أعماقهِ.. وهذا يُشيرُ إلى حجم النفاق لدى تلك القيادات.. ولذلك كان طبيعيا أن يتفكك الإتحاد السوفييتي..
ولدى زيارةٍ لأردوغان إلى باكو عام 2009، استذكَرَ أمام الرئيس إلهام عالييف، عبارة والدهِ حيدر، وقال لهُ مُكرِّرا (نحنُ شعبٌ واحدٌ في بلدين) ..
**
المهم، كيف سينتهي الخلاف الإيراني من جهة، والتركي من جهة أخرى حول ممر (زنغزور)؟
إيران ما زالت متمسكة بموقفها وتُهدِّد بعدم السماح بهذا الممر.. وتركيا متمسكة بموقفها وأنها مُصمِّمة على فتح هذا الممر..
وأردوغان صرّح قبل فترة أن إيران، وليست أرمينيا، هي من تُعيقُ فتح هذا الممر، وأعربَ عن غضبهِ من إيران علنا..
المُحلِّلون السياسيون الأتراك، الذين أستمعُ أحيانا إليهم، يؤكدون، بعنجهيتهم التركية العثمانية المعهودة، أن هذا الممر سوف يُفتَح، شاء من شاء، وأبى من أبى، وأن تهديدات إيران لا يأخذونها على محمل الجد..
فكيف ستنتهي الأمور؟. على الأغلب بحل سياسي.. لأنه لا بديلا سوى الحرب.. وإيران يكفيها ما فيها.. ولا أعتقد أنها بصدد التفكير بالحرب لمنع قيام هذا الممر..
**
يبقى أخيرا سؤالين:
الأول، من سيسبق من؟. ممر أردوغان بين بكين ولندن عبر تركيا  ثم أوروبا..
أم ممر بايدن من الهند إلى الشرق الأوسط وعبر إسرائيل ثُمّ أوروبا؟
في الحالتين إسرائيل هي المُستفيدة، فممر أردوغان سيُعزِّز من مكانة أذربيجان، وهذه صديقة كبيرة لإسرائيل.. وتربطهما علاقات قوية في شتّى المجالات، الأمنية والمخابراتية، والعسكرية، والإقتصادية.. الخ.. فأذربيجان هي أكبر مورِّد لإسرائيل بالنفط والغاز.. وأخيرا فتحت سفارة في تل أبيب..
ومنذُ أن كنتُ أخدم في سفارة بلادي في يريفان(عاصمة أرمينيا) بعد عام 2008، كنتُ أُتابعُ وأقرأُ عن التغوُّل الإسرائيلي في أذربيجان، لاسيما جهاز الموساد.. وما كان يُكتَب عن النشاط ضد إيران من خلال أذربيجان..
وكذلك للولايات المتحدة قواعدا عسكرية هناك.. ومع ذلك فالولايات المتحدة حريصة على تعزيز علاقاتها مع الطرفين، الأذربيجاني والأرميني.. وقبل فترة أجرت مناورات عسكرية مع أرمينيا.. وفي الكونغرس الأمريكي، لوبي أرميني قوي..
والسؤال الثاني: متى سنرى ممرْ برّي عربي للطرُق البرية والسكك الحديدية، من مغرب الوطن العربي إلى مشرقهِ؟.
بل متى سنرى هكذا ممر من لبنان عبورا بسورية والأردن (يعني من بلإد الشام) إلى دول الخليج العربي، على الأقل؟.
أم أن العرب سيبقون إلى ما شاء الله مفعولا بهم وليسوا فاعلين؟.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. إسرائيل تهدم منزلاً محاصراً في بلدة دير الغصون


.. تراجع التوظيف في الولايات المتحدة خلال الشهر الماضي




.. قصف إسرائيلي على دير البلح يودي بحياة 5 أشخاص


.. استعدادات دفاعية في أوكرانيا تحسبا لهجوم روسي واسع النطاق




.. مدير وكالة المخابرات الأميركية في القاهرة لتحريك ملف محادثات