الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


أزمة الرأسمالية بشهادة واحد من أهلها

الطاهر المعز

2023 / 9 / 20
مواضيع وابحاث سياسية


عرض كتاب: أزمة الرأسمالية الديمقراطية - تأليف "مارتن وولف"- نشر "بنغوين"، لندن، 2023

نشر الموقع البلجيكي "العالم غدًا" (dewereld morgen ) عَرْضًا مُطَوّلا ومُفصّلاً لكتاب مارتن وولف وهو كتاب ضخم يتألف من حوالي 500 صفحة، وهذا مُلخّص العرض بتصرف
كان المُؤَلّف مارتن وولف (من مواليد سنة 1946) مُوظّفًا كبيرًا بالبنك العالمي، ويُشرف حاليا على الصّفحات الإقتصادية بصحيفة فايننشال تايمز، وهو عضو في المنتدى الاقتصادي العالمي، ولذا فإن وجهات نظره لن تحيد عن منطق النّظام الرأسمالي، لكنه من الفئة التي تُؤْمن ب"إصلاح النظام الرأسمالي" من داخله، لتفادي الهَزّات والإنتفاضات، وربما الثورات التي قد تُسَبّبها الفوارق المُجْحِفَة والنُّمُو الكبير لأرباح الأثرياء، وهي وجهة نظر يُدافع عنها زميله السابق في البنك العالمي "جوزيف ستغليتز" و "جورج أكرلوف" و "توماس بيكيتي" وغيرهم، ويتميز هؤلاء بوصولهم إلى البيانات المُدَقّقَة التي يوردونها، على فترة طويلة (قَرْن أو أكثر)، ولذا يمكننا استخدام هذه البيانات المُوَثَّقَة دون مُشاركتهم استنتاجاتهم.
كان "مارتن وولف" نيوليبراليًا متحمسًا ( من مدرسة البنك العالمي) حتى أزمة سنة 2008 التي أجبرته على تغيير وجهته نحو "الكينزية" (نسبة إلى جون مينارد كينز 1883 – 1946) التي اعتمدتها الرأسمالية للخروج من أزمة 1929، وكذلك بعد الحرب العالمية الثانية، وتتلخص في تدخّل الدّولة لتخطيط الإقتصاد وللإستثمار بكثافة في البنية التحتية وفي القطاعات التي تستوعب البطالة وتوفر راتبا يُمكن العاملين من الإنفاق للخروج من فترة الرّكود الإقتصادي، وتتلخص الكينزية التأكيد على دور الدّولة في الأداء الإقتصادي وعلى ضرورة تنظيم السوق، خلافًا للنيوليبرالية التي تدّعي أن للسّوق يدًا خفية تُنظمها دون الحاجة لتدخل الدّولة، لذا فإن "مارتن وولف" مدافع كبير عن الرأسمالية، إذ "لا يوجد نظام موثوق ( غير الرأسمالية) لتنظيم الإنتاج والتبادل في اقتصاد حديث معقد"، بحسب رأيه، ويعترف بأن هذا النظام يمر بوضع "مُثِير للقلق" و "وَجب مواجهة التّحدّي وإنقاذه من خلال إصلاحه"، ويكمن التّحدّي في رأيه في "البدائل الاستبدادية"، داخل النظام الرأسمالي، ويعني بها الحكومات الحالية (أو السابقة) في تركيا وبولندا والمجر وروسيا والبرازيل (خلال رئاسة بولسونارو) والهند والولايات المتحدة خلال رئاسة دونالد ترامب، وخصوصًا الصّين، ويُصنف هذه الحكومات (أو الأنظمة مثل روسيا والصّين) بأنها خالفت قواعد "الرأسمالية الدّيمقراطية" وفق مُصطلحاته الواردة بالكتاب، ويُعدّد مظاهر الأزمة التي سبّبتها النيوليبرالية خلال العقود الأربعة الماضية: "نمو بطيء وتزايد عدم المساواة وفقدان الوظائف الجيدة، فضلاً عن ركود الديمقراطية في ثلاثة أرباع بُلدان العالم، ما يُفْقِدُ الثقة في المؤسسات الديمقراطية، وفي اقتصاد السوق العالمي، وفي النخب السياسية والاقتصادية"، وهذا بيت القصيد، لأن المؤلف يُريد إنقاذ النظام الرأسمالي ولا يريد أي بديل له، بل ينفي وُجُودَ أي بديل: "إذا فشلنا، فإن نور الحرية السياسية والشخصية يمكن أن يتلاشى مرة أخرى من العالم"
في توصيف أسباب زيادة عدم المساواة، كتب مارتن وولف: "أدى التقشف والضرائب لصالح الأغنياء إلى زيادة عدم المساواة، وهو ما كان له تأثير سلبي على النمو، فضلا عن الإنخفاض الحاد في الإنتاجية وتراجع التصنيع، مما أدى إلى خسارة الوظائف الآمنة ذات الأجر الجيد نسبيا، في جميع البلدان الغنية، ذات الدخل المرتفع... وأدى التحرير الكامل وإلغاء القيود التنظيمية إلى سَعْيِ الشركات متعددة الجنسيات للحصول على أدنى معدلات الضرائب على الشركات وللتهرب من الضرائب".
يُمْكِنُ لمن كان (مِثْلِي) على نقيض رأي المؤلف، الإستفادة من الوثائق العديدة التي اطّلع عليها وأورد بعض محتوياتها، ومنها إن تَهَرُّبَ الشركات العابرة للقارات من تسديد الضرائب، فضلا عن التخفيضات الضرايبية (ما تُسمَّى "حوافز ضريبية") يكلف الدول الغنية نحو 1% من ناتجها المحلي الإجمالي سنويا، وتؤدِّي عملية البحث عن مناطق ذات ضرائب منخفضة وعمالة رخيصة إلى خروج نحو 10% من الصناعات التحويلية العالمية من البلدان الغنية إلى البلدان التي تفرض نسبة ضئيلة من الضرائب أو لا تفرض ضرائب على أرباح الشركات، خلال أربعة عُقُود، حيث انتشرت كذلك ما يُسمِّيها "الرأسمالية الريعية"، وزيادة المعاملات المالية والمضاربة التي يعتبرها سبب أزمة 2008 التي امتدت لما يقل عن أربع سنوات، وضخّت خلالها الدّول مبالغ ضخمة من المال العام، في شكل قروض بدون فائدة... أما على مستوى النتائج السياسية لهذه المرحلة (العقود الأربعة الماضية) فإن وولف يتفق مع الخبير الإقتصادي "جان زيلونكا" (الإختصاصي في دراسة الأنظمة الإقتصادية والسياسية الأوروبية) في إدانة "عواقب المسار النيوليبرالي وتَحَوُّل الديمقراطية إلى تكنوقراطية، وتفويض هيئات غير مُنتَخَبَة مثل المصارف المركزية والمحاكم الدستورية، والهيئات التنظيمية المالية لاتخاذ قرارات ذات تأثيرات خطيرة على المجتمع وعلى الدّيمقراطية"، ويُؤَكّد "جان زيلونكا" من ناحيته "إن الإتحاد الأوروبي هو مثال جيد للتكنوقراطية التي عَوّضت الهيئات الدّيمقراطية، وأَلْغَت النّقاش الدّيمقراطي لقضايا عديدة وهامة، ما زاد من صُعُوبة الحفاظ على العلاقة بين رأسمالية السوق والديمقراطية، بالتوازي مع تقليص سلطة الهيئات المُنْتَخَبَة من قِبَل المُواطنين"، ويتفق الخبيران الإقتصاديان (وولف و زيلونكا) في الإستنتاج التّالي: " أدّت السياسات النيوليبرالية إلى توسيع الفجوة بين الأغنياء والفقراء"، ويستشهد وولف بدراسة أجرتها منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، سنة 2022، تُؤَكّد اتساع الفجوة إلى حدود غير مسبوقة منذ خمسة عقود، رافقتها الهشاشة لما لا يقل عن 25% من سكان الدّول الغنية، وظروف العمل السيئة للغاية وانحسار حقوق العمّال..."
تكمن أهمية الإطلاع على مثل هذه المؤلفات في الإستفادة من محتوى الوثائق والدّراسات وكذلك في معرفة هدف هؤلاء من نقد بعض مظاهر النظام الرأسمالي، وليس نقد الرأسمالية كمنظومة قائمة على الإستغلال الطّبقي والإضطهاد القومي والإستعمار ونهب ثروات الشُّعُوب، بل هدفهم تحسين أداء الرأسمالية لتستَغِلَّ الكادحين والشُّعُوب بشكل لا يُؤدّي إلى " فقدان الثقة في المُشرفين على المؤسسات السياسية والمالية في العالم"، وفق تعبير " مارتن وولف" الذي يقترح حلولا لأزمة رأس المال تتمثل في إصلاحه دون "زعزعة الإستقرار"، ومن بينها "العودة إلى دولة الرفاهية، لكسب ولاء الطبقة العاملة (وهذا يتطلب) تقليص نفوذ السُّوق والمصارف وزيادة دور الدّولة في توجيه الإقتصاد وزيادة الضرائب لتتمكن الدّولة من زيادة الإنفاق على التعليم والبحث العلمي والتكنولوجي والبنية التحتية والرعاية الصحية...
يعتمد "مارتن وولف" التحليل المادي في وَصْف مساوئ النيوليبرالية، ويُحلّل موازين القوى، لكنه لا يصل حدّ التشكيك في المنظومة الرأسمالية فهو يؤمن بأن الرأسمالية نظام جيّد للبشرية، لو تم الفصل بين السلطة والثرة ولو حافظ المسؤولون السياسيون على القِيَم الأخلاقية للقضاء على الجشع، وهنا يتحوّل المُحلّل الإقتصادي المادّي إلى واعظ ديني مُغْرِق في المثاليّة، فما يُسمّيه "الجشع" هو أحد أُسُس الرأسمالية، أي العائد أو الرّبح، وما الربح سوى استغلال عرق العامل...
إن الفَصل بين الثروة والسلطة قول لا معنى له في النظام الرأسمالي، فالبرجوازية تتحكم بمفاصل الدّولة وتتحكم بأجهزة الإعلام والمنظومة الإقتصادية والمالية، وتُعيّن من يحكم وإذا حصل وخالف أحد الحكّام أوامر الرأسمالية أو هَدّد مصالحها تُنظم انقلابا (مثلما حصل في تشيلي سنة 1973 أو إيران سنة 1953 ) أو تتهمه بالجنون أو بالمُرُوق، ولذلك فإن جوهر القضية يتمثل في الثورة على النظام الرأسمالي برمّته وليس إصلاحه لكي يستمر بدون إزعاج، وهو ما يرمي إليه "مارتن وولف" الذي يعتبر النظام الرأسمالي أفْضَلَ ما بلغته الإنسانية...








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. أزمات إنسانية متفاقمة وسط منع وصول المساعدات في السودان


.. جدل في وسائل الإعلام الإسرائيلية بشأن الخلافات العلنية داخل




.. أهالي جنود إسرائيليين: الحكومة تعيد أبناءنا إلى نفس الأحياء


.. الصين وروسيا تتفقان على تعميق الشراكة الاستراتيجية




.. حصيلة يوم دام في كاليدونيا الجديدة مع تواصل العنف بين الكانا