الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


مذكرات بهواجس رحالة قراءة في كتاب (مذكرات أميرة بابلية)

قيس كاظم الجنابي

2023 / 9 / 20
الادب والفن


مذكرات بهواجس رحالة
قراءة في كتاب (مذكرات أميرة بابلية)
-1-
تنازعت كتاب (مذكرات أميرة بابلية) تأليف ماري تيريز أسمر كلمتان (مذكرات ورحلة)؛ لأن الكاتبة العراقية الأصل كتبت مذكراتها باللغة الإنكليزية، ثم جرت ترجمتها اللى اللغة العربية، بطريقة كتابة ادب الرحلات ،لأنها قضت حياتها راحلة ومرتحلة من مكان الى آخر، حالها حال الرحالة، وبالتالي سرى تدوين الرحلات على هذه المذكرات،والتي تشير اليها في أكثر من موضع، فجعلتها على مقدمة وملاحق وعلى جزأين، كل جزء يتكون من (11) فصلاً مع الملاحق؛ مما جعلها تنقسم بشكل تنسيقي منسجم، وتشعبت هذه المذكرات بروح (الاعتراف) السائدة في الديانة المسيحية،وخصوصاً وان الكاتبة ناشطة كاثوليكية، ولدت في الموصل، من أسرة ثرية ومتمسكة بتعاليم الدين المسيحي؛ فكانت عائلتها في العهد العثماني تتعرض للاضطهاد بسبب ديانتها،وتطرف الولاة التراك الديني ضدها.
بعض الأحيان تختلط الذكريات بالمذكرات، وهذا ما يربك المنهج الكتابي، ويشيع نوعاً من الخلط بين المفهومين؛ والحقيقة ان هذا الكتاب هو ذكريات كتبت بأسلوب السيرة الذاتية التي تأخذ طريقة تدوين أدب الرحلات، فكانت تردد كلمة الاعتراف في غالب الأحيان، لأنها ترى بأنها ترى بأن والدها يثمن صراحتها واعترافها. ولهذا كان عليها "الاعتراف بصدق".[ ص22. راجع 42، 165 ، 188./م الجمل ، بغداد 2019م]
كما تشير الى علاقة الذاكرة بهذه الذكريات التي دعتها(مذكرات) في عنوانها، حيث يرد ذكر الذكريات لا المذكرات كما اشارت في العنوان، كما انها تعود الى ذكرياتها وليس الى مذكراتها (أي الوثائق التي تحملها لكتابة مثل هذا الكتاب)؛ فتقول:" ويتمثل هدفي في مجرد عرض نكباتي أمام القارئ البريطاني بصورة مبسطة وغير متكلفة، لأصف هذه المرحلة من حياتي وأسردها بايجاز، من دون الخوض في تجربة هشة للدخول في أبحاث وتفاصيل تنأى عن طريقة تفكيري، من دون مرجع او مذكرة استند اليها ،ولم أشأ أن أرهق القارئ بفهرس جاف أسرد فيه تفاصيل حياتي اليومية التي لا تعني لغيري شيئاً".[ص263] وتشير في اكثر من موضع الى ان ماتكتبه هو مذكرتها، فهي تخلط بين الذكريات والمذكرات .[ص279، 324، 328، 340، 419-420].
أما الرحلة فقد كانت جزءاً، من حياتها وتحولاتها، حتى صارت لفظة رحلة ورحلات تتردد بين مكان وآخر، وكأن الكتاب هو كتاب رحلات استكشافية ، حين تقول في الفصل الرابع" سريعاً ، بعد الرحلة التي وصفتها في الفصل السابق، انطلقت برفقة والدتي نحو حمامات عين الكبريت،وبعد رحلة دامت ثلاث ساعات ما من حدث بارز حصل فيها".[ص57] بحيث صارت كلمة رحلتي تعني(فترة/مدة) من الزمن المحدود، كما انها تشير الى رحلتها من تلكيف لبى الموصل ،وهكذا ستظل الرحلة جزءاً من فكرة المذكرات، وأحياناً تسخدم بدلها كلمة ارتحال[ راجع: ص81، 91، 112، 164، 232، 275، 239، 291، 303، 309، 385].
وهكذا عمّقت الكاتبة ذكرياتها ،لتنقلها من رحلات وذكريات الى مذكرات، من دون ان تستخدم الوثائق الضرورية، وحوّلت حياتها الى مجموعة رحلات للسياحة، وبناء الذات المسيحية المتعلقة بسيرة القديسين ورحلات من أجل الحقيقة، وتوكيد الإخلاص الى العقيدة الراسخة التي تلقتها من أسرتها، وتفانيها في سبيل البقاء حارج أطر الحياة الاجتماعية والإنسانية للمجتمع الذي كان يضع المرأة مجرد حارسة للبيت والابناء، فقد كان الايمان والعزلة شبه التامة، من دون التوغل في الرهبنة في وضعها الاجتماعي السلبي، لقد كانت ماري أسمر مبشرة على طريقتها الخاصة، بحيث صارت الرحلة جزءاً من هذا السلوك القائم على الارتحال يصقل تضاريس الذات لتعيش في ترحال تام ، بحيث استطاعت ان تقنع القارئ بأن ذكرياتها هذه هي مجموعة رحلات من اجل العقيدة المسيحية.
-2-
تنبسط هذه الذكريات على بساط متموج بسب كثرة الحركة، لتؤرخ لسيرتها الذاتية المتفردة، في توهجها الديني، وتعاليها الفكري، وخصوصيتها الاجتماعية وحالتها النفسية، ووفق مدة زمنية - كما تشير اليها – تتراوح بين 1804-1844م،أي لمدة أربعين عاماً متواصلة من العناء والبحث. فقد تنقلت بين الموصل وبلاد الشام سورية والقدس واوربا فزارت روما وباريس ولندن.
تاريخ الرحلات يسير سيراً أفقياً تماماً، ولا توجد الا بعض الاسترجاعات والذكريات والاستطرادات؛ مما يعني صعوبة كتابة سيرة ذاتية غير خطية، والاكتفاء بالذكريات، لأنها ليست لديها الوثائق المطلوبة التي تدعم ذكرياتها، في ظل الاندفاع الوئيد الى انتزاع الذكريات المحملة بالآلام التي تعقد انها تضاعي بها آلام السيد المسيح.
الذات هي المحور الرئيس في السيرة الذاتية،ومع ان الكاتبة وصفت كتابها بالمذكرات في عنوانه، لأنها تقصد بها الذكريات، الا ان النزعة الذاتية كانت واضحة من خلال استخدام ضمائر السرد، حيث يهيمن ضمير المتكلم الذي يعد عنصراً مهماً في تدوين هذا الذكريات، فمنذ وقت مبكر تستخدم هذا الضمير بقوة.
بعض الأدباء لا يكتب مذكراته وإنّما ذكرياته ،والفرق واضح بين الاثنين؛فالمذكرات سرد مباشر لأحداث حياته وتجاربها كما حصلت او كما يعتقد بها، أما الذكريات فهي كتابة أصداء تلك الاحداث والتجارب وتصوره لها ، على ما حفظتك ذاكرته. ولذلك فهي بالضرورة غير قابلة للقياس من منظور الحقيقة والاختلاف، وإنّما من منظور الصدق الفني المرتبط بالكيفية التي يعبر بها المؤلف تلك الذكريات.[ ص235/ كتابة الذات، دراسات في السيرة الذاتية: د.صالح معيض الغامدي، المركز الثقافي العربي (الدار البيضاء – بيروت، 2013م)].
لقد كانت الكاتبة صادقة فيما تكتب وتابعت وتصورت ورصدت، ولكن تبقى الوثيقة مهمة جداً في كتابة المذكرات لأنها المصداق الأكبر والاوثق في كتابة المذكرات، ولكن التدفق الوجداني يتسلل من بين الاسطر في التعبير عن الذات والعقيدة الدينية فيشد أواصر الكتاب،ويمنح الموضوع وحدته وجماله وصدقه، بحيث يبدو مستوى الاقناع مؤثراً،ولا غرو في ذلك، فان اللغة التي كتبت بها كانت صادقة اللهجة ،وصافية من الشوائب،ومحلقة في بلاغة سردها وحوارها،ومتوهجة في رسائلها وعلاقتها بالموقف الإنساني.
-3-
تعد الحكاية ،بوصفها مادة السرد، هي المرتكز أو المحور الذي تتركز عليه حركة المذكرات منذ البداية حتى النهاية، فهي تشير الى ما يسرد على مسامعها من حكايات، لهذا تصف بعض الحكايات بأنها حزينة؛ مع ان المذكرات بمجموعها كلها عبارة عن حكايات حزينة، تتناول حياتها وحياة الآخرين بشكل متناسق وممتع، ولكن لأن الكتاب هو كما وصفته (مذكرات) أو شبه سيرة ذاتية قائمة على الاستذكار،؛ فان هذه الحكايات تقوم على تسلسلها بصورة متوالية، يهيمن عليها بناء سردي يمزج بين السرد القصصي الكلاسيكي وبين بناء الحكاية التراثي، فهي تقول:" بالعودة الى قصتي، مع وصولي الى مدخل القصر، استقلبني رجل متقدم في العمر من الخدم الخصيان، قادني الى حضرة الأميرة".[ص44]
فكلمة قصة هنا تعني سيرتها، وتحولاتها ورحلاتها وتنقلاتها ، لهذا تدعو سردها لحكاياتها أو المواقف التي تعرضت لها ، لهذا تعوها (قصتي)، كما في قولها:" عندما انهيت قصتي، ناشدت صديقي ومنقذي أن يحتذي بهذا الملك الحكيم الذي أغفل الملذات والمغريات في اللحظة الحالية،والتفت الى ما هو ىتٍ".[ص109] ثم تربط حكايتها /قصتها مع حكاية الملك الحكيم، لتصبح جزءاًمن التاريخ السردي للحياة الإنسانية في عصرها،أما اذا كانت القصة ليست عنها أو ليس عن سيرتها، فانها تدعوها حكاية، كما في قولها:" وشرع كلّ في دوره يروي حكاية غالبيتها تدور حول الخيول أو السلالات النادرة أو عن نجاة بشق الأنفس في مواجهة قبيلة أخرى"[ص117]
وكثيراً ما تستعين بالكتب وما فيها من حكايات نادرة، محمّلة بالحِكَم والامثال، وهي في الغالب ذات صبغة مسيحية، توظفها مع سيرتها وسيرة القديسين. كما في قولها:" في هذه القصة توجز حياة الانسان ،فالصحراء التي تحدثنا عنها ترمز الى حياة المرء منذ ولادته الى مماته".[ص130] أو حياة آدم، لهذا تنقل من أحد الكتب التي قرأتها حكاية ربما لها علاقة بعنوان المذكرات، فتشير الى زوجة الشيخ وهي تسرد لها حكاياتها الدينية التي كانت تقرأها. وهي تسرد ذلك بمتعة وأحياناً تستطرط وتنتقل من حالة الى أخرى، ثم تعود الى بدات منه اولاً، كما في حديثها عن الشيخ دريع واسرته، وحديثها عن الست خدوج فتمزج الذكريات بالرحلات، حيث كان قص الحكايات يمارس مهنة من هم أقل رتبة اجتماعية.
فالمذكرات تحفل بالتلقي الشفاهي بين الناس عبر سرد الحكايات أو السيرة الشعبية التي كانت تقرأ على الناس بالخانات والمقاهي، حيث تسخدم الفعل (قصة)و(قصتي)؛ كما في حديثها عن سارة زوجة النبي إبراهيم،وعندما تستذكر لا تقول أحكي ،وإنما تقول (أذكر)،ولكن الوصف الجميل ، الذي تكتبه في مذكراتها الجانب السردي المتعلق بسرد الحكايات/القصص، لحياة انسانة معذبة عانت الامرين في حياتها ؛بسبب عقيدتها الدينية.
-4-
يعد المكان محوراً مهماً في كتابة المذكرات،أو السيرة الذاتية لأي كاتب،ولكن الكاتبة( ماري تيريز أسمر) تعاملت مع المكان ،لا بوصفه كياناً جامداً، عاشت فيه مدة طويلة،وإنّما لانها راحالة تعيش حياة الرحالة، في حركتها وتعلقها بالمسيحية، مما جعل المكان لديها متعدداً،لأنه المحتوى الذي يكتنف الانسان منذ الولادة حتى الممات، فهو كيان وجودي،وتضاريس جغرافية، وانسجام مع المزاج والاشياء المحيطة به، بحيث يصبح الانسجام مع كينونة الوجود والتآلف مع الأشياء،والرحلة بالنسبة لها هي رحلة الخوف من الحدث الخفي الى الحدث الصعب، فكثيراً ما تكون الرحلة محفوفة بالمخاطر.
أغلب أفراد عائلتها ماتوا تحت القتل والتعذيب والابتزاز،وتوزعت ثروة والدها بين اللصوص والحكومة العثمانية وولاتها الطامعين بها، ومنذ وقت طويل ومبكر تشير الكاتبة الى علاقتها بالمكان، حين سكنت مع اسرتها على ضفاف دجلة، بالقرب من بغداد، بعد انحسار مرض الطاعون، في بداية القرن التاسع عشر، حيث تقول: سيرة

" أحفظ في ذاكرتي بنقاء جميع تفاصيل حياتي في تلك الفترة".[ص17] ثم تقول:" يقولون التعلم في الصغر كالنقش على الحجر"؛ بحيث صار المكان تأثيره على حياتها، المكان الريفي وسحره الأخاذ، وكان في غالب الأحيان يقترن المكان بالسجن والمعاملة الكريهة، كنوع من الابتزاز وقلة الاحترام، وحين تزور مناطق سكنى الايزدية في سنجار تقول عن المكان:" قطعة من الجنة على الأرض"[ص52]، وكذلك تحيلها هذه المشاعر في العلاقة بالمكان الى تلكيف التي تفسر اسمها على انه" تل البهجة فهي بقعة خصيبة طيبة تنتج جميع أنواع الخضراوات والفواكه"[ص58] لهذا تعدد فضائل هذا المكان المرتبة بالطبيعة والماء وقدرة المكان على فتح البهجة الحقيقية للإنسان،ولربما كانت هذه البهجة تتعلق بالتزام أهلها بممارسة الفرائض الدينية،ومن الأمكنة المهمة التي تكن لها تصوراًخاصاً، هو حمام النساء في دمشق، حيث تمارس النساء العري وحرية التصرف والحكايات ونقل الاخبار، لهذا تعد ممارسة العري فيه لذيذة وممتعة،لأنها تحاول محاكاة السيدة العذراء في تبتلها وعزوفها عن الزواج، لهذا قالت عن الحمام:
" سلكنا الى الحمام طريقاً معروفاً في دمشق، شهيراً في حماماته العامة. كانت جدران البهو من المرمر الملمع، وكذلك الأرضية من المادة نفسها ومزخرفة بوفرة بالفسيفساء الجميلة ولامعة مثل المرآة(...) كان هناك مئتي امرأة كلهن عاريات ، سوى من مئزر من الحرير الأبيض، مربوط بشرائط حمراء أو لون بهيج آخر، يصل الى الركب".[ص183]
يعد الحمام بالنسبة للأسر المحافظة نوعاً من الترويح عن النفس وعن الجسد،وجزءاًمن الإحساس بالحرية شبه المطلقة مع جنس النساء الأخريات، بوصف المراة جنساً مضطهداً في الشرق، يجري فيه بيع الجواري والنساء واستعبادهن، حيث تكثر النساء الجورجيات واليونانيات والارمنيات، ممن جلبن كأسيرات وجرى بيعهن كأي سلعة أخرى.
-5-
تشكل الثقافة المسيحية وتوابعها هوية للكاتبة بجانب الثقافة العربية، كالاهتمام بالمرأة والآخر وغر ذلك، محموراً مهماً من مذكرات أسمر؛ فمنذ البدء تصرح بذلك، ثم يحدوها نزوع كاسح بان هذا الالتزام الديني هو خيارها الوحسد، لما لاقته من عقبات ومشاكل ولما لاقته أسرتها من أذى، وكان موت بعض أفراد أسرتها بسبب كونها مسيحية ومنهم والدها للاستحواذ على املاكه، والذرئع في ذلك هو عدم إيمان السلطة العثمانية بثقافة الآخر المختلف دينياً؛ فكانت تروم دخول بعض الاديرة لحمياة نفسها وعقيدتها من الانزلاق، فكانت تتمتع بهاجس مضمر بضرورة البقاء مع شيء من الحرية والرضا بالمقسوم، وكانت رحلاتها جزءاً من تطلعها لمشاهدة البلدان التي كانت مهداً للمسيحية، وما تحمله من ارث حضاري وديني، وكان من أسباب تمسكها بثوابتها الدينية هو رغبتها في انشاء معهد تعليمي نسائي ، لكن التنافس بين الجهات المختلفة والمصالح الخاصة أدت بالمشروع ال الانهيار بعد ان كان حلماً تصبو اليه؛ فكانت تقول:" ولهذا اعتزمت أن استثمر كل ما أوتيت من جهد لتثقيف بنات جنسي، تولت إحدى قريباتي إعطاء دروس في اللغات الكردية والكلدانية والتركية، وكانت لي صديقة حاذقة الذكاء تكفلت بتعليم اللغة الفارسية".[ص40]
لكن غياب الثقافة وانعدام الأخلاق وتزاحم المصالح الشخصية حلت دون تحقيق الفكرة واستمرارها، بعد ان كانت ترى بأن التعاليم المسيحية هي جوهر الأديان السائدة، حتى افترضت "أن محمّداً نفسه قد اقترض الكثير من قرآنه من الانجيل، وهذا وان لم يكن دليلاً فهو واقع".[ص41]
كما كانت تشعر بالتعاطف مع المسيحيين المضطهدين لأسباب عديدة ، كما حصل لخادمة حسناء جورجية لم تتجاوز ربيعها الثامن عشر، والت جلبت من القسطنطينية واجبرت على اعتناق الإسلام، ولها أخ مملوك في خدمة الباشا، وفي معظم الحالات يتم شراء الصغيرات وهن مسيحيات ويجبرن على تغيير دينهن.
ولهذا كانت تقارن بين المسيحيين والايزديين واليهود مع المسلمين في العراق، وتثني على مسيحي القوش في سهل نينوى في تمسكهم بديانتهم، وتشير الى بعض طقوسهم وبدعهم مثل ارتاء الخيش واهالة الرماد على الرأس لمدة ثلاثة أيام ، كما يفعل الآشوريون، حيث يجري وضع الرماد على الرأس دلالة على الحزن، وترى ان هذا حصل بعد سقوط نينوى حزناًعليها.
وهي كمسيحية ملتزمة ، كثيراً ما تقارن بين ديانتها وديانة اليهود مع ايمانها بالكتاب المقدس، فقد كان يهود الشرق لا يوافقون على حلق لحاهم، لأن هذا يخل بالجانب الديني لديهم، لأنهم" أكثر صرامة في شعائرهم من يهود أوربا بكثير،ويفضلون على أن يواجهوا الموت على أن تحلق لحاهم".[ص87] وخلال رحلتها الى بلاد الشام قاصدة دمشق كان الطريق من هيت الى تدمر، كانت قادرة على استذكار مدينتي "سدوم وعامورة المنكوبتين ، ويقال ان هناك نبع ماء أجاج يتدفق الى أسفل الجبل، له تأثير بالغ الخباثة على جسم الانسان".[ص177]
وترى وفقاً لثقافتها الدينية يعزو العرب هذا المرض الى "لعنة الرب"، على هذا المكان المشؤوم، بينما كانت السماء صافية ثمة ضباب يكسو الجبل، ثم تشير الى عمود الملح الذي تحولت اليه زوجة لوط،لأنها رفضت الانصياع للإرادة الربانية، وتعد هذه الأفكار مشتركة في الديانات الثلاث اليهودية والمسيحية والإسلامية.
والكاتبة تجيد الوصف الجميل وخصوصاًوصف الأمكنة،والتماثيل والايقونات ذات القدسية الخاصة، مع عنايتها بالتقاليد والعقائد الاجتماعية والثقافية؛ فقد كانت مغارة القديس (جيروم) مزينة بالرسومات ،وكذلك مغارة مولد السيد المسيح التي " كُسيت بالمرمر الكامل، في عهد الامبراطورة هيلانة ،وزيّن المكان بالتماثيل والرسوم(...) أما البقعة التي ولد فيها مخلصنا، فتقع تحت مذبح أنيق، مثبت في الحائط ومدعوم باعمدة رخامية"،[ص289] وهذا ينطبق على وصفها لكنيسة البشارة.
-6-
أما موقف الكاتبة من النساء والآخر، فانه يستند الى عدة أمور: أولها، انها امرأة ولها رغبة في انصاف بنات جنسها وكشف معاناتها ومعاناتهن، في ظل الحكم العثماني الاستبدادي الذي يحيل الى التطرف،وكذلك في رغبتها في تصدير ثقافتها المسيحية وخياراتها الخاصة بها، وكذلك من علاقاتها مع نساء كثيرات مختلفات (مسلمات مسيحيات وايزيديات)؛ ورغبتها في انصاف المحرومات والمقموعات،وهي في ظل مجتمع إسلامي محافظ، يرى المرأة تابعة للرجل،فقد رأت بيوت الولاة والمسؤولين تعج بالجواري والخصيان والعبيد والخدم؛ حتى ان العبيد كانوا يحملون نساء الطبقة الراقية خلال في التختروان على رؤوسهم من بيوتهن الى الحمام والأماكن الأخرى، والتختروان هو يشبه الكاروك(المهد) او الهودج ولكنه لا يحمل على بعير وغنما على رؤوس الخدم والعبيد، حتى لا يختلطن بالمجتمع والناس في الطرقات والأسواق.
لقد فشل مشروعها في انشاء معهد لتعليم البنات لأسباب مختلفة منها الجهل الذي كان يسود ثقافة الشرق، ولأن المسيحية كانت كالاسلام ترى المرأة أمة للرجل، لهذا تتساءل:" بأي ذريعة يصر الرجل على استبداده على جنسنا؟
لهذا ترى بان المرأة المسيحية في الشرق جاهلة، وفريسة لأوهام خادعة،لأنها لم تستثمر عقلها من أجل تطورها وتفوقها وحريتها؛ لهذا تصرح بوضوح بأن "النساء البدويات من أكثر النساء المفضلات لدي، فهن بشكل عام جميلات وسمراوات البشرة ممشوقات القوام مفتولات الخصر كجذع نخلة من دون ان يلجأن لعُجازة أو مشد ،ولهن أطراف صغيرة وناعمة تنبئ بسمو أصولهن".[ص123]وهذا وصفها للمراة البدوية التي صقلت جسدها الصحراء ومنحتها الطبيعة خصوصية الحركة والوعي والصراحة.
وقد وصفت الأزياء البدوية وازياء النساء، كما وصفت حرم النساء، في بيوت الشخصيات الذين التقت بهم، في نوع من الإشارة الى حرمان المراة من حقوقها، فقد وصفت حرم واحد من هؤلاء ، بانه كان:" يعج بالجواري الشابات من الجورجيات والقفقاسيات ، بعضهن شديدات الجمال ، وقد اشتراهن الأمير بأسعار باهضة، ليس لشيء سوى اعتقالهن. بعضهن رغبن في العودة الى الأهل والوطن".[ص330]
وكان بعضهن يجبرن على اعتناق الإسلام ونبذ المسيحية،ولكن بعض الجواري الزنجيات يرفضن التحول نحو المسيحية، وفي هذا الشأن يرى الملأ المسلم في عدم جواز مخالطة أو مساواة عؤلاء"حتى بكلاب المؤمنين الحقيقيين".[ص126]
وتشير الى انّ زعماء الدروز و(المتاولة) و(النصيرية) من الشيعة المتطرفين كانوا "يتحاشون بشدة أن يتناولوا الطعام مع من لا يدين بعقيدتهم،ويتجنبون ملامسة أحد من خارج ملتهم او حتى أن يلمس اطراف أثوابهم"[ص327]، وهم يعيشون نوعين من الازدواجية في سلوكهم، وتصرفهم، فمع ان موائدهم عامرة ومفتوحة لكل عابر سبيل غريب ، مهما كان الا أنهم "يكسرون الاناء الذي استخدمه الغريب في أكله وشربه".[ص328] وهذا ما دفع بعض الطوائف الى النظر الى المتاولة نظرة دونية، كالموارنة والدروز وغيرهم من سكنة الجبال، كما كان النصيرية" يتكتمون على طقوسهم وشعائرهم بكل حرص أمام الأغيار. بحيث يدفع الاخرين الى الشك في أنهم وثنيون كالدروز، يعبدون الكلب ،ويبجلون نهر الكلب، وهذه ديانة أجدادهم على مدى قرون عديدة، كما تشير الى الأمير الشهابي (الدرزي) الذي كان يحكم لبنان على مدى عدة قرون،قد تحوّل " الى ممارسة طقوس الكنيسة المسيحية سرّاً"[ص329] وانه يتظاهر بالانتساب الى الطائفة الدرزية من اجل منصبه في حكم جبل لبنان، فقد كانوا يمارسون طقوسهم بسرية تامة، لهذا ترى بأنهم "يعبدون العجل الذهبي، مثل عبدة بعل في زمن غابر"[ص353]؛ كما يتبنون عقيدة(تقمص الأرواح) ويرون ان روح الانسان ستحل أما بجسد انسان محبوب أو في جسد جمل أو كلب أو خنزير.
كما تشير الى ما يسمى بـ(العطفة)؛ وهو يحاكي ما حصل في يوم حليمة، وهو الاحتفال بزواج البطل الشاب على ابنة الشيخ المنتصر تليق بنصره؛ فقد كان البدو ينتقون أفضل عذراء جمالاً وحصافة وشجاعة في القبيلة "لتكون عطفتهم في مقدم المقاتلين التي من واجبها أن تحمس الفرسان من خلال عباراتها المشجعة".[ص142] وهكذا شكلت هذه المذكرات نبعاً ثرياً من التوثيق الفائق لثقافة المجتمعين العراقي والشامي في القرن التاسع عشر.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. لقطات من عرض أزياء ديور الرجالي.. ولقاء خاص مع جميلة جميلات


.. أقوى المراجعات النهائية لمادة اللغة الفرنسية لطلاب الثانوية




.. أخبار الصباح | بالموسيقى.. المطرب والملحن أحمد أبو عمشة يحاو


.. في اليوم الأولمبي بباريس.. تمثال جديد صنعته فنانة أميركية




.. زوجة إمام عاشور للنيابة: تعرضت لمعاكسة داخل السينما وأمن الم