الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


أنهارٌ من زنبق: النهر الثالث

دلور ميقري

2023 / 9 / 22
الادب والفن


1
كتبَ ميخائيل في تذكرته: " البحرُ، إنه هذا الخائلُ المتجبّر، المستحيلُ إرضائه. ها أنا ذا هنا، في سفينة الطوفان، لا برّ لي. لا يمامة ثمة في الأفق، تبدد قنوطي ببضعةٍ من طين حقير، علامة خلاص. ومن الطين خلقَ جسدُ إبن آدم، وإلى أصله عاد ليندسّ أبداً. أما الروح، فإنها ليست من أي مكان ولا من أي مادة. إن النَصَبَ يهدّ بدني، كما وروحي سواءً بسواء. ومثلما الأمر مع فجأتي بأي حدس، ها هوَ الدوار يمسك بتلابيب الروح والبدن. إلا أنه دوّار دائم، خبيث، يرجع على أدراجه بين فينة وأخرى، بالكاد يفارق راكب البحر. إنّ هذا اليمّ الخضمّ، مقدورٌ لا فكاك من أغلاله طالما أنّ سفرَ المركب ضروريّ ومن المحال الإستغناء عنه. كم تشبه حياةُ المرء، المركبَ. فالعُمر رحلةٌ، تنتهي في ساحل بحر الحياة، وقد تحطّم مركبها على أسنّة الصخور السرمدية، الأبدية. البحر لعنة، مثلما هي الحياة ".
كانت هيَ المرة الأولى، يركب فيها هذا المدى الأزرق، المُحال حصرَ نهايته. إنه مدى من السديم والعماء والخواء ـ كبادية لا نهائية، أنقاؤها الموج والزبد والملح. فوق مراح هذا الكفن الأبيض، الجدير بإلهٍ وثنيّ ( بوسيدون، بلغة الأروام )، مضى المركبُ وهوَ يمخر عباب المستحيل. وكان أصحابُ المركب بأنفسهم من ملّة الروم، الصقالبة، المتمرسين بعلوم البحر وتجاربه. مرأى قائدهم العجوز، كانَ كفيلاً ببث الطمأنينة في نفس المسافر، المضطربة: " الرجلُ المحنّك، وصل إلى هذا العُمر وهوَ يُجاهد يومياً أخطار اليمّ المهولة "، فكّر ميخائيل في سرّه وكانَ يُحاول التخفيفَ من غلواء القلق والفَرَق. في أحوال أخرى، كان من الممكن أن يُضافر أمله بأن المركبَ قد قطع بسلام معظم طريق الرحلة من بيروت إلى الإسكندرية؛ وأيضاً، ما كانَ يُظهره الملاحون من هدوء ورباطة جأش. لكن بالرغم من أوان الصيف المبكر، كان إضطراب الجوّ قد صاحبَ طريق السفر. هذا الجو، المتمكنة فيه الريحُ بعصفها الشديد، ما أجازَ للأمل أن يُسكِنَ الروعَ طويلاً. فكم من مرة، عُوضت الأشرعة المتهاوية ببدائل لها؛ وكم من مرة، حطمت الريح خشبة السارية الرئيسة، فاستعملت الشرع الأخرى، الأقل شأناً، أو قوى المُجدّفين، المُستعبدين.
" لقد غادرنا محطة العريش، فلم يبقَ لكي نصل إلى مبتغانا سوى يومٌ أو نحوه "، قال له الأب سمعان بنبرة مطمئنة. لقد إنضمّ الرجلُ إلى الموكب، بناءً على طلب الأمير، وذلك كي يقدّم خبرته في العلاج والطبابة. لقد أدهشَ تلميذه، الذي غدا مساعده مؤخراً، لما قال تعليقاً على مشاعر الرعب، المتملّكة أفئدة المسافرين: " من المنطقيّ أن يكون المتديّن، المؤمن بحتمية اليوم الآخر، هوَ المفترض فيه التسليم بمقدور الفناء. إلا أن الآخرين، الدهريين، هم في الحقيقة أقل الناس خوفاً من الموت ". ثم خلصَ إلى هذه النتيجة، مُتسائلاً أو ربما مقتنعاً: " فهل الإيمان في حقيقته، إن هوَ إلا خوف الإنسان من خصمه الأقوى والأقدم؛ الموت؟ ".
مساءً، هتفَ أكثر من صوت: " ها هوَ، أخيراً، منارُ الإسكندرية! ". كانَ ميخائيل مع المعلّم على سطح المركب، لما تناهت تلك الأصوات لسمعه. شرعَ بمد بصره نحو الأفق، إلا أنّ علامة المرسى لم تظهر لعينيه غير الخبيرتين. من أولئك البحارة، الذين زفّوا الخبرَ، علم أن أميالاً قليلة تفصل السفينة عن مرسى المدينة، الكائن في خليج يُدعى " برّ الغرب ".
البحرُ، صباحاً. كم هوَ رائعٌ منظره، ولكن ليسَ وأنتَ في سفينةٍ تتلاعب بها الريحُ. أما الآنَ، فلا يجوز للمرء أن يقوّت ملاحة المنظر لو كانَ يقفُ في مكان سامق، مشرف على الشاطئ. وقد كلِفَ ميخائيلُ بتأمل سدول الأمواج الرخية، الموصولة في الأفق الأزرق مع السدرة العُلى. كان في حقيقته لون اللازورد، المهيمن على البحر وأمّه، السماء. وإذاً، من مكانه على شرفةٍ مُرخّمة يُفضي إليها الباب الداخليّ لحجرة الفندق، كانَ بطل قصتنا يُشرف على مشهد البحر الصباحيّ، الساحر. كان جالساً إلى منضدة صغيرة، مشغولة بالمعدن، فيما رفيق الرحلة ما فتأ غافٍ في الحجرة المجاورة. عبق القهوة المُهيّلة، كان يمتزج مع أريج الورود، المستكينة في الأصص، المنتظمة على حافة الشرفة. بعد قليل، جاء الأب سمعان كي يشرب القهوة مع مساعده. لقد أفترقا بالأمس عن الأمير وحاشيته، الذين حلّ أكثرهم في ضيافة الوالي وتوزعوا على عدة دور. بسبب عدد الضيوف الكبير، أنزل بعضهم في هذا الخان أو ذاك الفندق.
البارحة مساءً، وبالرغم من ضنى السفر، داجَ ميخائيلُ رغبة المعلّم في الخروج إلى دروب الإسكندرية. كانَ الجو متخماً بالرطوبة، وما أسرع أن تغلغلت في ثيابهما. فيما رذاذ السُحُب القليلة، الطائشة، كان يطشّ بالغيث وهوَ محمول على جنح الريح، الهيّنة المحمل. وكان الخلق قد أخذوا في ملء الدروب والساحات في هذا الحي، الطاغي على عمارته الطراز الإغريقيّ، والمؤدي من جهته الشمالية إلى الطوار الطويل، المحاذي للبحر. فمن الناس من كانَ راجلاً، ومنهم من كان بصحبة عياله في الكرّوسة ( يدعونها هنا بالحنطور ). لغات الأروام، كانت مهيمنة في الحي. بيد أن ميخائيل، لحظ أن اللهجة الشامية كانت حاضرة. ولو أن ملابس الشوام لم تكن تتميّز عن الأروام إلا بالطربوش، المُستحدث مذ بعض الوقت. عندئذٍ، أخبر ميخائيلُ المعلّمَ، أن أعمامه يعيشون في هذه المدينة منذ عقود: " ولكن علاقتهم بنا مقطوعة، بسبب تحوّل أبي إلى مذهب الكاثوليك "
" أن يختار المرء مذهبه، ودينه، لهوَ جديرٌ بالإحترام إن كانَ على قناعة وليسَ لمصلحة. فأنا ولدتُ كاثوليكياً، لكنني أميلُ إلى رأي الإنجيليين، الذين أنكروا طغيانَ الباباوات وتشبههم بالأباطرة، مُخالفين كلمة سيّدنا: ما لله لله، وما لقيصر لقيصر "، علّق الأب سمعان بطريقته التجديفية المألوفة. ثم أردف، ليسأل مساعده: " ألم تلحظ بنفسك، ليلة أمس، شيئاً غريباً في هذه المدينة؟ "
" بلى، لو كانَ قصدك سهر الناس إلى ساعة متأخرة من الليل؟ "
" هذا شيء آخر، وقد لاحظه الرحّالة من قبل حينما كتبوا عن شيم أهل الإسكندرية. لكنني أعني، كيفَ كانَ الناسُ يختلطون بعضهم ببعض ببساطة وتلقائية دونَ حساب لإختلاف الدين والمذهب. الحق يُقال، أنّ رجال الدين أينَ ظهروا فلا بد أن يتسببوا بفرقة البشر ونشر العداوة بينهم. وإلا لحفظ أعمامك صلة الرحم، ولما قاطعوا أبيك. أليسَ حقاً؟ "
" نعم، إنني أتوق للتعرّف عليهم وعلى أبنائهم، كون ذلك يخفف من شعوري باليتم "
" مع ذلك، ففي وسع المرء إستبدال الصداقة بصلة الرحم "
" وأنا، يا سيّدي، وجدتُ فيك حقاً الصديق والمعلّم معاً "، قالها ميخائيل بحرارة. وضعَ المعلّمُ كفّه فوق كفّ مساعده، تعبيراً عن الشعور المتبادل: " أنتَ تحتاج أيضاً لصديقٍ من نفس سنّك، ولو كانت فتاةً لبلغتَ المُرادَ! "، قال الجملة الأخيرة ضاحكاً. لم يعلّق الآخرُ بشيءٍ، مثلما أن إبتسامة حزينة طافت عندئذٍ على شفتيه. إنه بالفعل، لم يعرف إمرأة طوال أعوام وجوده في جبل لبنان. اللهم إلا محاولة إمرأة ذلك الحارس، مخول، لمراودته عن نفسه في أثناء إقامته لبضعة أيام في القصر القديم ريثما يؤمّن له المسكن. كانت إمرأة شابة، حسنة التقاسيم، إعتادَ على حضورها مع زوّادة الطعام لرَجُلها. كانَ جلياً أنها تعاني من الحرمان الجسديّ، نتيجة تقدّم هذا الأخير في السنّ. وقد تملّصَ ميخائيل من فتنتها، لحين أن إنتقل من القصر. حقاً إنه سبقَ وأرتبط بعلاقة آثمة مع إمرأة متزوجة، لكنّ رجل هذه كانَ في حكم الأموات لوجوده آنذاك في محجر البيمارستان. ليسَ التعفف وحده، ولا حتى الخشية من إغضاب الرب، مَن حكم عليه بصدّ نزوة إمرأة الحارس: بل إنه بشكل خاص، ذلك الشعور الأبويّ، الذي أضفاه مخول عليه في خلال تواجدهما معاً تحت سقف القصر.

2
القاهرة، أخيراً. برزخٌ بادٍ للعين، من عجائب الدنيا؛ هوَ ما يُطالع المرءُ به من منظر " مصر " ـ كما يُسمّي الأهالي هنا مدينتهم.. أي مثلما تكنّى دمشق ب " الشام "، وكأنها هيَ الإقليم جميعاً بعظمتها وسموّ قدرها. وياله من منظر فريد بحق، مبتزغ من طرف الصحراء، لكل من هاتين المدينتين، اللتين كانتا شقيقتين في عهد الأيوبيين والمماليك. إلا أن هؤلاء الأخيرين، أجبروا على نقل العاصمة من دمشق إلى القاهرة، لكي لا يتكرر شؤمَ إجتياحٍ خارجيّ يقوّض المملكة، كذاك الذي جرى على زمن المغول. وبالفعل، فإنّ سقوط دمشق لاحقاً بيد تيمورلنك، لم يفل عزيمة المماليك وهم بمنأى في عاصمتهم بمصر، لحين أن أجبر الغازي التتري على الرحيل من بلاد الشام عقبَ وقوع إضطرابات في بلده الأصل، ثمة في أقاصي آسيا.
بلى إن المسافر يقف مشدوهاً بما يعاينه من منظر القاهرة، مذ اللحظة التي يغشى فيها خِلَل عينيه. فإن يكن قادماً تواً إلى القاهرة من أيّ بلد كانَ، لا بد أن يعتريه الرهبة من عظمتها الجليّة، عمارة وخلقاً. إن دمشق وبيروت والإسكندرية، ليبدو كل منها بلدة صغيرة إزاء هذه الحاضرة العظمى، فلا يُمكن مقارنتها في المشرق إلا بالأستانة؛ تخت الدولة العليّة. وكانَ ميخائيل ومعلّمه قد قضيا ثلاثة أيام في الإسكندرية، شعرا أنها كانت كافية لمؤونة نفسيهما في معرفة العاصمة القديمة للقطر المصريّ ـ كما سيُدعى البلد مذ حملة بونابرته، التي شاءت أن تغيّر الكثير من المفاهيم والرؤى والدلالات.
" لو كانَ الغريبُ قادماً من بلد كالشام، فإنه سيغبط أهل مصر، ولا مراء، على ما حباهم الله به من سكينة المكان ووداعته وأمانه "، قال ميخائيل لمعلّمه. وافقه هذا الأخير، مشتطاً كالعادة في القول: " بلى، إنها هيَ مَن كانت جديرة بأن تغدو عاصمة الخلافة، شأنها في زمن المماليك ". كانَ يتكلم بصوتٍ مرتفع، وكأنه ما فتأ في إمارة الجبل، غير مبال برقيبٍ أو عوان. لقد غادرا للتو مقام الحسين، القائم على طرف سوق خان الخليلي، الشهير. سمعَ صاحبُ أحد المتاجر كلام المعلّم، وكانَ واقفاً أمام بضاعته، فعلّق بالقول في إحتفاء وقد أعتقد أنهما من مسلمي الشام: " لا ريب في أنّ كل مؤمن سيجد ضالّته في مصر، مهما يكن مذهبه أو طريقته. ففضلاً عن مشاهد آل البيت، سلام الله عليهم، فإن المرءَ واجدٌ مقامات الصحابة والأولياء والعلماء. ومنهم شفيع فرقتنا النقشبندية، الإمام الشافعي "
" عجباً! كيفَ وصلت الطريقة النقشبندية إلى بلد ناءٍ كمصر؟ "، سأله المعلّم. قبل أن يُجيب، طلبَ التاجر من أجيره أن يُحضر كرسيين لمن دعاهما بالضيفين الشاميين. قال على الأثر، بنبرة إطناب: " لأن جامع الأزهر، فيه أروقة بحسب ملل الطلبة، الذين يدرسون فيه علوم الفقه والشريعة؛ وفيهم رواق الأكراد. لعلك لا تعلم، يا سيّدي، أن أحد أولئك الطلبة، المنتمين لرواق الأكراد، هوَ من إغتال الجنرال كليبر، الذي خلّف بونابرته في حكم مصر؟ "
" سمعت طبعاً بتلك الحادثة، لكنني لم أكن على دراية بالتفاصيل "
" بل وإنتشرت أيضاً إلى حدّ ما، الطريقة القادرية، وذلك منذ إلتجاء أحد ولاة الشام لكنف والينا؛ وهوَ المدعو الكنج الكرديّ ". ثم أضافَ التاجرُ وقد إنحسرت إبتسامته: " هذا، بالرغم مما عاناه الخلق هنا من السلوك الشائن لعسكره، الذي رافقه في الأثناء، من فرقة الدالاتية "
" ها أنني أعجبُ مجدداً، كونك ذكرت أيضاً إسمَ هذه الفرقة العسكرية، الشامية، التي عاث فساداً وخراباً في الولايات اللبنانية "
" وأزيدك علماً، بأن ثمة فرقة أخرى من المرتزقة، قرينة للدالاتية، تدعى اللاوند، أتى قسمٌ منها إلى مصر لمحاربة الفرنسويين. المرء هنا لو لم يفهم مُرادَ الآخر، فإنه يقول له بسخرية: لا تكلّمني باللاوندي! "
" بلى، إنهم يستعملون نفس اللغة، التي تحدث بها صلاح الدين وأتباعه؛ وأعني بها الكردية "
" ولكن أين صلاح الدين، العادل والرحيم، مَن هؤلاء الطغاة والقساة "، قالها الرجلُ فيما يمدّ قدحَ الشاي لكلّ من الضيفين.
في الأيام التالية، تعرّفَ المعلّمُ على ربيب الوالي الكنج؛ أو قاروطه، بحَسَب اللغة العثمانية. إنه أحمد بك، الذي ربطته فيما مضى صداقة مع الأمير بشير، ومن ثم نقل رسالته لمحمد علي باشا بشأن إلتجائه إلى كنفه مع والي عكا. كان القاروط يقيم في قصر أبيه بالتبني، وقد إستضافَ فيه الأبَ سمعان وميخائيل، وذلك طوال فترة وجودهما في مصر. كان قصراً منيفاً، تأثل طراز العمارة الفرنسوية، بما أنه شيد في أعقاب حملة بونابرته. يقع القصر في جزيرة الروضة، وتميّز أيضاً بالبذخ في الأثاث، سواءً المحليّ أو المجلوب من باريس. أخبرهما المُضيف أن أول من أستوطن جزيرة الروضة، كان صلاح الدين؛ قبل بناء قلعته في سفح جبل المقطم. وقال، أنه تعددت منازل الأعيان منذئذٍ في الجزيرة: " ولو أن قصر الكنج بقيَ أكثرها شهرة. وفي حقيقة الحال، أنّ أولئك الأعيان ندموا على سكناهم في هذا المكان، بالرغم من مناظر الطبيعة الخلابة وإحاطته بالماء من كل الجوانب. فإن فرقة الدالاتية، المُرافقة لوالدي، لم يكن من السهل ترويضها على النظام والطاعة ". فيما بعد، قرأ ميخائيل " خطط الجبرتي "، الذي يعدّ آخر مؤرخي مصر العظام، وقد طبعت في بيروت لما كانَ من تحاملها الشديد على فترة حكم محمد علي باشا. إنه يكتب عن أولئك الدالاتية، الذين قدموا مع الكنج: " أشقياء من أكراد الشام، عانت مصر بسبب تعدياتهم وتجاوزاتهم الكثير من الويلات ".
وإذاً، عقبَ أعوام قليلة من إلتجاء الكنج لحِمى عزيز مصر، ومن وفاته بالطاعون، جاءت رسالة إلى القاروط من طرف البلاد الشامية، شاءت أن تستولي على إهتمامه كلياً. وما لبث أن مثل بين يديّ العزيز، لكي ينقل له رغبة كل من الأمير بشير ووالي عكا في الحضور إلى القاهرة: " بأسرع ما يقتضيه الأمر.. وبعد أن نحظى من سعادته بأمر سامٍ "، مثلما جاء في الرسالة. حينما كانَ الوالي يتفكّر ملياً بهذه المسألة الداهمة، فإنّ طالبيّ الحماية كانا فعلاً في طريقهما إلى تخت ولايته السعيدة. وقد علمنا بمجيء الأمير بشير بحراً، فيما عبد الله باشا جاء براً على رأس قافلة كبيرة ضمّت حريمه وحاشيته.
" إننا نضعُ رأسينا، مطأطأين، بين يديّ سعادتك، أيها العزيز "، توجّه الأمير بشير بكلمته إلى والي مصر. من بعد حفاوة الإستقبال، كانَ على أمير الجبل أن يروي على مسمع العزيز داعي لجوئه إليه مع رفيقه، والي عكا: " لقد حقّ علينا غضب مولانا السلطان، حفظه الله، لأننا تدخلنا في شئون الشام الشريف، فحالفنا خصوم واليها في صراعهم ضده ". لقد تكلم بنبرة أسف، فيما العزيز يتطلع إليه بنظرة تعاطف وإعجاب. على ذلك، وعده أن يفعل ما في وسعه، لكي يُعاود التمتع بحظوة رضى الباب العالي وعفوه، وبأسرع وقت. سببٌ آخر غير الصداقة ( كما تبيّنَ بعد أعوام )، تعيّن عليه أن يُعجّل من رغبة العزيز في نجدة ضيفيه الشاميين: لقد كانَ منذ ذلك الحين، يُفكّر بضم سورية إلى ولايته، وكانَ يحتاج لحلفاء موثوقين. ولغرائب المقدور، أنه والي عكا، عبد الله باشا، مَن أعطى حاكم مصر ذريعة إرسال جيشه لبلاد الشام بعدما جحد المعروف وتنكّر للصداقة. أما الأمير بشير، فإنه أثبت إخلاصه ووفاءه لمحمد علي باشا، وكانَ خير حليف له.
ولنعُد إلى راهن الحدث، المتواشج مع إستضافة عزيز مصر للاجئين الشاميين وحاشيتيهما. فلم يمضِ غير فترة قصيرة، وجاء ظهيرٌ من لدُن الباب العالي، يحملُ فرمان العفو عن الأمير بشير وعبد الله باشا. هنا أستأذنَ ميخائيل من الأمير، برغبته في العودة إلى مسقط رأسه. حينما أبدى الأميرُ موافقته، طلبَ ميخائيل من معلّمه النطاسيّ، بصيغة رجاء، أن يهتم بمنزله في بلدة عين القمر: " سأمر عليكم في البلدة كل فترةٍ، وأتمنى أن أجدكم بموفور الصحة "، قال له فيما يتوادعان. في حقيقة الأمر، أن الحنين إلى الشام دهمَ ميخائيل لما أخبره القاروط بعزمه على الإقامة ثمة والعمل في التجارة. كانَ أحمد بك قد آبَ من القلعة متعكّرَ المزاج، وما عتمَ أن أبدى أمام ضيفيه تلك الرغبة، قائلاً أنه سيسافر إلى دمشق في غضون بضعة أيام بصحبة إحدى القوافل التجارية.

3
السفرة الأخيرة للإمارة اللبنانية، جرت في ظرف أكثر إلتباساً وغموضاً. إذاك، كان ميخائيل قد أمضى زهاء ثمانية أعوام في مدينته الحبيبة، وكانت في المقابل على شيءٍ من الرخاء والدِعَة. في أثناء ذلك، كانَ قد توصل لإقامة علاقة صداقة مع القنصل الفرنسيّ في دمشق، حينما عالجه من عارضٍ صحيّ طارئ. العلاقات كانت قد أضحت طيّبة بين الباب العالي وملك فرنسا، وكانت في السابق شبه مقطوعة على أثر حملة بونابرته على مصر ومن ثم بلاد الشام. القنصل، ما لبثَ أن عرضَ على ميخائيل أن يكونَ طبيبه الخاص، مع الإذن له في أن يواصل عمله بخدمة الناس. بفضل هذه الصلة الجديدة، غدا مظهرُ ميخائيل شبيهاً بنبيلٍ فرنسيّ. ثم توفيَ خاله دونَ أن يكون له ذرية، فورثَ تجارته وأملاكه؛ بالنظر أيضاً إلى أن إمرأة الرجل كانت روحها قد سبقت روحه إلى السماء. وإنما في تلك الآونة، تعرّفَ الطبيبُ المرموق على ذلك الرجل، المُكنّى بالعطّار اللاوندي، وكان هذا إلى حدّ ما يُعدّ كطبيبٍ عامّي. كانَ تعارفهما من هذا الباب، ثم تعززت صداقتهما بما جرى في المدينة لاحقاً من أحداثٍ مهولة.
هذه الأحداث، تطوّرت سريعاً إلى ثورةٍ شاملة عُرفت على لسان الإخباريين ب " عامّية دمشق "؛ أشبه بما حصل في باريس في القرن المنصرم على زمن الثورة. أساس نقمة الدمشقيين على ممثلي السلطان، إنما مساعيه في إجراء إصلاحات تضمن إستمرار الدولة غبّ الهزائم العسكرية، التي منيت بها على جبهات أوروبا. مع كل هزيمة، كان كل طرف منتصر يُملي على الباب العالي شروطه؛ فهذا يريد ضمان إمتيازات معينة، وذاك يبتغي إعفاء صادراته من الضرائب، وآخر يرغب في إضفاء الحماية على طائفة مسيحية معيّنة وأن يتم الإعتراف الرسميّ بذلك. بدأ أولاً أهالي الشام يشكون من إرتفاع سعر القمح، بسبب فتح الدولة للتجار الأوروبيين المجال كي يشتروا هذا المحصول لتوريده إلى بلدانهم. كذلك نقم الحرفيون، وهم أكبر فئة عاملة في المدينة، على الباب العالي سماحه بإستيراد الصناعات الأوروبية، المنافسة بقوّة نتيجة أسعارها الرخيصة. من ناحية أخرى، كانَ الإنكشاريون يغذون هذا العداء للدولة كون السلطان " محمود خان " قد أباد في عام سابق زملاء السلاح في مجزرة رهيبة، جرت في الأستانة، لم توفّر نساءهم وأطفالهم، حيث دامت الإستباحة ثلاثة أيام. الإنكشارية في حقيقة الحال، تنظّمت في دمشق ضمن فرقتين؛ إحدهما دُعيت باليرلية ( المحلية )، والأخرى بالقابيقول ( حرس الباب ). الأولى، تشكّلت بمعظمها، وعبرَ الحقب، من أبناء الأهالي. أما الأخرى، فإن أغلب أفرادها كانوا يحضرون مع كل وال جديد، ويتمركزون بشكل رئيس في قلعة دمشق.
الشرارة، التي أطلقت الثورة في المدينة، كانت فرض ضريبة جديدة على المحلات التجارية، بحجّة أنها رسم حراسة؛ دُعيت ب " الصليان ". كون الضريبة أتت بفرمان من الباب العالي، فإنّ أكثر التجار قبلوا بها على مضض وهم يشدّون على نواجزهم حنقاً. إلا أن موظفي السرايا، الذين كانوا يسجّلون المحلات التجارية، تمت مطاردتهم في حي العمارة، بالرغم من أنهم كانوا محميين من طرف الجندرمة. ما أن أنتشر الخبر في المدينة، إلا وأقتدت بقية الأحياء بالعمارة، ومن ثم إنضم إليهم الأعيان والأشراف وبعض أصناف العسكر من الوجاقات والأورطات. فما هوَ إلا يوم وليلة، وكان البلد كله تحت السلاح بما في ذلك ضواحي الميدان والصالحية وسوق ساروجة ـ كما لو أن الجميع قد فقدوا صوابهم. عندئذٍ، وفي سبيل إسترضاء الخلق، أعلن الوالي إلغاء الضريبة الجديدة. بفضل النظم الحديثة، وصل البريد بسرعة إلى تخت السلطنة؛ ومن ثم عاد وهوَ يحملُ فرمانَ إعفاء والي الشام من منصبه، لعجزه عن فرض الضريبة. وبنفس السرعة تقريباً، نمى إلى قادة الإنكشارية أن الوزير " سليم باشا "، المسئول الأول عن إستباحة الأستانة، سيكون بعد أيام قلائل في دمشق بصفة الوالي الجديد. عندئذٍ، دعا هؤلاء القادة نخبة أعيان المدينة وأشرافها إلى سيران في الربوة، بما أن الوقتَ ربيعٌ. لما تواتر أمرُ هذه النزهة المُبيّتة إلى الأهالي، فإن كثيرين زحفوا إلى ذلك المكان كي يُشاركوا في أداء قسمٍ على القرآن، يجعل نساءهم طالقات لو وافقوا على تمرير الضريبة الجديدة. هذا الهذيان، كان يعني ببساطة أن مواجهة جديدة ستقع مع ممثل السلطان، ولعلها تكون أشد من سابقتها.
على وجه الإجمال، إنضمت معظم القوى العسكرية إلى الثوار، بما في ذلك إنكشارية القول، المتمركزة في القلعة. لكن الوزير قدم أخيراً، يرافقه جيشٌ قد حُشد أغلبه من الولايات المجاورة، لكي يُرهب به خصوم الدولة. بمجرد أن أخذ أنفاسه في السرايا، أرسل يطلب الأعيان والأشراف إلى حضرته، ليأمرهم بشدّة وغلظة تنفيذ فرمان السلطان بشان الضريبة الجديدة. أظهروا الإذعان للأمر، بيد أنّ أحداً منهم لم يفكّر بتطليق نسائه. على ذلك، توتر الوضعُ سريعاً في المدينة، فسمع صوت الرصاص في أماكن عدّة. حينَ رأى الوزير أن الجميع قد إتحد ضده، أسقط في يده وكاد أن يسلّم ـ كما فعل سلفه. لكنّ حدثاً طارئاً جدّ، أستغله الرجلُ أحسن إستغلال. هنا، دلفَ العطار اللاوندي إلى حكايتنا كي يضع صديقه النصرانيّ في صورة الوضع: " قائد القول، آغا أميني، شعرَ بالسم ليلة أمس عقبَ عودته من إجتماع للأعيان في منزل كبير القنوات، فما أن وصل إلى القلعة حتى لفظ أنفاسه الأخيرة. وبما أن الرجل قد خرجَ من الإجتماع على خصام مع الآخرين، فإنّ رفاقه جزموا أن وفاته كانت بفعل سمّ وضع في شرابه تحت سقف ذلك المنزل. الوزير، ما أن سمع بما حصل حتى أمرَ بنقب ثغرة في الجدار، ليتدفق منها عسكره إلى حي القنوات بغية القضاء على رؤوس العصيان مرة واحدة. كون رجاله إستباحوا حريمَ بعض بيوت الحي، فإنّ مشاعر الغيرة والغضب قد ألهمت النفوسَ ووجهتها جميعاً للإنتقام من الوالي الجديد ".
بقية القصة سيعرفها الصديقان في اليوم التالي، لما أجبر الوزيرُ تحت وابل الرصاص أن يترك السرايا ويلتجئ إلى حِمَى القلعة. من مستقره المؤقّت، أمرَ بضرب المدافع على الأحياء والأسواق بطريقة إنتقامية وعشوائية. عندئذٍ فرضَ الثوارُ حصاراً شديداً على القلعة، بل وحاولوا تفجير سورها تمهيداً لإقتحامها. في غضون ذلك، شكّلوا مجلساً لقيادة العصيان ضمّ عدداً من الأعيان والأشراف وقادة الأصناف؛ وكان على رأسه " الشاملي آغا "، كبير حي القنوات. كانَ صبرُ الباب العالي قد نفد، فقررَ إرسال المزيد من القوات لدعم موقف الوزير. عند ذلك فكّرَ المجلسُ بإستمالة شمّو آغا، زعيم كرد الشام، الذي يحظى بنصيبٍ وافر من عطف السلطان غبّ نجاحه في صد الوهابيين، وما كانَ من إستدعائه إلى حاضرة الأستانة ومنحه سيفاً مرصّعاً بالذهب والجواهر. العطّار اللاوندي، هوَ مَن كلّفَ بالإتصال مع الزعيم الكرديّ، كونه بالأصل من نفس ملّته، فضلاً عن تسنّم والده في حياته لمركزٍ سامٍ في السجّادة الخالدية النقشبندية. كانت مهمّة العطار صعبة، بالنظر لتحفّظ سيف السلطان إزاء الثورة، لكنه حصل منه على وعدٍ بأن يكون وسيطاً بين المجلس والوالي. إزاء نجاح المهمّة، عُهدَ للعطّار هذه المرة أن يكلّم صديقه النصرانيّ كي يتصل مع الأمير بشير، لكي يتنصّل من التورّط في النزاع لو أمره الباب العالي بذلك. في هذه الحالة، وعلى خلفية تحالف الأمير مع والي عكا القويّ، فإنّ هذا الأخير سيُضمن حياده أيضاً.

4
ما يزيد عن الأسبوع، كانَ عليهم أن ينتظروا في بلدة دير القمر، قبل أن يتفضّل الأمير بشير فيوافق على إستقبالهم، ثمة في قصره ببيت الدين. صيغة الجمع في الجملة الفائتة، كانَ الداعي إليها هوَ إنضمامُ العطّار والقاروط، لاحقاً، إلى المهمّة المعلومة. وكانَ برفقتهم أيضاً، حمو الزعيم الشاملي وحفيدته. هذا الأخير، وإسمه " عبد اللطيف "، كانَ بالأصل من جالية الطليان البنادقة، المتواجد غالبية أفرادها في دمشق بهدف التجارة، ثم ما لبثَ الرجلُ أن أعلن إسلامه. كانت له آراء مُتحررة، ذكّرت ميخائيل بمعلّميه السابقين. ويجدرُ القول في هذه السانحة، أنّ كلا المعلمين كان قد رحلَ عن الدنيا في أوان تناهي حكايتنا إلى وصول ميخائيل لجبل لبنان. تعليقاً على قوله، أنّ " المير " ( كما يلفظ رعيته لقبَ الأمير بشير ) هوَ أكثر الحكام كرماً وسخاءً، قال عبد اللطيف أفندي: " هذا التبذير، قد دفعَ ثمنه أهلُ الجبل جوعاً وحرماناً وفاقة ". تكلّم بنبرته المألوفة، المرتابة، شأن أنداده من الدهريين. لكن ميخائيل شعرَ بالتعاطف إزاء الرجل، ربما على خلفية تغيير والده لمذهبه ضمنَ ظروفٍ معيّنة ـ كما سبقَ وذكرنا في مكانٍ آخر. على كل حال، سرّ لوجود هذه الصُحبة في معيّته، بالرغم من إستيائه في باطنه، لما عدّه قلة ثقة المجلس به، بحيث أنه كلّفَ العطارَ بالتواجد أثناء اللقاء بالأمير بشير. لكنه سلى ذلك وإستمعَ منهم إلى ما قاسوه من مشاق وأخطار في طريقهم إلى الإمارة، المرصود من لدُن الإنكشاريين في الجانب الشاميّ. وكانوا حال وصولهم إلى بلدة دير القمر، قد إستدلوا من أحد مواطنيها على منزل ميخائيل، المكوّن من دورَيْن. في واقع الأمر، أنّ القاروط لم يكن عندئذٍ معهم بل ظهرَ فجأةً عقبَ مجيئهم بيوم واحد. إذاك، وحالما إنفردَ مع ميخائيل والعطّار، أظهرَ لهما ورقة ممهورة بخاتم المجلس، تبيحُ الإستنجاد بوالي مصر كي يتدخل بدَوره عند الباب العالي لشمل الشام بعفوه على أثر الإضطرابات الأخيرة. وعقّبَ على المهمّة، بالقول: " بالطبع، أنّ الأمير بشير هوَ المطلوب منه حث صديقه والي مصر في صدد العفو المأمول ".
وإنما في خلوةٍ أخرى، إستثنت القاروط، وفي المقابل ضمّت عبد اللطيف أفندي، أطلعَ العطّار صديقه ميخائيل على بعض تفاصيل جرائم أربع، غامضة، كانت أمكنتها موزّعة بالتساوي بين القنوات وسوق ساروجة. وراء هذه الجرائم، خيّمَ ظلُ كناشٍ مفقود، يُزعم أنه يحتوي على مخططين في غاية الخطورة والأهمية: أحدهما مخطط، يُستدل منه أن المسجد الأمويّ مبنيّ على أساسات شكل الصليب؛ كونه نهض على كيان كاتدرائية القديس يوحنا المعمدان. أما المخطط الآخر، فإنه يخص المكان السريّ، الذي دفن فيه الكنج الكرديّ كنزاً من الصناديق الذهبية قبيل هربه إلى مصر.
وهوَ ذا عبد اللطيف أفندي، يُخرج حزمة من الأوراق، سبقَ أن حصلَ عليها من العطّار: " لا شأنَ للوزير بكنز الكنج، المزعوم. إنه كانَ يسعى، بكل تأكيد، إلى هذا المخطط ". قالها فيما يستل خارطة من طيّ حزمة الأوراق، ليضعها على الطاولة. عندئذٍ لفتَ نظر ميخائيل شكل الصليب، لينتبه بالتالي إلى أن ذلك عبارة عن مخطط للكاتدرائية المذكورة. وكان من السهولة قراءة أسماء الأماكن بالأحرف اللاتينية، مشفوعة بالأرقام؛ من قبيل " المذبح "، " الهيكل "، " الصرح ".. وغيرها.
خاطبَ عبدُ اللطيف أفندي المُضيفَ، مبتسماً بشيءٍ من الحَرَج: " أنظر هنا، من فضلك. ستجد أن شكلَ المخطط مستطيلٌ، شأن المعلوم عن العمارة الرومانية. بل إن مخطط دمشق القديمة نفسه، كانَ مصمماً على الشكل نفسه. فإنّ الرومان، الذين حكموا المدينة طوال قرونٍ عدّة، إعتبروها أولى الحواضر العشر في إمبراطوريتهم العظيمة؛ أو الديكابوليس، بلغتهم اللاتينية. كما أنهم أطلقوا على دمشق اسمَ العذراء، تيمناً بحاميتها؛ الإلهة منيرفا. كذلك فأبواب المدينة القديمة، السبعة، شيّد كل منها موسوماً بأحد أسماء النجوم السبعة، المُباركة في عقيدة أولئك الوثنيين: فباب توما، كمثال، كانَ يرمز لنجم الزهرة؛ وباب الفراديس، لنجم عطارد.. وهكذا مع البقية. وقد ظلت للمدينة قدسيتها، مع تحول الرومان للمسيحية ".
ولكنه العطّار، مَن بادرَ إلى التعليق في حيرةٍ واضحة: " ولكن، يا سيدي، ما علاقة هذا المخطط، التليد القدم، مع خطط الوزير المارق؟ ". المفردة الأخيرة، توقفَ عندها المُخاطَبُ: " المارق، هوَ الشخص الخارج عن دين قومه؛ مثلما هوَ حالي ". قال ذلك بدَعابة. ثم آل إلى نبرته الجدّية، لما أجاب على السؤال: " في حقيقة الحال، أن صديقنا كبير الأعيان، الشاملي، كانَ هوَ من إستخدم هذا النعت كي يشنّع به على الوزير. ليسَ لأن الرجلَ جاء لفرض الضريبة الجديدة، وإنما بسبب ما قيل عن عزمه قصف المسجد الأموي بمدفعية القلعة، مبرراً ذلك بوجود مدافع خصومه في باحته. لقد كانَ بحاجةٍ إلى حجّة، تُبطل قدسيّة الجامع، فعلم بطريقةٍ ما أنها تكتنف كناشاً يحتوي على مخطط الصليب، المعلوم "
" إنّ ما قلته حقّ، وسبقَ لشيخ الشام، سراج العابدين النقشبنديّ، أن ذكره أمام المجلس. ذلك أن الوزير طلبَ منه فتوى، تبطل قدسيّة الجامع الأمويّ وتحصر ذلك في الحرمين ومسجد الأقصى، لورود ذكرهما في القرآن الكريم "، قال العطّار. في الأثناء، كانَ ميخائيل قد أنصت بإنتباه للأفندي، مبهوراً بسعة إطلاعه كما وبقدرته على ربط المواضيع بعضها ببعض. فتدخل في الحديث، قائلاً للرجل: " ولكن لو سمحت لي، يا سيدي، بالتنويه إلى أن بضع قنابر تساقطت على القلعة، لن تكون سبباً في إتخاذ أمر بغاية الخطورة: وهوَ تدمير رمز دمشق الإسلاميّ الأهم؟ ألن يكلفَ ذلك حياة الوزير نفسه، بالنظر لما نعرفه عن تقديس العثمانيين للمدينة؛ حيث لقبوها بالشام الشريف؟ "
" بل ربما الباب العالي بالذات، مَن سيبتهج لو أزيل رمز قدسيّة الشام. فالزمن تغيّرَ، ولم يعُد ثمة مكان للقداسة وإنما للسياسة. أجل، لقد أطل برأسه عصرُ القوميات، وذلك منذ أن جاء بونابرته إلى المشرق مع علمائه وآلاته. فمن مصر، تعالت مؤخراً أصواتٌ تطالبُ بعودة الخلافة إلى العرب سواءً في المنابر أو على صفحات الجريدة. قبل ذلك بزمان، كانت شعوبُ أوربا، التي إلتخت بالدين دهراً، قد أهملت جانباً إهتمامها بمنازعات البابا مع الفرق الهرطوقية، لكي تتعرّف على هوياتها القومية؛ على لغاتها وثقافاتها بالدرجة الأولى "
" على أية حال، فإنّ محمد علي باشا نفسه ليسَ من أصل عربيّ، لكي يتبنّى إنتزاع الخلافة من العثمانيين؟ "
" بلى، ولكنه سيحظى بالتعاطف كونه وفاتح القدس من أصلٍ واحد "
" أتعني، صلاح الدين؟ ولكن محمد علي من أصل أرناؤوطي؟ "
" بل إنّ والده ينحدر من أسرة سراة، من مدينة ديار بكر في الأناضول. وسبب شهرته بالأرناؤوطي، أنه قاد كتيبة جند ألبانية حينما كان يخدم في مقدونيا. ثم أمره السلطان بالتوجّه إلى مصر مع جنده، لإنتزاعها من يد الفرنسويين. وكل من تسنّى له حظ الوجود بالقرب من حاكم مصر، سيدرك بسهولة تمسّكه بأصله وفخره به. فإن الكثير من قيادات جيشه، في البر والبحر، هم من ولايات كردستان "، قال ذلك الأفندي متدفقاً. قبل أن يقاطعه العطّار، المُتهلل القسمات كونه من نفس الأصل: " كأنك تعني، يا سيدي، أنّ عزيز مصر يرغبُ في إستعادة مجد سلالته الأيوبية؟ "
" على أغلب تقدير، ولعلنا نشهد قريباً جيوشه هنا في المشرق. لأننا علمنا خلافه مؤخراً مع عبد الله باشا، والي عكا، بسبب إيوائه للمصريين الهاربين من السخرة والتجنيد "، قالها عبد اللطيف أفندي فيما بصره إتجه إلى ناحية باب الصالة. لأنه في تلك الهنيهة، طرقَ أحدهم على الباب. قامَ المُضيف لإستقبال القادم، فتبيّنَ أنها " نرجس " حفيدة الأفندي. كانت فتاة بديعة الحُسن، شعرها جزّة أرجوان، تظللُ عينين بلون العشب النديّ. إنها باتت الإبنة الوحيدة للزعيم الشاملي، عقبَ مصرع أختها بقنبلة سقطت على منزلهم في بداية الصراع مع الوزير. كانت تخاطبُ الأفندي بصفة الأبوة، كونها تربّت تحت سقف بيته منذ وفاة والدتها. وهيَ ذي تهتفُ، مخاطبة الجدّ: " أنتَ هنا، يا أبتي؟ ". قبلته في وجنته، وأضافت: " حضرَ للتو رجلاً من خاصّة الأمير، وسأل عنكم ". نهضَ الرجالُ الثلاثة حال سماعهم ذلك، وما لبث أن تأثروا خطى الفتاة في الطريق إلى الدور الأرضيّ.
" سيّدي، إن سعادة الأمير يطلبكم، أنتَ وجناب الآغا "، خاطبَ الرسولُ المُضيفَ بأدب وكان يعرفه مسبقاً. كانوا إذاً في صالة الضيافة، المُضاءة بأنوار الشمعدانات. قبل أن يستديرَ الرسولُ للمغادرة، أفلت من فمه هذا الخيرَ الصاعق: " قبل قليل، تناهى لعلم الأمير أن العامّة الدهماء، ثمة في الشام، قد إقتحموا السراي وقتلوا واليهم ثم مثّلوا بجثته. وقيل لسعادته أيضاً، أن قبجي مولانا السلطان، ربما لاقى نفس المصير ".

5
رسولُ الأمير، قادَ ميخائيل والعطّار إلى قصر بيت الدين، مستعملين الخيول، وكانت السماء مُنارة بالبدر في هذه الليلة من الربيع المتأخّر. بعد نحو ساعتين من خببٍ على الطريق الممهدة، إجتازوا دسكرة من أشجار الجوز والتوت والتين، أين برز خِلَل هاماتها مبنى القصر. أستقبلهم ثمة رجالٌ أشداء، مُسلّحون، لاحت ملامحهم في ضياء المشاعل ذات الإطارات المعدنية، المتولية إنارة مدخل القصر. ما لم يكن في حسبان أيّ من المدعوَيْن، هناك في الداخل، أنه سيلقى أحمد بك المصري، المنعوت بالقاروط. سحنة البك، الحسنة التقاسيم والمعدومة التعابير في آنٍ معاً، كانت إذاً أول ما لفت نظرهما، ثمة في ديوان الأمير بشير. هذا الأخير، كانَ يتصدّر المكان المتأنق العمارة والتلبيس، الحافل بموجوداته من أثاث ورياش ومتاع، والمنار بالشموع ذات الرائحة الزكية. كانَ الرسولُ قد إنسحبَ عندئذٍ، ليتولى تقديم الضيفين وكيلُ الأمير، " إبراهيم بك ". لم يتسنّ لميخائيل معاينة شكل الوكيل، طالما أنّ نظرة عينيّ سيّده، الحادة والشديدة النفاذ، حالت دونَ ذلك. فلم يستطع إسترداد بصره من ذينك العينين، إلا حين أشار صاحبهما له ولرفيقه بالجلوس في الطوطيّ ذاته، أين كانَ القاروط يقعد. كون الساعة ليست متأخرة، فإنها حتّمت وجود حاشية الأمير، الذين بدوا كثعالب مذعورة في حضرة الأسد. بالنسبة للعطّار، كانت هذه المرة الأولى يرى الرجل ذا الصيت المتردد كالصدى في البلاد القريبة والبعيدة. فطفق ينظر بإعجاب إلى رونقه، الرائق الرواء، بلحية يتخللُ الشيبُ شقرتها، المحيطة بالوجه البرونزيّ، الذي خددته تجاعيد الهموم والمقاساة لا العُمر المُشرف على الستين.
" هذا صاحبكم، أحمد بك، حضرَ إلينا من وقته "، نطقَ الأميرُ كلماته بتؤدة. صوته العميق، أصدى في الديوان، المهيمنة عليه القبة المرقّشة بالنقوش الهندسية والنباتية. ثم أردف بنبرةٍ فكهة، المُتعالية على الحدث الجلل: " لا أعتقد أنكما في حاجةٍ لمعرفة حقيقة الأمر، على لسان البك. فمن ملامحكما الجزعة، لاحَ أن خبرَ الوزير قد تناهى لعلمكم بفضل ثرثرة رسولنا ". بالرغم من محنة الموقف، أجاز المرحُ الشيوعَ في سحنات الحاضرين ـ كما لو أنها مرايا لتعبير سحنة سيّدهم. وإنها سحنة، خبرَ ميخائيل جهامتها المقيمة، التي لم تكن قادرة مع ذلك على إخفاء شفافية نفسه ورقّتها. ملاحظة متأنية، كانَ عليه أن يقتنص شواردها من هيئة الأمير: فبغض الطرف عن مرحه الطارئ، لم يكن أقل قلقاً من ضيوفه الشوام، وذلك على خلفية الخبر الداهم.
تفاصيل تلك الواقعة المُريعة، المهولة، المُنتهية بمقتل كلّ من وزير السلطان ومبعوثه، كانَ على القاروط أن يسردها، ثمة في منزل ميخائيل في بلدة دير القمر. أخذ كلّ من ضيوفه الثلاثة وضعية مُريحة فوق مجالس قاعة الضيافة، المُظهّرة بالدمقس الأرجوانيّ. عبد اللطيف أفندي، كانَ قد تمكّن من إقصاء حفيدته العنيدة من هذه الخلوة، فحملها على الذهاب إلى صديقتها، " شمس "، التي أتت معهم من الشام ضمن ملابسات الرحلة، المعلومة.
القاروط، كانَ قد أقنع مجلسَ العمومية بمحاولة فتح الطريق إلى القلعة، مُتعهّداً أن يكون واسطة خير بين المجلس والإنكشارية. إن علاقته كانت وثيقة نوعاً ما بالمدعو " آغا باقوني "، آمر القول الجديد، بالأخص أنهما أقاما في الجوار بحي سوق ساروجة. وقد قبل هذا الأخير، فكرة جاره في شأن الإجتماع باركان المجلس على أساس عدائهما المشترك للوزير. حينما تم اللقاء، كان الدالي باشي، " آغا يقيني "، حاضراً أيضاً. في حقيقة الأمر، أن الآمر الإنكشاريّ هو من قدم لوحده إلى قصر القاروط، لكي ينصت لإقتراحات المجلس.
" لنعجّل بولوج مقر الوزير، ولنرغمه من ثم على مغادرة البلد. فقد وصلتنا أخبار موثوقة، بأن جلالة السلطان في سبيله لأن يأمر ولاة حلب وحمص وطرابلس بالتوجّه مع قواتهم إلى الشام، بهدف فك الحصار عن القلعة. إن جلالته، كما تناهى إلينا، غاضبٌ لتجاهل أعيان مدينتنا وجودَ سعادة القبجي، الذي حمل فرمان الأمان للجميع بمقابل تأمين حياة الوزير وإرساله إلى الأستانة عن طريق مرسى بيروت "، قال آغا يقيني لآمر القول. إن حجّة كبير أصناف الأورطات، كانت من القوّة أن آغا باقوني طفق صامتاً لبرهةٍ وقد بدت على ملامحه أمارات القلق والجزع. فما لبث الرجل أن وافقَ على عرض المجلس، مُشترطاً أن يُشارك شخصياً بالإشراف على الأمر برمته. هنا، يدخل القاروط بدَوره في المشهد. فإنه أمّن الإتصال مع الوزير، بوساطة قبجي السلطان. وبحسب قول البك المصريّ أن القبجي كان قانطاً من مهمّته ويرجو العودة إلى الأستانة بمعيّة الوزير، فيعزز بذلك مركزه عند الباب العالي، بحيث يوعز إليه ولاية الشام.
ما لم يكن في وارد أيّ من الطرفين، أي المجلس والقبجي، أنّ آمر القول الماكر كان يعدّ فخاً محكماً من المفترض أن يُطبق على طريدته في السانحة المواتية. لقد كانَ آغا باقوني يمتلك من الدهاء والإخبات، ما يُعادل قسوته المُفرطة. فقد تصنّع الذعرَ والإرتباك قدّام أركان المجلس، حينَ إجتمع معهم في قصر القاروط. حتى إذا تأكّد أن الوزير وافق أخيراً على مغادرة القلعة، فإنه بدأ فوراً بالتحرك لتنفيذ مأربه. في البدء، ومنذ بزوغ الفجر، تقدمت من جهة العمارة قوّة من الدالاتية، فرابطت أمام باب القلعة. فيما إنسحب أفراد الإنكشارية من المكان، بحَسَب ذلك الإتفاق. على الأثر، بدأت عساكرُ الوزير بمغادرة القلعة وهم عزّل من السلاح. علامات الضعف والخور، كانت جلية على ملامحهم، هم من أمضوا زهاء أربعين يوماً في الحصار دونَ مئونة تقريباً. إذ كان السرداب السرّي، المُفضي إلى خارج أسوار المدينة، قد تم إكتشافه من لدُن الأورطات. في الحال، توجّه عساكرُ الوزير إلى سوق ساروجة كي يضعوا أنفسهم بإمرة المجلس، الذي سبقَ ومنحهم الأمان. ثم مرّ الوقتُ ببطء، وما من خبر عن الوزير والقبجي. في الأثناء، كان ثمة جمع غفير من الخلق، قد أخذ مكانه عند مدخل القلعة. وإذا أحدهم يصرخ بأعلى صوته في الناس، المتجمهرين ثمة: " يا عباد الله! إنّ المارق وصاحبه قد ركنا للفرار وهما بهيئة العساكر ". فيما كان الهرجُ يعتمل، جاء رجلٌ من جهة القنوات، صارخاً مُحرّضاً بدَوره، بأنه رأى الوزير والقبجي قد دخلا السرايا بحماية أنفار دالاتية. إذاك، زحف الدهماء وعلى رأسهم جماعة إبن عبد الوهّاب، بإتجاه المقر السابق للوزير، الذي كانَ قد فرّ منه إلى حِمى القلعة. ثمة أمام مدخل السرايا، المُتهدّم جزئياً، عاد أولئك العوام للتجمهر وهم على أشد ما يكون من حماس وطيش وإستثارة. في حقيقة الأمر، أن أفراد الدالاتية، وعلى رأسهم آمرهم آغا يقيني، كانوا بالفعل قد مرروا الوزير والقبجي من ذلك السرداب إلى مقره هذا.
" ولكن كيفَ نمى لعلم أولئك الخلق، خبرُ إنتقال الوزير إلى السرايا؟ "، تساءلَ ميخائيل مُستغرباً. فما كانَ من القاروط إلا الإفترار عن فم بسّام، ليجيب بلهجته المصرية: " وأنا إيه عرّفني، يا حكيم؟ ". ثم آب لإكمال قصّ ما جرى، متخذاً دوماً نبرة غير مُكترثة: " آغا يقيني، صديقنا، كانَ شاهداً إذاً على نهاية الوزير؛ تماماً، كما سبقَ له وشهد بداية مجده قبل نحو شهرين حينَ دخل الشام في عراضة مُهيبة وقصده إستئصال شأفة الإنكشارية مثلما فعل برفاقهم في تخت السلطنة. وبالجملة، فإن لحظة إنتقام الوجاقات من خصمها اللدود قد أذنت. من مجريات الواقعة، لاحَ أن آغا باقوني كانَ قد أعدّ لهذه اللحظة بتأنّ ورويّة ودقّة. لكن عناصر الدلاتية، الذين كانوا يحمون السرايا وبالرغم من قلّتهم، ردوا هجمات الغوغاء طوال ذلك اليوم المُستطير. عند منتصف الليل، ظهرَ على قسمات الوزير أمارات القنوط والتسليم، فطلبَ من القبجي والدالي باش، بإلحاح ورجاء، أن يدعاه يواجه مصيره لوحده وأن يغادرا المكان بغير إبطاء. وإذا بجانب من جدار الحجرة تلك، التي كان يتواجد فيها المحاصرون، ينهارُ على حين غرّة. ثم إندفع من خلاله المهاجمون، المسلحون بالسيوف والغدارات والخناجر والفؤوس. ما أن أشهرَ الباشا طبنجته، إلا وأرديّ بعدة طلقات من لدُن غدارات خصومه. وفي اللحظة نفسها، أنقض آخرون على الدالي باش، المتناهض للمقاومة، فتمكّنوا من أسره وتقييده بحبل. ثم إلتفتوا إلى الرجل الثالث، المُهندم بقيافة موظفي الباب العالي، الباذخة، وكانَ مصفرّاً ومروّعاً. خاطبهم القبجي، بلغته العثمانية: " أمان! إنني مبعوث جلالة مولانا السلطان ". بيد أن كلامه قطع بعيارٍ ناريّ، أصابَ صدره. لكنهم أظهروا تعقّلاً، في المقابل، وذلك بإطلاقهم سراحَ الدالي باش وأنفاره. ثمة خارج السرايا، فقد المهاجمون صوابهم تماماً. فإنهم عرّوا جثتيّ الوزير والقبجي، ثم مثلوا بهما بالسيوف. بعدئذٍ جعلوا العوامَ يطوفون بصليب من الخشب، سمّروا فيه ملابس الوزير الرسمية، المُزيّنة بالأوشحة والأوسمة، ليجوبوا أيضاً الحي المسيحيّ، مُنشدين هذه اللازمة:
" الباشا بلا ذمّة، باشتنا كان حرمة
الباشا بلا ديانة، باشتنا إسمه حنّا! ".

6
" الجهاد في سبيل الله! الجهاد في سبيل خليفة الله! "، هكذا كان يتصايح الناسُ في دروب وأسواق المدينة، وهم يصفون عزيز مصر بالمارق؛ بصفة الوزير السابق، الذي قتلوه مع القبجي دونَ أن يسألوا على السلطان، على خليفة رسوال الله. كانوا قد أفاقوا على الأثر من نشوة السكر بالدم المُباح، متوقعين إنتقام الباب العالي منهم بأشنع مما أقترفته أيديهم؛ بقتل الرجال وسبي النساء والأطفال وسلب ونهب الممتلكات أو تدميرها وحرقها. إلا أن السماء لم تردّ دعواتهم ( كانوا يعتقدون أنها علامات القيامة )، فأمدّتهم بحدث داهم أدخل الأمل في أفئدتهم: عزيز مصر، أرسل إبنه إبراهيم باشا مع جيش كبير للسيطرة على بلاد الشام. لم يقتنع الباب العالي بمبرر هذا الغزو، على أنه مجرّد تأديب لوالي عكا، فما كانَ منه إلا إصدار فرمان يعتبر محمد علي باشا وإبنه معزولين، وذلك بتأييد شيخ الإسلام والقاضي وكبار العلماء من جميع المذاهب. ثم تليَ على الأثر في الشام فرمانٌ آخر، يُعلن فيه السلطان العفوَ عن المدينة ما لو تضامنت لصد الغازي المصريّ. الغازي، كانَ بدَوره قد وجّه لأعيان الشام رسالة شديدة اللهجة، تطالبهم بوضع مفاتيح المدينة بين يديه حالما يأزف الوقت. الرسالة، وصلت مؤخراً عن طريق وكيل محمد علي باشا في الشام، القاروط، لما آبَ مع العطّار من مصر. هذا الأخير، ما عتمَ أن فقد الرجاء بكل شيء، فطاوع رغبة عبد اللطيف أفندي في السفر معه إلى البندقية، بعدما أضحى بمثابة صهره.
ميخائيل، كانَ في أثناء ثوران عواطف الدمشقيين يتمشى في ربض البحصة البرانية، في طريقه إلى القنوات. إذاك، كانَ مع صديقه الجديد، " بحري بك "؛ وكيل الأمير بشير في الشام. كانَ هذا الرجل، الذي يكبرُ الدكتور ببضعة أعوام، من نفس ملّته، ولم يمضِ على وجوده في المدينة سوى أيام معدودات. وكان ميخائيل قد إنتقل للإقامة في قصر القاروط، كونه أكثر أماناً من منزله في الحي المسيحيّ. وقد حلّ بحري بك ضيفاً أيضاً في القصر. أساساً، كانَ الرجلُ قد رافق ميخائيل لدى عودته من مهمته في الإمارة اللبنانية.
" يا للجهل والتخبّط، عند أولئك العوام "، قال الدكتور لصديقه بأسى وهوَ يومئ إلى الناحية الأخرى من الأسوار. ثمة، كانَ البعض يرفع رايات الدولة العليّة، وآخرون يهتفون هذه اللازمة: " نحن نصوم نحن نصلّي، جزيرة كريت للعصملّي! ". ثم أضافَ قائلاً: " يهللون لمستعبدهم، في حين أن اليونانيين أفلحوا بنيل إستقلالهم غبّ نجاح ثورتهم ". وكان ميخائيل يتعاطف مع اليونانيين، كونه من أرومتهم ـ كما سبق وعلمنا.
" إن تعبيرهم عن مساندة الباب العالي، فيه ما فيه من نفاق قد لا يخفى عن بصيرة المبعوث السلطانيّ "، علّقَ بحري بك. وافقه صديقه، بالقول: " أجل، ولا شك. ولعمري فإنها شيمة الدهماء في كل مكان وزمان. فما بالك هنا، في بلادنا السورية، التي رزحت قروناً مديدة، ممضة، في أرزاء الإستبداد والظلم والفاقة "
" إنني دهشتُ بالأمس، لما سألني أحدهم ماذا أقصد بكلمة ‘ سورية ‘؛ كونه لا يعرف شيئاً عن تاريخ بلده "
" لا غرابة في ذلك، طالما أنه لم يظهر مؤرخ واحد في بلاد الشام طوال قرون من العهد العثماني. بل إن معظم الإخباريين، الذين وصلتنا كناشاتهم، إستعملوا اللهجة العامّية كونهم غير متعلمين تقريباً "
" أليسَ غريباً أيضاً، أنه حتى خصوم الدولة من الإنكشارية والأورطات، قد رفعوا أيضاً راية الجهاد ضد الغازي المصريّ؟ "، عاد بحري بك للموضوع الأول. رد ميخائيل بعد وهلة قصيرة من التفكير، مداعباً ذقنه الحليقة: " إنهم كانوا طوال قرون، معتادين على الشد والجذب مع الباب العالي. لكنهم الآنَ لا يعرفون نوايا إبراهيم باشا بشأنهم، طالما أن أبيه سبق وأستأصل شأفة المماليك والإنكشارية سواءً بسواء. فإنه رسّخَ مبدأ مركزية الحكم، وأنه لا مكان لأي قوة عسكرية غير الجيش النظاميّ "
" في هذه الحالة، فإن محمد علي باشا يتفق مع السلطان محمود؟ "
" إلى حد ما، ولكن هذا أخاف عزيز مصر هو بنفسه من إصلاحات السلطان. فإنها قد تفضي مستقبلاً لزوال سلطته، لو أراد الباب العالي جعل مصر مجرد ولاية تابعة لا تتمتع بحكم ذاتي. بل إن ولايات أخرى عندها نفس الخشية، كجبل لبنان وكردستان، ولذلك فقد رحّبت بالحملة المصرية على بلاد الشام "، ردّ ميخائيل. وكانا قد أضحيا عندئذٍ تحت قنطرة أحد دروب القنوات، وكانَ أحدهما يغشى هذا المكان لأول مرة.
حالما أجتاز ميخائيل مع رفيقه أطلالَ دارَ الزعيم، عَبْرَ الباب المُنفرج صفق درفتيْه ، عَرَتْ القشعريرة كلّ خلجةٍ من خلجات جَسَده ونفسه على السواء. عندئذٍ، راحَ يَنخِسُ أنفه مَشامٌ مُعتق، غريبٌ، من أثر ذاكَ الحريق المَشؤوم، مَشوباً بعَبق ذكرى صديقه العطّار، الذي سبق ووضعه في صوَر متلاحقة من جرائم أربع، بدأت مع سقوط قتيلين في هذه الدار. الوقتُ، كانَ إذاك ظهراً؛ فيه صَبٌ من حِمَم الهاجرَة، اللاهبَة ـ كأنما لمُضافرة آثار نكبة هذه الدار الحزينة، المَهجورة.
" اُنظرْ إلى ما بَقيَ من المنزل، المُوحِش، الذي كانَ قبلاً بَهجة لعين الزائر ـ كحال الدور الدمشقية " ، قال ميخائيل. ولكن رفيقه، بدَوره، ما كانَ بحاجةٍ لشرح أو توضيح؛ طالما أنه سبقَ وأعلِمَ بتفاصيل مأساة ظهيرة الانكشارية، التي ذهَبَتْ بالدار وأهلها معاً. في هذه الهُنيهة، المُبتدَهة بإطلالتهما على أطلال حجرة الحبيبة الأولى للعطار، " ياسمينة "، راحا يجيلان النظرَ هنا وهناك: إنّ القسم العلويّ من المنزل، المُحتفي في زمَن مَجدِهِ بالمُطارحات الغراميّة كما والمكائد الغريمة، كانَ الآنَ مُتداعٍ وأيلاً للإنهيار في لحظة وأخرى. على ذلك، مَرا حَذاء قاعة السلامْلك، مُكتفيين بارسال نظراتٍ خاطِفة، مُبْتسَرة، خلل أبوابها ونوافذها العديدة.
" يبدو أنّ أولئك الأوباش، الانكشاريين، قد نهبوا كلّ ما صادفوه هنا "، علّقَ ميخائيل على ما عايَنه من خلوّ تلك القاعات الكبرى من الأثاث والرياش والتحف. ثم أشار إلى تلك الناحيَة ، قائلاً: " ثمة، كانت تتمّ اجتماعات مجلس العموميّة، وفيها حوصرَوا من لدُن أفراد الأورطات عند هجومهم على الدار " . ثمّ أضافَ ، مومئاً إلى جهة البحرَة: " قبل ذلك جلسوا هناك؛ أين تمّ، على الأرجح، تسميمُ آغا أميني ".
" مما أمَدتني به أنتَ من معلومات، فإنّ جرائمَ أخرى، عديدة، ارتكِبَتْ في هذه الدار المَنكوبَة. وعندي، أنّ دسّ السمّ لآغا القول ، كانَ إحدى حلقات سلسلة الجرائم تلك "

" إنها جريمة واحدة حَسْب، تلك التي سَبَقتْ تسميم الآغا؛ وهيَ مَصرَعُ وصيف الشاملي "، أوضحَ ميخائيل لرفيقه. وكان مُعتقداً، لوهلةٍ، أنه يَخلط بين جريمَتيْ هذه الدار ومَثيلتيْهما؛ اللتيْن اقترفتا ثمة، في دار الحديث البرّانية. بيْدَ أنّ بحري بك، مُبيّناً بدوره ما يَعنيه، ما عتمَ أن أشارَ إلى الحَرَمْلك، قائلاً: " أقصدُ حالات الوفاة المُلغزة، التي سبقتْ ذلك ".

رغبة ٌ بالكشف مُلِحّة، هيَ من كانت تسوسُ فرَسَ إرادة ميخائيل منذ أن تعهّد للعطّار بمواصلة تعقّب الجناة، أو الجاني ـ كما كانَ هوَ قد جزمَ. هذا الأخير، بطبيعة الحال، كان ما فتأ حتى لحظة سفره على جَهلٍ مُقيم، بخصوص شخص القاتل المَجهول. على ذلك، فقد شاء هذه المرّة الإستعانة بعقل صديقه الجديد، السّديد، علّه يتمكن من ربط تلك الجرائم، الأربع، مع بعضها البعض؛ هوَ من كانَ قد تاهَ عنها، زمناً، في غمرَة الأحداث العاصفة، المُتواتِرَة، التي هزّتْ المدينة في الآونة الأخيرة.

وحسنٌ فعل، حينما أشركَ ميخائيل بالأمر، بعدما سبقَ أن استفاد أيضاً من فِطنة وخِبرَة عبد اللطيف أفندي. إذاك، َطُرَحت فرضية أكثر جِدّة، بربطِ تلك الجرائم الأربع مع ما سَبَقها من حوادث الموت، الغامضة، التي يُعتقد، على سبيل الشبهة، أنّ كلاً من زوجة الزعيم ووصيفه قد دبّراها معاً.

" حتى اللحظة، لم أكن لأعرفُ، قطعاً، صحيحَ هذا الأمر من مَعلولِهِ "، قال الدكتورُ المُرشِد. قد يكونُ شعوره بأنّ خطوه يَتجه إلى طريقه المَطلوب، ربما كانَ من وارد تلك المُلاحظة، العابرَة، التي فاهَ بها صديقه. بيْدَ أنّ حقيقة أقدَم عَهداً، هيَ من كانَ عليها الآنَ أن تنير الطريق: العلاقة المُلتبسَة بينَ الأختيْن، ياسمينة ونرجس، وبين المَملوكيْن، الروميّ والصقليّ.
" ما رأيكَ، يا بك، أن نلقي نظرَة عن قرب على ذلك المكان؟ "، قالها ميخائيل مومئاً برأسه هذه المرة إلى جهة الحرملك. ولكن كما بدا من تضييق عينيْه بشكّ، لاحَ أنّ الآخرَ ما كانَ مُتحمّساً لهكذا مغامرة. فإنّ القسم العلويّ من الدار ، المُتهتك البنيان بفعل القصف والحريق، كانَ على وشك الانهيار نهائياً وفي أيّ سانِحة ، مُحتملة.
" الحديقة غير مُتضرّرَة؛ فبامكانكَ انتظاري فيها ريثما أعودُ من فوق "، اقترحَ على البك مُجدّداً. إذاك، تقدّمه مُتبسّماً نحوَ مَدخل الدرج المؤدي للحرملك، والذي كانَ يُشبه في عمارَتِهِ رواقاً أنيقاً، دقيقَ الحَجم. فبالرغم من عدَم قناعة البك بجَدوى هذا التصرّف، إلا أنه أرادَ إظهار استهتاره بالخطر.

7

عوارضُ مِحْنة منزل الشاملي، كانت مُتجلّية ولا غرو في هذا القسم منه، المَنكوب بشدّة. إنه مكانٌ، ياما شَهَدَ قبلاً مُناكدات نسوة الدار ومكائدهنّ، علاوة على المُطارحات الغراميّة، العارمَة، ثم اندثرَ ما سَلفَ من عزه وعترته. هناك، في جهة الفناء المَسقوف، القصيّة، كانت تقوم حجرة ياسمينة ـ المفقودة الأثر؛ بحَسَب ما كان الجميعُ مؤمناً به حتى الآن.

لو أنّ القيامَة قد أذِنتْ فعلاً لما كانَ لمَجامرها أن تخلّفَ أثرَها، البيّن البُرهان، أكثرَ مما رأته العين ثمة؛ في تلك الحجرة الحزينة، المُحترقة كلياً: إنّ الرمادَ حَسْب، كانَ قد بقيَ من أثر ذلك الجحيم، المُضرَم الأوار، الذي ذهَبَ بكائنات وموجوداتِ الحجرة جميعاً؛ رماداً مُقدّساً، كانَ جديراً ولا ريب بأن يُرفعَ فوقه، لاحقاً، قبّةُ المَقام الياسميني.

" لن نعثرَ على أثرٍ ما، هنا، في هذه الحجرة المُحترقة تماماً " ، قالَ ميخائيل بنبرَة مُؤسيَة أكثر منها مُتيقنة. كانَ قد حَدَسَ بأن البحث عن أثر ما، مُحتمل، يُمكن أن يَقودَ إلى كشفِ أستار القاتل، المَجهول. إنه سبق وقرأ أقاصيص باللغة الفرنسية مذ أن كانَ فتى، وجدها في مكتبة معلّمه الأول، وكانت مواضيعها تتمحور على حبكة جريمة، أو عدة جرائم، مغلّفة الأحاجي والغموض، يلتزمُ محققٌ من خارج سلك الجندرمة تقصّيها ومن ثم كشفها.
كان البك جامِداً ما أنفك، مصدوماً بالمشهد المهول، فلم يستطع الإجابة على الفور. ما لبثَ أن أردَفَ ميخائيل قائلاً، فيما يَدُهُ تشير إلى جهة الباب الداخلي، المُفضي للقبو : " علينا أن نجتاسَ ذلك المكان، فربما تطرأ لنا علامة ثمّة، مُعيّنة، على مرورٍ دخيلٍ، قد تساعدنا في بحثنا ". أومأ الآخرُ برأسه مُوافقاً، ثمّ تقدّم أولاً من مَدخل الباب الخشبي، المُتفحّم بدوره، والمُؤدي على كلّ حال للمَمرّ السرّي.

" هيَ ذي ساعة من البحث مَضتْ، دونما أيّ نتيجة مُجديَة "، ندّتْ عن البك بتأفف بينما كان قد همد قانطاً على أرضيّة القبو. وكانَ صديقه يَضعُ المُشكاة جانباً، لكي يَجلسَ بقربه، مستعيداً رواية العطّار عن مبتدأ تيهه في هذا المكان أثناء تلك الظهيرة الأخيرة، الجهنميّة، التي قضاها في هذا المَنزل المنحوس: آنذاك، كانَ المَملوكُ القبرصيّ هوَ من حملَ مصباح الإنارة حينما همّوا بالخروج من القبو عبْرَ بابه هذا، المَفتوح على الممرّ. أمّا رفيقه، الصقليّ، فإنه كانَ قد تعهّدَ وزرَ البقجة الثقيلة؛ التي حَوَتْ مُدّخرات سيّده، الأثمن والأكثر قيمة.

فجأة، سَطعَتْ في ذهنه صورة مستحيلة لنرجس، البهيّة، مُتماهية ملامحُها مع ملامح ياسمينة، التي لم يرخا ميخائيل قط : " لا عَجَبَ في ذلك، فإنهما أختان من أب واحدٍ "، فكر ببساطة وبحزن أيضاً. ولكنهما، مَضي مُفكّراً، كانتا من والدتيْن مُختلفتيْن في الأصل والعقلية، وفوق ذلك، غريمَتيْن. فما أن بلغَ سرّه إلى نواطق أحرف المفردة الأخيرة حتى قفز من محلّه ـ كمَن أصيبَ بمَسّ: " هيا، يا صديقي! هلمّ ندخل خلل هذا الباب، علّنا نهتدي لشيءٍ ذي قيمة في بحثنا؛ ثمة، داخل الممرّ السرّي "، خاطب ميخائيل رفيقه بالهام مُباغتٍ. إحتياطاً، كانَ قد طلب من الزعيم مفتاحَيْ بابَيْ الممرّ ذاك، حيث سبقَ له أن استعمل أحدهما قبل قليل؛ حينما كانَ عليه النزول إلى القبو صُحبَة صديقه. وإذ لبثَ هذا الأخير مُتردّداً، فإن ميخائيل ذكّره بما سلفَ وقصّه عليه من حكايَة خطبة ياسمينة للمرحوم قوّاص آغا؛ وما كانَ من اشتراطها عليه مهلة الألف يوم ويوم، لحين أجل دَخلتها المَأمولة. بعدئذٍ ما عتمَ البك أن تحرّكَ بأثر خطوات الدليل، فيما كانَ يُهَمْهمُ بما ينمّ عن ريبَتِهِ بالفكرة تلك، الخرقاء؛ المُحيلة إلى ليالي شهرزاد، الاسطوريّة.
أشعلَ البك جذوة المشكاة ثمّ ناولها لصديقه كي يتقدّمه في المَسير، طالما أنه سبقَ واجتاز هذه البقعة مَرّة مع العطّار. ثمة في أعماق الممر، دهمت هذا الأخير الرؤيا ، التي جَمَعته مع ياسمينة ، المسكينة ، بمواجهة إثنيْن من طائفة الجنّ، الشريرة؛ ليقع مغشياً عليه في بحران الحمّى، فيمَحمل بالتناوب على كلّ من كتفيْ المَملوكيْن، المَلوليْن.

تلك الرؤيا، عليها كانَ أن تضيء ذاكرة ميخائيل، فيما كانَ يتوغل في الغلسَة، ليستعيدَ بالتالي تيه صديقه العطّار خلل النفق،الذي يبدو أنه بدوره مُتعدّد المَمرات. فما أن أنهى شرَحَ الأمر للبك، حتى كانا فعلاً أمامَ مُفترق طريقيْن، ضيّقيْن نوعاً ما، يؤدّي كلّ منهما إلى جهة مُختلفة. إذاك، وَرَدَ في خاطره فكرة ٌ جديدة، جيّدة: أن يَعمَدَ كلّ منهما إلى المضيّ في أحد المَمرَيْن، وأن يتقابلَ مع صاحبهِ عند الإياب في نفس نقطة الانطلاق.

" ولكن، ما العمل وليسَ لدينا سوى مصباحٌ واحد؟ "، سأل البكُ ميخائيل. فأطرقَ هذا قليلاً وهوَ يقدَحُ ذهنه، ثمّ ما لبثَ أن رفع رأسه مُبتسماً بألفة: " أنتَ تعلم أني أدخنُ الغليون، فلن يكونَ عسيراً عليّ الاستعانة ببصيص حَجَرَة الاشتعال، الخاصّة به ". وهكذا كان. فما لبثا أن توادعا بتلك المسحَة من المَرَح، المُغطيَة على القلق والهواجس: لم يكن من شيمَة ميخائيل الخشية من الجنّ وهوَ في عمق مملكتهم ـ كذا! وبالمقابل، تذكّرَ كم كان صديقه العطّار مَذعوراً من فكرة الالتقاء بأحدهم، في المرة الثانية؛ هوَ من كانَ وقتئذٍ أعزلَ من خاتم النجاة، المُرَقش على وجهه اسمُ " مولانا ".

أختارَ ميخائيل الممرّ ذاك، الكائن على جهة يمين المَفرق. وبيُمْن نيّته الصافيَة، سِارَ مُستعيناً بنور القدّاحة في تسهيل طريقه. إنّ الممرّ الفرعيّ هذا، شأنَ أصله الرئيس، كانَ ذا أرضيّة مُتربَة، فيما كانَ سقفه مَشغولاً بمُجزعات الحَوْر، المَنحوتة. وكانت تفوحُ من المَكان رائحة ُ الرطوبَة والعَفن، المُثيرة للتقزز. ولم يكن من النادر، أن يَصدِفَ مرورُ جرذٍ مُتطفل، كيما يُضافر من كربَة النفس وأمارَة جزَعِها. حتى إذا انتهى الممر، أخيراً، إلى جدار مَسدودٍ، فإن ميخائيل أيقن بأنّ ثمة فتحة ما، أو مَنفذ، يُفضي إلى الخارج. أخذ بتحسّس سطحَ الجدار بأنامله، إلى أن عثرَ على تجويفٍ فيه، طولانيّ، هداه إلى تجويفٍ آخر، سفليّ: وكانَ ذلكَ هوَ بابُ المَخرج، حيث دلّته أنامله إلى أنه مصنوعٌ من الخشب الغليظ، المُدعّم بصفائح عريضة من الفولاذ. من هذه المادّة المعدنية، الصُلبة، صُنِعَ أيضاً الساقط والدقارة. فما هيَ إلا هنيهةٍ قصيرة من المُعالجَة، وكانَ البابُ طوعَ يَمينه . نورٌ باهِرٌ، هوَ ما أعشى عينيه أولاً، قبلَ أن يَتسنى لهما مُعايَنة ما يُحيطهما من مناظر.

" إنه نهرُ القنوات، ما في ذلك من رَيْب "، هتفَ داخله المُفرَخ الرَوع بسرور وبهجة. كانَ المكانُ يليقُ بسرّ الممرّ، فعلاً. إذ طوِّقَ مَخرجُ النفق بأجمَة كثيفةٍ من شجيراتٍ دغليّة، خشِنة الملامِس، مما يَجعلها غيرَ مَرغوبَة بالاجتياز من لدن الأشخاص الفضوليين، المُحتمل مرورهم بهذه البقعة الموحِشة والنائيَة. فضلاً عن كون باب المخرج مَخفياً بعناية بوساطة طفيلياتٍ أخرى، نباتيّة ؛ من طحالب وأشنات وفطرياتٍ، ناميَة على سطحه الخشبيّ، العتيق القِدَم. كذلك، فإنّ الباب بنفسه كانَ واطئاً للغايَة، بسبب تناهي عدّة درجات إليه من الداخل. وإذاً، في هذا الفجّ من الخضرة اليانعة، المُونقة بثمار الأشجار المُختلفة والضاجّ بطنين النحل والزنابير، راحَ ميخائيل يجرجرُ قدميه هنا وهناك، فيما بصره على الوتيرة نفسها من الحركة. ولكن ، عمّ كنتُ يبحثُ ثمة ، حقيقةً؟ في واقع الحال، فإنه لم يكن يعرفُ جواباً آنئذٍ. وربما لا يعرفه الآنَ أيضاً، بعد ذلك العمر المديد، الذي مضى؛ وحينما يخط كلمات كناشه هذه على أوراقٍ مَنذورةٍ، مثل العمر سواءً بسواء، للضياع والعَدَم.

بيْدَ أنّ بَحثه، المُطوّل نوعاً ما، لم يَذهبَ سُدىً في آخر المطاف. فما أن همّ بترك المكان، يائساً من جدوى المكوث فيه، حتى جُذِبَ بَصره نحوَ شجيرَة تين، غضّة الأغصان والأوراق، كانت مُهيمنة بظلالها وبعُرْفها، الحرّيف، على مدخل باب النفق: فعلى جذع الشجيرة، الصقيل المَلمَس، كانَ ثمّة نقشٌ مَنحوت بعناية بوساطة آلة حادّة على الأرجح . وبدا لعينيه، من الوهلة الأولى، أنّ ذلك كانَ يُمثل شكلَ الخنجر. فحينما دققَ في النقش عن قرب، إذا بي يهتفُ في نفسه مُروَّعاً: " إنه صورة عن الذكر الخشبيّ، المُصنَّع، الذي كانت تتسلى به ياسمينة؛ بحَسَب رواية صديقي العطّار ". فما أنْ نطقَ داخله ذاك الكلام ، إلا وأجفل ثانية. إذ خيّل إليّ أنّ ثمّة حركة ً ما، مُريبة، تصْدُرُ من مكان قريب.

" الشكرُ لله، لأنّ هذا المَمرّ، الذي اخترتهُ أنتَ، لم يكن طويلاً مثل شقيقه ذاكَ "، خاطبه بحري بك بصوتٍ خفيض حالما أطلّ من باب النفق. قدّرَ ميخائيل، ودونما حاجةٍ لسؤال، أنّ رفيقه فقدَ صبرَهُ في المَمرّ الآخر، وكانَ أن فضلَ الرجوعَ، القهقرى، لكي يتلاقيا هنا. ما أن تأمله البك عن كثب ، حتى قدّرَ أنّ تسمّره هناك، الواجم، له داعٍ مُستطير. فما عتمَ أن تقدّمَ منه على الفور، مُستفهماً عن جليّة المسألة: " لا بدّ أنّ لقية ً ثمينة، مَطلوبة، جعلتكَ في هذه الحال من الخبَل "، قالها بشيء من المَرَح.

وكان ميخائيل أكثر سروراً بلقائه ثمة، أمامَ باب المخرج. فأجابه بما يُشبه لهجتِهِ: " اُنظرْ يا عزيزي، هنا ". ثمّ أضافَ ميخائيل، شارحاً مَغزى النقش: " لقد سبقَ لي، كما تذكر ربما، أن قصصتُ على مَسمَعكَ حكاية الذكر، المُصنع؛ الذي جلبَ فكرته من بلاده، مَملوكُ الزعيم، القبرصيّ. وها هوَ ذا، الآنَ، مَنقوشٌ كصورةٍ على جذع هذه التينة. لِتشغِلنّ دماغكَ الكبير، إذاً ، كيما توافيني برأيكَ في لغز ما تراهُ عينكَ! "

" إنكَ مُصيبٌ بتوصيفكَ لهذا النقش؛ بأنه لغزٌ "، قالَ له البك ساهِماً بفكره بعيداً. ثمّ ما لبَثَ أن أخلدَ للصمت، فيما كانت حجرتا عينيْه، الرماديتيْن، تتنقلان بخفة خلل شكل النقش. ثمّ إذا به يقولُ بهدوء، وهوَ يُحرّك يدَهُ هذه المرّة فوقَ جبينه: " إذا كانَ من عَمَدَ إلى نحتِ هذه الصورة هوَ صاحبُنا، المُتورّط بذبح الوصيف، فمن المُمكن أن يكونَ قد تخلّص من أداة القتل برميها في مكان ما، هنا "

" رائع ، يا بك! إنها فكرة رائعة، حقاً "، هتف ميخائيل لرفيقه مُباركاً له نباهته وفطنته. على ذلك، ودونما أن يضيّعا وقتاً في المُناقشة، قاما للتوّ في السعي خلفَ تلك الأداة، الموسومة. كانَ من الطبيعي، ولا غرو، أن يُستهلّ البحث بتمحيص المكان الظليل، المُشكّل من أفياء شجيرة التين، المباركة، ذات المَشام المُميّز، الطاغي. وحينما شدّد ميخائيل على بركة التينة، فليسَ لأنها مَنحته ذاكَ النقش حَسْب، بل وأيضاً الخنجر ذاته، المُستعمل في نحتِهِ. نعم. كانَ ذلك خنجراً، في آخر الأمر ـ كما حَدَسَ قبلاً ، دائماً وباصرار.

أمّا المفاجأة، الحَقة، فكانت تنتظرهما كلاهما، حينما مُسِحَ أثرُ الطين الجاف من على تلك الأداة القاتلة. إذاك، طالعهما نقشٌ على صفحةِ قبضة الخنجر، العاجيّة، مكتوبٌ بأحرف عربيّة واضحة: " الزعيم ".








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. #كريم_عبدالعزيز فظيع في التمثيل.. #دينا_الشربيني: نفسي أمثل


.. بعد فوز فيلمها بمهرجان مالمو المخرجة شيرين مجدي دياب صعوبة ع




.. كلمة أخيرة - لقاء خاص مع الفنانة دينا الشربيني وحوار عن مشو


.. كلمة أخيرة - كواليس مشهد رقص دينا الشربيني في مسلسل كامل الع




.. دينا الشربيني: السينما دلوقتي مش بتكتب للنساء.. بيكون عندنا