الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


شخصية العصر قانونية أم سياسية و إنسانية؟

خالد فارس
(Khalid Fares)

2023 / 9 / 22
مواضيع وابحاث سياسية


تشير المادة السادسة من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان " لكلِّ إنسان، في كلِّ مكان، الحقُّ بأن يُعترَف له بالشخصية القانونية."

و المادة الثانية من الإعلان تقول "لكلِّ إنسان حقُّ التمتُّع بجميع الحقوق والحرِّيات المذكورة في هذا الإعلان، دونما تمييز من أيِّ نوع، ولا سيما التمييز بسبب العنصر، أو اللون، أو الجنس، أو اللغة، أو الدِّين، أو الرأي سياسيًّا وغير سياسي، أو الأصل الوطني أو الاجتماعي، أو الثروة، أو المولد، أو أيِّ وضع آخر. وفضلاً عن ذلك لا يجوز التمييزُ علي أساس الوضع السياسي أو القانوني أو الدولي للبلد أو الإقليم الذي ينتمي إليه الشخص، سواء أكان مستقلاًّ أو موضوعًا تحت الوصاية أو غير متمتِّع بالحكم الذاتي أم خاضعًا لأيِّ قيد آخر على سيادته"

للإنسان شخصية قانونية, ليس له شخصية سياسية, بموجب الإعلان العالمي لحقوق الإنسان. هل هناك فرق؟

تَحْضُرْ الدولة الوطنية-القومية الحديثة, بالمفهوم الليبرالي الحديث, لكي تضع الشخصية القانونية كأساس لها, يتبع لها الموقف السياسي كونه تَمَوْضُع سياسي في موقف أو رأي, كأي قضية رأي أخرى. ثم يتم إيكال السياسي الى المؤسسات الرسمية التي تحل محل الشخصية السياسية, وتعبر عن غيابها, من خلال إصدار قرارات سياسية وتشريعات, بحيث لا تتناقض مع الشخصية القانونية.

الشخصية القانونية في دولة الكيان الصهيوني-فلسطين المحتلة عام 1948, هي الإسرائيلي. وهذه الشخصية لها أصل وفرع. الأصل هو الإسرائيلي اليهودي والفرع هو الإسرائيلي الفلسطيني. الأصل يأتي من تعريف الأم اليهودية, الذي منه تَحْضُر هوية قومية دينية للدولة كمفهوم أنثروبولوجي ممتد عبر الديني. والفرع هو تابع وإشتقاق, وبالأحرى طارئ على الأصل.

هناك إشكال يتعلق بالسياسي المرتبط بالفلسطيني وآخر مرتبط بالعلاقة بين الثابت والمتحول في الإسرائيلي اليهودي. ويطرح هذان الإشكالان سؤال الشخصية الإسرائيلية.

الإشكال الأول:

الدولة الإسرائيلية تمثل السياسي للإسرائيلي اليهودي على أساس أنه هُوية وطنية قومية, أما السياسي للإسرائيلي الفلسطيني فهو بلا وطنية أو قومية, مجرد حقوق مدنية من خلال الجنسية الإسرائيلية. في المُجْمَلْ, وعلى الرغم من أن الإسرائيلي اليهودي ينتمي الى دولة قومية, تعبر أو تجسد له هُويه قومية وطنية, يلتقي مع الإسرائيلي الفلسطيني في عدم ممارسته السياسي, لأن السياسي ليس شخصية معترف بها, أو أن شخصيته السياسية عبارة عن رأي شخصي أو حرية تعبير عن موقف. بلغة أخرى لا أحد يستطيع أن يحدد شخصيته الوطنية والقومية بما يتناقض مع الشخصية القانونية الإسرائيلية, على سبيل المثال, لا يستطيع الشيوعي الإسرائيلي "اليهودي" أن يَحْصُلْ على إعتراف بأن له شخصية سياسية, أممية أو شخصية سياسية قومية أو وطنية عربية كونه عربي مصري أو سوري أو عراقي أو مغربي الخ, لأن ذلك يتناقض مع الشخصية القانونية التي لها أسبقية على السياسي. وبالتالي, لا يمكن ولادة شخصية سياسية تطالب بحقوق سياسية قومية أو وطنية غير هُوِية الدولة اليهودية. وكذلك "الإسرائيلي الفلسطيني" فهو لا يستطيع أن تكون له شخصية سياسية فلسطينية, لأن ذلك يتناقض مع الشخصية القانونية, التي تفرضها قوانين الدولة الصهيونية.
السياسي, مجرد رأي أو تموضع في رأي ما, كما يشير الإعلان العالمي لحقوق الإنسان. ولو كان هناك شخصية قانونية أممية أو عالمية, بمفهوم مواطن عالمي, سوف يدخل السياسي الى مسرح التاريخ بُقُوّة.

هناك ملاحظة مهمة بخصوص المشروع الصهيوني, ومحاولات مقاربته مع نظام الفصل العنصري في جنوب افريقيا. الفرق التاريخي أن الفصل العنصري في افريقيا لم يُنْكِرْ أن هذا المجتمع وهذه الدولة هي دولة جنوب أفريقيا, ولم يستعيد رواية أنثروبولوجية ممتدة عبر الديني لكي يقول "أرض بلا شعب وشعب بلا أرض" وان هذه الأرض لهم وليست للأفارقة. إنما يأتي الفصل العنصري في سياق مرحلة تاريخية جَسَّدَتْ الإمبريالية الأوروبية تجاه شعوب العالم قاطبة ومنهم أصحاب البشرة السوداء. الا أن أوروبا تراجعت سواء بعد هزيمتها أو بسبب تطورات داخلية. ثم أدانت لا حقاً الموقف العنصري. أما المشروع الصهيوني مُخْتَلِف. فهو يُنْكِرْ فلسطين وشعبها وتاريخها, وهذا النوع, ليس فصل عنصري, ربما يصلح أن نسميه إبادة عنصرية وتطهير عرقي لأنه ينكر أصلا أية حقوق وجودية أو سياسية للفلسطيني, وينكر أصلاً وجود الشعب الفلسطيني على أرضه. نظام صهيوني يتجاوز الفصل العنصري الذي توالد في سياقات الإمبريالية الأوروبية. ولو كان المشروع الصهيوني عبارة عن السيطرة على فلسطين, وإخضاع شعبها لنظام سياسي لأنهم فلسطينيون, دون إنكار أنها فلسطين, ذك الوقت يمكن أن نقول عنه فصل عنصري.

الإشكال الثاني, يتعلق بالثابت والمُتَحَوّلْ في الشَخْصِيَّة الإسرائيلية:

بخصوص الشخصية الإسرائيلية, فيها عنصر ثابت وهو عنصر الدين اليهودي المتمثل بالطقوس والعادات والممارسات اليهودية الذي تَحْمِلُهُ العائلة اليهودية, أما العنصر المتغير فهو التشريعات والقوانين المدنية الذي يعبر عنه البرلمان ويعبر عنه أيضا الإسرائيلي اليهودي, و الفلسطيني حامل الجنسية. العلاقة بين الثابت والمتحول علاقة تناقض قابلة للتصعيد على مراحل. لأن العَلْمانية الليبرالية الإسرائيلية تريد أن تُحافِظ على الثابت وترتقي فيه, وهذا بدوره سوف يعزز التقاليد والطقوس اليهودية, بما يعني تعزيز بُنْيَةْ العائلة الممتدة ودورها المركزي في المجتمع. حيث أن العائلة اليهودية هي الحاضن والراعي لهذه الممارسات والذي يرتقي بهذه الطقوس والعادات والتقاليد. من مآلات ذلك, تعزيز بُنْيَةْ المجموعات الدينية في إطار العائلات, أو بُنْيَة مُرَكَّبَة دينية عائلية. تُؤْمن مكنوات هذه البُنْيَة بضرورة سيطرتها على الدولة, أي على السياسي. في ذات الوقت, تريد الدولة التي تعبر عن السياسي, التغيير, من خلال قوانين مدنية أو حلول سياسية (إتفاقات سياسية). الى أي مدى يستطيع المتغير أن يذهب؟
كلما تفارق أو تضاد السياسي الذي من الدولة مع الثابت في بنية العائلة-الدين, بَدى كأن الدولة أو المتغير هو الذي سيسيطر على بُنْيَة العائلة-الدين. لذلك ردات فعل, تتمظهر في شكل صراعات, تتجلى في ملامح حرب أهلية, وإنقسامات حادة. صراع سيطرة على السياسي بين الدولة وبُنْيَة العائلة-الدين (بطريركية العائلة-الدين)

مثال, يَحْضُرْ إغتيال رئيس وزراء "إسرائيل" إسحاق رابين في 4 نوفمبر 1995، بعد أن وَقَّعَ إعلان مبادئ أوسولو في 13 سبتمبر 1993، للتعبير عن هذا التضاد والتناقض. حيث رَفَضَ المُكون الثابِت بأن يمضي قدماً, المُكون المُتغير (الدولة والسياسي). فتدخل اليمين الديني لوأد هذا التحرك السياسي, لأن لا يريد تَغْيير سياسي يُفْقِدُه السَّيْطَرة على الدولة التي يحلم بها. حيث أقدم اليميني المتطرف يجال عامير وهو أحد المستوطنين الإسرائيليين، الذي يتبع أحد الأحزاب الدينية المتشددة، لمنع التغيير الذي عبر عنه إتفاق المبادئ لإقامة الدولة الفلسطينية. يَعْتَبِرْ يجال عامير, أن هذا الاتفاق ضد التوراة، بلغة أخرى ضد الثابت اليهودي. حيث يؤمن هؤلاء أن التوارة تقول أن هذه الدولة أرض كنعان هي ملك اليهود, بذا يكون قتل عامير إسحق رابين, لمخالفته التوراة (الثابت).

ستبقى الشخصية الإسرائيلية في تناقضات من هذا النوع, تتفاعل بين فترة وأخرى, وتُراكِمْ تناقضات حتى تتغير الشخصية الإسرائيلية وتنتقل الى مرحلة تاريخية جديدة بعد أن يتم إنتزاع أحشاء مكونها الثابت و-أو المتغير, أحدهما أو كلاهما, بسبب شدة التوترات والتناقضات الداخلية.
تَحَدَّثَ الفيلسوف الألماني هيجل عن تَغَيُّرْ في الشخصية التاريخية, عندما حدث الإنتقال من المواطنة اليونانية الى الإمبراطورية الرومانية. من شخصية المدينة في اليونان القديمة الى شخصية تخضع للقوانين التشريعية التي تُقَرُّرها هيئات الإمبراطورية الرومانية. من مُواطن أثيني ( مواطنة على أساس الحُرية والمساواة, ولكنها لا تشمل العبيد ولا النساء), الى نظام حكم إداري بيروقراطي روماني. لم يكن سبب هذا الإنتقال غزو الرومان الى اليونان أو إنتصار عسكري, بل هو نتيجة تناقضات داخل المدينة اليونانية, تَوَتّرْ حاد يُؤدي الى إنتزاع مضامين المُواطَنة و يَستجيب له القانون الروماني الحديث في تلك الفترة.

ظاهرة طبيعية يجادل فيها هيجل على أنها توتر حاد بين منظومة الدين والعادات والطقوس التي تسيطر عليها العائلة اليونانية, والتشريعات القانونية التي تمر عبر الديمقراطية اليونانية. تسعى العائلة اليونانية الى المُحافظة على تقاليد وممارسات بعينها وعلى طقوس دينية, في مواجهة التشريعات التي تتوالد من البرلمان الأثيني. لجأ هيجل الى تراجيديا إغريقية كتبها سوفوكليس, عنوانها أنتيجوني (إسم أنتيجوني يعود الى أنثى, وتعني أن تموت بدون أطفال), التي كما يقول هيجل, تعبر عن إدراك اليونان التوتر والتناقضات التي يمرون بها. نوجز الموضوع ملخص, كما جاء في مقدمة كتاب (1) فينومولوجيا الروح.

شخصية أنتيجوني, التي تدافع عن الثابت: الدين والطقوس و التقاليد, تتحدى الملك كريون الذي يمثل المتغير: المدينة والقانون العام, الذي سن قانونا مغايرا يمنع دفن الموتى ويهدد كل من يتحدى قانونه ذاك بالموت. تقول الأسطورة " تُواجه أنتيجوني، ابنة أوديب، حقيقة أنها باعتبارها يونانية، لديها مطلب أخلاقي لا يخضع لشروط أو قيود لأداء طُقوسْ دَفْن مُعينة على أخيها، الذي مات في معركة مع أخ آخر حول من له الحق المطالبة بحكم المملكة. و لديها أيضًا مطلب أخلاقي من عمها-كريون غير مشروط، باعتبارها يونانية وكامرأة شابة، بإطاعة الأوامر الصادرة من عمها كريون - الذي استولى على المدينة بعد وفاة الأخوين - بعدم أداء تلك الطقوس. ومع ذلك، انطلاقًا من رغبتها في المَجْد، والتي يبدو أيضًا أنها فُرضت عليها والتي كان من المفترض أن تكون خارج المجال الأنثوي، دفنت شقيقها وتقبلت مصيرها وعقابها."

هناك أسئلة كبيرة, تحضر في تراجيديا مسرحية أنتيجوني, مازالت ماثلة أمامنا منذ تاريخ هذه الأسطورة, حول الحدود الفاصلة بين الحاكم السياسي والشعب وأين تبدأ أو تنتهي حقوق كل منهما؟ والسؤال يتعلق بشأن أنتيجوني التي تمثل الشعب (في ذلك الوقت) في شِقْ العائلة اليونانية, التي أقرت القوانين الدينية وطقوس دفن الموتى (الثابت), وشأن كريون الملك الذي تتحداه أنتيجوني, عندما سَنَّ قانوناً (السياسي المتغير) مغايراً يمنع دفن الموتى, ويهدد كل من يتحداه بالموت. فقالت له أنتيجوني "حكمك علي بالموت لا يهم." ولاقَتْ حتفها.

قانون بشري وآخر إلهي في المدينة اليونانية. القانون البشري يتعلق بالمجال العام, وضعه مواطنون أحرار مع الحكام, بموجب تشريعات من مجلس مُختص, وهذا القانون قابل للتغيير. من ناحية أخرى, هناك القانون الإلهي الذي يتجسد في الأُسْرة وطقوس الدفن, وهو شيء غير قابل للتغيير. وحيث أن القانون البشري والإلهي جزء من المدينة اليونانية, يعتقد هيجل أن كلاهما على خطأ, كريون و أنتيجوني. التضاد من داخل النظام الأخلاقي اليوناني, كشف حركة متضادة بين قِوى المجتمع, فظهر التناقض على نحو أن كريون يعتبر أن المدينة تتفوق على الأسرة, أما أنتجوني تؤمن في تفوق الأسرة. بالنسبة الى هيجل تمثل المسرحية لحظات غير منقطعة من الوعي الذاتي المتراكم بالمتناقضات.

لعلنا نذهب الى الرسالة الإسلامية, لكي نقرأ من خلالها ولادة شخصية إسلامية, تُعَبّرْ عن تَجاوُزْ وتَخَطّي الشَّخْصِية العربية المُنصاعَة الى القبيلة-العشيرة (نمط العائلة في ذلك الوقت). عَرّفَ الإسلام الشخصية بالقول "لا فضلَ لعربيٍّ على عجميٍّ ، ولا لعجميٍّ على عربيٍّ ، ولا لأبيضَ على أسودَ ، ولا لأسودَ على أبيضَ - : إلَّا بالتَّقوَى ، النَّاسُ من آدمَ ، وآدمُ من ترابٍ" وهذا الحديث تجسيد لتحطيم القيود التي فرضتها القبيلة, التي وضعت نظام تقسيم إجتماعي ثابت, ووضعت له نظام سيطرة مكون من ممارسات و مفاهيم وطقوس إتخذت طابع الآلهة, جعلتها دينية-مُقدسة, ثابتة, ضد التغيير. راكمت القبيلة تقاليد آلت الى خضوع الكل الاجتماعي تحت سطوة وسيطرة "أسياد قبائل, أو أسياد في العموم". فشلت القبيلة العربية بواسطة هذا النظام من التحرر من سيطرة الإمبراطوريات (الرومانية والفارسية), التي كانت قد طَوَّرَت شخصية أكثر تَقَدُّماً وحداثة في وقتها, من الشخصية العربية, ما قبل الإسلامية.

أكد الإسلام على المساواة, منذ لحظة ولادة الشخصية الإسلامية, جاء ذلك في قول النبي ﷺ " المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يُسْلمه، ومن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، ومن فرج عن مسلم كربة فرج الله عنه كربة من كربات يوم القيامة، ومن ستر مسلما ستره الله يوم القيامة." علاقة المساواة هذه تمثل حالة تقدمية في التاريخ, وقتها, وتقدم الى الأمام لكي يتجاوز تناقضات القبيلة. أي إنسان, بغض النظر عن أَصْلَهُ وفَصْلَهُ ولَوْنِهِ وعِرْقِهِ وواقِعِهِ الاجتماعي, عندما تكتسب-يكتسب هذه الشخصية, ستكون أخاً (علاقات أُخُوَّة) للشخصية التي هي أيضاً مُسْلِمَة, لماذا؟ لأنها ذات الشخصية, مُسلمة, بمعنى أن كلاهما يعبران عن ذات الشيء, فهي نمط في تعريف الهُوية, على أساس العلاقة الدينية المتماثلة. الهُوية الإسلامية التي نشأت مع الدعوة إرتبطت بشخصية المسلم. بعد وفاة الرسول ﷺ, تمايزت تعريفات الشخصية الإسلامية, وأين هي؟

الشَخْصية الإسلامية ليست قَبَلِيّة أو إثْنِية أو عِرْقية, بل إسلامية. وهذا أعطاها تَمَوْضُعْ كَوْني, أي أن تعريفها يَحْمِلْ رمزيات التوسع :الفتوحات" لكي تجسد نفسها في التاريخ الحديث. دارت صراعات عديدة حول مفهوم الشخصية الإسلامية, بحث الصحابة عن نموذج مستدام بعد وفاة الرسول ﷺ. حيث أن وفاته تركت فراغاً, لأنه كان يمثل-يجسد الدين الذي كانت تحتكره القبائل من خلال مفهوم خاص بها بالآلهة والطقوس والمرأة والعبيد وتوزيع الإرث, ويمثل الدنيا من خلال التشريع الدنيوي الذي يُنَظّمْ شؤون الحياة وتسيير أمور الدنيا. من سيمثل الدين والدنيا. ما هو دور القبيلة بعد وفاة الرسول ﷺ؟ هل ستعود القبيلة لكي تمسك بزمام الدين, أم الدُنْيا, أم كلاهما؟

تَوَصَّلَ الإمام علي بن أبي طالب (هذا مجرد مثال) الى رُؤْيَة جديدة عندما قَرَّرَ الهِجْرَة الى العراق " لم يكن الصحابة - رضي الله عنهم - في المدينة يؤيدون خروج أمير المؤمنين على بن أبى طالب من المدينة، فقد تبين ذلك حينما همّ علىّ بالنهوض إلى الشام،, فقد كان يرى أن المدينة لم تعدُ تمتلك المقومات التي تملكها بعض الأمصار في تلك المرحلة فقال: ـ "إن الرجال والأموال بالعراق." (2)

الفكرة التي نقرأها من ذلك, أن الإمام عَلي, حَمَلَ مشروع تَعْيين الشخصية الإسلامية, خارج المدينة, وتعبير "الرجال" بلغة العصر, يشير الى قوى الإنتاج, أو قُوة إجتماعية تضمن مَنْع عودة الدين الى حضن القبيلة (وفاءاً لرسالة الإسلام بأن يتحرر من هيمنة القبيلة) في المدينة أو مكة. إضافة الى أن العراق له تاريخ طويل في الإنتاج و التجارة و علوم الزراعة و المياه, فالعراق يملك عُدةًّ وعَديداً لا تملكها المدينة.

بخصوص المال, كان يدرك الإمام عَلي, أن رأس المال ضروري لبناء هذه الشخصية في جغرافيا الإقليم والعالم. ويرى كاتب هذا المقال أن الصراع على تعيين الشخصية الإسلامية (ماهي التقوى الإسلامية, التي تُجَسّدْ الشخصية؟) اصبح محور صراع إسلامي إسلامي, تَشَّكَلَ في التاريخ وتمدد عبر الانثروبولوجي الديني العربي الإسلامي. وضع الإمام عَلي الشخصية الإسلامية في مجالها الأوسع الإقليمي, الذي فيه قوة دُنْيَوِيَّة لم تكن موجودة في مكة والمدينة. بذا, يكون الإمام قد اثار قضية تاريخية, وهي دور القوى الدُنْيَوية في بناء الشخصية الإسلامية, وهذا من شأنه أن حَطَّ من شأن القبيلة في أن تكون هي الوارث للشخصية الإسلامية, مما أثار صراعات كبيرة لاحقاً.

القبيلة, تُحَدّد وتُحاصِر الشخصية الإسلامية في تقاليد وطقوس لا مساواة فيها بسبب تقاليد تعيق التقدم والتطور, وتتسبب في سيطرة الخارج عليها, فتصبح خاضعة -تبعية له. خارج بُنْيَةْ القبيلة, المُنْطَلَق, تقاليد وممارسات عريقة من واقع التقدم الحضاري للمجتمعات, وتراكم يَنْبُعْ من معرفة دُنْيَوِيَّة في الحضارات وسيرورة إنتاجها للحياة, المُتَمَثّلْ في قُدراتِها في الصناعة والتجارة والزراعة.

في العصر الحديث, يُطْلِعُنا ماركس على أن الثورات تتطلب شخصية سياسية وإنسانية, كونية-أممية. شخصية طبقية سياسية "غير ان كل نضال طبقي هو نضال سياسي"-البيان الشيوعي. معنى الشخصية السياسية الطبقية, أن تقود التغيير, وأن تتجاوز التقاليد والطقوس التي تسيطر عليها بُنية العائلة والعشيرة والطائفة, والتي تحميها أو تتحصن فيها الدولة (الإسرائيلية على سبيل المثال). فَالتَّقَدم في التاريخ له مُتطَلبات منها تنظيم قِوى الإجتماع على أساس سياسي, في علاقات تنموية وإنتاجية. بلغة أخرى, أن يُنْظَرْ الى العالم كونه عالم قائم بناءاً على علاقات إنتاج بين عناصره, عِلاقاتْ تُحْدِثْ تَقَّدُم وتَطَوّر وتَنْمِية في الإجتماع الإنساني, بدون إستغلال أو إستلاب.

البُنْيَة البطرياركية في شكل العائلة-الدينية, في شكل قبائل أو عائلات مًمْتَدّة, التي تتبنى أشكالاً من العُبودية القديمة أو الحديثة, أو التفريق بين أحرار وغير أحرار, أو تمييز جنسي مع المرأة, أو ديني, أو علاقات النسب والسلالة, تقف عائقاً أمام تقدم المجتمع و عملية التغيير السياسي, لأسباب منها أنها تتحول الى مُقَدّس في شكل عادات وتقاليد وطقوس, لكي تُواجه التغيير السياسي. لأنها بُنى قد فقدت قدراتها في التقدم والحداثة. يقول إنجلز في كتاب أصل العائلة والملكية الخاصة والدولة, عن تكوين الدولة لدى الجرمان "كانت العبودية مستحيلة من الناحية الاقتصادية, وكان عمل الأحرار مُستهجناً من الناحية الأخلاقية. لم يعد في وسع الأول أن يظل أساس الإنتاج الاجتماعي, وكان الأخير لا يزال غير قادر على أن يكون أساساً لهذا الإنتاج, لم يكن ينفع في هذا الحال سوى ثورة كاملة." (دار الفارابي ص 249). كانت عبودية "مشرفة على الموت....ولم تعد تدر أرباحاً", يقول إنجلز بخصوص ما واجهه العالم-الإمبراطورية الرومانية في ذلك الوقت.

لكي تُنْزَعَ أَحْشاءْ البُنى القَديمة البالية (ليس كلها بالية), نقيض التقدم, وغير مٌنْتِج لحياة أفضل, فإن الشخصية السياسية يجب أن تعمل على تشكيل مركز جاذبية وثقل يُعَبّر عن الغالبية العظمى, سياسياًّ. وأن يجد الناس في التفكير السياسي (نموذج الشخصية السياسية), والأسئلة السياسية أُفُق تَقَدّمْ وتغيير حقيقي. أن يتم بَلْورة السؤال السياسي الذي يَنْفَذْ الى أعماق المجتمع, ويتجسد في ممارسات عينية حقيقية تجعل منه قوة صلبة قائمة بذاتها, وتفرض سياقاتها على البُنى البالية. ولا يعني ذلك أن كل مكونات المجتمع القديمة أو السابقة, بالِية, بل هناك عناصر تقدمية فيها يجب التواصل معها من أجل أدوار فعالة لها من خلال مراكز القِوى التي تمثلها.

سؤال الطبقة, سياسي ديناميكي, يتحرى سياقات الواقع والمراحل التي يمر فيها, ولا يخوض في مغامرات سياسية تؤدي الى تفتيت طَبَقِةْ الغالبية العظمى. الشخصية الطبقية هي التي تحمل السياسي من أجل الغالبية العظمى, وهي فلسفة العام الاجتماعي في التاريخ, ليست قانونية بل تُجّيّرْ وتوظف القانوني المتاح من أجل التغيير السياسي.

يتبع....
سبق هذا المقال https://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=805437

المراجع:
(1) هيجل، جورج فيلهلم فريدريش. جورج فيلهلم فريدريش هيجل: ظواهر الروح (ترجمات كامبريدج هيجل) (ص. الثلاثون). صحافة جامعة كامبرج. اصدار حصري
(2) https://ketabonline.com/ar/books/106411/read?part=1&page=353&index=778757. Accessed 20/9/2023








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. اجتهاد الألمان في العمل.. حقيقة أم صورة نمطية؟ | يوروماكس


.. كاميرا CNN داخل قاعات مخبّأة منذ فترة طويلة في -القصر الكبير




.. ما معنى الانتقال الطاقي العادل وكيف تختلف فرص الدول العربية


.. إسرائيل .. استمرار سياسة الاغتيالات في لبنان




.. تفاؤل أميركي بـ-زخم جديد- في مفاوضات غزة.. و-حماس- تدرس رد ت