الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الهَمَج الجُدُد

ميشال فارشافسكي

2006 / 11 / 11
القضية الفلسطينية


بوسعنا القول، مستعيرين عبارة المناضلة الاشتراكية الثورية الألمانية روزا لوكسمبورغ، إن القرن 21 سيكون " إما إرساء القانون أو شريعة الغاب". يبدو أن العقد الأول عقد شريعة الغاب.



لا يظل التاريخ، على الصعيد الأخلاقي، جامدا أبدا: إذا لم يتحرك نحو اضطهاد أقل وعدالة أكثر، فإنه يتحرك نحو حقوق أقل و مزيد من الهمجيات. يمكننا القول، مستعيرين عبارة المناضلة الاشتراكية الثورية الألمانية روزا لوكسمبورغ، التي تنبأت بالنازية قبل 20 سنة من قدومها، "إما الاشتراكية أو الهمجية "، إن القرن 21 سيكون " إما إرساء القانون أو شريعة الغاب". لكن يبدو أن شريعة الغاب هي التي ستسود بالعقد الأول من هذه الألفية الثالثة.

اعترض الصحافي والمحلل الإسرائيلي توم سيغيف قبل شهر في صحيفة هآريتس على الفكرة الرائجة التي مفادها أن السياق السياسي الإجمالي هو أسوأ ما شهدنا في العشرين سنة الأخيرة. يرى سيغيف أن الحرب والاضطهاد والدمار أمور طبعت الواقع السياسي لكوكبنا خلال العقود الخمس الأخيرة، وان ما من تغير حدث في ماض قريب، نوعيا كان ولا حتى كميا. و يذهب سيغيف أبعد من ذلك مدعيا أن "صدام الحضارات" ليس ظاهرة جديدة بل طبع العقود الفائتة بأشكال مختلفة.
لا ريب أن العقود الأربع التي تلت الحرب العالمية الثانية لم تكن سلمية، فخلال تلك الحقبة مات أكثر من 76 مليون إنسان في حروب وثورات وحملات قمع كثيفة شنتها أنظمة ديكتاتورية(*). والحق أيضا أن "الشمال" خاض حربا استعمارية في سنوات 50 و60 و70 ضد " الجنوب"، و أن " الغرب شن "حربا حضارية" ضد الكتلة الشيوعية بالشرق.
بيد أن ثمة فرق نوعي بين الوضع الراهن و الأربعين سنة التي تلت دحر الفاشية. كانت ثلاث عوامل رئيسة قد كبحت تطلعات الولايات المتحدة الأمريكية إلى السيطرة بعد الحرب العالمية الثانية:
وجود قوة عظمى سوفييتية
قوة طبقة عاملة منظمة بالبلدان الامبريالية.
آثار ذكرى فظائع الفاشية على الرأي العام العالمي، والنظر إلى النزعة أحادية الجانب والعدوان، الخ كأمور غير شرعية. وبفعل هذه العوامل، كانت القوى العظمى مجبرة على المناورة تحت وطأة معارضة سياسية كبيرة (حركات معادية للاستعمار، معارضات ديمقراطية جماهيرية)، واضطرت على الدوام إلى اختلاق ذرائع لإضفاء مشروعية على حروبها وأعمالها القمعية في العالم.
لكن بعد 50 سنة من دحر الفاشية، لم تعد هذه الاكراهات مفروضة على القوى العظمى الامبريالية، لا سيما الولايات المتحدة الأمريكية. و أصبحت النزعة أحادية الجانب، والحروب "الاستباقية" والمغامرات الاستعمارية، الخ مشروعة من جديد، أو بوجه الدقة لم تعد موضوع طعن على نحو يضايق الفاعلين جديا. ففي غياب معارضة قوية تمكنت قيادة محافظي الإمبراطورية الجدد من التزود بـ"خطاب إجمالي" جديد جذب إليه، جزئيا بالأقل، عقول عدد كبير من ضحايا الإمبراطورية أنفسهم.
وتتمثل العناصر الرئيسة الأربعة لهذا الخطاب في :
انهيار الاتحاد السوفيتي هو الدليل المطلق على أن الرأسمالية هي النظام الوحيد القابل للحياة.
الحضارة( الغربية) مهددة بعدو عالمي جديد: الإرهاب
لا غنى عن حرب استباقية دائمة لحماية الحضارة من الهمج الجدد (الإرهاب/الإسلام) وحلفائهم.
ليست ثمة، ولا مجال لأن تكون ثمة في هذه الحرب من اجل بقاء الحضارة، حدود: كل معايير واتفاقات الخمسين سنة الأخيرة قديمة لاغية. بالفعل اعتبرت الإدارة الأمريكية، في حربها المقدسة من اجل ما تسميه" القرن الأمريكي الواحد والعشرين"، أي فرض سيطرة إمبراطوريتها التامة بالقوة بمبرر "الحرب ضد الإرهاب" المصطنع والسطحي، أن لا فائدة من كل واجب أخلاقي وقانون دولي.
كان سبق لجورج والكر بوش أن أعلن في 2003 أن اتفاقات جنيف عفا عنها الزمن في حرب ضد الإرهاب. وجرى فتح معتقل غوانتنامو بانتهاك القانون الدولي، وحتى قانون الولايات المتحدة الأمريكية. وقررت الإدارة ذاتها، بقصد حرمان الإرهابيين المفترضين من كل حماية وكل حق، اختراع فئة جديدة من المعتقلين: ليسوا مجرمين ولا أسرى حرب بل "إرهابيين مفترضين". إن تشابه الممارسات الأمريكية والإسرائيلية مذهل: سبق للسلطات العسكرية الإسرائيلية في سنوات 70 أن أعلنت، بالمحكمة العليا الإسرائيلية أو المؤتمرات الدولية، أن اتفاقات جنيف غير قابلة للتطبيق بالأراضي الفلسطينية المحتلة. زد على ذلك أن السجناء السياسيين الفلسطينيين لم يكونوا منذ سنوات 60 يصنفون كسياسيين ولا كمعتقلي حق عام. ويشبه السجن السري، الذي اكتشفته المحامية ليا تسيمل، قرب كيبوتز معانيت في 2003، سجن غوانتانامو.
هذا علاوة على أن إدارة المحافظين الجدد الأمريكية والحكومة الإسرائيلية تعتبران أن هدف الحروب لم يعد يتمثل في كسب معركة وغزو ارض أو تغيير نظام، بل في تدمير دول وتفكيك مجتمعات بأسرها.
إن دولة إسرائيل- وحتى أغلبية المجتمع الإسرائيلي العظمى- استبطنت بالكامل هذا التحليل المحافظ الجديد وما يترتب عنه من إستراتيجية. ففي العقد الأخير كانت إسرائيل وفلسطين مختبرا لهكذا إستراتيجية، وكان الفلسطينيون مادة التجارب. وتلك هي الحال حتى على صعيد التسلح مثلما أكدت مؤخرا جريدة المنفيستو الايطالية بفضحها لاستعمال إحدى اشد الأنواع همجية من القنابل المصنوعة بالولايات المتحدة الأمريكية، والتي استخدمت في العدوان الأخير ضد السكان المدنيين بغزة. إن حرب إسرائيل على الفلسطينيين تستهدف بجلاء تدمير المجتمع الفلسطيني وتحويل الفلسطينيين إلى أمة قبائل مشتتة من قبيل ما يسعى إليه الأمريكيون في أفغانستان والعراق.
الحق أن كل الحروب همجية، لكن حرب إسرائيل في الأراضي الفلسطينية المحتلة (وسياقها الأوسع، الحرب ضد الإرهاب اللانهائية) تمثل مرحلة جديدة من الهمجية الحديثة. رغم أن لفظ " الإبادة " غير ملائم، يمكن اعتماد لفظ " قتل مجتمع" الذي صاغه الأستاذ صلاح عبد الجواد من جامعة بير زيت.، أو مفهوم " politicide الذي صاغه باحث اجتماعي إسرائيلي. إن الأرض الأصلية للأمة الفلسطينية سرقتها حاليا "مستعمرات قانونية" و " المراكز المتقدمة اللاقانونية" التي تؤدي على نحو متزايد إلى عمليات ترحيل: الجدار يذرر المجتمع الفلسطيني إلى كانتونات معزولة، ويرمي التشريع الجديد إلى الحد من دخول فلسطينيين إلى الأراضي الفلسطينية، وكذا من إمكانات تنقلهم داخل أرضهم الخاصة، وجرى طرد ممثلي سكان القدس المنتخبين ديمقراطيا من مدينتهم، و تم اختطاف عشرات الوزراء وأعضاء المجلس التشريعي، وسجنوا، واستعملوا رهائن من اجل تبادل نهائي للسجناء.
وذرة هذه المصائب هي الفظائع في الخليل، حيث يتعرض السكان لتحرش يومي من المستوطنين والجيش الإسرائيلي، ويحرمون من دخول قسم كبير من المدينة، وما يجري بغزة من تقتيل وحصار اقتصادي وقصف إسرائيلي منهجي يدمر البنى الأساسية ويقتل المئات.
و غني عن البيان أن هذه الجرائم، ومنها ما تصفه منظمة هيومان رايتس ووتش بالجرائم ضد الإنسانية، لا تثير أي عقوبة، ولا حتى احتجاج المجموعة الدولية المزعومة. إن اللاعقاب هو المعيار الجديد للهمج من العراق إلى غزة. أما "معسكر السلام" الإسرائيلي فقد دخل في غيبوبة عميقة يوم عاد ايهود باراك من كامب ديفيد حيث ابتلعوا الأكذوبة الكبرى حول " الخطر الوجودي" الذي يهدد إسرائيل، مع انفراج عاطفي في جانب ما.
ان التشابه بين إستراتيجية إسرائيل ومناهجها وما تقوم به الولايات المتحدة الأمريكية أمر يثير السؤال حول من الرأس ومن الذنب، أو بعبارة مغايرة من يحرك الآخر: هل يدفع اللوبي الإسرائيلي الولايات المتحدة الأمريكية طبقا لحاجات الدولة الصهيونية، أم أن الإدارة الأمريكية تدفع إسرائيل بقصد تحقيق سياستها القائمة على الحرب الشاملة بالشرق الأوسط؟ الواقع انه سؤال سيء، فليس ثمة رأس ولا ذنب، بل حرب إعادة استعمار شاملة و وحش عدواني برأسين بشعين. لقد جرى وضع الإستراتيجية المحافظة الجديدة بتعاون الساسة والمفكرين الأمريكيين والإسرائيليين، وجرى تطبيقها بتزامن رغم تعذر إنكار انه أتيحت لإسرائيل فرصة تجريب تلك الاستراتيجيات والمناهج قبل الولايات المتحدة الأمريكية، إذ فاز المحافظون الجدد الإسرائيليون أربع سنوات قبل أشباههم الأمريكان.
إن الولايات المتحدة وإسرائيل، وأيضا بريطانيا بلير وايطاليا برلسكوني وحتى رومانو برودي وعدد متزايد من البلدان الغربية، تشن حربا عالمية ضد شعوب الأرض ببرنامج معلن: فرض قانون الإمبراطورية النيوليبرالية بالقوة أو التهديد أو هما معا. إن هذه الحرب الشاملة حرب مقدسة يشنها الهمج الجدد ضد الحضارة الإنسانية.
إن دور إسرائيل في هذه الشراكة هو استئصال كل أشكال المقاومة ضد الإمبراطورية بالشرق الأوسط، وأولها هذه المقاومة الفلسطينية الرمز التي تشكل اليوم خط دفاع ليس للشعب الفلسطيني وحسب، بل لكل شعوب وأمم الشرق الأوسط من لبنان إلى إيران. هذا ما يستدعي اعتبار مساندة المقاومة الفلسطينية أولوية إستراتيجية لدى كل أعداء الهمجية بالشرق الأوسط وببقية العالم.

9 نوفمبر 2006
من موقع http://www.bellaciao.org
تعريب المناضل-ة








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. بين أنستغرام والواقع.. هل براغ التشيكية باهرة الجمال حقا؟ |


.. ارتفاع حصيلة القتلى في قطاع غزة إلى 34388 منذ بدء الحرب




.. الحوثيون يهددون باستهداف كل المصالح الأميركية في المنطقة


.. انطلاق الاجتماع التشاوري العربي في الرياض لبحث تطورات حرب غز




.. مسيرة بالعاصمة اليونانية تضامنا مع غزة ودعما للطلبة في الجام