الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


خدعني السمسار فخدعت ذاتي

محمد الدرقاوي
كاتب وباحث

(Derkaoui Mohamed)

2023 / 9 / 23
الادب والفن


تتعمد بسيمة أن ترقد باكرا بعد ان تضبط الساعة على الحادية عشرة ليلا حيث يكون أكثر من في الدوار قد هجع . خصوصا تركيبة الشيوخ والعجزة .أما باقي تركيبة الساكنة من نساء متزوجات هاجر أزواجهن الى المدينة للعمل، فأنهن يتساقطن على الأفرشة مرهقات نفسيا بوحدة قاسية ورغبات مكبوتة في غياب للزوج طويل وجسديا بأعمال مضنية لا تنحصر في أشغال بيتها وتربية الصغار من أبنائها ،أو رعاية حمل خلفه الزوج إثر آخر زيارة للقرية بل تتعداها الي البحث عن الماء والكلأ والعناية بمن ظلت تحت وصايتهم من آباء وأمهات ، أعمام وأخوال ..أيادي كليلة ونفوس منهارة .. أما الباقي فبدءا من سن العاشرة فالبنات يرحلن كخادمات في المدينة والصبيان يشتغلون كمساعدين لأصحاب المتاجر .. الكل بعد الحادية عشرة ليلا يكون في نومه قد غرق ،فلا كهرباء ولا تلفزة قد تشد الساكنة بسهر .. كما لا مدرسة في القرية تكون صمام أمان من هجرة الأطفال للعمل بدل الدراسة التي قد تنفض غبار الجهل عنهم، عدا كتاتيب قرآنية قل من صار يلازمها بعد أن اهتم صبيانها بعد ختم القرآن بحفظ وتجويد الى تعلم ما يحشو العقل بالسحر والشعوذة ..
يرن جرس المنبه بإشارات لاتكاد تسمع، فتنتبه بسيمة من رقادها، تغير ملابسها بعد ان تنظف من حالها ثم تخطو على رؤوس اصابعها ، ترفع باب البيت الحديدي الى أعلى حتى لا يحدث ازيزا من احتكاكه بالأرض ..
بسيمة فتاة في عقدها الثاني اشتغلت سنوات خادمة في المدينة، كانت لا تستقر في بيت حتى تنتقل الى آخر على يد سمسار هو من يوجهها حسب مزاجه ومن يدفع له أكثر ، لكنها لاتغادر بيتا حتى تترك خلفها حكاية مع أبنائه واذا انعدم الأبناء أو كانوا صغارا فلا تتحرج من إغراء صاحب البيت مهما كان عمره ومستواه ، فجمالها وقدها المياس جواز عبور الى القلوب والجيوب ..
رغم جمال بسيمة وبسماتها التي تأسرالعيون لم تكن في سنوات عملها الأولى ترفع رأسا أو تطمع في ما ليس لها بل كانت تتجنب كل ما قد يمس بشرفها وعفتها وسمعتها ..
خصام دائم مع سمسار يتاجر بعرقها يعرف متى يطرق باب بيت تجد فيه راحتها فيطالب بزيادة في أجرتها خصوصا اذا وجدت نفسها في أسرة أصيلة تقدر غيرها وتحترم نفسها فلا تفرض عليها من العمل ما يفوق طاقتها .
.تعمد السمسار ذات ليلة أتته بسيمة هاربة من بيت حاول أحد أبنائه أن يعبث بها أن يتركها تنام معه في دكان يستغله كمتجر لمواد النظافة والغسيل وبيت للسكن ففض بكارتها وحرضها على الإغراء واستغلال جمالها مع كل زوج يغريه صباها أويتحرش بها من أبنائهم ، اذ عليها أن تنظر الى مستقبل ايامها حين يجف عودها ويخبو الجمال من محياها، فحتى العودة الى البادية من أجل الزواج هو خدمة لرجل قد يكون بلاعمل يتحكم في حريتها ويستغل ما وفرته بتعبها وعرق جبينها :
ـ "يلزم ان تحولي ذل العمل في البيوت ، ومهانة ما تتجرعينه بأعمال فوق طاقتك ومجهودك النفسي ، الى قوة عن طريق الرضوخ لتحرشات رجال البيت مهما كانت أعمارهم ، ثم اطلبي الثمن، كلما كنت أغنى كلما رغب فيك الرجال أكثر " ..
لم تخرج بسيمة من المدينة الا بعد أن حملت سفاحا من صاحب آخر بيت كانت فيه ،وبعد أن امتنعت عن الإجهاض ساومت رب البيت الذي تجاوز الستين مستغلة غناه ويسره ، فضل الرجل أن يتجنب الفضيحة بين أبنائه وأصهاره فأرضي بسيمة على شرط أن تغادر المدينة وتلزم الصمت ..
جمعت بسيمة كل ما لديها وما كان لديها ليس قليلا ثم عادت الى القرية بين أمها وابيها بعد أن قضت مدة في بيت امرأة مشهورة باجهاض الخادمات برعاية السمسار ..
صارت بسيمة في القرية وقد اكتسبت خبرة في الاغراء ونسج الكذب تخرج كل ليلة للسهر مع أحد العمال رأته يوما وهي فوق التل يحط رحله بوصول الى بيت والديه فأثارها بقده ورشاقته فصارت تتعمد الوقوف في طريقه .. وجدت فيه بسيمة قابلية لخيانة زوجته والتغرير به لحمل جديد ومساومة أقل ما قد تناله منها حَرْكة الى خارج الوطن .. فالحمل سفاحا صار لها كلعبة طفولة لكنها قوية ومربحة ..
كانت تلتقي به في حلكة الليل ينسل من سرير زوجته ويأتيها الى ساعات متأخرة ..
في لحظة انتشاء تهتز الأرض بزلزال تحت جنبات العاشقيْن ، وفي سورة رعب يدفع العشيق بسيمة عنه وما أن تحاول الوقوف حتى تداهمها الاتربة على جسدها فتدفنها تحت الركام فوق عشيقها ، تميد الأرض وعليهما تترامى الأعمدة والطوب من البيوت يحاصرهما بضربات من كل جانب الى أن أفقدتهما الوعي ..
الكلاب المدربة هي التي دلت رجال الإنقاد على بسيمة وعشيقها تحت سقيفة عريش قد انهارت ومنعت عواميده وعوارضه الخشبية أعمدة البيوت الاسمنتية من سحق بسيمة وعشيقها ..
كانت بسيمة حين تم استخراجها غائبة عن الوعي تكاد تفقد روحها من جراء الاختناق ،وقد غاب جزء من أحد اثدائها بينما عشيقها استطاع أن يستعيد أنفاسه بساق مكسورة ورأس مشروخ بعد ترويض من أحد المسعفين..
حين سألوا العشيق عن بسيمة أدعى أنه لا يعرفها ولم يسبق له رؤيتها ...
حاصره أحد رجال الانقاد :
ـ وكيف تم وجودك وهي فوقك لصيق ، عاريان معا ؟
ـ لا أدري ، لا أذكر الا أني كنت مارا وقد ظهر لي شبح شخصين قريبا من المسلك الذي كنت أسير فيه ..
ـ وهل كنت مارا وأنت عار تماما ؟
ـ لم أكن عاريا ، ربما ثيابي تمزقت بفعل الزلزال
ضحك رجل الانقاد وتركه للبحث عن ضحية أخرى، فهذه ليست مهمته ..
بسيمة خضعت لعملية جراحية تم بتر ما تبقى من ثديها ، عانت كثيرا خاصة لما بلغها أنها قد فقدت والديها معا ، لكن ما ظل يؤرقها هي صندوقتها النحاسية والتي كانت بنكها وفيها تجمع كل ما توفر لها من ذهب واكتنزته من نقد هو مال أجرة عملها ومساوماتها عن شرفها .. كانت لا تتوقف عن الاستفسار عمن كان رئيس الرجال الذين اهتموا بإخراج جثة والديها من ركام بيتها ..
خرجت بسيمة من المستشفى نفس منهارة وعقل عليل ما لبثت أن دخلت في حالة من الهوس على صندوقتها ..
كانت تظل في ساحة مخيم المنكوبين تروح وتجيء، تنادي أسماء كل من اشتغلت عندهم وتروي حكايات عما وقع لها في كل بيت منهم :
ـ "بقيت أنا واليهم عاد كل شيء ، اضبطوهم قبل أن يرحلوا "
" اتهمتُ الرجل بالسفاح وهو بريء ، من كان في بطني فأبوه هو السمسار "
كل ما مثلته من أدوار ومارسته من كذب وادعاء قد انطمر قلب الأرض ..
"خدعني السمسار فخدعت ذاتي واستبدلت واقعي بوهم"
"ازددت فقيرة ، تربيت فقيرة ،يا ويلي هل أموت فقيرة؟ "
عشيق بسيمة كان يحاول ان يبادرتجنبا للفضيحة رغم راسه الملفوف قطنا وكسر ساقه والمشي بعكازتين الى شد الرحال مع زوجته الناجية بسلام والعودة الى وطن الغربة حيث يعمل، مدعيا أن العلاج خارج الوطن أحسن ، فهو مجرد شاب تلقفته أنثى غنية في عمر أمه ضالا بلا عمل ،تائها في بلاد الغربة تزوجها وباسمها صار يدير تجارة لايملك منها غير رضا الزوجة عليه ..
صارت بسيمة لاتفارق مخيم المنكوبين جمال سارب وقوة خائرة تتركن في إحدى الزوايا ، تشاركها جماعة من المنكوبين من حولهم الزلزال الى أصحاب عاهات واتى على ذويهم ،لاتكلم أحدا أو تلتفت لاحد بنظر ، فهي تختص بأوهامها وصور تظل تراها عبر تخيلات المدى ، تكلمها أحيانا وتلعنها أحيانا أخرى ، بل امتنعت حتى عن الاكل والشرب الى أن تدهورت صحتها و فقدت كل قدرة على الكلام ..
بعد شهرين تقريبا أتى أحد رجال الدرك يهرول اليها ،وفي سيارته صندوقة نحاسية صفراء وجدها من يعيدون تسوية الأرض وحفر ساسات البناء الجديد لبيت أسرة بسيمة ..لم يتلق الدركي أي ردة فعل فبسيمة كانت قد لفظت أنفاسها الأخيرة ...








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الممثل الباكستاني إحسان خان يدعم فلسطين بفعالية للأزياء


.. كلمة أخيرة - سامي مغاوري يروي ذكرياته وبداياته الفنية | اللق




.. -مندوب الليل-..حياة الليل في الرياض كما لم تظهر من قبل على ش


.. -إيقاعات الحرية-.. احتفال عالمي بموسيقى الجاز




.. موسيقى الجاز.. جسر لنشر السلام وتقريب الثقافات بين الشعوب