الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


هجرة الكفاءات العربية

فهد المضحكي

2023 / 9 / 23
الهجرة , العنصرية , حقوق اللاجئين ,و الجاليات المهاجرة


هجرة الكفاءات أو هجرة العقول موضوع قديم متجدد. لاتخص الدول العربية، بل ظاهرة كونية، تستفحل سنة بعد أخرى، وتتفاقم جيلاً بعد جيل. هي أساسًا من دول الجنوب إلى دول الشمال، وبشكل أخص من الدول النامية إلى الدول الغربية المتقدمة. ولعله من المفيد هنا أن نتوقف عند رؤية الباحث والأكاديمي التونسي نور الدين سالمي - نشرها أحد المواقع - الذي أشار فيها إلى ضرورة الاستمرار في بحث هذه الظاهرة ودراسة الأرقام المرتفعة والكلفة الكبيرة التي تثبتها الإحصاءات والدراسات.

ومن أهم ما أشار إليه، يعتقد البعض أن هجرة العقول تمثل فرصة للدول الأم. قد يكون في ذلك شيء من الصواب، ولكنه يبقى نسبيًا للغاية، فهذه الظاهرة لا تحتمل التبرير ولا البحث عن أعذار للبيئة الطاردة للعقول في الدول العربية، فالقول أن ذلك يخفف من البطالة مردود على قائليه، إذ إن الخبرات التي تهاجر في الحقيقة كفاءات تحتاجها البلد الأم وليست في حالة بطالة.وإذا كان يتعذر توظيفها فإن العيب أو القصور ليس فيها، وإنما في سياسات البلد وإدارة اقتصاده الذي لم يتمكن من الاستفادة من كفاءات مطلوبة عالميًا. يرى القائلون بمنافع هجرة الكفاءات التي تعود إلى بلدانهم الأصل أن ذلك يضمن دخلًا من العملة الصعبة. بالرغم من أن هذا جانبا من الصواب، إلا أنه يبقى أيضًا نسبيًا، لأن تحويلات المهاجرين المالية إلى البلد الأم هي عمومًا نسب ضئيلة من دخلهم السنوي، وتذهب أساسًا لمساعدة الأهل والأقارب. ويدافع بعضهم أيضًا عن تحوّل هذه العقول إلى الخارج لضمان نقل الخبرات والعلوم المكتسبة إلى الداخل، لكن هذا أيضًا رهين تجاوب الداخل الذي كان، بشكل أو بآخر، سببًا في هجرتها، ولم يتمكّن من الاستفادة منها وهي قريبة،فهل هو قادر على الاستفادة منها بعد أن تغادر البلد؟

يعطي الباحث سالمي اهتمامًا لهذه الظاهرة التي تحكمها متطلبات السوق العالمي وقواعد العرض والطلب فيه، فالدول المستفيدة تضع سياسات مغرية لانتقاء الكفاءات وجلبها. الولايات المتحدة مثلًا وكندا والمملكة المتحدة وأستراليا وألمانيا وفرنسا جميعها تستقطب الأطباء والمهندسين والباحثين الجامعيين وغيرهم من الكفاءات. ولكن إلى جانب هذه السياسات الجاذبة والمدروسة من الدول المستقطبة والشركات الناشطة في هذه السوق العالمية، يعود تضاعف هجرة الأدمغة والكفاءات العربية إلى أسبابٍ أخرى عديدة ٍومتشابكة. وتمثل الأسباب الاقتصادية أهم الأسباب، فلا يخفى على أحد أن الدخل المادي ومحفزات الارتقاء المهني تبقى عاملًا فاعلًا في هجرة أي خبرة عربية. لكن العوامل السياسية أيضا وازنة، فضيق هامش الحريات الشخصية والسياسية والتضييق على الناشطين والمثقفين والمبدعين والوضع الأمني الذي يتسم بعدم الاستقرار أو الصراعات والحروب في بعض الدول كلها عوامل محدّدة. وكذلك العامل الاجتماعي الذي يشجع الكثيرين، لما هو متاح للمهاجر وعائلته من امتيازات الصحة وتعليم الأبناء والإقامة الدائمة والحصول على الجنسية في أحيانٍ كثيرة. إضافة إلى هذا كله، يجب ألا نغفل العوامل الشخصية والذاتية كحسن المعاملة وجودة الحياة والعيش الكريم وفرص تطوير الذات التي تتيحها الدول المستقطبة وبيئتها. لا يصمد أمام كل هذه المغريات إلا قلة قليلة من الخبرات العربية التي تعاني إجمالًا من وضع سيىء يمتاز بثقافة المحاباة والزبائنية والحرمان من عمل في التخصّص والبيروقراطية والتعقيدات الإدارية وتهميش للبحث العلمي وسياسات الابتعاث الفاشلة وضعف القطاع الخاص وشبه غياب المبادرة والإبداع.

وعلى الرغم من وجود دول عربية نجحت في برامج التربية والتكوين مثل تونس ولبنان والعراق، إلا أن هذا الاستثمار في التعليم لم ترافقه سياسات واضحة في الاقتصاد والتنمية، الشيء الذي حدّ كثيرًا من استفادة هذه البلدان من الثروة البشرية التي استثمرت فيها وكونتها، وقد يكون العزاء في استفادة دول الخليج التي تمكنت من استقطاب خبرات عربية عديدة. هذا يجب استحسانه والتنويه به، لكن رغم أن هده الدول توفر رفاهًا اقتصاديًا واستقرارًا سياسيًا وامتيازات للعائلات، فهي مازالت عاجزةً عن منافسة الوجهات الغربية. لكي ترقى دول الخليج إلى مستوى الاستقطاب الأعلى، من الضروري أن تعمل على تشجيع أكبر للبحث العلمي ورصد اعتمادات أهم له. كما أنه حان الوقت أن تخفف هذه الدول شروط التأشيرة والإقامة، وأن تخوض تجربة منح الجنسية على الأقل للعلماء العرب الراغبين في ذلك.

لاشك إذًا أن هجرة الكفاءات العربية تترك فراغًا سياسيًا وثقافيًا يصعُب ملؤه. أضف إلى ذلك تداعياتٍ اقتصادية كبيرة، وهي خسارة صافية في اتجاه واحد لأهم عنصر الإنتاج (العنصر البشري)، فدول عربية عديدة استثمرت في هذا الرأسمال البشري، ثم قدّمته مجانًا على طبق من فضة إلى الدول الغربية. وأرقام منظمة العمل العربية والمنظمة الدولية للهجرة وتقارير الأمم المتحدة للتنمية البشرية في العالم العربي وغيرها دليلُ قاطعُ على أثر هذه الظاهرة على مستوى التنمية، فبعد الاستثمار المكلف جدا للعائلة وللبلد تغادر الخبرات مواقع ومسؤوليات متقدمة في منظمات ومؤسسات ووزارات، الشيء الذي غالبا ما يُحدث ارتبكًا كبيرًا في الإدارة والمؤسسات في القطاعين الخاص والعام. إذ لهذا الظاهرة انعكاس وخيم على مستوى التعليم والخدمات الصحية والبنية التحتية.

بأختصار، إن أهم ما خلص إليه، نحن أمام نزيف عربي يقابله استنزاف غربي ممنهج، ورغم أن السياسات عمومًا لا تواجه إلا بسياسات محكمةٍ مدروسة، إلا أن الجرأة هنا ضرورية بأنه لا يمكن الاعتماد على االجهات العربية المسؤولة في المدى المنظور لوضع سياسات استرجاع كفاءاتها التي غادرت أو الحفاظ على الكفاءات التي قد تغادر. كما أنه لا يمكن انتظار أن تستفيق السلطات العربية وترقّب نهاية الصراعات، وأن تكفّ هراوات البوليس في بعض الدول العربية.. إذا فعلنا لضاع جيل أو جيلان قادمان. ففي هذه الظرف العالمي المتغير، لا فائدة في الدعوة إلى مشاريع وسياسات كبرى لا تفضي إلى شيء، أو التنادي بضرورة عودة الخبرات المهاجرة. لكن يمكن الاعتماد والاستفادة من عدة خصائص يتميز بها الوضع العالمي اليوم، كالتطوير التكنولوجي ووسائل الاتصال والاستقطاب متعدد الأطراف وبروز قوى صاعدة. حتمًا لا يوجد حل سريع، نهائي وجذري لإيقاف هجرة العقول أو عودة الكفاءات المهاجرة، لكن مساحات العمل والفعل تبقى اليوم واسعة. فبادئ ذي بدء، لا مناص من العمل على قاعدة بيانات دقيقة مفصلة لهذه الخبرات، سيسهل ذلك إنشاء جمعيات وروابط وغيرها من أشكال العمل الجماعي، يؤسس لعمل استشرافي يعزز من فرص الاستفادة من الخبرات والعقول قبل أن تذهب هدرًا. وفي الإطار نفسه، على وزارات الخارجية والبعثات في الخارج مزيد من الحرص على التجميع ومتابعته ورصد الجسور ومدها مع الكفاءات في الخارج وتوفير العناية والتسهيلات والمرافقة لها.

أما وعلى الصعيد الداخلي، فقد وجب التشديد على وجوب مضاعفة الإنفاق على البحث العلمي، فنسبة التمويل من الناتج المحلي الإجمالي في الدول العربية هزيل جدًا، وهي من أضعف الموازنات في العالم. ولا يسمح المجال بالتفصيل هنا، ولكن وجبت الإشارة إلى البون الشاسع بين ما تنفقه دول عربية كثيرة على الأمن والعسكر من ناحية وعلى البحث العلمي من ناحية ثانية. ولترشيد هذا الإنفاق، كان لزامًا العمل على مزيد من استقلالية الجامعات في الدول العربية، وإلا لاصطدمت التمويلات والجهود بالبيروقراطية المقيتة.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. تعرف على السباق ذاتي القيادة الأول في العالم في أبوظبي | #سك


.. لحظة قصف الاحتلال منزلا في بيت لاهيا شمال قطاع غزة




.. نائب رئيس حركة حماس في غزة: تسلمنا رد إسرائيل الرسمي على موق


.. لحظة اغتيال البلوغر العراقية أم فهد وسط بغداد من قبل مسلح عل




.. لضمان عدم تكرارها مرة أخرى..محكمة توجه لائحة اتهامات ضد ناخب