الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


العودة الى الوطن

رياض ممدوح جمال

2023 / 9 / 25
الادب والفن




شخصيات المسرحية :
الاب : رجل في الستين من عمره، اسمر البشرة، قوي البنية، متوسط الهندام.
سالم : الابن. شاب في الثلاثين من العمر، ابيض البشرة حسن الهندام.
الجد : قصير القامة، جلد وذو صلابة، عنيد في آرائه ومناقشاته، ويعرف هدفه.
حين كان في الخامسة والعشرين من العمر.
مهرب : رجل قوي البنية، يرتدي ملابس القرى الجبلية.

الزمان : يوم من ايام عام 2007.
المكان : مدن مبتلية بآثار الحروب، منها مدينة الموصل.

المشهد الاول

(الاب وراء مقود السيارة، وسالم بجانبه، والسيارة متوقفة تقريبا من
زحام السير. واصوات دوي انفجارات، واطلاقات لعيارات نارية،
واصوات لسيارات اسعاف واطفاء وسيارات شرطة النجدة ...)

الاب : لقد اسعدتنا بلقاك. لم نراك منذ ست سنوات، يا ولدي. وخاصة امك الحنون.
سالم : لقد فرحت انت بلقائي، وليس بعودتي للوطن، بعد حصولي على شهادة
جامعية عليا، يا والدي العزيز.
الاب : ذلك صحيح تماماَ، يا ولدي. ان لقائي بك هو أكبر سعادة لي، ولكن
قرارك بالعودة والاستقرار هنا، قد خيب آمالي وحطم كل ما بنيته وحلمت
به طوال عمري. والعجب من عقولكم كيف لا تميز بين الحياة في عالمين
صارخي التناقض. عملت طول عمري على أن ازرعك بذرة في بلاد هي
ارقي من بلدنا. وكنت اعتبر هذا هو جوهر النضال في حياتي.
سالم : اسمح لي يا والدي ان اذكرك بخطأ ارتكبه والدك، وهو جدي المحترم،
حينما زرعك انت في هذا البلد. ونقلك من بلد انت الان تحلم لو كنت قد بقيت
وعشت فيه. كان في تركيا وانت الان تحلم في العيش فيها.
الاب : كانت بوصلة جدك تشير الى اتجاه التطور، والذي كان نحو بلاد النفط.
وكان نصراَ له ان يثبت بذرته في العراق. ولكن الان حتى البوصلة انعكست
وادارت اتجاه التطور فيها. وأصبح المتخلف متطوراَ والمتطور متخلفاَ. وهكذا هي
دورة هجرة الاجيال، كما هي هجرة الطيور في الطبيعة. فالطيور تهاجر في حياتها،
هجرة الحر والبرد، ونحن البشر نهاجر كسلسلة من الاجيال، هجرة التطور
والتخلف.
سالم : جئت لأرد جزء من دينك الذي بذمتي. لن انس ذلك اليوم الذي غيرت انت
فيه حياتي تغيراَ جذرياَ. اليوم الذي اعطيتني ابلغ درس عملي في حياتي.
الاب : اي يوم، واي درس؟
سالم : يوم كنت انت فلاح تعمل في حدائق الجامعة. واصطحبتني معك إلى
العمل، وحاولت أن اساعدك، ولكني سرعان ما تعبت. وفي الحال اصطحبتني إلى
مدرجات قاعات المحاضرات الجامعية. وقلت لي : قارن يا ولدي بين عملي انا
وعمل ذلك الاستاذ الذي يلقي المحاضرة، وقرر اي العملين افضل لك في المستقبل!
ومنذ ذلك اليوم قررت ان اكون الاستاذ، وها انا ذا قد اصبحت استاذاَ. وجئت الان
لأرد لك جزء من فضلك علي.
الاب : ان ما قمت به انا، هو واجبي وواجب كل اب، ولا اريد ثمنا له. كل ما
أريده منك هو أن تبتعد عن هذا الجحيم الذي يسمونه وطن. وان ما افعله اليوم هو
ايضاَ اعطائك درساَ عملياَ جديداَ.
سالم : وما هو هذا الدرس يا والدي؟
الاب : لقد اصطحبتك امس واليوم الى اصدقائك واقاربك من الشباب الذين هم
في مثل سنك وبعضهم كان معك على مقاعد الدراسة، لتنظر بنفسك المصير البائس
الذي انتهوا اليه في هذا البلد البائس. ولا اريدك ان تكون مثلهم.
سالم : لكني أحمل شهادة عليا وسأكون هنا استاذ جامعي مميز.
الاب : بل ستكون هنا اعور بين العميان يا ولدي.
سالم : لكنك امضيت عمرك في النضال من اجل هذا الوطن، ودخلت سجون
وتعذبت من اجله، وتريدني انا الان ان اتخلى عنه!
الاب : لا اريدك ان تكون كالفراشة التي تحترق بنار احبتها. انا احرقت عمري،
ولا اريد لك ذلك. حب الوطن هو حب للنار يا ولدي. أنتم فهمتم الوطن من خلال
الكتب، اما انا فقد فهمته بالسجون والمعتقلات وتحت السياط. وشاهد النتيجة. أردنا له
الافضل، وحصل الأسوأ. شاهد وانتبه لما يجري من حولك، لاحظ الدخان الذي
يغطي السماء، اسمع أصوات الانفجارات البعيدة واصوات الاطلاقات، لاحظ اندفاع
سيارات الاسعاف لتنقذ ارواح من سقطوا جرحى، وسيارات الإطفاء لا تكفي لإخماد
الحرائق، وسيارات الشرطة والجيش تطارد عدو شبح لا يمكن رؤيته. ونحن وكل
هذه المركبات عالقين في هذا الشارع الذي أصبح مزدحماَ، حتى لا يمكننا الرجوع
ولا النفاذ، علقنا في هذا الشارع كما علقنا في هذا الوطن.
سالم : هذه حالات وقتية وطارئة، وستزول يا ابي.
الاب : نعم ستزول، ولكن الذي سيأتي هو الأسوأ، وقد امضينا عمرنا بسلسلة من
الحالات الطارئة والوقتية، حتى كانت هي الدائمة.
سالم : هذا شيء مؤكد يا ابي، عندما تتوقع السيئ يحدث سيئ، وعندما تتوقع
الخير يحصل الخير. وقد قيل قديماَ "كيفما تفكرون تكونون"، و "تفاءلوا بالخير
تجدوه".
الاب : حقائق الحياة اصلب واسطع من كل الكتب التي قرأتها انت في حياتك.
لا يمكن للكتب ان تكون بديلاَ كاملاَ عن الحياة، انها مكملة لها، وليس بديلاَ ابداَ.
سالم : بالمناسبة يا ابي، عندما كنت صغيراَ سمعتك تتحدث مرة عن مغامرة
مجيئ جدي من تركيا إلى العراق، هل ممكن ان أسمعها منك الان؟
الاب : كنت اعتقد انك تعرفها، لأني كثيراَ ما كررتها عليكم في البيت!
سالم : كنت انا صغيراَ ولم استوعبها جيداَ.
الاب : حسنا، سأقصها عليك، ما دمنا نحن عالقون هنا، وهذا الموضوع هو
خير ما نقتل به الوقت الان. اسمع يا ولدي ...


المشهد الثاني

(الجد مع مجموعة من اشخاص غير واضحي الملامح، فوق رابية
في منطقة جبلية مقفرة، متعبين جدا ومنهكي القوى جميعهم، ينام
الجميع عدا الجد والمهرب)

المهرب : ها قد وصلنا الحدود، وسندخل الأراضي العراقية.
الجد : لقد كانت رحلة شاقة وطويلة جداَ، وخسرنا اثنين من زملاءنا.
المهرب : لقد كان رحمه الله، ضعيف البنية، وهو مريض قبل بدء الرحلة.
والاخر الذي تركناه في القرية السورية اصيب قدمه بالكنكري من شدة البرد، وهذا
يحدث عادة.
الجد : وانا لو لم اكن قد تدربت على تحمل المشاق في الكلية العسكرية، لما
اجتزت كل مصاعب هذه الرحلة.
المهرب : (يندهش ويخاف) ماذا، انت عسكري؟
الجد : لا تخف. كنت طالباَ في الكلية العسكرية وتركتها قبل أن أكملها.
المهرب : لو كنت أعلم ذلك، لما اصطحبتك معي ابداَ. فنحن نتجنب المشاكل.
وهذا هو عملنا، ونكسب منه قوت اطفالنا ورزقهم. نهرب الناس والبضائع ما بين
الحدود.
الجد : اطمئن، لن تأتيك مشاكل بسببي انا، ابداَ.
المهرب : انا مطمئن، لأنك انسان طيب حقاَ، وقد كشفت لي هذه الرحلة عن
معدنك الأصيل. ولكن لما تهرب من بلدك ما دمت كنت ستصبح ضابطا في الجيش،
ولك امتيازاتك؟
الجد : انها قصة طويلة ولا مجال الان لسردها.
المهرب : هنالك مجال كثير، ولدينا الليل بطوله، لأننا سنبيت الليلة هنا.
وسنتجاوز الحدود قبل الفجر، حين يغفوا حراس الحدود. هيا لقد شوقتني لمعرفة
قصتك.
الجد : كنت كلما اكون في اجازة من الكلية العسكرية، اذهب لأبيت في بيت
اخي الاكبر، لوجود الكلية في نفس مدينته. وكانت شقيقة زوجة اخي، تسكن معهم في
الدار. وقد اعجبت بها، فطلبت من اخي ان يزوجني اياها.
المهرب : لا ضير في ذلك، ما دمت تريدها للزواج شرعاَ. وهذا طبيعي.
الجد : لكن اخي أقام الدنيا ولم يقعدها. واتهمني اني كنت اتي إلى بيته من
أجلها اذن. ورفض طلبي جملة وتفصيلاَ، وطردني من بيته. ولكون امي وابي قد ماتا
وانا طفل صغير، فلا أهل لي. فقررت الخروج من تركيا كلها والذهاب إلى العراق،
الذي كان والد جدي واليا على لواء الموصل فيه. وها أنا متجه إليه لأبدأ حياة جديدة.
المهر : كان بإمكانك ان ترحل الى ولاية اخرى داخل تركيا.
الجد : من اين انت بالضبط، ايها الاخ؟
المهرب : انا كردي من منطقة زاخو شمال العراق.
الجد : انتم الأكراد معروف عنكم العناد، ولكننا نحن الأتراك أشد عناداَ
منكم، بما لا يقاس.
المهرب : وما الذي ترمي بكلامك هذا يا اخي؟
الجد : اني عاهدت نفسي وعاندت على ان لا ابق في تركيا كلها، ولن
اعود اليها مطلقاَ.
المهرب : وهل لديك معارف أو أقارب في العراق تذهب اليهم؟
الجد : كلا، هذا غير مهم، بعد أن اكتشف كم كنت وحيدا في بلادي!
المهر : يمكنك أن تأتي في البداية معي إلى البيت، ومن ثم ليقدم الله الذي
فيه الخير. فأنت رجل طيب وتستحق كل الخير.
الجد : شكرا لك.


المشهد الثالث

(نفس منظر المشهد الاول، سالم وأبيه في السيارة عالقين في زحام
السيارات المتوقفة تماماَ عن الحركة)

الاب : وهكذا جاء جدك من تركيا، وتزوج امي، وهي من منطقة زاخو، ثم
استقر في الموصل.
سالم : انها قصة مؤثرة جداَ، يا ابي.
الاب : يصلح أن يكون عنوانها "العناد التركي".
سالم : (يضحك).

(يحدث انفجار قريب بعض الشيء، وصوت خفيض لحصاة
صغيرة تسقط فوق جسم السيارة)

الاب : انها حصاة صغيرة جاءت من بعيد، حيث موقع الانفجار، لا تأثير
لها ابداَ. المهم الآن يا ولدي، كل الذي أريد أن أقوله لك، هو أن تعود إلى البلاد التي
تقدر فيك مزاياك كانسان. قالوا قديماَ "لا كرامة لنبي في وطنه". عد إلى تلك البلاد
وازرع اولادك هناك، واعد الأمور إلى نصابها، وصحح ما اقترفه جدك بعناده،
وضياعه لبوصلة الاتجاهات لديه. كان عليه أن يتجه شمالاَ، ولكنه اتجه جنوباَ. فلا
تزيد الطين بلة انت ببقائك هنا. اننا هنا عصافير تصطادها الاف من بنادق صيد
نادراَ ما تخطيئ أهدافها. كل حصاة في بلادنا ممكن أن تتحول الى اطلاقة تقتل واحداَ
منا. نحن هنا انعام تتسلى بقتلها يد الأقدار. ومن لم يمت بإطلاقة أو شظية، مات
بانفجار لتضخم القلب. يا ولدي هذه مقلاة وليس وطن. انه شعب فوق صفيح ساخن.
الجحيم ويوم الحساب هنا وليس في السماء. كم هذا الإنسان هنا اصلب من الفولاذ،
ويتحمل ما لم تتحمل الجبال. والسعيد السعيد فينا، يوضع في بودقة يتقطر فيها ايام
وسنين وعمر بكامله. يا ولدي، لا تجبرني على اتذلل اليك. واقول لك، ارجوك واقبل
يديك وحتى قدميك، واقول لك "اذهب، اذهب بعيداَ عن هنا، وخذ روحي معك
وانقذها من هذا الجحيم الذي اسمه وطن. انت الروح مني وانا الجسد". اني انا الجسد
هنا اتحمل ما دمت انت يا روحي تحلق بعيداَ عن جهنم هذه. ان المناضل الذي يتحمل
في المعتقلات قلع الأظافر والعيون، روحه تحلق عالياَ في سماء الحرية.
ماذا تقول يا وحيدي بكلامي هذا؟ ها، لا ترد! اذن انت لازلت غير مقتنع، وتفضل
البقاء هنا! اجبني، أنا لا اجبرك، ولكني اتوسل بك. أجبني يا ولدي. لا تبقى صامتاَ.
وان لم يجدي كلامي معك، سأتوجه بكلامي الى الله ان يقنعك.

(يلتفت الأب إلى ابنه فيلقاه مغمض العينين، مسنداَ ذقنه على
صدره. يمد الأب يده ليرفع ذقن ابنه، وإذا يتبين أن شظية قد
اخترقت رقبته من جهة اليمين، وهي تنزف دماَ منذ وقت
الانفجار ولم يلاحظها الاب)

الاب : (بانفعال وارتباك شديدين) يا ولدي رد علي. يا الهي، قلت لك ان
تقنعه بالرحيل إلى بلاد البشر، لا أن يرحل إليك. يا إلهي، حتى سالم لم يسلم في هذا
البلد! سالم الذي جاء لزيارة وليس لإقامة، اصطادوه كعصفور للمتعة!
(يصرخ الأب صرخة تهز أركان المسرح)








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مت فى 10 أيام.. قصة زواج الفنان أحمد عبد الوهاب من ابنة صبحى


.. الفنانة ميار الببلاوي تنهار خلال بث مباشر بعد اتهامات داعية




.. كلمة -وقفة-.. زلة لسان جديدة لبايدن على المسرح


.. شارك فى فيلم عن الفروسية فى مصر حكايات الفارس أحمد السقا 1




.. ملتقى دولي في الجزاي?ر حول الموسيقى الكلاسيكية بعد تراجع مكا