الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الجغرافية الثقافية وفنون الأداء

علي ماجد شبو
(Ali M. Shabou)

2023 / 9 / 25
الادب والفن


تطرح الجغرافيا الثقافية مشكلة معرفية مربكة، وغامضة، ومزدوجة، تتعلق أولاً بمجالات أو فروع جديدة من الجغرافيا، وثانياً إنكار منهج التفكير الجغرافي القائم على المعارف الملموسة والإنضباط. لذلك فإن مشروع الجغرافيا الثقافية يتبنى بل ويستجيب لمفهوم الثقافة كما تحتضنه العلوم الاجتماعية المعاصرة. فالجغرافية الثقافية أساساً تستكشف الأبعاد المكانية للمجتمع.

يرتبط علم الجغرافيا بدراسة طبيعة الأرض وتضاريسها، أما الجغرافية الثقافية فهي تندرج تحت فرع الجغرافية البشرية المعنية بالسكان، أي بالبشر وتضاريسهم. هذا الفرع من الجغرافية يتفحّص بعمق العلاقة بين الثقافة والفضاء العام الذي يحتضن تمركز التجمعات المجتمعية الحضرية. كما يستكشف كيفية تشكيل الممارسات الثقافية، بما في ذلك الأداء الفني والترفيهي، وإحترام الهويات الفردية والجمعية وتبسيط المعاني وتسهيل الإنابة والتمثيل والتشخيص الذي يرمز للغير، وتطبيق ذلك بمجمله من خلال البيئات الحضرية والاجتماعية.

الجغرافيا الثقافية هي أيضاً دراسة وتلمّس العلاقات بين الثقافات وبيئاتها المادية، والاجتماعية وكيفية تأثر وتأثير كل منهما. أما الأداء فهو مفهوم جوهري في الجغرافيا الثقافية، لأنه يشير إلى الطرق والوسائل التي يجسد بها المؤدّون ثقافتهم، ويعبرون عنها، ويتلبسونها من خلال مختلف النشاطات والإجراءات والأحداث والطقوس والتفاعلات.

يمكن أيضًا النظر إلى الأداء باعتباره نمطاً من الاستفسار الدائم الذي يستكشف كيفية إنتاج الثقافة، والتنافس عليها، وتحويلها من خلال الأفعال الأدائية الي مُنتج حيّ. كما يمكن استخدام فنون الأداء لاستكشاف الأسئلة المتعلقة بالجغرافيا الثقافية، مثل الهوية والذاكرة والتنقل (بين المدن أو بين البلدان) وغير ذلك. ومن جانب هام، فيمكن للفنانين أو المؤدين أيضًا استخدام عروضهم للتعبير عن وجهات نظرهم حول القضايا السياسية والاجتماعية. ومن الوظائف الحيوية لأستخدام فنون الأداء هو إمكانية إنشاء ما يمكن تسميته "بالمكان المفضّل" ضمن المساحات الحضرية داخل المدن. هذا المكان يجب أن يحمل مقومات جذب الناس اليه كي يجتمعوا فيه للتمتع بالأداء الفني و لسماع الأفكار البديلة، وربما نقد منهج إتخاذ القرار أو مديحه في المدينة، إضافة الى إمكانية تبادل الأفكار والخبرات.

من ناحية أخرى، يُنظر إلى الأداء الفني بشكل متزايد على أنه وسيلة فنية ونقدية إبداعية لنشر الوعي ضمن التدّرج الديالكتيكي في التحول الحضري. والتحول الحضري وإن كان يبدأ من تخطيط المدن، وهو أحد فروع الهندسة، لكنه يتمدد في روح المدينة عن طريق الجغرافية الثقافية. وهنا يجب التذكير بأن الأداء كثيراً ما يقوم به أشخاص غالباً ما يكونوا مهمّشين و لا صوت لهم، بصورة عامة، في المجتمع أو في المدينة. ولذلك فإن أهمية الأداء هنا، بشكل أساسي، هو إمتلاك الصوت الذي يمكن أن يُسمع من قبل المجتمع ومن المدينة. ومع ذلك، فإن طبيعة القدرات المختلفة والمتنوعة للأداء، إضافة الى ما يبثه من أفكار أو إيديولوجيات قادرة على ملامسة هياكل السلطة القائمة بالمديح أو بالنقد والإعتراض، هذه القدرات غالبًا ما تُفقد في التحليلات التي تنشغل بها المجتمعات المحلية التي ترحب بالأداء المشحون بالنقد والإعتراض على الأصوات المهيمنة والقامعة في المدينة، أو تنتقد الأداء لكونه متواطئاً مع الأيديولوجيات الاجتماعية والسياسية المهيمنة بسبب هشاشة الموقع الذي ينطلق منه.

هنا تجدر الإشارة بإن كل ما تقدٌم من كلام نظري، يدعو الى التساؤل عن الكيفية التي يمكن من خلالها، وضع ماسبق من مفاهيم بصيغة عملية، من أجل ترجمة مفهوم الأداء الفعال للجغرافية الثقافية، والذي نجده في المناطق الحضرية، وبؤر الإستقطاب المكاني للمجتمع المحلي والجاذب للسواح؟ الجواب سيكون في الصيغة العامة المتمثلة بمسرح الشارع، وبموسيقى الشارع، وبرقص الشارع، وبسيرك الشارع، وبالشعر المقروء، والحكواتي، والفنون التشكيلية، خاصة الرسم على جدران المباني وأعمال الفريسك لتجميل جدران المدينة.

تُعد فنون الشارع، وخاصة فنون الأداء، من هياكل وأشكال التعبير الإبداعي التي تتجاوز الحدود التقليدية للبيوت الفنية والمسارح. فمثلاً، تجد عازف على آلة موسيقية يقوم بعزف مقطوعات موسيقية صعبة وعذبة في الشارع، أو ممثلاً يرتجل مشاهد مسرحية إجتماعية سياسية نقدية بصورة كوميدية. هذه أداءات تندمج في ثقافة ونسيج ومناظر المدينة، وفي ذات الوقت تأسر المارة بسحر مفعولها. والمثال نفسه ينطبق على الفنان التشكيلي الذي يحوّل عمله الى الشارع ويُحيل جدران عمارة معتمة ورمادية إلى لوحة فنية مليئة بالألوان النابضة بالحياة وبالرسائل المتفائلة والملهمة. وبهذا ترتبط فنون الأداء وفنون الشارع بحلقات لا تنفصم من روابط قوية جدا وغير متوقعة مع سكان المدينة ومع المارّة مفرزة ثقافة خاصة، تبدو هامشية، ولكنها تنمو في صلب أحاسيس ومشاعر الناس.

ولتوضيح المعنى، بشكل أكثر، حول موضوع الأداء الفني المنبثق عن الجغرافية الثقافية، أود أن أذكر بأن هناك أيضا الأداء التحريضي الذي يلامس مشاعر ومصالح الافراد والجماعات، وخير مثال على ذلك هو " الحي اللاتيني " في باريس في فترة الستينيات الى بداية السبعينيات حيث كان هذا الحي يعج بالموسيقيين وبالشعراء وبالممثلين وأيضا بالناشطين السياسيين. كل هذه الفعاليات يمكن ان تخضع للتحريض وقد فعلت جميعها - تقريبا- ذلك خلال مظاهرات 1968 وما أعقبها. وقد خرج هذا التحريض عن قدرة السلطات على تقبله، فألغت تدريجيا الفعاليات كافة بأوامر من الشرطة. بحجة الانتقال الى ساحة جديدة معدّة للنشاطات الثقافية المتنوعة عند إفتتاح مركز "جورج بومبيدو للثقافة". لكن هذا الانتقال لم يكن سلساً، كما لم يكن فعّالاً، لإنه فقد جغرافية المكان الراسخة والتي تستقطب الجموع من أحياء المدينة المتفرقة إضافة الى السواح وزوار المدينة. أي أنه إفتقد الى هوية وعطر المكان المؤسس للجغرافية الثقافية.

هناك أيضاً مؤثرات أساسية يمكن أن يكون لها تأثير مباشر على شكل وماهيّة الأداءات والعروض الفنية، من بينها تأثير البيئة الطبيعية لمنطقة ما على تشكيلة وجوهر العروض، فمثلاً لو أخذنا المهرجانات الشعبية التي تجتاج مدن متعددة وأشهرها مهرجان مدينة ريو دي جانيرو الذي أرتبط بموقع وجغرافية المدينة. ولهذا الموقع تأثير كبير على مسارالعروض الفنية والرقصات التي يتم إستنباطها وإبداعها. ومن بين المؤثرات أيضاً ثقل وحضور تاريخ وثقافة المدينة في تشكيل العروض الفنية التي يتم تقديمها. على سبيل المثال، يرتبط فن الفلامنكو، وهو شكل من أشكال الرقص والموسيقى الإسبانية التقليدية، ارتباطًا وثيقاً بالتاريخ والثقافة الأندلسية مع مؤثرات بارزة من الثقافات العربية وخاصة المغاربية والغجرية في إيقاعات وألحان وحركات الفلامنكو. كذلك فإن تأثر وتفاعل الثقافات المختلفة فيما بينها يمكن أن يُنتج عروضاً فنيّة متميزة. فمثلاً من حالة إندماج الثقافات الإفريقية بالثقافات الأوربية، أي من دمج الإيقاعات الأفريقية مع الرقصات الأوروبية إنبثق فن التانغو الأرجنتيني في مدينة بوينس آيرس.

مع ملاحظة أخيرة، للتأكيد على أن كل هذه الظواهر، بإعتقادي الشخصي، تكون محدودة في آفاقها في الإبداع والمخيال، لإن أدائها الفني لا يتجاوز كثيراً الصنعة الفنية المتقنة الى حدّ ما، إلاّ أن هذه الظواهر، بمجموعها أيضاً، تساعد على نشأة ثقافة مميزة، وخاصة، وفريدة موازية للثقافة المستقرة، وأعني بها الثقافة الرسمية للمدينة.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مت فى 10 أيام.. قصة زواج الفنان أحمد عبد الوهاب من ابنة صبحى


.. الفنانة ميار الببلاوي تنهار خلال بث مباشر بعد اتهامات داعية




.. كلمة -وقفة-.. زلة لسان جديدة لبايدن على المسرح


.. شارك فى فيلم عن الفروسية فى مصر حكايات الفارس أحمد السقا 1




.. ملتقى دولي في الجزاي?ر حول الموسيقى الكلاسيكية بعد تراجع مكا