الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


صراع الهيمنة في إسرائيل

ارام كيوان

2023 / 9 / 25
ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية


 
صراع الهيمنة في إسرائيل
منذ مباي حتى خطة الإصلاح-الانقلاب القضائي

فهرس
الفصل الأول 2
ما هي الهيمنة؟ 2
تشكل الهيمنة قبل الدولة 4
الهيمنة بعد الدولة 6
تاَكل الهيمنة 10
الفصل الثاني 12
انقلاب 1977 ونهاية الهيمنة السياسية 12
النظام الجديد - النيوليبرالية 15
الفصل الثالث 17
الحريديم وحركة شاس – لاعب جديد في الكتلة التاريخية 17
صراع الهيمنة في ذروته – الكتل التاريخية في أيامنا 19
الطبقات والنخب 21
الإصلاح-الانقلاب القضائي 24
ملخص 25
مراجع 26




 
الفصل الأول
ما هي الهيمنة؟
 
عرف تاريخ الحركة الصهيونية فترة طويلة من هيمنة حركة العمل التاريخية. أريد هنا نقاش الظروف التاريخية لقيام الهيمنة ولماذا كانت حركة العمل (مباي) هي الحركة المهيمنة في الاستيطان الصهيوني وبعدها في الدولة لسنوات طويل. يدعي الكثيرون أن هيمنة النخبة القديمة ما تزال قائمة حتى اليوم بطرق مستترة وملتوية، يمكن عدم الاتفاق مع هذا الرأي، ولكن ليس هناك نقاش أن آثار الهيمنة ما تزال قائمة في المجتمع الإسرائيلي، وتؤثر على الدولة التي أقامتها حركة العمل الصهيونية. الهيمنة في الدول الحديثة التي تقيم انتخابات ديمقراطية (أو انتخابات حرة) لا تعني حكمًا مطلقًا، لذلك بادئ ذي بدء سنناقش معنى الهيمنة.
لكي ننجح في فهم وتأطير مفهوم "الهيمنة" بشكل جيد، سنستعين بنظريات ثلاثة مفكرين، هم أنطونيو غرامشي (Antonio Gramsci) ولوي ألتوسير((Louis Althusser) ونيكوس بولانتازاس ((Nicos Poulantz)، المفكرون الثلاثة ناقشوا الهيمنة في الدولة الرأسمالية الحديثة، من جهته غرامشي انكب على نقاش الهيمنة ودوافعها الثقافية في ظروف إيطاليا الفاشية، ولكن نظرية غرامشي في الهيمنة هي نظرية عامة قابلة للتطبيق على نماذج الدول الرأسمالية المعاصرة (بحذر) من خلال الأخذ بجوهر النظرية وتطبيقها في حالات أخرى وليس من خلال أسلوب الإسقاط. ألتوسير من جانبه استثمر جهوده في فهم الجانب المؤسساتي ودوره في الحفاظ على الهيمنة والدور الأيدولوجي للمؤسسات في الحفاظ على الوضع القائم. أما بولانتازاس فيمكن القول أنه لم يأتي بجديد ولكنه توسع في نظرية ألتوسير عن الدول وجانبها الأديولوجي، والسلطة السياسية والطبقات الاجتماعية ودورها في الحفاظ على الهيمنة. ومقولاتٌه عن توقيت تدخل الدولة و"الكتلة الحاكمة" تبدو لنا منطقية جدًا في الحالة الإسرائيلية. يجب لفت الانتباه أن المفكرين الثلاثة ابتدعوا عن النظرية الماركسية الكلاسيكية للدولة التي ترى في الدولة: "مجلس إدارة الطبقة الحاكمة – الطبقة البرجوازية"، ورأوا في الدولة كتعبير عن مستوى علاقات وتوزيع قوة بين القوى المختلفة.
نبدأ مع غرامشي ونقول أن غرامشي استعمل مفهوم الهيمنة بعد معاني مختلفة، لموضوعنا سنستخدم ما يناسب ادعاءاتنا. غرامشي ابتعد عن مفهوم لينين عن الهيمنة، اذ يمكن القول أن الهيمنة عند غرامشي ذات معنى مضاعف، الهيمنة هي عملية ووضع حيث تسيطر  على المجتمع حالة عقلية (أيدولوجيا) ونمط حياة محتكم إلى هذه العقلية. تتركب الهيمنة من سلطة سياسية وإجماع عام ينقسمان إلى نوعين من الهيمنة، هيمنة سياسية (سيطرة على الدولة) وهيمنة ثقافية تعادل السيطرة على المجتمع المدني. من جهة نضال للسيطرة على الدولة ومن الجهة المقابلة وضع تتمكن فيه "كتلة تاريخية" من السيطرة على الثقافية علة المجتمع. يتحول أي مشروع إلى مشروع مهيمن عندما تتحول تصوراته حول الواقع إلى وعي سائد عند الجماهير وتتمد إلى مناحي الحياة المختلفة: مؤسسات، حياة الفرد، الأخلاق والدين.[1] 
وفق غرامشي، في مرحلة معينة، المجموعة الحاكمة تلائم نفسها مع مصالح العامة للمجموعات التابعة
وفق غرامشي، في مرحلة معينة، المجموعة الحاكمة تلائم نفسها مع مصالح العامة للمجموعات التابعة[2]  وحياة الدولة تكون عملية مستمرة من تشكيل وإنسجام توازنات متشظية بين مصالح المجموعات الرئيسية وبين مصالح المجموعات التابعة. وتتلاءم مصالح المجموعات الرئيسية مع مصالح المجموعات التابعى إلى درجة معينة. المهم عند غرامشي هو "الكتلة التاريخية" وليس الطبقة، الكتلة التاريخية ليس طبقة بحد ذاتها بل ائتلاف مجموعات حول مشروع الهيمنة، وفي ظروف إيطاليا الفاشية رأى غرامشي أن مقدمة الهيمنة التامة هي الهيمنة الثقافية وخلق إجماع شعبي حول مشروع الهيمنة، وبعد السيطرة الثقافية (التمكن من المجتمع المدني) يأتي دور السلطة السياسية. مع ذلك, قد يكون هنالك وضع أن تصعد مجموعة معينة إلى السلطة بدون أن تسيطر ثقافيًا– البنى الفوقية بالمصطلحات الماركسية- يسمي غرامشي هذه الوضع ب"الثورة السلبي". وللتوضيح أكثر، مفهوم الثقافة عند غرامشي هو مفهوم واسع يعني مجمل الممارسات الاجتماعية، وبالأخص: الممثلون السياسيون، القادة، العادات، اللغة، والتي من خلالها تعطي مجموعات اجتماعية مختلفة معنى لواقعهن المشترك.
هذه نظرية غرامشي باختصار حول الهيمنة، نظرية غنية وقد تكون كافية لظروف إيطاليا الفاشية ولكن ليس لكل الحالات. لهذا السبب اخترنا ألتوسير وبولانتازاس لإكمال ما بدأه غرامشي وتشكيل تصور كامل ومتماسك قدر الإمكان عن الهيمنة. بداية ألتوسير، وفق ألتوسير فإن صراع الهيمنة في شق السياسي يكون بين: "سلطة الدولة" و"جهاز الدولة". سلطة الدولة تشمل الحكومة والبرلمان، أما جهاز الدولة فيشمل القضاء، الجيش الموظفين الخ. يبدأ ألتوسير  في نظريته من حيث انتهى غرامشي، ألتوسير يوافق غرامشي أن كل كتلة تاريخية تبدأ كمشروع هيمنة ثقافية من خلال السيطرة على المجتمع المدني وتشكيل وعي شعبي ومن ثم تنقض الكتلة التاريخية على السلطة، بعد السلطة يبدأ صراع الكتلة التاريخية مع جهاز الدولة لكي تظفر بالسيطرة التامة. وفق هذه النظرية فإننا نفرق بين السيطرة والهيمنة، رغم ضبابية الفرق بينهما، المجموعة المسيطرة هي مجموعة قوية (كتلة تاريخية) بإمكانه التأثير والسيطرة على المجتمع المدني والوعي العام والبقاء في السلطة لسنوات طويلة، ولكن لا تتمكن الكتلة التاريخية بالضرورة من السيطرة على أجهزة الدولة، مع هذا، فإن وجود الكتلة التاريخية لسنوات طويلة في السلطة يؤثر بدوره على المؤسسات لدرجة ما، ولدرجة كبيرة في مواضع معينة.
بين أجهزة الدولة المتعددة يضيف ألتوسير عما يسميه "الأجهزة الأيدولوجية للدولة" (the Ideological State Apparatuses) الأذرع الأيدولوجية للدولة تشمل: المؤسسات الدينية، المدارس، العائلة، القانون، الأحزاب، الاتحادات، الإعلام، الصالونات الثقافية. وظيفة الأجهزة الأيدولوجية هي الحفاظ على الهيمنة القائمة عن طريق خلق إجماع عام في الدولة الحديث بدون الاضطرار للجوء إلى العنف. بهذه الطريقة يتحقق صراع الهيمنة على مستوى الدولة، أي السيطرة على سلطة وجهاز الدولة بالإضافة إلى ذراع أيدولوجي نطلق عليه: "الحرس الأيدولوجي".[3]
هذا تصور ألتوسير للهيمنة، نظرية غنية وعامة ولكنها تحتاج إلى تفصيل وتوسع وهذا ما قام به بولانتازاس, بولانتازاس يتفق مع ألتوسير على وجود مجموعة مهيمنة ويتوسع في الشرح ليصل إلى ما يمكن تسميته: "منطق الدولة – الدولنة" وبكلماته "الاستقلالية النسبية للدولة، وفق بولانتازس هناك ثلاثة مستويات للصراع في الدولة: السياسي، الاقتصادي، الأيدلولوجي، وبالنسبه الأهم والحاسم هو المستوى الاقتصادي، الدولة هي المصلحة السياسية وليست الاقتصادية للطبقة الحاكمة، اقتصاديًا لا تمثل الدولة المصالح الاقتصادية للطبقة الحاكمة على المستوى العيني إنما على المستوى الإستراتيجي، فعلى سبيل المثال إذا أفلس رأسمالي فالدولة لا تتدخل ولكن إذا حدث انهيار اقتصادي فإنها تتدخل[4]. تخفي الدولة طابعها الطبقي لتكسب شرعية جماهيرية. النظام الرأسمالي يمارس عملية دمج جماعي على مستوى واسع للطبقة العاملة في إطار عملية الإنتاج، ولكنه في نفس الوقت يفرض قوانين المنافسة التي تتركهم يتصارعون فيما بينهم في إطار الطبقة الواحدة وهو ما يطلق عليه بولانتازاس "تأثير العزل" والذي يؤثر على كل الطبقات بما فيها الطبقة الرأسمالية نفسها. ومن هنا يصل بولانتازاس إلى مفهوم "الكتلة الحاكمة" وليس طبقة حاكمة، كتلة حاكمة يكون فيها طبقة مسيطرة داخل الكتلة وأجنحة طبقية مختلفة تشمل الأرستقراطية العمالية[5]. دور الدولة هو الحفاظ على الكتلة الحاكمة وتبديل بعض عناصر الكتلة الحاكمة إذا اقتضى الأمر للحفاظ على مصالح باقي أعضاء الكتلة، وهو ما يعطي "استقلالية نسبية" للدولة ضد الطبقات.
اخترنا المفكرين الثلاثة تحديدًا ليساعدونا على فهم تمويهات المجتمع والدولة في المجتمع الرأسمالي المعاصر، وفي حالة صعبة كإسرائيل التي تعج بالتمويهات والتشوهات وتاريخ الهيمنة الطويل لكتلة حاكمة –في أعين الكثير من اليهود (والعرب) ما تزال مستمرة- وقفت على رأسها حركة العمل الصهيوني. الهيمنة في إسرائيل لم تتحول إلى حكم مطلق يركز على أجهزة القمع (الشرطة، الجيش، المخابرات)، هناك مساحة واسعة -هامش ديمقراطي- من الحرية، وعنف سياسي أدى إلى مقتل رئيس حكومة. هيمنة طرف واحد في إسرائيل لم تعد قائمة وأحد حتى اللحظة لم يستبدل النخبة القديمة التي أقامت الدولة، رغم أفولها ثقافيًا، ولكن لم تستبدل هيمنتها بهيمنة أخرى، ومكانها حلت مجموعة مسيطرة، هي معسكر "اليمين" الذي تلقى تصوراته وسرديته قبولًا شعبيًا أكبر، وحتى السياسيون غير "اليمينيون" باتوا يتملقون للأديولوجية اليمينية.
 
تشكل الهيمنة قبل الدولة
 
تبدأ قصة الهيمنة منذ الاستيطان الصهيوني في فلسطين، وسنرى كيف كانت الهجرة بشقيها، الهجرة الحلوتسية* والهجرة البرجوازية، ودور التعليم والمؤسسات في تشكل الهيمنة ثقافيًا ومؤسساتيًا قبل 1948. يقسم يوناتان شابيرا الهجرة إلى هجرة عادية تعود لأسباب اضطهاد اليعود في أوروبا أو أسباب دينية محضة وهجرة صهيونية، ويقسم الهجرة الصهيونية إلى هجرة حلوتسية وهجرة برجوازية، رجال الهجرة الحلوتسية كونوا تصورًا مثاليًا عن المجتمع الصالح الذي تسوده المساواة ويكون مواطنوه عمالًا يحققون حلم الاشتراكية الطوباوية، ومن ثم تحولت الهجرة الحلوتسية إلى "قطاع عمالي" والهجرة البرجوازية إلى قطاع مدن)[6]. ولكن الحلوتسيم أنفسهم ابتعدوا عن الحياة العمالية وبحثوا عن حرف تبعدهم قدر الإمكان عن حياة العمال، عن هذا سنفصل عندما نتحدث عن الطبقة البيروقراطية.
الجانب الأيدلولوجي للهجرتين (البرجوازية والحلوتسية) كان مهمًا جدًا، كلاهما نظرا لأوروبا كقدوة، وفي نفس الوقت كونا ثقافة أوروبية ملاءمة للاستيطان اليهودي، وتأثرا كثيرًا بالإنتجلنسيا الروسية. عن هذا يكتب يوناتان شابيرا:
"جاءت المجموعات التي تطلعت لتكون النخبة في المجتمع الجديد بشكل خاص من دوائر الإنتلجنسيا اليهودية في شرق أوروبا. الأيدولوجية الصهيونية، وسائر الأيدولوجيات التي نشأت في العالم اليهودي منذ منتصف القرن التاسع عشر في شرق أوروبا حاولت إيجاد حلول لمشكلة اندماج اليهود في العالم الحديث وجدت على يدي الإنتجلنسيا. نمت الإنتلجنسيا في المجتمع اليهودي بالتوازي مع الإنتلجنسيا الروسية.. تأثرت الإنتلجنسيا اليهودية من مزاج الإنتلجنسيا الروسية وحاولت هي أيضًا خلق ثقافية فرعية مستقلة، ومنفصلة عن الثقافة اليهودية المحافظة والمتدينة"[7].
إضافة للفكرة الصهيونية عن إقامة دولة و"شعب ككل الشعوب"، تشكلت النخبة في المجتمع الصهيوني من رجال الهجرة الحلوتسية الذين كانوا الأكثرية في الهجرة الثانية والثالثة، ولأعضائها أيديولوجية يسارية تتراوح بين الاشتراكية الديمقراطية والأناركية. بهذه الطرق، كان الجناح اليساري في الحركة الصهيونية أقوى من الشق الليبرالي-البرجوازي الصهيوني. مع الهجرة الحلوتسية أقيمت أحزاب اشتراكية على نمط الأحزاب الأوروبية، تحديدًا مباي (حزب عمال أرض إسرائيل). معظم المهاجرين الحلوتسيين كانوا من الشباب، ودعموا فكرة المبادرات الفردية الرأسمالية لإقامة بنية اقتصادية ولكنهم ارتطموا بواقع سيطرة إمبراطورية أجنبية (بريطانيا) على فلسطين، ومن هنا توصلوا إلى استنتاجين، أولًا أن عليهم المبادرة لإقامة بنية اقتصادية وأن يشكلوا بأنفسهم منظومات الرقابة الاقتصادية[8]. ثانيًا، توصلوا أن عليهم تنظيم أنصارهم في تنظيم ذي معنى فأقيم اتحاد العمل (أحدوت هعفودا) عام 1919، وفي عام 1920 أقيمت الهستدروت العامة للعمال العبريين والتي خلال فترة قصيرة انضم إليها كل الحلوتسيم الذين كانوا في عهد الانتداب. وقد أخذت الهستدروت على عاتقها إقامة المصانع.
تأثر المجتمع الصهيوني بالأزمة الاقتصادية العالمية ما أدى إلى هجرة الكثير من الحلوتسيم خارج البلاد، هجرة عدد كبير من الحلوتسيم أدى إلى إقامة حزب جديد، هو مباي -اتحاد بين حزبي أحدوت هعفودا وهاعوفيد هتسعير (العامل الشاب)- قامت مباي بتخفيف آليات الرقابة وحل مكانها ذراع حزبي سياسي أدى دور الوسيط من مباي وأنصارها. كان لمباي هيمنة روحية في المجتمع الصهيوني  لعدة أسباب، أولها الدمج بين القومية (الصهيونية) والأفكار الاشتراكية، وسيطرة مباي على الكيبوتسات والموشافيم*(اشرح المعنى) وهستدروت (نقابة) العمال[9].
كانت مباي صاحبة الأفكار الاشتراكية في مجتمع بلا عمال، وهذا يقودنا إلى تحليل المبنى الطبقي في المجتمع الصهيوني، والذي أثر بدوره على الهيمنة بعد الدولة، هيمنة مباي التي دامت لفترة طويلة في الدولة كانت قد تأسس بشكل فعلي في فترة الانتداب.
لم يطبق الحلوتسيم أفكارهم الاشتراكية على أرض الواقع، لم يوافق الحلوتسيم على مشاركة أجورهم في صندوق مشترك مع العمال الأقل منهم طبقيًا، وبشكل ساخر تحول هؤلاء الحلوتسيم إلى سياسيين نمت منهم النخبة، وكانوا أول من انتقل للعيش في المدن. وبشكل بديهي تركزت مؤسسات مباي ونوادي الأحزاب وهستدروت العمال في تل أبيب. وعلى سبيل المثال بحلول سنة 1926 سكن 60% [10] من أعضاء حزب أحدوت هعفودا في المدن وانتقلوا للعمل في الهستدروت في أعمال لا تحتاج إلى قوة بدنية. هكذا، يمكن الادعاء أن رأس المال الكبير الذي استثمر في البلاد على يدي الحلوتسيم بين الحربين العالميتين وصل إلى هستدروت العمال والهستدروت الصهيونية* وتولى إدارته رجال المباي. بهذا الشكل تزاوجت الحاجات الاقتصادية (التمدن والتصنيع) مع المشروع السياسي،  الحلوتسيم المنحدرون من خلفية برجوازية لم يكونوا على استعداد وكذلك لم يكونوا مؤهلين ليعيشوا حياة عمالية وبحثوا عن التحرر من العمل البدني والانتقال إلى المواقع البيروقراطية، وهذا جعلهم يذعنون الولاء للسياسيين الذي كانوا على رأس الهرم البيروقراطي، وهكذا وجدت "الطبقة البيروقراطية".
يمكننا تسمية هذا الوضع بالهيمنة المؤسساتية، كون الدوافع لم تكن مصلحية فقط إنما أيدولوجية أيضًا. هكذا تشكلت هيمنة مباي روحانيًا ومؤسساتيًا في المجتمع الصهيوني، الموظفون وافقوا على الولاء لمباي وعلاقات "هات وخذ" ولكن في نفس الوقت تصادم الطرفان في مواضع عديدة، وليست مفاجأة أن هذه الصراعات لم تكن صراعات مبدئية، فعلى سبيل المثال في عام 1933 خاض الموظفون البيروقراطيون نضالًا لرفع أجورهم وتحسين ظروف حياتهم وهذا أدى لتعميق الفوارق بينهم وبين العمال، وهذا نقيض أديولوجيتهم الحلوتسية التي تنادي بالأخوة والاشتراكية. عن هذا يكتب يوناتان شابيرا:
"هنا كانت صفقة مقايضة بين السياسيين والموظفين، البيروقراطيون وافقوا على الولاء للسياسيين مقابل أن يساعدهم السياسيون في تحسين وضعهم المادي"[11].
لعل البيروقراطيين حسنوا مستوى معيشتهم ولكن مكانتهم لم ترتفع، استمرت النخبة الحاكمة بإدارة المؤسسات، والقطاع العام، والشبكات الاجتماعية، التي فصلت عن قيادة مباي. وصلاحيتهم لم تقرر وفقًا لمنصبهم الرسمي في التنظيم، ولكن وفق علاقاتهم في الشبكات الاجتماعية غير الرسمية. على سبيل المثال قاد إلياهو جولومب تنظيم الهجاناة بدون أي منصب رسمي.
نقطة أخيرة مهمة في أضلاع الهيمنة هي قطاع التعليم، قطاع التعليم الذين سيطرت عليه هستدروت المعلمين. فهم المعلمون أنهم من أجل الحفاظ على أماكنهم فإن عليهم الوصول إلى تفاهمات مع النخبة الحلوتسية القوية في المجتمع الصهيوني. بحلول عام 1932 تمت إدارة قطاع التعليم من قبل الهستدروت الصهيونية وقسم التعليم إلى ثلاثة قطاعات[12]:  قطاع ديني (برقابة حزب هبوعيل همزاحي – العامل الشرقي)، قطاع العمال الذي سيطرة عليه الهستدروت وأحزابها، والقطاع العام (أشبه بالتعليم الحكومي) الذي ضم 60% من الطلاب. من الصواب أن قوة مباي كانت العامل المهم في هيمنتها، ولكن غباء خصومها كان عاملًا مهمًا أيضًا، فعلى سبيل المثال اقترحت الهستدروت على الصهاينة الليبراليين أن يتولوا إدارة القطاع العام في جهاز التعليم ولكن الصهاينة الليبراليين رفضوا الفكرة بحجة أنهم يريدون تعليمًا موحدًا لا علاقة له بالحزبية، وهذا بدوره أبقى مباي وحيدة في منظومة التعليم. إذًا، لم يكن على منظومة التعليم أن تخدم الأهداف القومية الصهيونية وحسب، بل أن تخدمها وفق تصورات مباي الاشتراكية أيضًا[13]. حاولت مباي دمج المعلمين بهستدروت العمال ولكن المحاولة فشلت، وبين الأعوام 1927-1945 قادت هستدروت العمال ستة إضرابات قطرية[14]. هذا يشير إلى التراتبية في المجتمع الصهيوني، والفوارق بين المعلمين والبيروقراطيين، ازدادت أهمية الطبقة البيروقراطية بالمقارنة مع المعلمين، وفي الواقع صراع مباي للسيطرة على قطاع التعليم جزءًا من خطتها لنقل جهاز التعليم من إدارة الوكالة اليهودية إلى إدارة اللجنة القومية*. وهكذا هزم المعلمون أمام مباي وأصبحوا تابعين لهم، وأجبروا على تعليم الصهيونية وفق تصورات مباي.
الخلاصة، أن مباي شكلت هيمنتها وتفوقت على باقي التيارات الصهيونية عن طريق تأسيس حزب قوي، على النمط "السوفيتي" (شابيرا). ونتيجة لهذا، في المجتمع الصهيوني تشكلت طبقة بيروقراطية قوية، على رأسها الهستدروت الوفية لمباي، والسيطرة التامة تقريبًا على قطاع التعليم. هكذا جمعت مباي بين السيطرة الروحية والمؤسساتية على المجتمع الصهيونية وتشكلت هيمنتها. وتجدر الإشارة أن وجود قائد بقوة بن غوريون كان عاملًا مهمًا في هذا السياق، بن غوريون عرف متى يتقدم ومتى يتراجع ومتى يخوض النزالات ومتى يذهب إلى تسويات، سواء مع البريطانيين أو مع خصومه في الحركة الصهيونية –جبوتنسكي تحديدًا- وفي معظم الحالات كان يخرج منتصرًا. بهذا المعنى يمكن إضافة عامل القائد القوي كأحد مركبات الهيمنة، وإن لم نتوسع في دور بن غوريون قبل الدولة، ولكن في مرحلة الدولة سيكون دوره ظاهرًا أكثر، وحتى اللحظة يكفينا حتى اللحظة ذكر إغراقه لسفينة ألتالينا التي كانت تجلب السلاح لعصابات الأرجون الموالية لمناحيم بيغين وكذلك اتفاقياته التي عرفت باتفاقيات بن غوريون-جبوتنسكي التي عارضها معظم أعضاء حزبه ولكن بن غوريون وضعهم أمام الأمر الواقع. شخصية القائد القوي كانت عاملًا مهمًا، خاصة فيما يتعلق باتخاذ القرارات الصحيحة والمصيرية في اللحظة الصحيحة والمصيرية، بهذا المعنى كان لشخص بن غوريون دور مهم في تشكل هيمنة مباي.
 
الهيمنة بعد إقامة الدولة
 
دامت هيمنة المباي بعد 1948 حتى "الانقلاب الكبير" عام 1977 بقيادة الليكود، كانت هيمنة المباي هيمنة تامة تقريبًا ذلك أن مباي أقامت مؤسسات الدولة: الجيش، الشرطة، المخابرات الخ. ولكن الأداة الأهم التي ضمنت هيمنة المباي هي الاقتصاد، في السنوات الأولى من عمر إسرائيل كان للحكومة دور طاغ في المنظومة الاقتصادية، التحكم في رأس المال المستورد، ملكية جزء كبير من وسائل الإنتاج، والتأثير القوي (شبه سيطرة) على الهستدروت. هذا مكن مباي من قيادة إقامة الدولة وتوزيع الحقوق على المهاجرين الجدد، وخاصة لمن أدرجتهم مباي كحلوتسيم. وفي التحليل الأخير كانت الهستدروت هي أداة السيطرة الأهم لمباي. المثال الفاقع على هذا تعيين هيلل دان رئيسًا لجنة التعويضات من ألمانيا في ديسمبر 1952، هيلل دان كان رئيس شركة البناء التابعة للهستدروت واستغل منصبه كرئيس لجنة التعويضات لتحويل الأموال لشركة "سولل بوني"[15].  لو حدث مثل هذا التعيين اليوم فمن المرجح أن المحكمة كانت ستلغيه بحجة تضارب مصالح مؤسساتي.
حاز نظام مباي على عدة ألقاب، الكثير من النقد والكثير من الاشتياق أيضًا. ولكن ما اتصف به نظام مباي كان مركزية الدولة، وفي تقديرنا أن أفضل وصف لنظام مباي هو المصطلح الذي سكه باروخ كيمرلينغ: "أحوسليم – أشكناز، علمانيون، قدماء، اشتراكيون، قوميون (صهاينة). لكي نأطر هيمنة بشكل صحيح وقبل الخوض في التفاصيل سنقسم مركزية الدولة بالطريقة التالية:
1.       احتكار اقتصادي تقوده الهستدروت: سيطرت الهستدروت على الاقتصاد، المبادرات الفردية، الخدمات الاجتماعية، التصنيع والبناء. فعلى سبيل المثال، في قطاع البناء شيدت شركة سولل بوني 154.000 وحدة سكنية حتى عام 1957 وهو ما نسبته 73.5% من مجمل الوحدات السكنية حتى ذلك العام[16].
 
2.      احتكار الأرض: تحتكر الدولة وأذرعها ما نسبته 93% من الأراضي، منها 15 مليون دونم ملكية سلطة أراضي إسرائيل و2.5 مليون دونم ملكية الصندوق القومي الإسرائيلي، ما يمكن تسميته ب"إقطاع الدولة" (كيمرلنغ)[17].
 
3.      طبقة بيروقراطية قوية: تألفت الطبقة البيروقراطية من الحلوتسيم الذين عزفوا عن كونهم عمالًا وبحثوا عن الترقي في أجهزة الدولة والمناصب الإدارية.
 
4.      ذراع أيدولوجي– وعاء الصهر (كور ههيتوخ).
 
 
يصل الباحثان شابيرا وكيمرلنغ إلى نتيجة مفادها عدم تبلور وعي طبقي في البلاد (أي في المجتمع الصهيوني). تطرق شابيرا إلى النخبة الحاكمة والطبقة البيروقراطية بعد الدولة وتوصل إلى عدم موافقة الطبقة البيروقراطية لسياسات مباي قابله صمت الهستدروت التي لم تبلور وعيًا طبقيًا[18]، ومن جانبه كيمرلنغ توصل إلى نتيجة مفادها أن عدم تبلور وعي طبقي أدى إلى تمرد "الثقافات" وليس الطبقات. من جانبنا نقترح أن نناقش مفهوم الهيمنة حتى سقوطها السياسي عام 1977 كحالة من عدم تفتح وعي طبقي عند الثقافات المختلفة في المجتمع الصهيوني وترسخ وعي ثقافوي فرعي يرسخ حالة العزل عند الطبقة العاملة.
 
التحديات الاقتصادية نبعت بالأساس من مشاكل استيعاب المهاجرين في إسرائيل، قدم معظم المهاجرين من الدول العربية بعد قيام الدولة (الشرقيون) وأبعدوا عن مركز البلاد إلى الشمال والجنوب. في ظل هذا الوضع والتحديات الاقتصادية أعلنت حكومة بن غوريون "سياسة التقشف" عام 1952 وهو ما لم يرق للطبقة البيروقراطية، وهذا انعكس في الانتخابات العامة للهستدروت حيث حاز حزبا مباي ومبام (حزب العمال الموحد) معًا على نسبة 27% من الأصوات فيما حاز الليبراليون لوحدهم على 25%. استياء البيروقراطيين أدى لإلغاء سياسة التقشف[19]. وجود مباي مهم للبيروقراطيين والبيروقراطيون مهمون بالنسبة لمباي، وكدلالة على هذا عندما في عام 1950 قدم مراقب الوكالة اليهودية تقريرًا عن فساد الموظفين وتم التحقيق مع سياسي يدعى إسحاق جرينبويم، الذي اعترف بدوره بالفساد ولكنه رفض نشر أسماء المتورطين في قضايا الفساد فتم غض الطرف والتجاوز عن الفاسدين، بهذه الطريقة ترسخ التحالف بين مباي والبيروقراطيين[20].
 
مباي صاحبة الأيدولوجية الاشتراكية أقامت مجتمعًا أبعد ما يكون عن كونه اشتراكيًا، بل يصح تسميته ب"رأسمالية الدولة"  أي عندما تكون الدولة مباشرة هي الرأسمالية وتتولى أذرع الدولة والبيروقراطية إدارة الدولة والإنتاج.
ويلخص شابيرا الحالة بكلمات جميلة:
"لم يقم في البلاد طبقة عمال ذات وعي وفخر طبقي، كما أشرت في الفصل الثاني، الأعضاء القدماء في الهستدروت الذين كانوا عمالًا، تطلعوا للتقدم والترقي في مجتمع تراتبي، تمامًا كالطبقة البيروقراطية. لقد تطلعوا أن يحوز أبناؤهم على الأقل على مهن غير عمالية ويترقوا في التراتبية القائمة. تشرب المجتمع الهستدروتي القديم ثقافة الطبقة البيروقراطية التي كانت الثقافة السائدة في البلاد. ومن ثم تشربها المجتمع الجديد في مرحلة استيعابه".
 
أساس هيمنة المباي هو السيطرة على المؤسسات، ولكن قبل التقدم إلى المركب المهم في الهيمنة، أي الذراع الأديولوجي، أريد التطرق إلى نقاش وليد عصرنا، أي النقاش حول المحكمة. النقاش حول المحكمة ومكانها كأقوى مؤسسات الدولة هو نقاش وليد عصرنا، وعلى الأقل هو نقاش عمره ثلاثون عامًا (إبان الثورة القضائية المنسوبة للقاضي أهرون باراك) وبالطبع ليس نقاشًا له علاقة بالعصور الأولى من عمر الدولة أو فترة مباي. في فترة مباي لم يكن هناك نقاش عن المحكمة، وما زال أنصار المحكمة حتى يومنا هذا يقتبسون مقولة مناحيم بيغين: "هناك قضاة في إسرائيل".
يمكن وصف المحكمة أيام مباي كدمج بين "منطق الدولة" و"منطق الحزب"، وندلل على هذا بمثالين، الأول الذي ذكرته سابقًا أي تعيين هيلل دان رئيس شركة سولل بوني رئيسًا للجنة التعويضات من ألمانيا، وعدم تدخل المحكمة العليا لإبطال التعيين. وفي المقابل، إلغاء المحكمة لقرار وزير داخلية مباي بإخراج صحف الحزب الشيوعي الإسرائيلي –الاتحاد و"صوت الشعب" (كول هعام)- عن القانون. من خلال هذين المثالين يمكننا أن نشير إلى تشابك منطق الدولة ومنطق الحزب في المحكمة العليا. وبكلمات رون حريس:
"وفق البحث التاريخي، المحكمة في العقود الأولى كانت دولنية*، بن غوريونية، صهيونية وقليلًا اشتراكية، ولكنها لم تكن المحكمة التي يمكن لليبراليين، حتى المعتدلون منهم، أن يشتاقوا إليها، وليست المحكمة التي يمكن أن يشتاق إليها اليهود المحافظون والمتدينون"[21]. البحث التاريخي يرينا بوضوح أن المحكمة العليا في العقود الأولى لم توفر حماية للأقليات: العرب، الشرقيين، المتديين-الحريديم. أنصار المحكمة يعتمدون على بضعة أمثلة لا تتجاوز أصابع كفة اليد ويتجاهلون الوقائع الكثيرة من قبيل الحكم العسكري وقضايا الفساد. ذروة فساد علني كان انتخابات 1965، عندما قامت شركات الهستدروت بتمويل الحملات الانتخابية، استفادت هذه الشركات من بطاقات بنكية ممولة من الحكومة في إطار خطة مالية لشركات العمالה[22]. مثال اخر وبسيط، الكتب التي كان بن غوريون يشتريها على حساب الدولة، قانونيًا هذا فساد ولكن هل فكر شخص للحظة في إدراج هذا السلوك كفساد؟[23]  على العكس كان سلوك بن غوريون مصدقًا وفوق المساءلة.
 
الجانب الأخير للهيمنة هو الجانب الأيدولوجي – وعاء الصهر. الغرض من سياسة وعاء الصهر كان توحيد اليهود في بوتقة ثقافية واحدة، وبشكل خاصة يهود الدول العربية طلب منهم أن يلائموا ثقافتهم لثقافة الأوروبيين وأن يزيلوا عن أنفسهم كل ما يرمز للمهجر كجزء من عملية خلق اليهودي الحلوتسي الجديد. اليهود الشرقيون كانوا مرتبطين بالتقاليد والتراث اليهودي، ومصطلحات مثل "اشتراكية، علمانية، صهيونية دولية" غريبة عنهم. أوكلت مهمة تحقيق الهدف الأديولوجي لسياسة وعاء الصهر لثلاثة أذرع: المدرسة، الجيش، الزراعة.
 
1.       المدرسة: كانت سيطرة مباي على جهاز التعليم سيطرة شبه مطلقة، وبقي تقسيم التعليم إلى ثلاثة قطاعات حتى سن قانون التعليم الحكومي عام 1953، أي حتى نجاح بن غوريون في قيادة مسار سن القانون بعد نقاشات وخلافات عديدة داخل مباي. تخطيط ماهية التعليم سبقت القانون نفسه، في مارس من عام 1949 حينما نظم بن غوريون اجتماعًا هدفه المعلن المشاورة حول محتويات التعليم والمصطلحات التي ستصمم إسرائيلية المهاجرين الجدد، نظم الاجتماع بحضور 35 مفكرًا كلهم يهود أوروبيون من قدماء المجتمع الصهيوني وأصحاب أيدولوجية مباي وتصوراتها، بدون دعوة أي يهودي شرقي أو محافظ، مع أنهم كانوا الأغلبية في الهجرة بعد الدولة. كان مصطلح "إسرائيلية" أحد أهم المصطلحات في تلك الفترة لأنه كان يشير إلى اليهودي الجديد أو اليهودي المزمع تكوينه، ومن الجيد أن نضيف في هذا السياق أن مصطلح "أسرلة" اشتقه عالم الاجتماع الشرقي سامي سموحا لاحقًا وكان المقصود منه مناقشة دمج اليهود الشرقيين في الثقافة العامة الإسرائيلية.
 
نظر هؤلاء المفكرون إلى ثقافة المهاجرين الجدد كثقافة "منحطة وهمجية"[24]. في تلك الفترة وكنتيجة لشوفينية هذه النظرة إلى المهاجرين، اشتكى المهاجرون من الإكراه "ضد التدين" (إكراه علماني). ولتهدئة النفوس أقيمت لجنة تحقيق عام 1950 والتي وجهت نقدًا حادًا على استعلائية رجال حركة العمل وأفكارهم المسبقة اتجاه المهاجرين، ولكن اللجنة برأت بن غوريون وحكومته وألقت المسؤولية على وزير التعليم الذي أجبر على الاستقالة. تم فصل المهاجرين عن المجتمع الصهيوني القديم، 86% من المهاجرين تعلموا في صفوف منفصلة وعانوا من نقص في المعلمين[25] ، عومل المهاجرون بشوفينية وغطرسة مع المهاجرين الجدد، وفي الغالب لم يكونوا معلمين مؤهلين. بعض الباحثين، كحالة ميخال تسفيج، عند ذكر هذه الوقائع يشيرون إلى النوايا "البريئة" لبن غوريون والنتائج التي لم يتوقعها جراء سياسته العنيفة، ولكن بإمكاننا أن نشك في نوايا بن غوريون "البريئة" بعد أن نقرأ له هذه الكلمات:
"اليهود اليمنيون، المغاربة، العراقيون، الأكراد، كل هؤلاء الشباب، قسم منهم على الأرجح برابرة... يجب أن نعلم الشباب القادمين من هذه البلدان كيف يجلسون على الكرسي مثل البشر وكيف يستحمون، وعدم السرقة الخ"[26].
2.      الجيش: عام 1949 أقر قانون الخدمة العسكرية (الذي لم ينفذ). نص القانون أن واجب كل جندي أن يمر بتدريب زراعي مدته تسعة أشهر على الأقل، وكان الهدف من القانون كان: "منح جيشنا ميزات أساسية مطلوبة لأمننا: لياقة عسكرية ولياقة حلوتسية"[27]. أقيمت وحدة مسؤولة عن التعليم الحلوسي قبل التجنيد اسمها بالعبرية "הגדנ"ע - هجدناع" أي كتائب الشباب، ونجح الجيش إلى حد كبير في مهمته الأيدولوجية وتعاظم الإحساس بالإسرائيلية عند المهاجرين، كما منح المهاجرين اللغة العبرية وتعليمًا عامًا[28]. هذا النجاح جعل بن غوريون يدعي أن في المؤسسة العسكرية مساواة تامة، إن كان الحديث عن المعاملة والقيم فهذا الصحيح، ولكن إن كان المقصود هو فرص الترقي فهذا خطأ مطلق[29].
 
3.      الاستيطان الزراعي: فكرة تشتيت السكان كانت فكرة ضرورية لإقامة وقيام الدولة. عام 1949 بدأت الحكومة بإقامة تجمعات سكنية على الحدود، ونبعت الحاجة إلى هذه التجمعات السكنية على حد قول بن غوريون، أن على المهاجرين أن يمروا بتعليم زراعي يجذرهم في الوطن[30]. تضمن هذا التعليم ما يلي: لغة، عمل بدني وثقافة. حركة الموشافيم* (حركة زراعية تعمل بطريقة مختلفة عن الكيبوتس) استجابت لطلب الحكومة، وحاولوا فرض سياسة وعاء الصهر على المهاجرين، لأجل تغيير نمط حياتهم الذين كان منحطًا لا قيمة له في أعين قدماء المجتمع الصهيوني. لم يملك المهاجرون الكثير من الخيارات في السنوات الأولى للدولة، البديل للمناطق الحدودية هو التجمعات الانتقالية (معفروت) أو المخيمات سيئة الصيت في وعي الشرقيين، الأمن الاقتصادي للموشاف أفضل من المعابر بالطبع لذلك فضل المهاجرون الموشافيم على المعابر، في الموشافيم وزع المهاجرون على الأحزاب المختلفة بالإكراه وبدون أخذ إرادتهم بعين الاعتبار. وفي الأرياف أقيمت 73 مدينة من المدن التي سميت "مدن التطوير" والهدف منها كان تطوير القرى والأرياف، إلا أن هذه المدن عانت من نقص في الاستثمار والميزانيات والخدمات[31].
 
هذا الماضي ما زال يلاحق ويحرك اليهود الشرقيين الذين يملؤهم الحقد على كل ما يمت بصلة لتلك الفترة، نادرًا ما تتحدث مع يهودي شرقي ولا يحدثك عن المعابر والمعسكرت التي أرسلتهم إليها مباي، وإذا كان يهوديًا يمنيًا فالطبع سيأتي على ذكر "قضية أطفال اليمن" وهي قضية ما زالت تثير جدلًا وخلافًا كبيرًا، حيث كان يؤخذ الأولاد اليمنيون إلى الكيبوتسات والموشافيم ويتربون بعيدًا عن أهلهم ويكبرون على الأيدولوجيا الحلوتسية، شهادات كثير من اليهود اليمنيين أن الأطفال اختطفوا من ذويهم من قبل سلطات المباي، بينما تنكر حركة العمل والسلطات أن أي طفل أخذ إلى الكيبوتسات بدون علم ذويه وتنفي ضلوع سلطة المباي في عمليات اختطاف.
 
رأينا مركبات هيمنة مباي، طبقة بيروقراطية قوية وسيطرة شبه تامة على المؤسسات. إلا أنه قد وضع الأساس لمنطق دولة –دولنة- رغم ضبابيته، وعدم استقلالية المؤسسات. ذراع مباي الأيدولوجي كان حاضرًا في كل الخطوات العملية التي اتخذت، ورغم كل هذا تجدر الإشارة أن مباي (وحركة العمل ككل، من مباي ومبام وأحدوت هعفودا ولاحقًا حزبي رافي –قائمة عمال إسرائيل- لم تفز بأكثر من نفس المقاعد في الكنيست لوحدها غير مرة واحدة بعد وحدة أحزاب العمل عام 1965). إذًا، كانت مباي جزءًا من كتلة تاريخية نالت لقب: "الأحوسليم" (كيمرلنغ). وأضاف داني فيلك أن الكتلة التاريخية التي قادتها مباي تركبت من مباي والصهيونية الدينية والبرجوازية الصغيرة والمدينية - الذين تنظموا سياسًا في حزب الصهاينة الليبراليين وكانوا حلفاءً غير متساوين للمباي وهامشيين في أحيان كثيرة. في العنوان القادم سنتطرق لما نسميه "تاَكل الهيمنة" ومقدمات سقوط هيمنة مباي وكتلتها التاريخية سياسًا في العام 1977، فشل وعاء الصهر وأعطى نتيجة عكسية حيث لم تتكون ثقافة إسرائيلية جامعة واشتراكية صهيونية. هيمنة مباي موضعت الثقافات القادمة من الدول العربية في هامش المجتمع ومنحتهم لقب "إسرائيل الثانية"، مستوى حياتهم المتدني كان مرتبطًا بشكل وثيق مع أصولهم العربية، ولكن علينا ألا ننسى أن الدافع الاَخر لم يكن مجرد استعلاء ثقافي بل بغية الحفاظ على مكانة وإرضاء الطبقة البيروقراطية التي لم تقبل أن يشاركهم القادمون من الدول العربية في مكاسب المشروع الصهيوني. أي أن الدافع وراء إقصاء الشرقيين كان ثقافيًا وطبقيًا في نفس الوقت، هذا بدوره أدى لعدم تبلور وعي ثقافي عند المهاجرين بل عزز عزلهم داخل ثقافاتهم التي جاؤوا منها. ورغم عدم تبلور وعي طبقي عند المهاجرين ولكن سقوط الهيمنة السياسية لمباي لم يكن مجرد تمرد ثقافي بل كان مصحوبًا بتغيرات طبقية سنأتي على ذكرتها.
 
تاَكل الهيمنة
للمفاجأة فقد بدأ تاَكل الهيمنة الهيمنة من بن غوريون، بما يمكن أن نسميه "الفصل بين مباي والدولة"، أي منح مؤسسات الدولة قدرًا من الاستقلالية عن مباي، وقد كان بن غوريون أول من أخذ خطوة في هذا الاتجاه بمبادرته لقانون عام 1959 يلغي نظام التعيين وفق الانتماء الحزبي في المؤسسات ويستبدله بمقابلة عمل[32]. مبادرة بن غوريون لم تكن مقبولة في مباي وقوبلت بمعارضة شديدة من طرف بنحاس لافون الذي أراد بقاء قوة الهستدروت وتدعيمها، وفي النهاية اتفق الطرفان على حل وسط بادر إليه ليفي إشكول بحيث يبقى التعيين إلى جانب المناقصات[33].
مبادرة إشكول شجعت المبادرات الفردية إلى جانب تعاون وثيق بين الحكومة والهستدروت والحزب (مباي). هذا التعاون الثلاثة عاظم قوة أرباب العمل والمدراء في الهستروت ومؤسساتها –فيما يمكن تسميته أرستقراطية عمالية- على حساب عدة حقوق ومبادئ مثل المساواة والصحة[34]. الشرخ داخل النخبة بدأ بانشقاق بن غوريون عن مباي وإقامة رافي (قائمة عمال إسرائيل) والشرخ المجتمعي بين الأشكناز الأوروبيين والشرقيين تعمق في هذه السنوات، في عام 1959 انطلقت موجات احتجاج عنيفة في حي وادي الصليب في حيفا وحتى الحركة الاحتجاجية المسماة "الفهود السود" في عهد جولدا مئير. ولكن ما يثير الدهشة أن علامات الضعف لم تكن بادية على نظام المباي حتى انتخابات 1973، حتى تلك الانتخابات كان الشرقيون والأوروبيون يصوتون لمباي وأحزاب حركة العمل، وفي الواقع لم يكن الشرقيون أول من تمرد بل المستوطنون، ما يعرف بجوش ايمونيم، أما بدايات تفكك نظام مباي فقد بدأت منذ منتصف الستينات، وكانت على مستويين: تغير طبقيات، وتمردات ثقافية.
1.      تغير بنيوي (طبقي):
 
 
منذ منتصف ستينات القرن الماضي بدأ تغير بنيوي في نظام مباي في أعقاب سياسية "التباطؤ" التي أعلنها ليفي إشكول في سنوات 1965-1967. سياسة التباطؤ أدت إلى انشقاق مجموعتين طبقيتين هما: الطبقة الوسطى الأشكنازية، والطبقة الدنيا الشرقية. كان الهدف من سياسة التباطؤ إصلاح الموازنة التجارية، تخفيض التضخم وتغيير هيكلية الاقتصاد. علاوة على ذلك كانت نسبة البطالة 12.4% وهي نسبة مرتفعة.[35]
سياسة التباطؤ، وفق داني غوتووين، ضربت الموظفين والأكادميين، ارتفعت نسبة البطالة عند الطبقة الوسطى الأشكنازية بنسبة 190% وعدد الذين غادروا البلاد ارتفع إلى 11.000، وعدد الوظائف المعروضة انخفض من 1700 وظيفة إلى 402 والتوجه إلى مكتب العمل ارتفع بنسبة 100%. هذه السياسة طعنت في أدوات سيطرة مباي (المعراخ حينها)، داخل المعراخ جرى نقاش حول تأمين البطالة وانتهى بعدم الموافقة عليه. وكرد على نسب البطالة المرتفعة مِنح بطالة للعاطلين عن العمل في القطاع الحكومي (workfare) إلا أن هذه المِنح حكمها المنطق الطبقي لنظام مباي، حيث شكل العمال غير المهنيون، أي غير الحاصلين على شهادة جامعية أو مهنة خاصة، ما نسبته 66.1% من العاطلين عن العمل في حين كانت حصتهم من المِنح 23.6%، بينما حاز الموظفون وأصحاب الأعمال الحرة على 37.5% من المِنح ونسبتهم 9.5% من مجمل العاطلين عن العمل[36]. بقي الشرقيون أوفياء لمباي رغم هذه الوقائع، ولكن هذه السياسة زعزعت ثقتهم في قدرة حركة العمل على توفير احتياجاتهم. يشير داني جوتووين إلى "تعميم الخدمات الاجتماعية" كنقطة فارقة في التغيرات الاجتماعية والطبقية ف المجتمع الإسرائيلي.
يشير داني جوتووين إلى تعميم الخدمات الاجتماعية كنقطة تحول في التغيرات الاجتماعية والطبقية في المجتمع الإسرائيلي. وقد بدأ التغير في نظرة قادة حركة العمل منذ نهاية ستينات القرن الماضي بإقرار قانون تأمين البطالة وإجراء إصلاحات في جهاز التعليم عام 1968. ميل سياسات حزب العمل إلى تبني المساواة الاجتماعية لم يرق للفئات المستفيدة من سلطة حزب العمل، الطبقة الوسطى الأشكنازية تضررت فيما انتهت تبعية الطبقات الدنيا الشرقية في أعقاب هذه التغيرات، وقد نمت هذه الحالة مع التغيرات في سوق العمل في السبعينات. نمو "الصناعات الأمنية" أي النمو في ميزانية الأمن والصناعات العسكرية بعد 1967، أدى إلى نقص في اليد العاملة اليهودية وبهذا لم يعد انتخاب حزب العمل ضروريًا لتلقي وظيفة جيدة، ومن جهة أخرى أذرع الإكراه السياسي (التي ذكرناها) بقيت فعالة في المناطق الريفية والقروية فقط، واضمحلت في المدن الكبرى[37]. اضمحلال علاقة التبعية مكن الشرقيين من إدارة ظهورهم ل"أسيادهم الأشكناز"، وعن هذه الجزئية يكتب جوتووين ما يلي:
"المنطق الاقتصادي الذي حرك انتقال الشرقيين إلى الليكود كان نتيجة التحولات الاجتماعية والسياسية التي أدت إليها سياسية الركود وتشكل دولة الرفاه في العقد الذي سبق الانقلاب (اعتلاء الليكود للسلطة 1977). الركود أدى لاضمحلال ثلاثة آليات ضمنت تصويت الشرقيين لحزب العمل: النمو السريع، التشغيل الكامل، والتبعية. هذه الآليات ضمنت تأييد الشرقيين لحزب العمل رغم سياسية التجزئة* في السوق على أساس عرقي. تعثر التنمية أدت إلى أزمة اقتصادية كشفت عن مدى اللا مساواة الذي تسببت به سياسية التجزئة. رويدًا رويدًا أدت البطالة إلى فراق بين حزب العمل والشرقيين، وما زيد الطين بلة عدم تقديم حزب العمل لبدائل حقيقية وحلول لأزمة البطالة التي تسببت فيها سياسة التجزئة.
وكمحاولة لتدارك الموقف اتجه حزب العمل إلى تعميم الخدمات الاجتماعية ونموذج دولة الرفاه، ولكن هذا بدوره أدى إلى انتفاء التبعية السياسية تمامًا، فقد خلق وضعًا لا يحتاج فيه الشرقيون النقامون على حزب العمل إلى حزب العمل ليؤمنوا قوتهم اليومي، واتجهوا إلى الليكود.[38]
 
انقلاب الطبقة الوسطى الأشكنازية: تشكلت الطبقى الوسطى بفضل مباي (لاحقًا حزب العمل) واستفادت من وجوده في السلطة، وخاصة  من "سياسية التجزئية" (داني جوتووين). ومع توسيع حالة المساواة تضررت الطبقة الوسطى الأشكنازية، ومنا هنا بدأت القطيعة بين حزب العمل والطبقة الوسطى الأشكنازية. راح أبناء الطبقة الوسطى ينشؤون اتحادات مهنية وكان تجليهم السياسي في الحزب الديمقراطي للتغيير (داش) وبدرجة أقل حزب "راتس" (الذي تحول إلى ميرتس لاحقًا) بقيادة شولميت ألوني. كلا الحزبين طالبا بتقليل تدخل الحكومة في السوق، ومصوتوا داش كانوا ذوي تصور رأسمالي محض حيث طالبوا بتفكيك الهستدروت من خلال إسقاط حزب العمل من السلطة.[39] في تقديرنا أن انقلاب الطبقة الوسطى الأشكنازية سببه عدم وجود صراع طبقي يؤدي إلى إقامة اشتراكية حقيقية. النظام الذي شيده حزب العمل كان رأسمالية دولة تستفيد منها الطبقات من خلال انخراطها في أجهزة الدولة، وعندما لم توقفت الدولة عن إفادتهم فضلوا التحول من رأسمالية الدولة إلى رأسمالية السوق، وهذا تجلى في حزبي داش وراتس.
 
2.     التمردات الثقافية:
 
للسخرية فإن أول ثقافة تمردت على حزب العمل هي الصهيونية الدينية، التي شعرت بالنشوة وكأنها بلغت قمة العالم بعد 1967 بعد أن دخلت فكرة "أرض إسرائيل الكاملة" إلى لب النقاش الإسرائيلي بقيادة كيان المستوطنين –جوش إيمونيم-. وهذا رغم أن أسس هذه الفكرة موجودة عند مباي التي رفضت رسم حدود لدولتها وحديث بن غوريون عن "مملكة إسرائيل الثالثة" بعد احتلال سيناء عام 1956[40] . تأسست حركة جوش إيمونيم في مؤتمر في جوش تسيون عام 1974. ولكن جوش ايمونيم بدأ نشاطه الاستعماري منذ 1967 وفي هذا المؤتمر أخلى مكانه لاتحاد بلديات يهودا والسامرة (يشاع)، ووصلت قيادات جوش إيمونيم إلى قيادة الحزب الديني القومي (المفدال). ومن هناك دخل مصطلح "أرض إسرائيل الكبرى" بقوة إلى النقاش الثقافة الإسرائيلية وارتبط ارتباطًا وثيقًا بمصطلح "الشعب اليهودي[41] . الخلط الفاقع بين السياسية والدين عن طريق ممارسة الشعائر الدينية في أراضي 67 أدى لتديين التصورات القومية الصهيونية، وجعلت التصورات الدينية أقوى من التصورات القومية في الحركة الصهيونية. تمرد الصهيونية الدينية على الستار الحديدي الذي فرضه حزب العمل جلب معه تمرادت ثقافية أخرى، من الشرقيين والحريديم، وحاولت النخبة القديمة أن تتدارك الموقف وتكسب جمهورًا جديدًا في وقت متأخر بعد الهجرة من دول الاتحاد السوفيتي السابق، ولكن هذا لم ينجح فقد كان القادمون من دول الاتحاد السوفيتي يكرهون كل ما له علاقة باليسار لأنه يذكرهم بالاتحاد السوفيتي[42].
 
الخلاصة أن التحولات الطبقية مصحوبة بتمردات ثقافية، كان لها البيئة الخصبة في فترة حزب العمل أو الأحوساليم، كانا الدافعين والمسببين لسقوط الهيمنة السياسية لحزب العمل عام 1977. ولكنني هنا أدعي أن الصهيونية بحد ذاتها كحركة استعمارية تحتوي جذور كل ما له علاقة بالاستيطان. هذا بالرغم أن العديد من المفكرين كحالة كيمرلينغ يبذون جهدًا جهيدًا ليفرقوا بين "الهتيشفوت – أي النشاط الزراعي للكيبوتسات والموشافيم" و"الاستيطان". وهنا لا أنكر وجود فوارق معينة بين الاثنين، ولكنها في التحليل الأخير ليست جوهرية ولولا الكيبا لكان التفريق بينهما أصعب، وكلاهما يعودان إلى نفس الجذر الصهيوني وكلاهما سرقا أراضي السكان الأصليين لتحقيق غايات قومية ودينية.
 
الفصل الثاني
انقلاب 1977 ونهاية الهيمنة السياسية
 
في عام 1977 سقط حزب العمل واعتلى الليكود سدة الحكم بقيادة مناحيم بيغين، نفس بيغين الذي حاز على ألقاب تحقيرية عديدة من بن غوريون: "هتلري، مهرج، الشخص الذي يجلس إلى جانب عضو الكنيست بدر"، نفس بيغين وصل إلى سدة الحكم كنتيجة لنهاية همينة مباي (أو الأحوساليم). ولكن وصوله إلى الحكم لم يؤسس لهيمنة جديدة بديلة، ولكنه شق الطريق لما وصل إليه صراع الهيمنة في أيامنا، وقف بيغين على رأس كتلة تاريخية مكونة من نخبة ثانوية (رجال حيروت سابقًا) والشرقيين، والصهيونية الدينية بوجهها الأكثر قباحة بعد عام 1967 (ولاحقًا انضم الحريديم). لعل هذه الكتلة ولت اهتمامًا كبيرًا لتفكيك آليات الهيمنة التاريخية لمباي –الاقتصاد تحديدًا- كما يقول داني جوتووين في برنامج "طبقا الذهب": "كانت سياسية موجهة". إلا أن حزب العمل بقي حزبًا قويًا حتى العام 2001، فقد بقي الليكود والعمل متساويين في عدد المقاعد البرلمانية حتى العام 2001 ولكن في معظم الحالات كان لليكود أكثرية برلمانية (باستثناء حكومة رابين الثانية 1992). بقي حزب العمل حزبًا قويًا حتى العام 2001 تبعها محاولة انعاش لم تدم طويلًا في العام 2015 عندما فاز العمل ب24 مقعدًا وعاد ليكون الحزب الثاني لأول مرة منذ العام 2001. بهذا المعنى نسمي الليكود "مجموعة مسيطرة غير مهيمنة" تصارع اليوم على تشكيل هيمنتها من خلال التمكن من جهاز الدولة فيما يسمى "الإصلاح-الانقلاب القضائي، أما المهم في بيغين فهو أنه فكك البنى المادية (الاقتصادية) لحزب العمل وعبد الطريق للكيود وكتلته التاريخية ليصارع على هيمنة معاصرة. هنا أقترح قراءة فترة مناحيم بيغين من ثلاثة زوايا:
1.       القائد الشعبوي كبديل لأذرع الحزب والدولة أيام مباي.
2.      اللبرلة أو التحول من رأسمالية الدولة إلى رأسمالية السوق الحر.
3.      علاقة مناحيم بيغين بمؤسسات الدولة.
 
مع صعود بيغين استبدلت أساليب الأذرع (الاقتصادية والأديولوجية) بالقائد الشعبوي، يستعرض داني فيلك في كتابه "الشعبوية والهيمنة في إسرائيل" سبعة نظريات عن الشعبوية. وهنا لا مجال للخوض في كلها ولا للعودة للمعنى اللغوي للشعبوية، ولكننا نشير إلى اختيار فيلك لنظرية "الشعبوية الاحتوائية" لفهم صعود مناحيم بيغين وكتلته التاريخية والتغيرات التي جاءت معه. مفهوم الشعبوية الاحتوائية يعني وجود مجموعة تاريخية مهمشة تريد الحركة الشعبوية احتواءها من خلال ضمها للإجماع ("النحن") وهذا يحدث على ثلاثة مستويات: مستوى مادي، المستوى الرمزي، المستوى السياسي[43]. تحسن الجماعة الشعبوية وضع المجموعة المهمشة ولو بدون المساس بالبنيوية التي تتسبب في تهميشهم. في عملية احتواء المجموعة المهمشة يؤدي القائد الشعبوي دورًا مركزيًا، في معظم الحالات ينتمي القائد الشعبوي إلى نخبة ثانوية، ويؤدي القائد الشعبوي دوره في احتواء المجموعة المهمشة، هو الوسيط الذي يخاطب الجموع مباشرة[44]. في المستوى السياسي، أعضاء المجموعة المهمشة يتقدمون إلى مكان ثانوي في القيادة، الصف الثاني أو الثالث. وتتحول المجموعة المهمشة إلى موضوع سياسي ومن ثم إلى مركب في الكتلة التاريخية، هذا باختصار مفهوم الشعبوية الاحتوائية.
وقفنا على أسباب تغيير الشرقيين لولائهم من مباي إلى الليكود. حركة حيروت ولاحقًا الليكود صوروا أنفسهم كحركة محتوية، من خلال استحضار تراث جبوتنسكي وكتاباته وإما بخطابات مناحيم بيغين. على المستوى الرمزي دفعت حيروت (ولاحقًا الليكود) خارج الكتلة التاريخية الأحوسلية منذ البداية بعد أن رسم بن غوريون حدود كتلته التاريخية بوضوح في مقولته: "بدون حيروت، بدون الحزب الشيوعي". ابتعدت حيروت (الليكود) عن المصطلحات والمفاهيم المستجدة من قبيل: "حلوتسيوت، أمة إسرائيلية الخ" وتمسكت بمفهوم "الشعب اليهودي"، استعمال مفهوم "الشعب اليهودي" مكان مفاهيم مباي زاد من الشعور بالانتماء عند الشرقيين، فالشرقي هو يهودي تمامًا كالأشكنازي، ولكنه كان يشعر بأنه أقل إسرائيلية وحلوتسية منه. بهذا الشكل خلق بيغين تواصلًا بين اليهود من خلال أراضي 67 والرموز القومية[45].
في البديل البيغيني استبدلت الحلوتسيوت بالاشتراك في "حروب الشعب اليهودي". وتم احتواء الشرقيين في "النحن" عن طريق: الهجرة الجماعية، المشاركة في الحروب، عرض الشعب اليهودي كوحدة تنظيمية إثنية[46]. يكثر داني فيلك من اقتباس مقاطع من خطابات بيغين والتي في نظره تؤكد فكرة "الشعبوية الاحتوائية" ولسنا في حاجة إلى عرض كل الاقتباسات التي جاء بها فيلك، وواقعًا حيروت (ومن ثم الليكود) نجحوا في احتواء الشرقيين. ومن بين كل خطابات بيغين يعد خطابه في الحملة الانتخابية لعام 1981، المعروف ب"خطاب الرعاع"، أشهر خطاباته على الإطلاق وهو رد على دودو توباز الذي وصف أنصار الليكود (في تلميح للشرقيين) ب"الرعاع". غير أن شعبوية بيغين احتوت مركبات أخرى أبرزها: ضد النخب، ضد الاشتراكية، ضد سياسة الأذرع، والاحتواء السياسي.
 
ضد النخب: انتمى بيغين إلى نخبة ثانوية تشبه الكتلة التاريخية الأحوسلية إلى حد ما. كان بيغين حريصًا حتى قبل تأسيس الليكود على مهاجمة النخب والنخبوية التي اتصف بها حزب العمل، والجمع بين النخبة الثانوية و"الجموع"، وصور حزب كغرباء عن "الشعب الحقيقي" ورسمت النخب في الوعي الشعبي كعدو داخلي مرتبط بالعدو الخارجي في سياقات معينة. ويمكننا أن نجد هذا في حملات حيروت منذ الستينات:
"مباي والليبراليون يمثلون رأس المال الكبير ومجموعة عمالية صغيرة، ولكن لا يوجد ما يربطهم مع الطبقة الوسطى والعمال المستقلين" (حيروت 1963).[47]
 
الحملة ضد النخبوية كانت بمثابة شريط حياة بيغين الذي لم يفوت فرصة لمهاجمة نخبوية حزب العمل الذي يمثل الطبقة العليا، حتى لو كان بالربط بين حزب العمل والعدو الخارجي، هكذا فعل مع شمعون بيريس على سبيل المثال:
"في باريس، على من اعتمدت صحيفة لي موند؟ على أقوال شمعون بيريس. في بريطانيا، على من اعتمد الطيار غير الصديق؟ على أقوال السيد بيريس، صحيفة النيو يورك تايمز، التي ليست مناصرة كبيرة لإسرائيل، على من اعتمدت في عمودها الرئيسي الذي يدين إسرائيل؟ على أقوال رجال حزب العمل، السيد بيريس وأصدقاؤه. هكذا تجندوا ضد شعب إسرائيل، ضد حكومة إسرائيل، ضد مصالح إسرائيل، ومدوا أيديهم للغرباء والذين يريدون لنا السوء (بيغين 1981).[48]
 
ضد الاشتراكية: مناهضة الاشتراكية كانت مركبًا هامًا في شعبوية بيغين، الاشتراكية بالنسبة للشرقيين معناها الاضطهاد والفقر. اقتصاد مباي وجه ضد الشرقيين وحافظت على تفوق الأشكناز بشكل عام والأشكناز الحلوتسيم بشكل خاص. كان بيغين هو القائد الذي عبر عن مشاعر المعاناة والاضطهاد للشرقيين ضد غطرسة المباي، وقد فعل هذا بشكل منتظم في سلسلة مقابلات وخطابات مدروسة، وهنا نعود مرة أخرى للعام 1981، أي قائد في العالم مكان بيغين كان سيخسر معركة الانتخابات في تلك الظروف (سنأتي على ذكرها بالتفصيل) ولكن بيغين في تلك الانتخابات قفز فوق الوقع وراح يغازل حقد الشرقيين على المباي، ففي خطاب له عام 1981 وسط الحشود راح بصوته الجهوري يسخر من خصومه في حزب العمل قائلًا:
"إنهم يريدون أن يمسكوا خدي بإصبعين ويضعطون عليهما حتى يفقؤونهما تقريبًا حتى أصبح أنا أحمرًا، هذا لأنهم يخجلون من لونهم الأحمر الاشتراكي، إنهم يخجلون ويخافون، لذلك يريدونني أنا أن أصبح أحمرًا". الاشتراكية هي أمر سلبي جدًا في وعي الشرقيين، ومن الصعب الجمع بينهما، وهنا جاء دور بيغين الذي ملأ هذا الفراغ.
ضد الأذرع والأجهزة: علاقة التبعية التي خلقتها أذرع سلطة حزب العمل مع الشرقيين جعلت الشرقيين ينفرون عن هذه الطريقة، ومن جانبه بيغين لم يستبدل أجهزة مباي بأجهزة جديدة ولكن حل مكانها أسلوب "القائد والجموع".
الاحتواء السياسي: نمت قيادة سياسية من أوساط الشرقيين (وإن كانت قيادات في الصف الثاني) بثلاثة خطوات: "صعود القيادة، دخولها إلى الحلبة السياسية وثالثًا الاعتراف بهم كموضوع سياسي[49]. كان الليكود هو من قام بعملية احتواء الشرقيين، وفي الليكود صعدت قيادات شرقية عديدة، أبرزهم دافيد ليفي، فتحت أبواب الليكود أمام الشرقيين واعترف بهم الليكود كموضوع سياسي. ولعل كلمات دافيد ليفي تلخص كل شيء:"لم تعد مدن التطوير مجرد نقاط مبعثرة على الخريطة، بل تحولت إلى قوة منظمة يراعونها، يتحدثون معها، ويحسبون حسابها".[50]
هذه كانت مركبات قيادة (أو شعبوية) بيغين التي استبدلت سياسية الأذرع التي اتبعها حزب العمل. ولكن هذه المركبات ليست الوحيدة، في حقبة بيغين لم تعد المؤسسات موحدة: القطاع العام، الإذاعة، الشركات الحكومية، لم يعد لها طابع قريب من حزب العمل. في نفس الفترة بدأت تتشكل حركات غير برلمانية وغير حزبية، كحالة جوش ايمونيم، و"سلام الأن" و"هناك حدود". وكذلك مجموعات ضغط خارجية مثل "أمهات لأجل الانسحاب من لبنان"[51] . رغم عدم تصادم بيغين مع مؤسسات الدولة ولكنه أضعفها من خلال زعزعة وحدة المؤسسات القائمة على هدف أيدولوجي وحزبي وراحت المؤسسات تصبح دولنية أكثر، مع أن بيغين لم يشن حملة إقالات في المؤسسات. هذه الحقيقة تزع من يقرؤون فترة مناحيم بيغين بعقلية اليوم، مثال على ذلك اليميني "ايرز تدمور" في كتابه بعنوان "لماذا تصويت لليمين وتحصل على اليسار؟"  يخصص فصلًا عنوانه: "الانقلاب الذي لم يحدث"، ينتقد انقلاب 1977 من وجهة نظر معاصرة، حيث يقول أن بيغين لم يغير السياسات لأنه لم يمس بالموظيف والقطاع العام، ولكن هذه المقولة ضيقة الأفق، لا يوجد حكومة في العالم تغير كل المنظومة البيروقراطية من فوق فور صعودها، هذا أيضًا ليس بتلك السهولة. على كل حال بيغين لم يهتم كثيرًا بالترتيب المؤسساتية وإضافته الوحيدة هي ما ذكرناه، وكان كافيًا بالنسبة لبيغين أن يزعزع الوحدة الأيدولوجية والحزبية للمؤسسات في الفترة التي سبقته.
أهمية تراث بيغين السياسي تكمن أولًا في ترسيخ أسلوب القائد الشعبوي (وسنرى كيف استمرت هذه الطريقة بعد بيغين)، وثانيًا في التحول الاقتصادي الليبرالي في أيام بيغين. بدأت اللبرلة رسميًا في أكتوبر 1977: إلغاء الرقابة على حيازة العملات الأجنبية، توحيد أسعار صرف الليرة الإسرائيلية في حينها. يضاف إلى ذلك: إلغاء العديد من ضرائب الشراء،  تخفيض التعريفات الجمركية، إلغاء ضريبة السفر إلى الخارج، زيادة ضريبة القيمة المضافة، تخفيض الدعم على المواد الغذائية الأساسية، زيادة أسعار الوقود، الكهرباء والمياه والنقل العام وإلغاء حوافز التصدير[52]. يسمي داني فيلك سياسة الليكود الاقتصادية "سياسة التناقضات".
ما يتفق عليه الباحثون هو أن مناحيم بيغين لم يكمل عملية اللبرلة، وهناك من يفسر هذا ك"الانقلاب الذي لم يحدث" و آخرون يصفون سياسات بيغين ب"المتناقضة". في تقديرنا أن سياسة بيغين نعم احتوت الكثير من التناقضات ولكنها سياسة موجهة بدونها لم يكن بالإمكان تفكيك ركائز قوة حزب العمل. الوسيلة المركزية في تفكيك أدوات هيمنة حزب العمل وتشكيل اقتصاد نيو-ليبرالي مكان اقتصاد مباي هي التضخم، سياسة اللبرلة أدت إلى ارتفاع جنوني في نسبة التضخم والتي وصلت إلى 487% عام 1983[53]. التضخم المرتفع مثل تحديًا لاقتصاد حزب العمل، في تلك السنوات (1977-1982) قادت حكومة بيغين ثلاثة خطط اقتصادية، الأولى كانت اللبرلة، في 1978 طبعت حكومة بيغين 25 مليارد ليرة منحوا كبطاقات بنكية وساعدوا مجموعات كثيرة على الدخول في دائرة الاستهلاك[54] ، والشاهد على أن التضخم كان سياسة موجهة هو ثبوت مؤشر اللا مساواة بفضل السياسية الضريبية لليكود في سنوان 1977-1984. وفي تلك السنوات اتخذت حكومة بيغين خطوات جدية حافظت على كتلتها التاريخية ميدانيًا، منها خطة ترميم الأحياء التي بدأت في حكومة رابين وشملت فقط ثمانية أحياء، في عام 1978 أضيف 28 حيًا جديدًا، و36 عام 1979 و5 عام 1980[55]. هذا يرينا أن جوتووين صدق في قوله أن التضخم كان سياسة موجهة لتفكيك أدوات حزب العمل، ويضيف أن التضخم كان ضلعًا من مثلث مكون من: "تضخم دوري، فائدة مرتفعة، انهيارات في البورصة".[56]
سياسة الليكود حافظت على احتواء الطبقات الدنيا الشرقية وفي نفس الوقت ضمنت إبعاد الطبقة الوسطى الأشكنازية عن "اليسار" ودمجتها في العالم النيو-ليبرالي الذي كان يشق طريقه إلى إسرائيل في تلك السنوات. انهيار البورصة لم يؤثر على الطبقة الوسطى الأشكنازية لأن أذرع حزب العمل كانت قد وفرت حماية للطبقة الوسطى من تسونامي اللبرلة الذي اجتاح إسرائيل في تلك السنوات ووفرت لها شبكة أمان. إعادة توزيع الثروة دمجت الطبقة الوسطى في العهد النيوليبرالي وجاءت ب"الأغنياء الجدد" –مثل المقاولين ومقرمي الخدمات- الذين استبدلوا القطاع العام، حيث انتفت الحاجة لعمال القطاع العام. في تلك الفترة اندمجت الطبقة الوسطى الأشكنازية في ثورة اليمين، وزادت قوتها الاقتصادية عبر اندماجها في السوق بعد أن حافظت على نفسها من خلال الأجهزة القديمة لحزب العمل، وفي الحقبة الجديدة تركز نشاط الطبقة الوسطى في السوق وابتعد عن السياسية، وكذلك في الجهاز القضائي[57]. المفارقة هنا أن أجهزة مثل الإعلام، والأكاديميا توسم باليسارية مع أن هذه الأجهزة تحديدًا كانت أول من دعم ثورة اليمين الليبرالية وانخرطوا فيها، وهذا يعيدنا إلى العامل المؤسساتي، عدم الصدام المباشر مع المؤسسات وانخراط الطبقة الوسطى الأشكنازية في ثورة اللبرلة حتى النهاية من خلال تضاعف قوتهم في السوق والإعلام والقضاء والأكاديميا يجعل الكثيرون ينظروف إلى صعود بيغين على أنه "الانقلاب الذي لم يحدث".
من هؤلاء الذين رأوا في حينها أن صعود بيغين هو "الانقلاب الذي لم يحدث" يمكننا أن نذكر يورم بن فروت ومقاله عام 1982: "الانقلاب الذي لم يكن"، هناك يكتب: "من الواضح أن استعمال القوة مقيد كون الاقتصاد الهستدروتي ليس بيد للحزب الحاكم، ولكن ليس هناك أي علامات لاستمرار النضال الليبرالي لتفكيك مكمن القوة هذا"[58]. كان المنطق الذي حرك بيغين هو تفكيك البنى المادية التي تؤمن سيطرة سياسية، بيغين  كان يقظًا وواعيًا أن صدامًا مباشرًا مع المؤسسات مصيره الفشل وعدم الوصول إلى هيمنة سياسية، نجح بيغين في الحفاظ على دعم الطبقات الدنيا الشرقية وإبعاد الطبقة الوسطى عن الأشكنازية عن السياسة. ثورة بيغين الليبرالية لم تكن كاملة، لم يترتب عليها هيمنة جديدة وقوت قوى قديمة في الاقتصاد الجديد وفي نفس الوقت قطعت الطريق أمام عودة الهيمنة القديمة وعبدت الطريق لصراع الهيمنة المستقبلي. الخلاصة، يتلخص تراث بيغين في شخصية القائد الشعبوي الذي ما زال يؤثر على النقاش السياسي في إسرائيل، إضافة لعلاقة فاترة غير صدامية مع المؤسسات، وأخيرًا في اقتصاد سوق ليبرالي (أو نيو-ليبرالي). هذا التراث حجر زاوية مهم في صراع الهيمنة  الذي يدور أيامنا والذي بلغ مرحلة خطرة. شخصية بيغين وتراثه حاضران بقوة اليوم أيضًا، ولم تملك قوى "اليسار" مشكلة في تصوير نفسها كالممثل الحقيقي لتراث بيغين، والصواب أن قربهم من بيغين هو قرب مختلف تمامًا، مكانهم في السلم الاجتماعي يعود إلى أيام بيغين الذي كان أجدادهم يتفننون بإيجاد الألقاب التحقيرية له، وحتى معاصروه وهو في السلطة، كحالة شولميت ألوني وصفوا أسلوبه ب"الفاشي"، أخشى أن يجانبني الصواب إذا ما وصفت قوى "اليسار" بأنها أريد لها أن تكون "ضحايا" بيغين وثورته الليبرالية، فحدث العكس تمامًا في هذه الثورة وتمكن هؤلاء من النجاة من الطوفان الليبرالي وحافظوا على مكانتهم في السلم الاجتماعي بشكل جديد ومختلف، ولم يهمهم تغير لون البقرة لأنها استمرت في إعطائهم الحليب.
 
النظام الجديد – النيوليبرالية
 
لا يوجد تعريف واحد متفق عليه للنيو-ليبرالية ومتى ظهرت للمرة الأولة، ولكن هناك أفكار مكونة للنيو-ليبرالية يتفق عليها الباحثون والمفكرون، وهي أن النيواليبرالية بالأساس تعني سوق بلا تدخل الدولة، وضد الاقتصاد الكينزي. وحتى تعريف داني فيلك للنيو-ليبرالية كمشروع هيمنة فإني لا أتفق معه بالكامل، وأعني بهذا أنني أتفق النيوليبرالية مشروع هيمنة للرأسمالية العالمية يشير لانتصارها على المعسكر الاشتراكي، والانتصار على المعسكر الاشتراكي أدى لنفي الحاجة للتنازلات التي قدمتها الرأسمالية للطبقات الشعبية خلال الحرب البادرة، هذا على المستوى العالمي في دول المركز الرأسمالي، وليس في الدول الطرفية ودول المحيط التي تبنت النيوليبرالية هي أيضًا. ولوضع الأمور في نصابها فإننا نقول أن النيو-ليبرالية انطلقت في دول المركز الرأسمالي وعبرت عن طور جديد من الرأسمالية الاحتكارية ومن ثم دخلت باقي الدول المحسوبة على المعسكر الرأسمالي في النظام العالمي الجديد، وليس بالضرورة أن كل دولة تبنت النيو-ليبرالية حققت تقدمًا صناعيًا وتكنولوجيًا، فالتقدم والتأخر في هذه الصناعات يأتي بالأساس من ترتيبات قوة عالمية. والمثال الفاقع على هذا هو روسيا ما بعد السوفيتية، التي حاولت الانضمام إلى المعسكر النيو-ليبرالي ولم تكسب شيئًا من كل هذا، وبالعكس تحولت إلى محطة وقود عالمية. وتبني النيو-ليبرالية محليًا لا يكون مصحوبًا بالضرورة بهيمنة المجموعة التي تقود إلى تبني النيو-ليبرالية.
من بين التعريفات الكثيرة للنيوليبرالية فإننا نختار تعريف دافيد هارفي (David Harvey):
"النيوليبرالية هي في المقام الأول نظرية للممارسات الاقتصادية السياسية، التي تقترح أن رفاه الإنسان يمكن أن يتحقق من خلال تحرير الحريات والمهارات البشرية في مجال ريادة الأعمال، عبر إطار مؤسسي يتميز بحقوق ملكية خاصة صارمة وأسواق حرة وتجارة حرة، ويتمثل دور الدولة في إنشاء إطار مؤسسي ملائم لهذه الممارسات والحفاظ عليها، على الدولة أن تضمن، على سبيل المثال، جودة وسلامة المال. ويجب عليها أيضا أن تنشئ ما يلزم من هياكل ومهام عسكرية ودفاعية وشرطية وقانونية، لتأمين حقوق الملكية الخاصة وضمان حسن سير الأسواق بالقوة إذا لزم الأم، علاوة على ذلك، إذا لم تكن الأسواق موجودة (في مجالات مثل الأراضي، أو المياه، أو التعليم، أو الرعاية الصحية والضمان الاجتماعي أو التلوث البيئي) فيجب إنشاؤها، عن طريق إجراءات الدولة إذا لزم الأمر، ولكن لا ينبغي للدولة المغامرة أبعد من هذه المهام. يجب أن تبقى تدخلات الدولة في الأسواق بمجرد إنشائها في الحد الأدنى، لأنه، وفقا للنظرية، لا يمكن للدولة أن تمتلك ما يكفي من المعلومات لتخمين مؤشراتً السوق (الأسعار)، وذلك لأن مجموعات المصالح القوية ستشوه حتماً وتحيز تدخلات الدولة (خاصة في الديمقراطيات) لمصلحتها الخاصة.[59]
عملية اللبرلة (النيو-ليبرالية) في إسرائيل استمرت منذ أواسط الثمانينات وحتى تسعينات القرن الماضي، خطة الثبات الاقتصادي التي أقرتها حكومة الوحدة الوطنية بين الليكود وحزب العمل كانت علامة فارقة في تبني النيو-ليبرالية. حيث اتصفت تلك الفترة حتى بدايات سنوات ال2000 بوضع تعادل سياسي بين الحزبين، في تلك السنوات أقيمت حكومة وحدة وطنية (1984-1988) وعاد العمل إلى السلطة في عامي 1992 مع رابين، ولفترة قصيرة 1999-2001 إيهود باراك. هذا على المستوى السياسي ولكن أهمية تلك الفترة تكمن في إتمام تبني  النموذج النيو-ليبرالي بالكامل، بما يلائم ظروف إسرائيل طبعًا، وأثر هذا على الكتلتين التاريخيتين والصراع بينهما. الانتقال إلى النموذج النيو-ليبرالي مر بعدة مراحل يشير إليها داني فيلك. [60]
 
 
1.       سياسة نقدية صارمة: تضخم منخفض، استقلالية بنك إسرائيل وفائدة مرتفعة.
2.      سياسة مالية مقيدة.
3.      لبرلة القطاع المالي.
4.      خفض الأجور.
5.      خفض الضرائب على الشركات والمشغلين.
6.      خصخصة شركات حكومية وهستدروتية.
 
منذ 1985 حتى 1993 ارتفعت مساهمة القطاع في الناتج المحلي من 47% إلى 62% وانخفضت مساهمة القطاع العام من 53% إلى 38% في الناتج المحلي[61]. ازدادت وتيرة الخصخصة، خصخصت البنوك، وصندوق التقاعد التابع للهستدروت، شركة طيران ال-عال، وشركات حكومية أخرى عديدة، مثل شركة الميداليات والطوابع، شركات طباعة، سلطة الشواطئ، والمصافي. وكذلك تبنيت سياسات عدم الضبط الحكومي  (de regulation) وإزالة الرقابة في مجالات عديدة في القطاع العام، تفكيك المجالس الإنتاجية، إزالة الرقابة على الأسعار. وكذلك على مستوى الدولة حلت سياسة تجارية جديدة في خدمات الرفاه هدفها: خفض المساهمات الحكومية، دخول مستثمرين إلى مجالات الرفاه، والهدف الأخير إخضاع المجتمع لإرادة السوق عن طريق تنصل الدولة من مسؤوليتها في مجالات: السكن، الصحة، التعليم، وعدم إيجاد بدائل خارج السوق. انخفاض تدخل الدولة في مجال الرفاه الاجتماعي بدأ مع خطة الثبات الاقتصادي عندما انخفضت المساهمة الحكومية عندما انخفضت مساهمة الدولة إلى أقل من 15% من مجمل ميزانية الرفاه[62].
 
السياسية التجارية الجديدة وصلت إلى كل مناحي الحياة تقريبًا، وبالاعتماد على داني فلك سأعطي مثالين من قطاع الصحة وقطاع التعليم:
 
-         في قطاع الصحة تكثفت الخصخة في قطاع التمويل والمساهمة الحكومية انخفضت ل21.6% في سنوات التسعين، بعد أن كانت 45% في السبعينات. وكذلك تم خصصة الكثير من المستشفيات ونقل الملكية، عام 1980 كان في إسرائيل 57 مستشفى خاصة وقفز الرقم ل161 عام 2003. وعام 1986 أقر في الكنيست قانون يسمح بدخول جهات خاصة في مجال العلاج الطبقي، في القانون أقر أن تقديم الخدمات يمكن تقديمها بالتعاون بين جهات حكومية ومستمثرين من القطاع الخاص برقابة الدولة.[63]
 
-          القطاع التعليم: في38% من المدارس أقر برنامج تعليمي إضافي بتمويل الأهل، في سنوات الثمانينات ارتفع انفاق العائلات على المستلزمات الدراسية من 17% إلى 26% في التعليم الثانوي ومن 9% إلى 36% في التعليم العالي. وتجلت اللبرلة بعدة أمور: تمويل جزئي للمدارس الخاصة، إمكانية تجنيد أموال بشكل مستقل من قبل المدارس، تبني أسلوب الإدارة كما في القطاع الخاص.[64]
 
حقبة اللبرلة اتصفت بشيء مهم للغاية وهو إضعاف الأحزاب كجزء من إضعاف المؤسسات وتحييد السياسة عن مجالات عديدة. فقدت الأحزاب مكانتها عند الجماهير بعد توفر بدائل غير حزبية غير ملزمة بأيدولوجية معينة للوصول لأهداف عينية، ومن علامات هذا اختفاء الصحف الحزبية. ضعف الأحزاب والتحول من  أحزاب قوية صاحبة أذرع وأجهزة إلى أحزاب تبتز من مجموعات ضغط خارجية عبر عنه بتبني أسلوب "البرايمرز" أي الانتخابات المفتوحة حيث يستطيع كل مرشح أن يجلب من يشاء ليصوتوا له في انتخابات مفتوحة حتى لو لم يكونوا أعضاء في الحزب، بهذا تحول المرشحون داخل الأحزاب في حالات كثيرة إلى ممثلين لمجموعات ضغط خارجية، وبهذا المعنى خصخصت السياسية أيضًا.[65]
في تلك السنوات أضعفت الهستدروت أيضًا، وتحديدًا في حكومة رابين الثانية (1992-1995) كانت نهاية الهستدروت التاريخية التي حملت حزب العمل على أكتافها وكانت أهم ركائز هيمنته. في ماي من العام 1994، في فترة رئاسة رامون للهستدروت، تم محو إنجازات حزب العمل طوال سبعين عامًا: صندوق المرضى صار ملكية دولة وليس للهستدروت، وراحت الهستدروت تبيع شركاتها، مثل شركة البناء. السخرية أن هذا كان في فترة رابين وليس فترة بيغين أو شامير، وهذا بدوره يشهد على تغير البنى الطبقية وأثرها على تعاطي حزب العمل نفسه مع الواقع. الأحوساليم القدماء اندجوا في النيو-ليبرالية بكل ما أوتوا من قوة وصاروا (أو بقيوا) أقوياء في السوق ومؤسسات الدولة، والمركبات التاريخية للكتلة التاريخية تشظت مع الوقت، وهذا حدث مع كتلة الليكود أيضًا ولكن ما فارق انضمام عضو جديد (هو الحريديم) سنتكلم عنهم في الفصل القادم. يمكننا أن نضع خطًا زمنيًا منذ الاستيطان قبل الدولة حتى العام 1977 لفترة هيمنة حزب العمل، وحتى العام 2001 بقي حزب العمل حزبًا قويًا عاد إلى الحكم مرتين وشارك كوصيف مرة، ومع باراك انتهى حزب العمل تمامًا وبقي وجوده رمزيًا فقط حتى يومنا هذا، ويتوقع أن يدخل إلى كتب التاريخ في الفترة المقبلة. اللبرلة منذ بيغين كانت بمثابة عد تنازلي في عمر حزب العمل سياسًا، ولكن الإرث التاريخي لحزب العمل مكنه من الصمود طويلًا، ولكن سقوط حزب العمل والكتلة التاريخية لمباي جلب معه تشكل معسكر سياسي جديد سنتحدث عن في الفصل القادم.
الفصل الثالث
الحريديم وحركة شاس- لاعب جديد في الكتلة التاريخية
 
يتواجد الحريديم (الأشكناز تحديدًا) في الساحة السياسية منذ إقامة الدولة، وكانوا في كل الحكومات بلا حقائب وزارية منذ العام 1952 كي لا يتورطوا في قوانين من شأنها خرق الشريعة[66]. حتى صعود حركة شاس لليهود الشرقيين عام 1984 التي لم يكن لديها هذا المانع، أي أنه بإمكاننا إدراج الحريديم في تلك الفترات كحركة مصلحة سياسية تهتم لجمهورها بدون أن تكون طرفًا فاعلًا في قرارات سياسية مفصلية، ما كان يهم الحريديم في تلك الحقبة هو عدة نقاط يلخصها أسعد غانم:
1.       طابع جهاز التعليم.
2.       قانون الخدمة العسكرية.
3.       "الستاتوس-كفو" (اتفاقية الوضع القائم) في شؤون الحفاظ على حرمة السبت والكاشير.
4.       مسألة قانون العودة اليهودي.
5.       التهويد حسب أصول الشريعة (الهلخا).
6.       تركيبة وصلاحيات المجالس الدينية.
7.       صلاحيات المحاكم الدينية. [67]
 
 تواجد الحريديم في حكومات حزب العمل والليكود بدون أخذ "يمين أو يسار" الخارطة السياسية. القائمة الحريدية حينها كانت قائمة حريديم أشكناز تسمى "أجودات يسرائيل" والتي اتحدت مع قائمة حريديم أشكنازية تدعى "ديغل هتورا" ليشكلا قائمة "يهدوت هتورا" عام 1988، وقبلها كانت قد تشكلت حركة شاس لليهود الشرقيين عام 1984. وقد تلخصت مطالب الحريديم تاريخيًا فيما ذكرناه أعلاه من شؤون دينية وطابع جهاز التعليم والتجنيد الخ. وفق كيمرلينغ، فإن الحريديم الشرقيين انشقوا عن الأشكناز لانعدام ثقتهم في تقبلهم كمتساوين في المجتمع الأشكنازي اللتواني، وبدؤوا ببناء مركز ثقل مستقل يرتكز على الشخصية الكاريزماتية للحاخام الشرقي عوفاديا يوسف. غير أن شاس أيضًا قامت في سياق اقتصادي-سياسي عند الفئات المتوسطة والمتدنية الشرقية ككل، رغم أن شاس أكدت الجانب الاجتماعي (الثقافوي الشرقي) لاحقًا بينما كان تركيزها على الجانب الديني في بداياتها[68]، نقطة التحول في التركيز على الجانب الثقافي الشرقي جاء بعد إدانة أرية درعي. ولت حركة شاس اهتمامًا كبيرًا لمنظومة التعليم بشكل يشبه أساليب هيمنة مباي ووعاء الصهر, شاس تسيطرعلى مؤسسات التعليم عند الحريديم الشرقيين، ولكن مع فارق: "شرقيون لأجل شرقيين" (كيمرلينغ)، ومن هنا ينوه على كيمرلينغ على تناقضين داخليين في حركة شاس:
1.       كلما ترقى الشرقيون في السلم الاجتماعي كلما انتفت حاجتهم لحركة شاس.
2.      المدارس التوراتية التي تسيطر عليها شاس لا تعطي طلابها الأدوات التي تساعدهم في الاعتماد على أنفسهم والترقي في السلم الاجتماعي، وهكذا ينتقل الفقر من جيل إلى جيل.
 
فقط في الانتخابات المتكررة في أعوام 2019-2021 تبين أن الحريديم أصبحوا جزءًا من كتلة تاريخية ولم يعودوا مجرد مجموعة مصلحة سياسية، هذا بالرغم من وجود علامات أولية منذ البداية على انضمام الحريديم للكتلة التاريخية التي يقودها الليكود. ندلل على هذا في الحوار الذي جرى بين الحاخام شاخ وإسحاق رابين في فترة حكومة رابين الثانية، حيث كانت وجهات نظر رابين والحاخام شاخ (قائد الحريديم الليتوانيين) متقاربة إذا لم نقل متطابقة في كل ما يتعلق بعملية السلام والانسحاب إلى حدود السادس من حزيران 1967، وطلب رابين من الحاخام شاخ الانضمام إلى حكومته ولكن الحاخام شاخ رفض طلب طلب رابين وعلل رفضه بالكلمات التالية: "في الليكود يوجد بسطاء الشعب، المحافظون على التقاليد أصحاب الإيمان البسيط والبريء. وأنا مع بسطاء الشعب".[69]  تنامت قوة الحريديم متمثلة بحركة شاس، بسبب النمو السكاني الكبير. في تلك السنوات كان هناك عدة أحداث أخرت انضمام الحريديم للكتلة التاريخية. أولها الهجرة من دول الاتحاد السوفيتي السابق. حيث نظر الحريديم بعين الريبة إلى المهاجرين الجدد ولم يعترفوا بيهودية الغالبية منهم، ووفق تقرير في موقع واينت من عام 2019، لا تعترف المؤسسة الدينية بيهودية 60% من مهاجري دول الاتحاد السوفيتي السابق[70]. يعزي جرايسي ازدياد التشدد عند الحريديم بالأساس إلى الهجرة الروسية كون المهاجرين قد جاؤوا من بيئة علمانية محضة لا تعرف القيود الدينية وأرادوا الاستمرار بنفس نمط عيشهم العلماني في إسرائيل ما رفضه الحريديم والمؤسسة الدينية التقليدية[71]. الجانب الثاني هو أن المهاجرين من دول الاتحاد السوفيتي السابق كانوا أبعد ما يكون عن كل ما يخص اليسار  والاشتراكية في آرائهم، وبهذا كانوا أقرب للكتلة التاريخية لليكود، ولم تكن إلا مسألة وقت حتى يتصادموا مع الحريديم، وقد حدث هذا أخيرًا على خلفية قانون التجنيد وإسقاط ليبرمان لحكومة نتنياهو عام 2019 ليدخل إسرائيل في سلسلة انتخابات متتالية حتى عام 2021. تفضيل الحريديم على الروس كان لعدة أسباب، أهمها الوزن السياسي للحريديم، والثاني هو أن الحريديم فعلًا جزء من الكتلة التاريخية التي يقودها الليكود.
في الذكرى ال17 لمترد البولنديين على الألمان قال فريدريخ إنجلز(Frederick Engels): "إن شعبًا يحتل شعبًا آخرًا لا يمكن أن يكون حرًا"[72]. وكما هو معروف فلا ماركس ولا إنجلز اعتمدا على تفسيرات أخلاقية لتطورالمجتمعات، وركزوا دائمًا على الجانب المادي. وفي تاريخ الأمم التي استعمرت أممًا أخرى نجد أن الأمة المحتلة في أغلب الحالات كانت تقوم على شرطين: شرط توسع، وشرط استعباد داخلي، ولتخفيف الاحتقان الداخلي يأخذ مضطهدو الأمة جزءًا من الحملات الاستعمارية والأراضي المحتلة. إذا طبقات هذا الفهم على واقع أراضي 48 وأراضي 67 فسنجد أن أراضي 48 هي حصة الأحوساليم من كل الجوانب: سياسيًا، اقتصاديًا وروحيًا. وأراضي 67 هي حصة المهمشين في المجتمع الصهيوني، وقد بدأ هذا منذ الكيان الاستيطاني جوش إيمونيم. وبمراجعة سريعة لهوية المستوطنين في السنوات الأخيرة فإننا نجد أن 36% من المستوطنين هم حريديم[73]. هذا يعني أن القاعدة المادية لانضمام شاس والحريديم للكتلة التاريخية التي يتزعمها الليكود موجودة بالفعل.
أقصي الحريديم من ثلاثة حكومات فقط: حكومة شارون (2003)، حكومة نتنياهو (2013-2015)، وحكومة "التغيير" بقيادة لابيد وبينيت، مع فارق أن عدم انضمامهم لحكومة التغيير كان بإرادتهم، حيث أصروا على عدم الانضمام لحكومة بدون الليكود وتصريحاتهم باتت "يمينية" أكثر – "أنا يميني وإن لم أكن هكذا هذا تمامًا من ناحية سياسية (موشي جافني). الحملة ضد الحريديم لم تبدأ مع ليبرمان، فقد سبقه إليها يائير لابيد الذي قرر الدخول إلى المعترك السياسي لأسباب طبقية محضة (الخوف على الطبقة الوسطى) وبنى حملته الانتخابية على العداء للحريديم أو "لصوص الخزينة العامة" الذين يعيشون على حساب الطبقة الوسطى (الأشكنازية بالطبع). هكذا رسم اللاعب السياسي الجديد، يائير لابيد، خارطة الكتل التاريخية على ضوء التغيرات التاريخية في البنى الاجتماعية، بعد أن تم تفكيك المجتمع السابق واستبداله بالنيو-ليبرالية وبعد تنحي الأحوساليم جنبًا ليفسحوا المجال لخلفائهم. بعد لابيد انضم ليبرمان إلى الحملة ضد الحريديم على خلفية قانون الإعفاء من التجنيد، ويمكننا أنضيف عاملًا إضافيًا سرع انضمام الحريديم لكتلة الليكود-الصهيونية الدينية الاستيطانية-الشرقيون هو العداء للسلطة القضائية منذ إدانة درعي بقضايا فساد.
نلخص أسباب انضمام الحريديم للكتلة التاريخية التي يقودها الليكود على الشكل التالي:
1.       نسبة الحريديم المرتفعة في المستوطنات.
2.      احتكار السلطة الدينية والهجرة من روسيا.
3.      تبلور معسكرين جديدين أحدهما ليبرالي-قومي يصعب على الحريديم تقبل تصوراته ووجهات نظره.
4.      إرادة الانتقام من السلطة القضائية، وهو ما يتشاركه الحريديم مع زملائهم في الكتلة التاريخية.
بعد أن بدأ مسيرته رافعًا راية العداء للحريديم مصورًا نفسه آخر العلمانيين حاول لابيد الوصول لتفاهمات ومصالحة مع الحريديم. ولكن كل محاولاته باءت بالفشل وتبين أن الوحدة بين الحريديم وباقي مركبات الكتلة التاريخية وثيقة جدًا. وهذا يقودنا إلى دوامة دمج الحريديم في المجتمع. لهذا الدوامة مشاكل، أولًا، مشكلة التعليم وغياب المواد الأساسية (رياضيات وإنجليزية) في المدارس التوراتية، ولحل هذا المشكلة قدم "المماح" -"التعليم الحكومي الحريدي"- الذي شكل لمنح الحريديم المواد الأساسية والحفاظ على نمط حياتهم في نفس الوقت، ولكن لهذا القطاع التعليمي وجد معارضون. مدارس الحريديم التابعة للشق الأشكنازي لا تقوم بافتتاح مدارس جديدة منذ سنوات، هذا الصراع مع "المماح" وصل إلى المحكمة العليا، ولكن المحكمة العليا أقرت أن المذنب الوحيد هو الأهل[74]. أما رأي الحريديم في نظام الحكم ("الديمقراطية" بكلمات شجيا إلبز) نجد أن 81% من الحريديم يؤيدون دولة شريعة يهودية[75]، وهي نقيض تصورات الطرف الذي يريد دمج الحريديم في المجتمع. في تقديري أن "الدمج" الذي يريده الليبراليون هو تكرار لسياسات "وعاء الصهر" ولكن بطرق مخففة وعصرية أكثر. ولكن المفارقة في كل ما يخص الحريديم أن الحريديم ليسوا على استعداد للعيش بعيدًا عن العلمانيين، وكمثال صريح وواضح، عندما توترت الأوضاع في بلدة "عين شيمش" واقترح تقسيم المدينة لمدينتين، علمانية وحريدية، وزير الداخلية من طرف شاس، إيلي ايشاي، قال رأيه بوضوح لا يستوجب من أي تعليق تعليق بعده: "مدينة حريدية ستكون بلا دخل، بلا ضرائب، بدون صناعة، وليس من الصائب فعل هذا".[76]
أخيرًا، الحريديم كما قلنا موجودون في الكتلة التاريخية (ليكود- صهيونية دينية – شرقيون) وجئنا على ذكر الأسباب التاريخية التي تمنع الحريديم من الانضمام للشق الليبرالي-القومي الذي سنتحدث عنه بعد قليل. ادعاؤنا هو أن تطور صراع الهيمنة في إسرائيل كان مضطربًا، من قاد الثورة الليبرالية كانوا قرويين ونخب ثانوية وهم اليوم ليسوا ليبراليين (وهو ليس مذمة)، والأشخاص الذين وجهت اللبرلة ضدهم تحولوا إلى نخب جديدة وكتلة تاريخية ليبرالية-قومية استبدلت الأحوساليم. سأفصل عن هذا الموضوع في الصفحات القادمة والتي سأناقش فيها ثلاثة مواضيع: "الكتل التاريخية في أيامنا، النخب والطبقات، الإصلاح-الانقلاب القضائي.
 
صراع الهيمنة في ذروته – الكتل التاريخية في أيامنا
 
يسمي باروخ كيمرلنغ انتخابات 2001 وانضمام العمل إلى حكومة الليكود "الملحة الأحوسلية"[77].  في تقديرنا أنه يجب تأريخ انتخابات 2001 حتى إقامة حزب "كديما" كمنعطف تاريخي، حيث تعد هزيمة باراك أمام شارون آخر محطات الأحوساليم التقليديين ونبعت الحاجة لتشكيل معسكرات جديدة على ضوء التطورات والتغيرات المستجدة في المجتمع الإسرائيلي.
التغيرات والتطورات في المعسكرين تمركزا بشكل أساسي في التعاطي مع ماهية الدولة، وهذا بعد أن لم يعد حل القضية الفلسطينية من الأولويات بعد أوسلو والانتفاضة الثانية وخطة الانفصال. منذ الانتفاضة الأولى حتى خطة الانفصال كان التوجه هو "حل القضية الفلسطينية" وحتى خطة الانفصال بقيادة شارون دفع حل القضية الفلسطينية إلى الهامش، وصعد مكانه تصور "أمني" فقط، وبات من الممكن أن تجمع المعسكرات السياسية الجديدة وجهات نظر يمينية ويسارية داخلها، كون اليمين واليسار في العقود التي سبقتها تركز الوصول إلى حل مع الفلسطينيين، ولما صعد التصور الأمني مكان اعتبارات حل نزاع تاريخي بين "شعبين" صار واقعيًا أن تتكون معسكرات خلافات تجمع اليمين واليسار على أسس متينة، ولكنها ليست يمينية ولا يسارية إنما معسكرات جديدة تمخضت من القديم.
مصطلحات "يمين، يسار" في إسرائيل خاوية من كل معنى ومجرد ألفاظ عمومية، وغالبًا ما تستعمل هذه المصطلحات في المماحكات والإدانات السياسية بين المتخاصمين، مثل الطعن في يمينية الليكود بأقوال من قبيل: "الليكود بطل إرجاع الأراضي". وصحيح أن الليكود أعاد الكثير من الأراضي ولكنه ليس حزبًا "يساريًأ". واليسار دخل الكثير من الحروب وارتكب العديد من المجازر ولكنه لم يتحول إلى "يمين". هذا لأن الكتل التاريخية أوسع من بعض التصورات الأيدولوجية، الكتل التاريخية تشكلت في ظروف تاريخية ذات قاعدة مادية، وصراعات عديدة ودوافع شخصية مثقلة بتراث سياسي واجتماعي. إضافة إلى ذلك، الصراع بينهما ليس صراعًا طبقيًا بالمعنى الماركسي الكلاسيكي (برجوازية وبروليتاريا) بل كتل تاريخية ذات طابع طبقي واضح.
منذ هزيمة باراك بدأت تغيرات جوهرية سياسيًا وأديولوجيًا في المعسكرين. داني فيلك يقترح قراءة حقبة نتنياهو كحقبة ما بعد شعبوية (شعبوية جديدة) تعتمد على سابقتها، ما يعني، حقبة تعتمد على مركبات معينة من شعبوية بيغين وتشكل قطيعة مع أخرى. أنا أقترح قراءة التغيرات بشكل مختلف، ففيلك أصدر كتابه عام 2006 وبعد إصدار الكتاب شكل نتنياهو حكومة بدون الحريديم عام 2013 (فيلك واكب نفسه مع التغيرات في مقال له عام 2021، سنأتي على ذكره). أتفق مع فيلك في ادعائه الأساسي أن نتنياهو هو الممثل الرسمي للنيو-ليبرالية في إسرائيل على المستويين الأيدولوجي والاقتصادي، ولكن النيو-ليبرالية كما أسلفنا هي نظريه اقتصادية عامة ليس بالضرورة أن من يتبناها سيكسب. نقترح قراءة الصراعات من 2001 حتى 2015 كفترة تتسم بالضبابية بين المعسكرين بعد انهيار الأحوساليم (أو تطورهم في شكل جديد)، المعسكر الجديد نسميه: "معسكر ليبرالي قومي-أمني" يمكنه التقرب من الليكود، وكان بالإمكان التخلي عن مركبات من الكتلة التاريخية بقيادة الليكود لأجل إحلال النموذج النيو-ليبرالي بالكامل في إسرائيل، مثال على ذلك إقامة حكومة بدون الحريديم في 2013 وتعيين لابيد وزيرًا للمالية. ولكن تبين لاحقًا أن الصراع بين الاثنين اليوم هو على مستوى الدولة وجهاز الدولة ومن الصعب الوصول إلى حلول وسط في هذا المضمار (حاليًا على الأقل).
البداية كانت مع حزب "كديما" ومع الوقت تشكل أحزاب أخرى: "ييش عتيد، كحول لافان، حوسن ليسرائيل، همحني همملختي" الذين تكونوا من أقطاب يمينية ويسارية سابقًا وأطلقوا على أنفسهم تسمية "أحزب المركز" أو أحزاب "الوسط"، وبكلمات يائير لابيد: "لا أتفق أن كل من ليس يساريًا غبي، كما لا أتفق أن كل من ليس يمينيًا خائن". يتصف المعسكر الليبرالي بمواقف ليبرالية في القضايا الاجتماعية مثل حقوق المثليين والإتجار بالأرحام الخ، وموقف ضبابي غير مفهوم من القضية الفلسطينية بسبب تشابك وتضارب وجهات النظر داخل المعسكر، ولكن الوصول إلى حل سياسي ليس من ضمن الأولويات. مع أن انضواء أصحاب الآراء المختلفة من شأنه أن يقرب عناصر معينة يمينًا أو يساريا، أبرز مثال هو شارون في أواخر أيامه. شارون المعارض الشرس لاتفاقيات أوسلو، وأب سياسة الاغتيالات هو نفس شارون الذي أعلن خطة الانفصال وراح يستعمل كلمة "احتلال"، وهي كلمة من المحرمات في الكتلة التاريخية التي جاء منها. في هذا السياق يمكننا الربط بين شارون وتراث القائد الشعبوي منذ بيغين، الإسرائيليون يتأثرون في مواقفهم من القائد الكاريزماتي، القائد الذي يتوجه للجموع يلعب دورًا مركزيًا في الوعي الشعبي منذ بيغين. نجد هنا اقتباسًا ممتازًا لشجيا إلبز حول شارون وخطة الانفصال: "يعلمنا التاريخ السياسي لإسرائيل أن رأي الجمهور فيما يتعلق بحل الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني يتغير وفقًا لتغير آراء ومواقف وسياسات قادة الأحزاب بشكل عام ورؤساء الحكومة بشكل خاص".[78]
يمكن توسيع ادعاء شجيا إلبز بحيث يشمل دور القائد في الوعي الجماهيري المواقف السياسية ككل ولا يقتصر على القضية الفلسطينية. بشكل عام فإن شخصية أمنية (بدون علاقة لأيدولوجيتها السياسية) تحظى باحترام كبير في المرحلة الأولى من دخولها للمعترك السياسي. مثال على هذا رابين في عام 1992 كان المغناطيس للجمهور الإسرائيلي اليهودي، وحتى باراك وغانتس وكلهم قادة جيش سابقون، وحتى شخصية مثل يائير لابيد المعروف بتوجهه لخيال المتلقي وليس منطقه فقط، في اجتماعات انتخابية كثيرة يتوجه لابيد للجمهور ويقول: "أغلقوا أعينكم للحظة وتخيلوا كذا وكذا"، بهذه الطريق تلعب شخصية القائدة دورًا كبيرًا منذ صعود بيغين وسقوط سياسية الأجهزة والأذرع. وبالطبع هذا ليس المركب المهم الوحيد، ولكنه ولكي يكون فعالًا يحتاج إلى بيئة مناسبة وبعدها فعلًا قياديًا، والذي إذا فشل فيه فأنه سينافس إيهود باراك على لقب أفشل قائد في تاريخ إسرائيل.
وصل المعسكر الليبرالي القومي-الأمني إلى ذروته بإقامة حكومة "التغيير"، التي كان على رأسها بينيت ولابيد. وهي حكومة ضمت: مستوطنين، عساكر، واليسار القديم متمثلًا في العمل وميرتيس، ليبرمان وساعر وفي الهامش الحركة الإسلامية الجنوبية ومنصور عباس. ولا يمكن الادعاء أن ليبرمان وبينيت وساعر هم "يساريون" ولا الاكتفاء بتفسيرات: "الانتهازية وكراهية نتنياهو" لتفسير قيام مثل هذه الحكومة، وإن كانت هذه الأمور حاضرة، أو تفسيرات سطحية مثل تفسير أفيشاي بن حييم: "انتقل أمراء الليكود ونخبة الصهيونية الدينية بقيادة نفتالي بينيت إلى مكانهم الطبيعي في إسرائيل الأولى"[79]. لم تتطرق الاتفاقيات الائتلافية إلى خلافات سياسية بين "اليمين واليسار" التقليديين، على العكس، بينيت في الأمم المتحدة تجاهل وجود شعب فلسطيني، وهو أمر لم يفعله حتى نتنياهو، وفي الاتفاقيات نجد أمورًا قدمها ونفذها الجانب الأيمن من المعسكر: "دعم التعليم في المهن التكنولوجية"، "دعم التميز"، "زيادة عدد العمال في الهايتك إلى 15% من مجمل سوق العمل"، "تخفيف الضبط الحكومي" (regulation)، "دعم القطاع الخاص".[80] على حد علمنا فإن أول من قسم المعسكرات إلى معسكر ليبرالي قومي ومعسكر "ناتفيز" (native) كان داني فيلك بالشراكة وأفيجدور أشل، حيث يعرفون المعسكر الثاني بهذه الكلمات: "معسكر الناتيفز يرتكز على اعتماد اليهودية كهوية تنظم المجتمع الإسرائيلي وعلى أمة يهودية، ويفسر اليهودي بمصطلحات إثنية ودينية-أرثوذوكسية توكد فوقية الشعب اليهودي بصفته الشعب المختار. هذه النظرة، هي البديل الأيدولوجي لأيدولوجية أرض إسرائيل الكاملة، تؤدي إلى المطالبة بالفوقية اليهودية، ومن ضمن  الأمور التي تؤدي إليها إبراز الهوية اليهودية بهذا الشكل في الحيز العام".[81]
يصعب على من ليس "يمينيًا" أن ينتمي إلى المعسكر الجديد، أو المعسكر الجديد في شكله المعاصر، المعسكر الجديد هو كتلة تاريخية مكونة من الليكود-الشرقيين- الأغلبية الساحقة من الصهيونية الدينية- الحريديم، إلى حد ما سياسة الكتلة التاريخية اليوم هي استمرارية لبيغين مع فارق النظرة للترتيبات المؤسساتية، مع أنني لا أتفق أن بيغين كان راضيًا عن الترتيبات المؤسساتية كما يدعي فيلك، ولكن الحقيقة التاريخية تقول أن بيغين لم يتصادم مع المؤسسات، وما زالت تقتبس مقولته: "هناك قضاة في إسرائيل" عندما يريد أحدهم أن يقول لليكود اليوم أنهم ليسوا بيغنيين حقيقيين.
يخرج شجيا إلبز بنتيجة أن: "يمكن ملاحظة أن اليمين الإسرائيلي في غالبيته هو يهودي متدين وشرقي، ويفضل (وفق أبحاث معمقة) سلطة ذات ملاح إتنوقراطية على النظام الديمقراطي"[82]. العناوين والأخبار في السنوات الأخيرة تعج بالصدامات بين الحكومة والمؤسسات، وبشكل خاصة السلطة القضائية، من الدعوة للذهاب إلى المحكمة على متن دبابة الd-9 وحتى "حملة الصيد المنظم" ضد نتنياهو وفق ادعاء نتنياهو نفسه، وفضيحة تقنية التجسس بجاسوس ((Pegasus وتجسس الشرطة على نتنياهو، ودعاية انتخابية ضد نتنياهو فيها مقطع مسجل ل6 رؤساء شاباك وموساد سابقين يقولون أن نتنياهو خطر على أمن إسرائيل. ومنذ تولي بن غفير "الوزير ضد قائد الشرطة- قائد الشرطة ضد الوزير"، ولكن في لب المواجهة بين سلطة الدولة وجهاز الدولة توجد السلطة القضائية، وفي الأدبيات اليمينية هذا الصراع مأطر كنقل الصلاحيات من السلطة السياسية إلى السلطة القضائية[83]. وغير السلطة القضائية، الإعلام والنيابة العامة وسموا كأعداء: "إعلام يساري" ووصف التحقيقات مع نتنياهو ك"انقلاب" حتى وصل الأمر إلى الإصلاح-الانقلاب القضائي الذي أشعل الدولة.
الحاصل سرع صراع الهيمنة ولم يخلق ولكنه في التحليل الأخير جزء من صراع الهيمنة التاريخي، الاحتقان المتنامي في السنوات الأخيرة (كحالة بيت شيمش) كان سينفجر في وقت ما حتى بدون محاكمة نتنياهو. صعود المعسكر الليبرالي القومي-الأمني من شأنها أن تجتذب "يمينيين" وشرقيين ما دام يتصف بضبابية وحتى عداء للفلسطينيين، ويمكننا أن نذكر أن "رابين الجديد"، بيني غانتس، أعلن ستة منظمات مدنية فلسطينية منظمات إرهابية. يمكن للمعسكر الليبرالي أن يجتذب الشرقيين بدون تكرار "أخطاء" مباي اتجاه الشرقيين، وهنا يوجد مثال ممتاز هو تعيين أول قاضية مغربية في المحكمة العليا في فترة حكومة بينيت-لابيد. ولنقوي ادعاءنا أن محاكمة نتنياهو سرعت الأمور ولم تخلقها لدينا أمثلة عديدة، مثل نوايا جوش إيمونيم ومنظري الصهيونية الدينية ضد المحكمة العليا، وإدخال القانون العبري في فترة أييلت شاكيد كوزيرة للعدل.
الطبقات والنخب
"تحكمنا أرستقراطية معزولة عن حياة الجماع" (دافيد بن غوريون).[84]
مسألة الطبقات والنخب لها مكان مركزي منذ انقلاب 1977 ووصلت ذروتها في السنوات الأخيرة. في وعي جمهور غفير (اذا لم يكن الأغلبية)، النخبة في الكواليس تدير صراعًا ضد "إسرائيل الثانية"، وهنا نعرف النخب كفئات طبقية. هنا سنحاول تقسيم الطبقات والنخب ومن ثم بحث علاقاتهم مع الكتل التاريخية. يقسم أفيجور وفيلك الطبقات في إسرائيل إلى ثلاثة طبقات:
1.       طبقة عليا ضيقة: تتألف من مجموعة من مدراء اتحادات مركزية في الاقتصاد: هايتك، عالم الأعمال، أراضي، صناعة، قمار، الترفيه، وشركات البيع بالقطعة.
2.      طبقة مهنية إدارية: مدراء كبار في القطاع العام، مهندرسون وذوو شأن في قطاع الهايتك، أصحاب المصالح المتوسطة، مستقلون، عمال كبار في عالم الأعمال ومجال الثقافة والترفيه. ما يعني، أفراد هذه الطبقة يتصفون بوزن ثقيل في المجتمع والاقتصاد
3.      طبقات شعبية: مناصب متدنية في السلم الاجتماعي، مهمشون أكثر من غيرهم، وضع اجتماعي غير آمن – معظم شرقيون وعرب.[85]
أنا أقترح تقسيمة أخرى للطبقات وعلاقات القوة في إسرائيل: في إسرائيل هناك تشكيلة اجتماعية مركبة من نمطيْ إنتاج، واحد رأسمالي وثان ما قبل رأسمالي، الأول المتقدم عند اليهود والثاني أقل من رأسمالي (أو رأسمالية متخلفة – تجار ومقاولين) عند الفلسطينيين مواطني إسرائيل. في كل واحد من نمطي الإنتاج توجد طبقات، والعلاقات بين النمطين هي علاقة تبعية للنمط ما قبل الرأسمالي وفي نفس الوقت علاقة "جدلية" بحيث يؤثر نمطا الإنتاج وطابعهما القومي على بعضهما بشكل متفاوت. في نمط الإنتاج الرأسمالي هناك أربع طبقات: طبقة عليا (رأسمالية) ضيقة، طبقة إدارية بيروقراطية، طبقة وسطى كبيرة، طبقات شعبية. فيما يتعلق بالطبقة العليا والإدارية أنا أتفق مع أفيجور وفيلك لذلك لن أعود إليهما، ولكن سأعرف الطبقة البيروقراطية والطبقة الوسطى الكبيرة
1.       الطبقة الإدارية البيروقراطية: موظفون كبار في مؤسسات الدولة، يشمل نخبة القطاع العام، طليعة المنظومة الأمنية، ونخبة المحكمة العليا، المستشار/ة القضائية للحكومة، طليعة نقابة المحامين، النيابة العامة، والنخبة الإعلامية. وبالمختصر طبقة مؤلفة من موظفين كبار ونخب مرتبطة بالدولة ومؤسساتها بشكل كاثويليكي قريبًا.
 
2.      الطبقة الوسطى الكبيرة: طبقة عريضة جدًا، نعني به كل من لا يعمل كأجير وكل من ترك الأعمال البدنية وكل من يبيع قوة عمله كعمل ذهني. هذا الطبقة تشمل النخب الأكاديمية، مهندسون ومدراء من الصف الثاني والثالث في قطاع الهايتك، كذلك الأمر في الإعلام، شركات ستارتب أب رائدة، رجال الدين موظفو وزارة الأديان، مقاولون وصناعيون صغار، وأصحاب المكانة الاجتماعية المرموقة مثل الفنانين والعلماء.
وهنا يمكن أن نشير إلى علاقة منفعة متبادل بين الطبقة البيروقراطية والشرائح العليا في الطبقة المتوسطة، وكذلك الأمر مع الطبقة العليا، ففي بحث أجري على تسعة مدن إسرائيلية من خلال فحص محاضر اللجان وتنفيذ الخطط الحكومة، وجد الباحثون أن البيروقراطية في إسرائيل تزيد من النخبوية عند اليهود وتعمق الفوارق الطبقية. اعتمد البحث على فحص محاضر لجان أعيز إليها تطوير مدن وتنفيذ خطط حكومية عند اليهود والعرب، والنتيجة أن مخرجات الخطط كانت تعميق الفوارق الطبقية والإثنية على حد سواء وزادت من ثراء مجموعات مالية معينة ورفع مكانتهم الاقتصادية[86]. يمكننا بهذا الربط بين ما أسميناه "العلاقة الكاثوليكية" بين الطبقة البيروقراطية والدولة، إذ عندما تفتك هذه العلاقة بين عناصر هذه الطبقة والدولة ويعود أي منهم إلى الحياة العامة كأي مواطن فإنه لا يريد البدأ من الصفر لذلك تنتج علاقة منفعة متبادلة وتبادل عناصر بين الطبقتين.
علينا أن نموضع النخب في إسرائيل بشكل سليم، بداية نضع تعريفًا للنخب اعتمادًا على حفا (حواء) عتسيوني: "النخب مجموعات صغيرة من الناس أصحاب مكانة في مراكز القوة والتأثير.. والفرق بين النخب وباقي الناس ليس المستوى العقلي أو الأخلاقي، إنما واقع أن النخب هي من تقرر كيفية إدارة الأمور".[87] في تتمة نقاشها حول النخب تقسم عتسيوني النخب إلى:
1.       نخبة سياسية.
2.      نخبة عسكرية: ضباط كبار من رتبة بطل، وما فوق، ثلثاهم من الِأشكناز وثلث شرقي. حتى سنوات التسعينات كان 65% برتبة بطل ثانوي أشكناز و25% من أصل غير معروف وفقط 9% شرقيون. قادة الجيش حتى اليوم 16 أشكنازي وفقط 5 شرقيون.
3.      نخبة اقتصادية: 63% منها أشكناز و29% من أصل غير معروف و9% فقط شرقيون.
4.      نخبة أكاديمية: 73% من النخب الأكاديمية أشكناز، و22% أصلهم غير معروف وفقط 5% شرقيون.
5.      نخبة قضائية: حتى يومنا هذا معظم القضاة أشكناز.[88]
 
لا شك أن في الطبقات ترتدي ثوبًا إثنيًا في إسرائيل (والعكس صحيح)، ولكن اللون البارز للطبقات العليا والمؤسسات حتى اليوم هو الأشكنازي، ومنذ كتاب عتسيوني حتى اليوم لم يتغير الكثير. وبالعودة اليوم إلى الأرقام في المؤسسات نجد أن الشرقيين تفوقوا على الأشكناز فقط في خدمة مصلحة السجون[89]، اللون الأبيض الناصع للطبقات العليا والمؤسسات يعطينا تصورًا أوليات عن انحيازها ومكانها في صراع الكتلتين اليوم. ولكننا سنتوسع في الموضوع.
بالعودة لأفيجور وفيلك، فإنه معسكر "الناتيفز" يلقى دعمًا من الرأسماليين الكبار وأصحاب الحقوق في الموارد الطبيعية (مثل تشوفا)، والترفيه، والبيع بالقطعة. وكذلك يحظى هذا المعسكر بدعم الطبقات الشعبية، وقسم صغير من أفراد الصهيونية الدينية والشرقيين الذين شقوا طريقهم في المؤسسات. لذلك رأينا أنه في حكومات نتنياهو 2013-2019 اهتم لمصالح كبار الرأسماليين وفي نفس الوقت ارتفع الحد للأجور بنسبة 38% ونمت القدرة على على الاستهلاكية عند الطبقات الشعبية[90].
المعسكر الليبرالي - القومي – الأمني، مدعوم من جزء من الطبقة الرأسمالية، أصحاب الرساميل في قطاع الهايتك وقطاعات واسعة من القطاع الصناعي التقليدي، الذي من مصلحته دعم التصدير وعملة ضعيفة نسبيًا. والأغبية الساحقة من الطبقة البيروقراطية تدعم المعسكر الليبرالي لثلاثة أسباب: معظم أحفاد الأحوساليم (الكتلة التاريخية لمباي)، تلاقي أيدولوجي يريد دولة رأسمالية ذات طابع ليبرالي، وتضامن طبقي (غير نابع من وعي طبقي) بين أفراد هذه الطبقة والقيادة السياسية. وفيما يخص الطبقة الوسطى فهي طبقة كبيرة كما أسلفنا، فالطبقة الوسطى لم تكن موحدة وذات وعي طبقي، وقد عرفنا كحالة يتم فيها اعتزال العمل البدني بدون تشكل علاقة كاثوليكية مع الدولة. هكذا لدينا وضعنا قديم-جديد فيه معظم ذوي المكانة الاجتماعية الرفيعة هم أشكناز تأقلموا مع النيو-ليبرالية الذي شقت طريقها إلى إسرائيل منذ أواسط ثمانينات القرن الماضي، والطبقات المتدنية في السلم الاجتماعي هم الشرقيون. هذا يعيدنا إلى ثورة بيغين الليبرالية، الثورة الليبرالية في إسرائيل كان معطوبة، بمعنى، أن من يقود الثورة الليبرالية في وضع طبيعي هو طبقة برجوازية قوية ومهيمنة، في إسرائيل جاءت الليبرالية من القرى والأرياف والنخب الثانوية، ما سمح للنخبة القديمة المهزومة سياسيًا أن تنجو من الطوفان الليبرالي الموجه ضدها، من خلال المحافظة على مكانها داخل الدولة. ولما لم يكن الصراع بين الطرفين صراعًا طبقيًا، لم يملك الطرفان مشكلة في تغيير تصوراتهما الأديولوجية بما يلائم الشروط الموضوعية، كلا الطرفين لا يجرحان في النيو-ليبرالية كنظام اقتصادي وبقي بينهما الصراع على مستوى الدولة والذي تفجر أخيرًا مع خطة الإصلاح القضائي التي طرحها وزير العدل ياريف لافين.
 
 
 
 
 
 
الإصلاح- الانقلاب القضائي
 
مع عودة نتنياهو إلى السلطة بعد سقوط حكومة التغيير، أعلن عن خطة إصلاحات قضائية بمبادرة وزير العدل ياريف لافين. الخطة تسمى "الانقلاب" في معجم المعسكر الليبرالي القومي. وقد تسببت باحتجاجات كبرى حتى اليوم. وهنا يسأل السؤال: ما المشكلة في الإصلاحات؟ وللإجابة على هذا السؤال يمكن أن نقول أنه بشكل عام هناك اتفاق واسع على وجوب صياغة إصلاحات قضائية معينة. وهذا مفروغ منه حتى عند رئيسة المحكمة التي قالت بوضوح بوجوب إجراء إصلاحات قضائية في السلطة القضائية، ولكن في نظرها الحديث يدور عن خطة لتقويض المحكمة وتتبيعها بالسلطة السياسي.
قبل الخوض في التفاصل، أقترح أن ننظر إلى المحكمة من جانب فلسفي. في كل مجتمع هناك "نظام طبيعي" و"صواب كوني" ينبغي الحفاظ عليه، أهرون باراك (رئيس المحكمة العيا سابقًا) كان يكثر من استخدام مصطلح "الجمهور المستنير" ولديه مقال بهذا العنوان يقول فيه أن الجمهور المستنير هو تشخيص ل"تصورات وقيم أساسية" موجودة في لب "الإجماع الاجتماعي" في إسرائيل. أهرون باراك يعطي أهمية كبيرة لطريقة الحكم، ويعترف أن المجتمع يمكنه تغيير قيمه، ولكن القضاة عليه أن يحكم فقط بعد أن يتأكد أن الأفكار الجديدة مرت بوعاء الصهر الاجتماعي وتفرعت إلى أذرع المجتمع. ويقع باراك في تناقض هنا، فهو يتحدث عن "إجماع اجتماعي" وفي النهاية يقول أن "الجمهور المستنير هم قسم من المجتمع مختلف عن المجتمع"، وفي واقع الأمر الجمهور المستنير هذا هو الطبقة الوسطى التي نمت وحافظت على نفسها من ثورة بيغين الليبرالية، ومن ثم تأقلم وكبر في العالم الليبرالي بعد مباي، بهذا المعنى فإن أسلوب باراك هو أسلوب "التجزئة".[91]
في عالم القانون يعتبر باراك وأسلوب انتقالًا من "النصوصية (formalism) إلى القيمية" وبالنسبة للكثيرين (ربما بصدق) فإن النشاط (activism) القضائي هو رد على انقلاب 1977، أبرز هؤلاء هو البروفيسور ماتنور[92]. أنصار المحكمة يدعون دائمًا أن المحكمة ألغت فقط "23 قانونًا" منذ قيام الدولة وأن هذا رقم صغير. صحيح أن الرقم قليل، ولكن يمكن أن نسأل متى بدأ هذا إلغاء القواين وأي قوانين ألغتها المحكمة؟. بدأ إلغاء القوانين عام 1997، وبمراجعة سريعة بمعظم القوانين الملغية كانت مقدمة من معسكر "الناتيفز" مثل قانون الإعفاء من التجنيد للحريديم، منع الهجرة غير الشرعية، والاتجار بالأرحام الخ.
مع السنوات ازدادت الصدامات بين المحكمة والحكومة، الصدام الأول كان في حكومة أولمرت ووزير العدال حينها، فريدمان، وقتها استعملت مقولة "الثورة المضادرة" لأول مرة، وبدون الخوض في التفاصيل خرجت المحكمة منتصرة وحافظت على "الصواب الكوني والنظام الطبيعي". ويسأل السؤال ما هو الصواب الكوني بالنسبة للمحكمة العليا؟ والإجابة بكلمات بسيطة: ليبرالية قومية (صهيونية) ودولة نيو-ليبرالية. وبكلمات روت بن-يسرائيل التي تنتقد أهرون باراك: "أب حقوق الإنسان في مجال المواطنة والسياسية ولكنه لم يشمل ولو حقًا اجتماعيًا واحدًا في تصوراته عن الجمهور المستنير في إسرائيل"[93]. يجلب أنصار المحكمة أسماء قضاة مستوطنين ليشيروا إلى التعددية المحكمة، ولكن المستوطنات في الضفة تزعج المحكمة فقط بالقدر الذي من الممكن أن تبعد إسرائيل عن العالم النيو-ليبرالي.
استنادًا إلى ما أسلفناه يمكننا القول بثقة أن محاكمة نتنياهو سرعت الأمور فقط ولم تخلقها، وأن الصراع اليوم بين الطرفين يقوم على مستوى الدولة والسيطرة عليها. وهذا ما لم يفهمه الكثيرون، حتى جوتووين في مقالة له في هآرتس ينتقد الاحتجاجات لأنها لا تذكر ميزانيات المستوطنات والحريديم، ولكن نقده ليس نقدًا واقعيًا، فهذه الأمور هامشية بين الطرفين في هذه الأيام. كلا الطرفين يتفقان على النيو-ليبرالية ولا يحركان ساكنًا ضدها وبات من الواضح أن المحكمة مجرد بوابة للسيطرة على الدولة، وأن الاحتجاجات تدحرجت لتشمل الجيش والشاباك، وهذا لا يدع مجالًا للشك أن الصراع اليوم هو على الدولة. ادعاء "الدكيتاتورية" ربما يكون صحيحًا رغم أن إسرائيل في نظرنا لم تكن ديمقراطية في يوم من الأيام، ولكن التحول إلى دولة أكثر مركزية لا يلغي النيو-ليبرالية وأبرز مثال على هذا هو أوجوست بينوشييه (Augusto Pinochet) في تشيلي.
لا نعلم إلى أين ستصل الأمور بين الطرفين في صراعهما على الدولة. المعسكر الليبرالي ما زال قويًا وجذابًا للكثيرين، ومؤسسات الدولة قلقة للغاية، وكتلة الليكود لن يتوقفوا كما يبدو. كل الخيارات متاحة وحتى الوصول إلى حل وسط بوجبه ينال "النايتيفز" جزءًا من جهاز الدولة خيار واقع، وأن يتمكنوا من تمرير الإصلاحات أيضًا ممكن. ولكن كل العلامات تشير أن الحياة المشتركة بين الطرفين لم تعد أمرًا ممكنًا، وهذا يعبر عنه الاقتراحات السريالية الأخيرة مثل المطالبة بالانفصال إلى دولتين، أو اقتراح الفدرالية الذي يتبناه شجيا إلبز. على كل حال في رأينا أن هذه الاحتجاجات وتتمة الصراعات بين الاثنين قد تتدحرج إلى حرب أهلية أيضًا، قد تعيد الليبراليين إلى سدة الحكم وكأن شيئًا لم يحصل ومجرد كابوس انتهى سريعًا، الأيام فقط هي من ستجيب على هذه الأسئلة. أما نحن ففقط علينا أن ننتظر الإجابات من التاريخ الذي يخفي العجائب دائمًا.
 
ملاحظات لغوية :

حلوتسيوت: كلمة عبرية منحوتة من كلمتين، "حكلؤوت-חקלאות: زراعة" و"حالتوس-חלוץ: محارب أو جندي".

دولني: من دولنة (statehood) أي الدولة فوق الأحزاب والطبقات والأديان.

الهستدروت الصهيونية: هي السقف العالمي الذي أنشأه هرتسل لكل التنظيمات الصهيونية، وظيفته تجميع التنظيمات الأحزاب الصهيونية المختلفة في هدف واحد.

اللجنة القومية: بمثابة برلمان للأحزاب الصهيونية قبل الدولة.

سياسية التجزئة: داني جوتووين يستعمل مصطلح "פילוח-بيلوواح" والمقصود منه تجزئة الخدمات وتوزيعها وجودتها وفق الثقافة.



ביבלוגרפיה
https://ch10.co.il/news/820510/. (n.d.).
מדינת ישראל המחודשת, עם עובד, כרך א. (1969 ).
Althusser, L. (1970). Ideology and Ideological State Apparatuses.
david, H. (2005). A brief history of neoliberalism. Oxford university press: Oxford.
engels, f. (n.d.). Speeches at the International Meeting held in London on November 29,1847 to mark the 17th Anniversary of the Polish Uprising of 1830.
Engels, F. (n.d.). Speeches at the International Meeting held in London on November 29,1847 to mark the 17th Anniversary of the Polish Uprising of 1830.
Harvey, D. (2005). A brief history of neoliberalism. Oxford university press: Oxford.
https://z.ynet.co.il/mshort/commerce/2016/elite/eliteweb. (n.d.).
Jessop, B. (1985). Nicos Poulantzas Marxist Theory and Political Strategy.
אבישי, ב. ח. (2021). ישראל השנייה .
איזנשטט, ש. נ. (2004). תמורות בחברה הישראלית .
אלברת, ש. (2016). הגזענות של בן גוריון .
ברוך, ק. (2001). קץ שלטון האחוסלים.
גרמשי, א. (2008). על הגמוניה מבחר מתוך מחברות הכלא עמודים.
דורון, נ. (2015). שחיתות פוליטית בישראל.
דורון, נ. (2015). שחיתות פוליטית בישראל .
דן, ג. (2001). ישראל בעשור הראשון, יחידה 5.
דנ, ג. (2017). ההיגיון המעמדי של המהפך הארוך.
דני, ג. (2000). הדיאלקטיקה של כשל השוויון .
דני, ג. (2008). מ"מהמפכה המשפטית להפיכת נגד".
דני, ג. (2023). המחאה נגד ההפיכה מאמצת את ההנחות המגזריות שמאחורי ההפיכה עצמה .
דני, פ. (2006). פופוליזםוהגמוניה בישראל .
חווה, ע.-ה. (1997). מקום בצמרת.
יונתן, ש. (1984). עילית ללא ממשיכים.
יוסי, ז. (2018). כלכלת ישראל.
יורם, ב.-פ. (1981). המהפך שלא היה.
מיכל, צ. (2007). כור ההיתוך בין הלכה למעשה .
פילק, א. א.-א. (2021). מבט מעמדי על המאבק ההגמוני בישראל.
רון, ח. (n.d.). העבר המדומין של בית במשט.
שגיא, א. (2023). יציאת חירום.


[1] أنطونيو غرامشي, عن الهيمنة, مختارات من كراسات السجن ص123.
[2] نفس المصدر 127.
[3] لوي ألتوسير (1970)، الأيديولوجيا وأجهزة الدولة الأيديولوجية.
[4] مارك مجدي (2023) نيكوس بولانتازاس : الماركسية ونظرية الدولة.
[5] نفس المصدر
[6] نخبة بلا خلفاء(1984)، يوناتان شابيرا، ص 16
[7] نفس المصدر ص 17.
[8] نفص المصدر ص 22.
[9]  نفس المصدر ص24-25.
[10] نفس المصدر ص.33
[11] نفس المصدر ص44.
[12] نفس المصدر ص67.
[13] نفس المصدر.
[14] نفس المصدر ص68.
[15] دورون نافوت(2015), الفساد السياسي في إسرائيل ص 56.
[16] دان غلعادي، إسرائيل في عقدها الأول, الوحدة 5, ص 104.
[17] باروخ كيمرلينغ (2001)، نهاية حكم الأحوسليم ص 25
[18] نخبة بلاء خلفاء ص 45.
[19] نفس المصدر ص 131-132.
[20] نفس المصدر.
[21] رون حريس، الماضي المتخيل للمحكمة العليا ص 33
[22] دورون نافوت، الفساد السياسي في إسرائيل ص68.
[23] نفس المصدر ص 71.
[24] ميخال تسفيج (2007)، وعاء الصهر بين النظرية والواقع ص 17.
[25]نفس المصدر ص 19.
[26] ألبرت شافوت, عنصرية بن غوريون (2016).
[27] ميخال تسفيج(2007) وعاء الصهر بين النظرية والواقع ص 22.
[28] نفس المصدر ص 23.
[29] نفس المصدر ص 24.
[30] نفس المصدر ص 27.
[31] نفس المصدر ص 24.
[32] دورون نافوت، الفساد السياسي في إسرائيل ص 65.
[33] نفس المصدر ص 68.
[34] نفس المصدر.
[35] داني جوتووين، المنطق الطبقي للانقلاب الطويل ص19.
[36] نفس المصدر ص 21-21.
[37] نفس المصدر ص 26-27.
[38] نفس المصدر ص 29.
[39] نفس المصدر ص 32.
[40] كيمرلينغ، نهاية حكم الأحوساليم ص 34.
[41] نفس المصدر ص 40.
[42] نفس المصدر ص 66.
[43] داني فيلك (2006) الشعبوية والهيمنة في إسرائيل ص 72.
[44] نفس المصدر ص 73.
[45] نفس المصدر ص 103.
[46] نفس المصدر ص 104.
[47] نفس المصدر ص 110.
[48] نفس المصدر ص 111.
[49] نفس المصدر ص 119.
[50] نفس المصدر ص 121.
[51] أيزنشوت, شموئيل نح  – تحولات في المجتمع الإسرائيلي (2004) ص 53.
[52] يعقوب راوبني (1985)، الاقتصاد السياسي لليكود (1977-1984) ص 6.
[53] يوسي زعيرا (2018), اقتصاد إسرائيل ص 260.
[54] الشعبوية والهيمنة ص 97.
[55] نفس المصدر ص100.
[56] داني جوتووين (2000)، ديالكتيك فشل المساواة.
[57] نفس المصدر.
[58]  بن فروت (1982)، الانقلاب الذي لم يكن، ص 8.
[59] Harvey, D. (2005) A brief history of neoliberalism. Oxford university press: Oxford
[60] الشعبوية والهيمنة ص 151-159
[61] نفس المصدر ص 154-155.
[62]  نفس المصدر ص155.
[63] نفس المصدر ص 156.
[64] نفس المصدر ص157.
[65] نفس المصدر ص 158.
[66] برهوم جرايسي، الحريديم من الهامش السياسي إلى عقر اليمين الاستيطاني ص 7
[67] أسعد غانم (2004)، تحدي الهيمنة الأشكنازية ص 111
[68] نهاية حكم الأحوساليم ص 60.
[69]  أفيشاي بن حييم (2022)، إسرائيل الثانية ص 33.
[70] https://www.ynet.co.il/articles/0,7340,L-5648100,00.html
[71] جرايسي، الحريديم من الهامش السياسي إلى عقر اليمين الاستيطاني ص 10
[72] Speeches at the International Meeting held in London on November 29,1847 to mark the 17th Anniversary of the Polish Uprising of 1830 []
[73] https://ch10.co.il/news/820510/
[74] شجيا إلبز(2023)، مخرج طوارئ ص 122.
[75] نفس المصدر .
[76] نفس المصدر ص12.
[77] نهاية حكم الأحوساليم ص 12.
[78] مخرج طوارئ ص 24.
[79] إسرائيل الثانية ص 60.
[80] أميت أفيجور-أشل وداني فلك، نظرة طبقية على صراع الهيمنة في إسرائيل.
[81] نفس المصدر.
[82] مخرج طوارئ ص 24.
[83] إسرائيل الثانية ص 43.
[84] دولة إسرائيل المتجددة, الشعب العامل, 1969، المجلد الأول ص 138.
[85] نظرة طبقية على صراع الهيمنة في إسرائيل.
[86] Stratified and defensive planning democracy: Hearings on objections to plans in nine Israeli cities, Margalit, T., & Kemp, A. (2019)
[87] حفا عتيسوني-هلوي، مكان في المقدمة (1997) ص 24.
[88] نفس المصدر ص 69-71.
[89] https://z.ynet.co.il/mshort/commerce/2016/elite/eliteweb
[90] نظرة طبقية على صراع الهيمنة في إسرائيل.
[91]  داني جوتووين، من الثورة القضائية إلى الثورة المضادة (2008) ص 8.
[92] حاريس رون, الماضي المتخيل للمحكمة العليا, ص 33.
[93] من الثورة القضائية إلى الثورة المضادة ص 7.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. شرطة نيويورك تعتقل عددا من الطلاب المتظاهرين في جامعة كولومب


.. الشرطة في جورجيا تشتبك مع متظاهرين خرجوا ضد مشروع قانون -الع




.. الشرطة تقتحم جامعة كولومبيا وتعتقل متظاهرين مؤيدين للفلسطيني


.. فاتح مايو 2024 في أفق الحروب الأهلية القادمة




.. اعتداء واعتقالات لطلاب متظاهرين في جامعة نيو مكسيكو