الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


حديث عراقي في الحسب والنسب العشائري

داخل حسن جريو
أكاديمي

(Dakhil Hassan Jerew)

2023 / 9 / 26
مواضيع وابحاث سياسية


يهتم الناس في العراق بموضوع أصولهم وأنسابهم كثيرا , وهي مدعاة تباهي وتفاخر للكثيرين منهم , وهي تعكس في جانب منها تجذر روح العصبية القبلية المتوارثة لديهم عبر الأجيال , على الرغم من تمدنهم وعيشهم المتحضر في مدن كبيرة , ينبغي أن تتلاشى فيها النزعة القبلية وتتنحى لصالح القيم والعادات المدنية التي يتساوى فيها جميع الناس في إطار قانون مدني موحد . جاء في الحديث النبوي الشريف " ليس منا من دعا إلى عصبية، وليس منا من قاتل على عصبية، وليس منا من مات على عصبية.
كان إختيارألأمير الحجازي فيصل بن الحسين عام 1921 , ملكا على العراق كونه هاشميا في المقام الأول , إذ لم يعرف الكثير من العراقيين أي شيئ آخر عنه . وقد راعى نظام الحكم الملكي الذي أرسى قواعده الملك فيصل (بمشورة سلطات الإحتلال البريطاني ) التركبية السكانية العراقية التي يغلب عليها الطابع العشائري, بإعتماد النظام الخاص الذي وضعته سلطات الإحتلال البريطاني عام 1916 المعروف بنظام دعاوى العشائر ,الذي فوض رؤساء العشائر البت بقضايا المنازعات التي تحصل بين عشائرهم . لقد رفع هذا النظام من اهمية الشيوخ بأعطائهم مركزا معترفا به في النظام السياسي والقانوني وألزم عشائرهم بالاعتراف بمراكزهم الاجتماعية رسميا.
استعان الحكام السياسيون بالشيوخ ورجال الدين في تحقيق الصلح بين بعض العشائر. كان الدافع الذي حدا بالبريطانيين لاصدار نظام دعاوى العشائر يعود بالدرجة الأولى إلى رغبتهم بكسب ود الاقطاعيين وخاصة شيوخ العشائر وتحويلهم إلى قاعدة اجتماعية يستندون اليها في حكمهم للعراق.كما صدر عن القائد العام لقوات الاحتلال البريطاني للعراق في 21 تشرين الثاني سنة 1918 (قانون العقوبات البغدادي) وقد اعطيت له هذه التسمية بسبب انه نفذ في (ولاية بغداد) أولا ثم مد تطبيقه الى الاجزاء الاخرى من العراق.
ألغت حكومة عبد الكريم قاسم قانون دعاوى العشائر عام 1958 , حيث أصبح جميع العراقيين خاضعين لقانون العقوبات المدني الموحد , وإنتهت بذلك سطوة شيوخ العشائر وكبار الإقطاعين الذين كانوا يتحكمون برقاب الناس , وسادت لبعض الوقت روح التحضر ومظاهر التمدن بين الناس, لتعود بعدها إلى الواجهة بعض مظاهر العشائرية ثانية, ولكن بصورة أخف من سابقتها ,وذلك بسقوط حكومة عبد الكريم قاسم بإنقلاب الثامن من شباط عام 1963 , الذي أعاد الإعتبار لشيوخ العشائر ,من أجل كسب ودهم ودعمهم لحكومة الإنقلاب ,التي كانت تفتقر للتأييد الشعبي الواسع, وبخاصة في مناطق وسط العراق وجنوبه .
ودون الخوض في تعقيدات الوضع السياسي في العراق ومآلاته , نعود بحديثنا إلى موضوع الحسب والنسب الذي توليه الكثير من النخب السياسية وبعض المثقفين , أهمية خاصة بتأكيد ذاتها , وهنا نقول : أن قيمة الأفراد ومكانتهم تأتي من قيمة أعمالهم وإنجازاتهم وليس بأنسابهم, كما يعبر عن ذلك خير تعبير سيد البلاغة الإمام الخالد علي بن أبي طالب (ع) :
أن الفتى من يقول ها أنا ذا ليس الفتى من يقول كان أبي
تتجلى ظاهرة الحسب والنسب بحرص الكثيرين على التباهي والتفاخر بأنسابهم... دون أن تكون هناك أية قيمة لهذا الإنتساب الذي لا فضل لأحد منهم فيه , فهي مكتسبة بالوراثة إن صحة رواية أنسابهم في أحسن الأحوال . العظماء لا يولدون عظماء بالوراثة , بل هم من يصنعون عظمتهم بعطائهم وعبقريتهم التي تميزهم عن الآخرين وإنجازاتهم التي تترك بصمتهم في مجتمعاتهم ألتي قد تخلدهم عبر التاريخ ليس في بلدانهم وحسب بل والعالم أجمع .
ومن يتابع موضوع العشائرية في العراق , يرى أنها بين مد وجزر حسب مصالح الحكام , ففي حقبة حكم حزب البعث بعد عام 1968 التي كان يرفع فيها شعار : "لا عشائرية ولا طائفية " , كان معظم كبار المسؤولين في الدولة من عشائر الأنبار وتكريت طيلة فترة حكمهم التي إمتدت لأكثر من ثلاثة عقود. ولغرض التستر على هذه الحالة , فقد أصدر النظام أمرا في منتصف عقد السبعينيات منع بموجبه جميع موظفي الدولة , من ذكر ألقابهم العشائرية والمناطقية في جميع الأعمال والمكاتبات الحكومية والذي إستمر لبضعة سنوات , ليتوقف بعدها تلقائيا وتعود الأمور إلى سياقاتها السابقة مرة أخرى .
إضطر النظام بعد إشتداد الحرب العراقية الإيرانية في عقد الثمانينيات , حيث لم تبدو في الأفق يومذاك بارقة أمل بإنتهاء الحرب التي باتت خسائرها البشرية والمادية تثقل كاهل العراق , العزف على وتر العشائرية من أجل شحذ الهمم ورفع المعنويات , حيث راح الرئيس يسأل المقاتلين عند تكريمهم أنواط الشجاعة عن أفخاذهم العشائرية . كما طلب من جميع الحزبيين تسجيل أفخاذهم العشائرية حتى سابع جد للتأكد من نقاوة أنسابهم . وإتخذ من نفسه في عقد التسعينيات إنموذجا يحتذى به ,حيث نشر شجرة عائلته التي قيل أنها علوية ممتدة إلى الإمام علي بن أبي طالب ( ع ) , وشهد له بذلك مؤرخون وأكاديميون ممن لا علاقة لهم بالتاريخ وبعضهم رؤساء جامعات , ليحذوا حذوه نائبه وبعض كبار المسؤولين في الحزب والدولة . ولتعزيز دور العشائر فقد أستحدث مكتب خاص بديوان رئاسة الجمهورية لتنظيم شؤون العشائر, والمقصود شراء ذمم شيوخها لصالح النظام ( أطلق الناس على هؤلاء الشيوخ في حينها تسمية شيوخ التسعين , بمعنى أنهم ليسوا شيوخا حقيقيين ذو قيمة في عشائرهم ) , أوكلت إدارة شؤن المكتب إلى روكان عبد المجيد أحد أقرباء الرئيس .
وعلى الرغم من إهتمام الحكومة بشيوخ العشائر ومحاولتها إضفاء هيبة زائفة عليهم , إلاّ أنه لم يكن مسموحا لأي منهم فرض قوانينه الخاصة بفض المنازعات , حبث حدد قرار مجلس قيادة الثورة المرقم (24) لسنة 1997 : عقوبة الحبس لمدة لا تقل عن ثلاث سنوات على كل من ادعى بمطالبة عشائرية .
وبعد غزو العراق وإحتلاله عام 2003 أحيت السلطة الحاكمة دور العشائر بنص دستوري حيث جاء في الفقرة "ثانيا "من المادة (45) من الدستور العراقي : " تحرص الدولة على النهوض بالقبائل والعشائر العراقية، وتهتم بشؤونها بما ينسجم مع الدين والقانون، وتعزز قيمها الإنسانية النبيلة، بما يساهم في تطوير المجتمع، وتمنع الاعراف العشائرية التي تتنافى مع حقوق الانسان". تم تنظيم هذه المادة بقانون مجلس قبائل وعشائر العراق الذي تمت قراءته الأولى عام 2006 , كهيئة مستقلة ترتبط برئاسة الجمهورية، بهدف كسب ود وتأييد شيوخ القبائل والعشائر للسلطة الحاكمة. وطبقا لذلك تأسست مجالس قبائل وعشائر في جميع محافظات العراق.
ومنذ ذلك التاريخ , غزت النزعة العشائرية المجتمع العراقي بقيمها البالية بشراسة وبصورة غير مسبوقة , لتمزيق كل ما تبقى من ثمة قيم مدنية ما زالت سائدة فيه , تحت ذرائع ودعاوى زائفة شتى ما أنزل الله بها من سلطان , ما زال يعاني منها الناس حتى يومنا هذا . والأدهى في كل ذلك باتت ما تعرف بالقيم العشائرية التي كان تطبيقها محصور في القرى والأرياف , يفرض تطبيقها على مجتمعات المدن بما فيها العاصمة بغداد , فبدلا من تمدين الريف , قامت العشائر بترييف المدن, وفض النزاعات من قبل شيوخها بعيدا عن أروقة المحاكم المدنية , بفرض الدية والفصل وما يعرف بالدكة العشائرية , بل ذهب البعض منها أبعد من ذلك بمطالبة الأطباء بدفع تعويضات لعوائل مرضاهم الذين يتوفون في المستشفيات حتى لو كانت حالات مرضاهم حالات مستعصية ميؤس من شفائها , والإعتداء عليهم وتهديدهم بالقتل دون رادع, حيث سقط عدد من الأطباء ضحية هذه التهديدات , وكذا الحال بالنسبة لأساتذة الجامعات والمدرسين والمعلمين في حالات رسوب أبنائهم أو محاسبتهم على بعض تصرفاتهم المشينة , فالويل والثبور لمن يفعل ذلك منهم , الأمر الذي تسبب بهجرة الآلاف منهم طلبا للأمن والآمان , بعد أن عجزت السلطات الحاكمة توفير الأمن والآمان لهم .
ويحدونا الأمل والتفاؤل بغد أفضل لعراق مدني متحضر , يسود فيه منطق العقل والحكمة وسيادة القانون في إطار نسيج إجتماعي متجانس في إطار دولة مدنية موحدة , لا فرق ولا تمايز بين الناس تحت أي مسمى , فخير الناس من نفع الناس .


.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. تركيا تعلق كل المبادلات التجارية مع إسرائيل وتل أبيب تتهم أر


.. ماكرون يجدد استعداد فرنسا لإرسال قوات برية إلى أوكرانيا




.. مظاهرات مؤيدة للفلسطينيين: جامعة -سيانس بو- تغلق ليوم الجمعة


.. وول ستريت جورنال: مصير محادثات وقف الحرب في غزة بيدي السنوار




.. ما فرص التطبيع الإسرائيلي السعودي في ظل الحرب الدائرة في غزة